الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية -الحياة لحظة- الفصل الأول

سلام إبراهيم
روائي

(Salam Ibrahim)

2023 / 7 / 22
الادب والفن


الحـياة لحظـة

روايـة



سـلام إبراهيم



إهداء

إلى:
عبد إبراهيم سوادي النجار
خليل إبراهيم سوادي الحلاق
شاكر منصور «ميم» الخطاط والمصور الفوتوغرافي



المحتويات

ضيف أصابه الشلل.......................................
صعلوك تكريتي ......................................................
المتشردة الروسية .......................................................
االشاعر ........................................................................
فليرمها بحجر ............................................................
لا تتركني وحدي .........................................................
مجد الغرف ...............................................................
اليهودية الجميلة..........................
صالح والأرملة ..................................................
مريم الأوكرانية ........................................................
أخي الزنجي ..............................................................
شاعر الأيديولوجيا ...................................................
الحالمون الثلاثة ................................
جندي أمريكيّ وعدس عراقيّ ........................................
بم...................................






«الحياة لحظة فصورها قبل أن تنفجر»
لافتة خطها المصور الزنجي شاكر «ميم"
وعلقها في واجهة محله وسط مدينة الديوانية



ضيف أصابه بالشلل

عندما تركتْه ، وحيدًا ، في موسكو وطارت مع طفليهما إلى الدنمرك لم يكن «إبراهيم» شديد التعلق بها فقط بل شبه مجنون.. لم يصدق أنها غابت في أمكنة بعيدة ولغات وتفاصيل. تركته وحيدًا في شقة بالطابق الثاني من بناية مكونة من ثلاثة طوابق تركن في طرف من أطراف موسكو المترامية. صار وضعه لا يختلف عن وضع لحظته الراهنة. يبكر في الشرب قبيل الظهيرة ويستمر طوال النهار.. حتى تلك اللحظة التي يتلاشى فيها الزمن، فتستحيل الأشياء والبشر والأمكنة والذكرى والقصة إلى ما يشبه الوهم فيقترب الحاضر ليندمل بالماضي، متحولًا إلى حلم يشبه ما كان ينتابه في الطفولة، حينما يجلس في ظل نخلة بستان ، ويغفو في الظهيرة حالمًا بلمس أجساد أمنياته من الأم إلى الأخت إلى بنت الجيران. في اللحظة التي يصحو فيها يجد نفسه في أمكنة غريبة، مصطبة في حديقة، نفق مترو، محطة قطار، سرير إيواء المتشردين في الأبنية المنتشرة في أنحاء كوبنهاجن.
