الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


السيادة في بازار الفئوية والارتهان

سعد الله مزرعاني

2023 / 7 / 22
مواضيع وابحاث سياسية



يستدعي موضوع «السيادة» الذي يتكرّر ذكره السعيد بكثرة هذه الأيام، استحضارَ عدة عناوين بعضها تاريخي، والآخر سياسي، ينتمي إلى ظروف المراحل المتعاقبة والمتغيّرة. هو بذلك، إذاً، ثمرة ما كان يحصل من تناقضات وصراعات ومنافسات ومناكفات محلية وإقليمية، وحتى دولية كذلك.

يقول المؤرّخ الكبير الراحل الدكتور كمال الصليبي (مؤلفه: «بيت بمنازل كثيرة») إن لبنان، ككيان سياسي، لم يكن قائماً، بأيّ صيغة قبل أواسط القرن التاسع عشر. المدن الساحلية الفينيقية لم تدخل يوماً مع «جبل لبنان» في علاقة تفاعل، فكيف ككيان مشترك ذي جغرافيا وديموغرافيا محددة. كذلك الأمر بالنسبة إلى «الأقضية الأربعة» (بعلبك والبقاع وراشيا وحاصبيا) التي كانت تابعة لولاية دمشق. المدن (الفينيقية) من جهة، والجبل و«الأقضية»، إلى حدٍّ ما، كانت في حالة زئبقية من الكينونة والعلاقات: تابعة أو متبوعة في نطاق الجغرافيا الفلسطينية والسورية («الشامية» عموماً). صيغة «المتصرفية» كانت أول تشكيل سياسي «لبناني» معاصر. وهي تطوّرت مع هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، وبإشراف ورعاية الانتداب الفرنسي، إلى «لبنان الكبير» الذي أعلنه المندوب السامي الفرنسي الجنرال غورو عام 1920 من مقرّه في «قصر الصنوبر» في بيروت.


وفق وقائع صلبة، لا أوهام روَّج لها البعض، لبنان نشأ بعد ظهور «مرض» السلطنة العثمانية قبيل الحرب العالمية الأولى، كـ«صغير» من خلال «المتصرفية»، وكـ«كبير» (بحدوده الحالية) إثر هزيمة السلطنة في الحرب وبعد الانتداب الفرنسي على لبنان وسوريا، وبرعاية وحماية منه.
لا يلغي ذلك أن ثمة مجموعات، في جغرافية لبنان الراهن، قد عانت من الغزوات الخارجية التي تسجل لوحات نهر الكلب بعضها الأساسي. لا شك أيضاً في حصول اضطهاد وصراعات ومجازر، كما حصل تماماً، أو ربما أقل مما حصل في أماكن وبلدان أُخرى، في المنطقة وخارجها. لكنّ لبنان، الكيان السياسي الذي شجّعه ورعاه الفرنسيون (شجّعوا سواه ولم يصمد كالكيانين «العلوي» و«الدرزي» في سوريا)، قد حظي بمبالغات محلية بشأن تاريخه ومبرّرات وجوده وإنجازاته، ذهب بعضها إلى درجة زعم حصول ظاهرة عجائبية لبنانية «فريدة» لم يجُد الزمان بمثلها! تشكّلت في سياق ذلك سردية لبنانوية مبنية على عناوين أو ركائز الاضطهاد والريادة والحذر من الآخر، شريكاً أو جاراً، ومن جهة ثانية التفوق والتميّز والتمايز والأفضلية، إلى عقدة الخوف وطلب الحماية والاستقواء بالخارج (الغرب تحديداً وصولاً إلى امتداده وهو المشروع الصهيوني الاغتصابي).
في مجرى الفانتازيا التي ابتكرتها الفئة اللبنانية التي كانت الشريكة المحلية في توليد «لبنان الكبير»، وهي فئة تتشكّل من بيوتات تجارية ومالية ومرجعيات دينية تتعاون، سياسياً وتجارياً، مع الدول الغربية، نشأ المفهوم الخاص لـ«السيادة» الذي لا يزال حياً يُرزق حتى الآن. كانت السيادة تعني، في الداخل «امتيازات» للمؤسس المحلي مكرّسة في العرف أو في الدستور. وكانت تعني خارجياً الانتماء إلى الغرب، ما يُترجم انسلاخاً عن المحيط العربي وحذراً حيال كل نزعة تحررية تصدر فيه، سواء عبّرت عنها أحزاب أو أنظمة أو ثورات شعبية، ضد المستعمرين وأدواتهم وخصوصاً العدو الصهيوني. لا مشكلة، وفق هذه الرواية، إذا كنت موالياً أو تابعاً للغرب، المشكلة في أن تكون على علاقة ما، ولو جزئية، مع أحد الأشقاء العرب ممن يجاهرون بانتقادهم، ولو الجزئي، للغرب الاستعماري: في صيغه القديمة أو الحديثة.