غادرته قبل عشرة أعوام في شقة موسكو المنزوية وحيدًا مع أمتع ذكرى. ففي اللحظة التي أيقنت أنها ستتمكن من الطيران دونه إلى بلد اللجوء تجلّت كأنثى ، ومنحته كلها في طعم مضاجعةٍ من ذلك النمط النادر الذي يظل يحلم به المرء عند الفراق.. ذلك يحدث بين الأزواج والمحبين حيث تنطبع مضاجعات معينة في الذاكرة. تلك ليست أول مرة تتألق في السرير .. لكنها منحته كيانها وكأنها عاشقة أضناها طولُ فراق وحققت خلوتها الأولى.. وضع يشبه يوم التحاقهما بالجبل واللقاء به بعد طول فراق.. حيث انفردا عن المفرزة داخل كهف مظلم بسفح جبل القوش ليذوبا في اللهاث ولحم بعضهما البعضِ..
أبدًا لم يستطع نسيان المضاجعة في غور الكهف.. وعلى ضيق الأريكة الروسية القديمة المغبرة في سكون تلك الظهيرة ، التي أفرزته إلى مساحة شكٍ غريب، إذ أحس أنها طوال أيام وسنين لم تكن تمنح نفسها وكيانها إلى لحظة الوجد الجسدي القصوى. ظل يجلس على كرسي جوار الأريكة الخشبية الضيقة متعجبًا كيف احتوت جسديهما الضخمين.. دهشةٌ هي ذات دهشته في جبهة الحرب، حين يجد نفسه محشورًا في حفرة ضيقة وقت القصف مع خمسة أجساد يستحيل أن تضمهم وقت هدوء الجبهة.. يحملق في قسماتها السمراء الناحلة وهي تتموج تحته وتجذبه وكأنها تود أن يلج أحشاءها. ظل يستعيد بعد سفرها تلك القسمات الفاتنة المتوهجة فيستثار بكل مسامه، ولا يهدأ إلا بمحاكاة تلك اللحظة ملتصقًا بجسده العاري فوق المكان الذي شغلته تحته، وفي غمرة المخيلة ، وهو يغمض عينيه ، يصل معها إلى الذروة التي تزيد من خواء لحظته، وهو ينهض من فوق الأريكة والجسد الذي كان حيًا تحته يتحول إلى دخان يتبدد بأرجاء الغرفة.. جعلته تلك المضاجعة العنيفة يشعر بسذاجته، وهو يستعيد ليالي الفراش في الشام وكهوف الجبل:
- حمار.. حمار..
صرخ في نزهته الصباحية وسط غابة تجاور تلك الشقة، عازمًا على النهل من نبعها الذي اكتشفه البارحة بغتةً .
قال لنفسه، وهو يغور في عمق الفجر:
- سأستعيد هذا اليوم مجد المضاجعات الأولى وفتوة الأحاسيس!.
توقف رافعًا رأسه ليتابع لفة ساق شجرة حور شاهقة.. تأمل تناسق استدارة الساق الطويلة الرشيقة الراسخة الواثقة من وقفتها الساكنة والفروع العالية وصفحة السماء الملبدة بغيوم داكنة، فتعطف نحو أعماقه التي هزتها تجربة الجبل وهو يقاوم غيرته.. وهاجس موت قريب.. ومصاعب يوم الجبل.. وعدم قناعته بالتجربة التي لا بديل لها.. كان يكتم كل تلك المشاعر إزاء شدة تعلقها بالواقع الجديد وسط الرفاق:
- هل كان كتمانه ولعب دور الثوريّ والمناضل ، سببًا في فقدان وجد الجسد.. فاستحال الفراش إلى روتين وواجب؟!.
سأل نفسه وعاود السير في ممر الغابة الملتوي بين صفوف الأشجار، منصتًا لخرير نبع الماء القريب من مخرجٍ، يؤدي إلى شارع مجاور لموضع الشقة:
- دون أسئلة.. ولا فلسفة تعقّد الأمور.. إنها فرصة لاستعادة الوضع القديم الجميل.. لا تفوّتها يا هذا!
خاطب نفسه وكأنه يخاطب آخر. ودلف من باب البناية الضخم المزدوج بضلفتين عظيمتين، المصممة كي تحفظ حرارة الفضاء الداخلي للبناية وقت الشتاء الروسي القاسي.. ولج الشقة عند العاشرة. وجدها لم تزل تغط في نومٍ عميق. مسفوحة بطولها الممشوق على سرير غرفة الشقة الوحيد.. عدل وضع غطائها وغطاء طفليه الصغيرين. وجلس على الكرسيّ القديم ليبحر في أخيلته المنحصرة في السويعات المتبقية قبيل طيرانها إلى بلد يجهله.. حالمًا بتكرار مأثرة فراش الليلة الفائتة..
- سنخرج في نزهة أخيرة وسط موسكو.. ونعود في المساء.. وبعد نوم الصغيرين سوف أذهب معها إلى لحظة البارحة وعلى الأريكة الضيقة نفسها!.
قال في نفسه وهو يتأمل براءة قسماتها الجميلة الغارقة في النوم.. تمنى لو كانت الشقة أوسع. فهي مكونة من غرفة واحدة وشرفة ومطبخ وحمام ، بالإضافة إلى المدخل الضيق.. كان يفكر بخلوات متعددة خلال اليوم الأخير في غرفة أخرى تخيلها في فضاء الشقة المجاور ، حيث يستطيع الخلوة معها وقت انشغال الصغيرين باللعب أو بمشاهدة أفلام الرسوم المتحركة. عند الحادية عشرة قام من كرسيه ليحضّر الفطور مبتهجًا يرنم بصوتٍ خافت أغنية عراقية قديمة لزهور حسين:
- أنت الحبيب والله.. أنت الطبيب والله
تعال.. تعال يَحلو.. يمته الوصال يولد!.
ليش تنكر ودادي.. يا روحي بِفؤادي..
يرددها بنشوة متشربًا المعنى، وكأنه يعاتب نفسه وشخصها الغافي على ضياع الزمن في الجبل ظانًّا أن المحبين يستطيعون جعل كل ليلة.. ليلة عرس أولى.. في معادلة تقترب كثيرًا من حلمه المشوش بمدينة ماركس الفاضلة حيث لا فقير ولا غني، لا فرق بين البشر.. كل حسب قدرته وكلّ حسب حاجته.. حلم فائق الجمال.. يمتزج بحلمها.. هاهو في اللحظة الراهنة يكثف كل أحلامه بهذا اليوم الموشك صباحه على الضمور. أعد «قوري» الشاي.. البيض.. شرائح الجبن.. المربى والحليب. سخّن الخبز قبل أن يوقظهم بصخبه المألوف مصعدًا من صوته، الذي يصلح لكل شيء عدا الغناء، مما جعلها تقول بعد أن ألقت تحية الصباح:
- من الصبح زهور حسين!.
- ما أدري ليش.. هذي الأغنية أظنها تشبه هذا اليوم. اليوم.. اليوم أش لون بينا اليوم!.
نهضت من السرير ملقية الغطاء. كان شديد الرغبة فيها ، وكان لو أقدم لا تمانع، لكنه أيقن منذ بارحة الأريكة الروسية أنها لن تذهب معه إلى النقطة التي تتلاشى فيه، فملامحها شديدة الحياد، جادة، وعندما جسَّ نبضها بقبلة الصباح تلقت شفتيه باعتياد وكأنها أخت. وعلى مائدة الفطور كانت مشغولة الذهن. وقتها لم يفكر لا في الماضي ولا في المستقبل.. لا في الوطن الدامي.. ولا في حلم اسكندناﭬﻴﺎ القادم. كان ملتصقًا كشأنه بلحظته الراهنة، ومتضايقًا من قلقها الذي جعلها تنأى عنه، فحاول - دون جدوى - جذبها إلى مسافته كي تتهيأ لآخر مضاجعة على أرض البلشفيك. كانت مشغولة الكيان بتجربة الطيران إلى المجهول وفراقه. فبعد الفطور انهمكت في ترتيب حقيبة السفر، فنثرت الملابس كي تختار ما تأخذه معها وما تتركه.. كل غزله ذهب هباءً لحظة حملها سماعة الهاتف واتصالها. ترك ما كان بيده وأنصت، فأدرك أنها تدعو رفيقًا لهما كي يحضر ويصطحبهما إلى مطار موسكو. وضعت السماعة.. فسألها عمن سيجيء:
- «محمود»!
- «محمود»!..
صرخ بغضب وأضاف:
- لِمَ؟!
- كي يساعدنا!.
ردّ على الفور:
- بماذا؟!.
- ..!