في هذا السياق، تمّ عام 1958 استدعاء الأسطول السادس الأميركي إلى شواطئ بيروت من قبل الرئيس، آنذاك، كميل شمعون، لدعمه في قمع المعترضين على سياساته الداخلية وارتباطاته الخارجية. عام 1982 تمّ استدعاء الغزو الإسرائيلي والقوات المتعددة الجنسيات، ما أدى إلى احتلال نصف لبنان وتنصيب رئيسين «سياديين» هما بشير وأمين الجميل. أمّا الفلسطيني المشرّد أو المناضل فهو لا يستحق سوى العزل والقمع والتهجير وصولاً إلى خوض حرب تحرير ضده ابتداءً من نيسان عام 1975. كذلك الأمر بالنسبة إلى السوري الذي سبق أن تدخّل في لبنان، عسكرياً، بطلب من الجهة نفسها التي استدعت الإسرائيلي لاحقاً! (لا يلغي ذلك حصول أخطاء جسيمة وممارسات خاطئة ارتُكبت من قبل المسؤولين السوريين والفلسطينيين في لبنان وخارجه).


قال أحد أركان «الجبهة اللبنانية» وأمينها العام النائب الراحل إدوار حنين: «لبنان بالتبعية يعتزّ وبالاستقلال يهتزّ». وقع ذلك في امتداد نظرية «قوة لبنان في ضعفه». السيادة إذاً، ليست مطلقة، وهي لا تنجم عن اعتبار وطني أو مصلحة وطنية لبنانية عامة، بل هي صفة يدّعيها أولئك الذين رسموا للبنان صورة على قياس تصوّراتهم ومصالحهم وفئويتهم وارتهاناتهم. وهم سخّروا في سبيل ذلك عوامل مختلفة وشاملةً حقول السياسة والإدارة والتربية والفن والتراث والتاريخ والأساطير... إنّ هؤلاء وقد تشكّلوا، في مجرى التعاون والتباين والمتغيرات، في نطاق «منظومة» سلطوية واحدة، مع شركاء آخرين من صنفهم طبقياً وفئوياً، قد تمادوا دون حدود في المرحلة الأخيرة إلى درجة توزيع شهادات في السيادة على الآخرين ممن ساهموا في تحرير تراب الوطن من المحتل الذي كانوا هم له حلفاء وشركاء، وإليه التجأ بعضهم، هارباً، بعد مغامرات فاشلة لاستثمار غزو عام 1982!
إنّ التشكّل في منظومة التحاصص الطائفي وهي الصيغة التي اعتمدتها البورجوازية اللبنانية الكبرى للوصول إلى السلطة والاستئثار بها، قد جعل أيضاً السيادة نسبية وفئوية بالنسبة إلى القوى الأخرى في المنظومة المذكورة. نرحّب بالتدخل الأجنبي، بل نستدعيه، إذا كان لمصلحتنا. نرفضه إذا كان العكس. هذا ماثل، حالياً، في المشهد البائس الراهن بشأن مهمة موفد الرئيس الفرنسي لو دريان. ما كان مرفوضاً بالأمس، بالنسبة إلى الموقف الفرنسي، من قبل طرف ما، قد يصبح العكس غداً، إذا تغيّرت المقاربة أو تغيّر الموقف.


الخلل في «الصيغة الفريدة» الذي ولّد الخلل في مفهوم السيادة وفي سواه، هو الذي أدّى، وسط جموح أطقم السلطة اللبنانية المتعاقبة نحو النهب واللصوصية والفئوية والتبعية، إلى انهيار لبنان وخراب شعبه: هو مصدر كل الأزمات.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حماس وإسرائيل.. محادثات الفرصة الأخيرة | #غرفة_الأخبار


.. -نيويورك تايمز-: بايدن قد ينظر في تقييد بعض مبيعات الأسلحة ل




.. الاجتماع التشاوري العربي في الرياض يطالب بوقف فوري لإطلاق ال


.. منظومة -باتريوت- الأميركية.. لماذا كل هذا الإلحاح الأوكراني




.. ?وفد أمني عراقي يبدأ التحقيقات لكشف ملابسات الهجوم على حقل -