لم تجب، قامت من كرسيّها خارجةً من المطبخ. تابعها بعينين حزينتين. قطعت الغرفة. أزاحت باب الشرفة الزجاجي. عبرت إلى فسحتها الضيقة، وأشعلت سيجارة. لا يدري لماذا شعر في تأمله الشارد قسماتها الجميلة من خلف زجاج الشرفة وهي تنفث دخان سيجارتها ، بأنه سوف يفقدها عاجلًا أم آجلًا.. خاطر مرّ سريعًا. لبث جالسًا على أريكة الغرفة نفسها إلى أن أكملت سيجارتها، فاستدارت لتفتح باب الشرفة وتدخل. تلك اللحظة اختفت كل الهواجس وأقبل نحوها طريًا.. عاشقًا.. سائحًا مثل ماء.. فأفردت ذراعيها الطويلتين وضمته إلى صدرها ضمة ابن عاقّ بكل ما يحمله الابن العاق من عاطفة مضافة.. وفي اللحظة التي كادا يدخلان فيها إلى جنة البارحة على الأريكة نفسها، وهي تدفعه نحوها بفوران جسدها الأسمر الرشيق العاصف.. في اللحظة تلك.. قرع جرس الباب. جمدا.. الجرس الضاج يلحّ.. ويلحّ.. انسلّت من بين ذراعيه لتفتح الباب، فتناهى إلى سمعه صوت «محمود» الناعم، الذي وتر ويوتر أعصابه منذ سنواتٍ طوال. حضنا بعضهما بنفاق.. وكلاهما يعرف أن لا ودّ بينهما..
- ابن الكلب.. يصير كان وره الباب ينتظر!
قال «إبراهيم» في نفسه، ونظر إليه بازدراء متابعًا حركة ذراعيه الطويلتين مقارنة بقامته القصيرة، وهو ينهمك بالحديث معها عن السفر وأخبار فلان وفلان.
كشأنه دومًا عند حضور هذا الضيف الثقيل ، لزم الصمت. عاد لا يتكلم إلا عند الضرورة.. لا بل تجاهل في كثير من المرات الأسئلة الموجهة إليه.. لم يكن يقصد ذلك في الأوقات السابقة سواء في كردستان أو في مدينته فقد كان ينفصل عنه إلى عالمٍ آخر، لتفاهة أحاديثه بموضوعاتها وبطريقة سردها حتى أن قاعة فصيل المكتب السياسي التي كانت تضم أكثر من عشرين مقاتلًا كتبوا قطعة وعلقوها على جدار القاعة المطلي بالطين تقول:
- الكلام ممنوع في هذه القاعة على «محمود» فقط!
مما أثار مشكلةً عويصة في الفصيل. ذلك وطنّ انطباعه القديم أيام الديوانية، حينما كانا يلتقيان مع مجموعة من الشباب الماركسي في المقاهي فكان ينزعج من ثرثرته، ويستغرب من صبر السامعين على أحاديثه المملة. وظنَّ وقتها وهو يتحاشى اللقاء به مبديًا ما يشعر به من مللٍ وعدم اكتراث عند اللقاء المفروض، عبر علاقات متشعبة كأن يكون صديقًا حميمًا له علاقة به ؛ ظنَّ أنهُ سيتخلص منه على الأقل كعلاقة، لكن تشاء أقدار العراق الغريبة أن يلتصق به أكثر عمقًا من التصاق قُراد بجلد حصان. فقد انبثق أمامه بغتةً في كردستان عام 1982، وأخبره أنه كان مختفيًا طوال فترة الحملة على الشيوعيين واليسار الديمقراطي، ونجح بعون صلاتنا نحن في الوصول إلى كردستان. وتشاء الأحوال أن يتسللا إلى المدن مرة أخرى فيضطر إلى أن تكون زوجته حلقة الصلة بالتنظيم ويكون هو المعنىّ باللقاء بها. ثم سيكون هو الشخص المكلف بإيصالهما إلى كردستان. وسيبقى معهما حتى خلاصة التجربة؛ أي حتى الانفصال.. والتشرد في معسكرات اللجوء في إيران وتركيا..
فهاهو وسط غرفة الشقة الوحيدة بطرف موسكو يتصرف وكأنه ليس فردًا من الأسرة بل ربُّها.. انزوى صامتًا على طرف الأريكة البعيد يراقب طريقته في الكلام، وحركاته، وتعبير ملامحه أثناء الكلام، وكان لا يوجه الحديث إليه إلا فيما ندر، وذلك سرَّه من ناحية وضايقه من ناحية أخرى.. أمعن في صمته، في التحديق الدقيق فيه، في رصد قسماتها الجميلة المنشغلة عنه المنصتة والمحاورة والمنسجمة مع ما يقوله الضيف، فاكتشف بغتةً أنه يتصرف بتلقائية تفوق تلقائيته، فكاد يهجم عليه ويوسعه ضربًا.. لكنه تمالك أعصابه بعناء، لينفجر في نفسه قائلًا:
- ابن العاهرة، وكأنه أنا في أشد حالات الغبطة!.
لم يشعر بالغيرة قط من هذا الكائن، لكنه شعر بالغيظ منها وهي تستدعيه في هذا اليوم الحاسم. أمعن في صمته.. في أحقاد لحظته الدفينة رامقًا الرفيق الذي يشبه القدر وهو يدور في أنحاء الشقة. يعد الشاي وكأنه هو. يتحرك ويفضي بما يكنه من أفكار لا يبالغ المرء إذا وصفها بالسطحية فهي أكثر من سطحية بل تافهة. ما كان يستغرب له هو قدرة زوجته على السماع.. لا بل التجاوب مع ما يطرحه هذا الكائن المدجج بأفكار الأيديولوجيا الحزبية الشيوعية الجامدة.. والمدافع الأعمى عنها حتى أنه في يومٍ سخر من هذه النماذج المعبئة، فقال لها:
- اسمعي ، لا تفسري كلامي وكأنني أسخر من الموت، لكن ما يجعلني أسخر من الموت هو موت المؤدلَج.. وحتى موت المؤدلج فيه درجات وطبقات..
- لا تفلسف الموت يا حبيبي!.
- لا.. لكن اسمعي أنا اعتقد أن ثمة بشرًا يموتون وهم يضحكون!.
- كيف؟! ومن؟!
أجاب:
- صاحبك «محمود» أتخيله يستقبل الموت ضاحكًا.
- تلك شجاعة!
أجابت، فأغاظته.
- لا.. لا.. الموت قضية جدية!.. تتطلب شيئًا من الشعور بالمأساة!.
قال ذلك وعبّ كأسًا.
- اسمعي ، أخي صديق صباك قضى في أقبيتهم، وأنت تعرفتِ عليه عن قرب. أتدركين لم ظللت أكثر من عشرة أعوام أبكيه؟
- لا.. كان ذلك يثير استغرابي!.
- اللحظة التي أنفجر فيها في البكاء والنحيب ثم الهذيان هي لحظة تخيلي لحظات الإجهاز عليه الأخيرة.. وأنت لا تستطيعين تخيل تلك اللحظة ؛ لأنك ببساطة لم تمري بتجربة الاعتقال.. كنت في تلك اللحظة الفريدة ألمس ذروة عذابه قبل الذبح، وهو الرسام الشفاف فأنهد في البكاء. أما صاحبكِ فمن حسن حظه أنه لم يمر بتجربة الاعتقال.. أقول ذلك بيقين.. فإنه لو أُعتقلَ سوف يمر عليه الموت «هذا إذا صمد» مرور الكرام.. وسيموت بسذاجة مخدرٍ كأي حشّاش عتيد بماركسية الشم والحلم، ولا أستطيع غير تخيله يضحك لحظة الإجهاز عليه، وكأنه معتوه لا يعي ما يدور حوله.
كانت عندما يصل الحوار إلى هذا الحد تحتد، وتقوم لتنشغل بشأن ما قائلة:
- لا تجننّي بهذا الكلام!.
ظل ينصت لأحاديثه المتواصلة، غير المترابطة، عن أخطاء الحزب الشيوعي السوفيتي، عن أخطاء التطبيق، عن الحطب في كردستان، عن المدرسة الحزبية في موسكو التي ينام فيها، عن غباء «جورباتشوف» والبرسترويكا التي استثمرها العدو الإمبريالي، عن الديوانية ونكات بائخة يضحك لها وحده. والغريب أنه كان لا يكف عن الكلام، والأغرب إنصاتها المنفعل لكل تفاصيل أحاديثه الماسخة، سأل نفسه في صمت:
- أتجامل أم أنها سطحية الذهن مثله؟!.
- أيكون جسدها الشهيّ وصوتها المثير وشدة تعلقها به أعماه عن بنيتها الذهنية؟!.
نهض من الأريكة. وخطا نحو المطبخ. صبَّ قدحًا صغيرًا من الفودكا. عبَّه دفعة واحدة:
- الرفيق.. ابن العاهرة متى يذهب؟!.
سحب كرسيًّا من جانب طاولة الطعام الصغيرة، وضعه بمواجهة النافذة المطلة على حديقة صغيرة. صب كأسًا أخرى. رشفها. فتح قنينة بيرة. أنشأ يتملى ألوان الخريف، الورق الصدئ المتساقط من الأغصان، العشب الشاحب معرضًا عن اللغط القادم من الغرفة الأخرى. فتح قنينة ثانية والنشوة المباركة تنتشر في أنحاء جسده، طاردة التوتر الذي يزيده وجود هذا الكائن الشبيه بمسجل يدور بلا نهاية.. هكذا تخيله ناحتًا قسماته على هيئة مستطيل المسجل فانتابته عاصفة ضحك صاخب، جعلها تأتي إلى المطبخ متسائلة:
- ويّا من تضحك؟
- لا ما كو.. شيّ.. ما كو.. شيّ!.
- ليش تارك الضيف.. عيب!. قم إلى الغرفة!.
- تدرين ما أطيقه!.
- شنو هالكلام.. الرفيق جاي يساعدنه خاف يرجعونه من المطار..
- يعني شنو ما يروح اليوم يظل للساعة ثنين بالليل!.
- ما أدري ، بس ما نقدر نقول له روح ، وبعدين تعال!!
اضطر إلى العودة إلى الغرفة. فطالعه وجه «محمود» الباسم طوال الوقت.. بسمة بليدة يقابل بها كل شيء.. العدو والصديق، الغريب والقريب إلى الحد الذي تعود فيه البسمة ليس لها علاقة بوجودها الدلالي. ظل يكتم توتره، والوقت يمضي نحو عتمة المساء، آملًا أن يحس - «محمود» - معنى زوج يفارق زوجته وطفليه نحو المجهول ويحتاج إلى خلوة، لكن:
- من أين يحس هذا البليد الذي يكاد يبلغ الثامنة والثلاثين، دون أن يتعرف على امرأة؟!.
وشرد ببصره نحو النافذة والمساء يرش رذاذ عتمته من تحت الأشجار ومن خلف البنايات المقابلة، ومن أفق السماء الغربي. كانت في المطبخ تعد وجبة العشاء، بينما يلعب الرفيق مع طفليه وسط الغرفة، يزحف على أربعٍ ويصعدهم على ظهره. وكانت تطل بين الحين والحين من الباب. ترمق بنشوة المشهد، وتغيب عائدة إلى المطبخ. اجتاحته موجة حقد عارمة.. فالكلب أمات حيويته وعطل مشاعره حتى أنه لم يستطع هذا اليوم اللعب مع طفليه رغم إلحاحهما. فانبرى ليحل محله. كاد أن يهب من الأريكة نحوه ينهضه بيديه ويطلب منه الذهاب إلى مدرسته الحزبية، لكنه سمع زوجته تصيح من المطبخ:
- هيا العشاء جاهز!.
- سيذهب بعد العشاء.
صبّرَ نفسه متخيلًا بهجته التي ستكون مضاعفة بعد هذا الضغط والعناء. لكن مرّ وقت العشاء ولم يتزحزح. وتقدم الليل مقتربًا من منتصفه. الطفلان ناما. و«محمود» لم يكف عن الثرثرة:
- أيا ابن الكلب!.
احتقنت قسماته غيظًا، والساعة القديمة المعلقة إلى الحائط تشير إلى الحادية عشرة، أي لم يبق غير ساعات ثلاث كي يستقلوا سيارة الأجرة إلى مطار موسكو البعيد.
- ثلاث ساعات.. وستغيب في المجهول!
- ثلاث ساعات وسأبقى وحيدًا في موسكو! وهذا الرفيق الفاقد الحس.. الحيوان لا يفكر بالذهاب نزهة لمدة ساعة ولو.. ثلاث ساعات يا أيها البغل الحرون!.
كانت غير مكترثة للأمر معلنة:
- لنغفُ قليلًا!
ونهضت لتعد الفراش. فرشت لـ «محمود» في زاوية الغرفة البعيدة جوار التلفاز القديم، وجوار الأريكة توسدت الفراش تحته جوار الطفلين بعد إطفاء النور. لم يغمض له جفن. ظل ساهرًا يحدق بقسمات الضيف التي بدت واضحة على ضوء قمر شاحب، تسلل من نافذة الشرفة. قدّر أنه يتصنع النوم. ففي ذلك الصمت المطبق تعالت أنفاس الطفلين وزوجته الغافية بينما لم يصدر من مكانه أي صوت وكأنه يكتم أنفاسه. سكن على الأريكة جامدًا.. سكن كتلة تفور وتحتدم بشعور حقد مطلق.. رغبة حقيقية في طعن هذا الكيان الغبي بسكين.. رغبة جارفة جعلته يتسلل إلى المطبخ ويمسك بالسكين ويطعن الهواء بحقد. يهدأ قليلًا. يعب كأسًا جديدة من الفودكا. يعود إلى الأريكة.. يهمد لدقائق.. ينصت.. وينصت لا صوت أنفاس من جهة فراشه، الذي غط بالظلام مع انحسار ضوء القمر. أدلى قدميه وراح يتحسس من تحت الغطاء أصابع قدميها بصمت.. وبينما هو يغرق في خيال أصابع قدميها الهامدتين الساخنتين قرع منبه الساعة بعنف معلنًا الثانية صباحًا. هبّت من نومها أطفأت صوت المنبهة، وكبست زر الكهرباء. فوجدته جالسًا على الأريكة يحملق فيها بعينين حزينتين:
- صباح الخير..
- صباح النور
- ها.. ما نمتْ!
- لا..
ألقى «محمود» الغطاء عن رأسه. فتح عينيه. كانتا محتقنتين فـتأكد «إبراهيم» أنه كان ساهرًا تحت الغطاء. استسلم وخفت توتره منشغلًا بطفليه والحقائب وتدبير سيارة الأجرة، التي أقلتهم إلى مطار موسكو البعيد. كان يحضن طفليه ويسرق من شفتيها قبلاتٍ سريعة في المقعد الخلفي للسيارة. في باحة المطار المكتظة نسى كل شيء.. الرفيق الحمار.. وليلة البارحة الشديدة.. ورغبته بالقتل. أصبح شفافًا.. شديد الحزن كأنه سيفارقها إلى الأبد، أو كأن تلك اللحظات ستكون حدًّا فاصلًا في علاقتهما، وعندما غابت خلف بوابات، تؤدي إلى ممرات تفضي إلى الطائرات. استدارا نحو بوابة المطار مخلفين الزحام والضجيج. كان الفجر طالعًا. وفي موقف الحافلة كان إلى جواره يبدي سعادته لنجاحها في العبور بجوازها السعودي المزور.. انتبه إليه وكأنه يكتشف وجوده إلى جواره أول مرة. كان يبتسم.. ابتسامته الغبية نفسها. حدق في ملامحه الناعمة، في قامته القصيرة، في ذراعيه الطويلتين، في ساقيه القصيرتين، في حركة شفتيه النشطتين. وبغتة وجد نفسه يسدد نحو تلك القسمات لكمة هائلة بذراعه الطويلة الضخمة. فطار جسده الهزيل في الهواء ليسقط على مبعدة ثلاثة أمتار فاغر العينين صامتًا، متوجعًا، مذهولًا،
- مو دمرتني من البارحة لليوم.. ابن العاهرة!.
* * *








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة الأمير والشاعر بدر بن عبد المحسن عن عمر ناهز الـ 75 عام


.. الفلسطينيين بيستعملوا المياه خمس مرات ! فيلم حقيقي -إعادة تد




.. تفتح الشباك ترجع 100 سنة لورا?? فيلم قرابين من مشروع رشيد مش


.. 22 فيلم من داخل غزة?? بالفن رشيد مشهراوي وصل الصوت??




.. فيلم كارتون لأطفال غزة معجزة صنعت تحت القصف??