الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الزمن المظلم . . . حياة على حافة الهاوية

عدنان حسين أحمد

2023 / 7 / 23
الادب والفن


يعتقد المخرج الفرنسي كريستوف كاراباش بعدم وجود "أخيار وأشرار في بلد ينهار اجتماعيًا واقتصاديًا وسياسيًا؛ فالأمور أكثر تعقيدًا، جميعهم شركاء في تدهور الحياة". هذا أهمّ ما ورد في بيانه المُقتضَب الذي يكشف عن ثيمة فيلمه الموسوم "الزمن المظلم" الذي عُرضَ في الدورة الـسابعة والعشرين لمهرجان بوتشون السينمائي الفانتاستيكي الدولي في كوريا الجنوبية للمدة بين 29 يونيو / حزيران ولغاية 9 يوليو / تموز 2023م. وهدف هذا المهرجان هو تسليط الضوء على أفلام الرعب والإثارة النفسية والخيال العلمي والأفلام الجنسية التي يتم تهميشها جميعًا في آسيا بحسب القائمين على المهرجان، فلاغرابة أن يرحبوا بالمدعّوين والزوّار الذين سيجدون أنفسهم في عالم آخر!
ومنْ يتأمل تفاصيل "الزمن المظلم" أو Zaman Dark كما عنْونه المخرج، وهو من أصول لبنانية، سيجد فيه كل أهداف المهرجان سالفة الذكر. وأكثر من ذلك فثمة يأس، وإحباط، وقنوط، وعزلة، وجرائم بشعة، ومُتاجرة باللحم البشري الطري الذي يذوب في أفواه المستهلكين من أبناء الطبقة السلطوية المتغوّلة التي تتلذذ بلحم الأطفال الصغار الذين خرجوا من أرحام أمهاتهم توًا كما ورد في المتن السردي لقصة الفيلم قبل أن تطوي صفحتها الأخيرة.
يندرج هذا الفيلم ضمن موجة الأفلام الدايستوبية Dystopia التي تجسّد عالَم "المدينة الفاسدة" التي يبلغ فيها الشرّ ذروته، وهي قريبة ومُحاذية جدًا لـ "السينما المُظلمة" أو "الفيلم المظلم" Film noir إن شئتم الذي تسيّد منذ أوائل الأربعينات حتى أواخر الخمسينات من القرن الماضي في هوليوود مُجسِّدأ أفلام العنف والجريمة.
ما يميّز فيلم "الزمن المظلم" لكاراباش هو جرأته، وثيمته الجارحة التي تضرب في الصميم ولا تتفادى شيئًا، فالمخرج لا يخاف من سلطة شرسة، أو مليشيا متوحشة، أو عصابة خارجة على القانون. فهو يسمّي الأشياء بمسمياتها، ويتجنّب الاستعارة إلى حدودها القصوى لكنه يخلق مناخات عامة لا تختلف كثيرًا عن الكوابيس المُرعبة التي تجثم فوق صدورنا ليلاً وتمنعنا من الحركة لوقت قد يطول أو يقصُر. ولعل هذا الفيلم الدايستوبي هو "رؤية مظلمة وهذيانية وغرائبية" لا يمكن أن تغادر ذاكرة المتلقي بسهولة.
تبدو بيروت مدينة دايستوبية، ولبنان برمته يقف على حافة الهاوية بعد أن تقوضت ركائزه السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية وإن كان التركيز مُنصبًا على انهيار القطّاع المالي وليس هناك أية بارقة أمل في الأفق القريب. تدور ثيمة الفيلم على شخصيتين رئيستين وهما خطّار وأناييس، جسّد الأولى عمر بكير، وأدّت الثانية ريّا حيدر، وثمة عصابة مؤلفة من أربعة أشخاص ستظهر على مسرح الأحداث في النصف الثاني من الفيلم حيث يعتدون على خطّار وزوجته بعد أن يضعوا حبوبًا مخدّرة في مشروبهما ثم يقرر الانتقام منهم تباعًا. يعمل خطّار وأناييس كيميائيَين في أحد المختبرات في زمن الحرب ويتم تسريحهما من الخدمة فيقومان بتجربة غرائبية فريدة من نوعها وهي البقاء على قيد الحياة بواسطة أكل لحوم البشر المحرّمة في كل بلدان العالم. وقد أتاح لنا المخرج الكثير من المَشاهد المقززة التي تقشعر لها الأبدان حينما نرى خطار وأناييس وهما يلوكان اللحم البشري ويستمتعان بطعمه اللذيذ. وربما ذهبت أناييس أبعد من ذلك حينما حوّلت قطعة اللحم مادة لاستثارة اللسان، والشفتين، والوجنتين، والعنق، وما بين النهدين، نزولاً إلى موطن اللذة والأسرار. لا شك في أنّ أعصاب أناييس متعبة لحرمانها من العمل، ولتجاربها المختبرية العديدة لكنها تدّعي عكس ذلك وتشكو فقط من تعب وإجهاد عينيها بسبب الاستغراق في العمل. ومع ذلك يقترح عليها أن يذهبا إلى أحد الأصدقاء الذي وعده بفرصة عمل لم نعرف طبيعتها حتى الآن. تحيطنا الأخبار علمًا بأنّ كل الأسعار في لبنان قد ارتفعت خلال أسبوع واحد بشكل هستيري وقد سجّل سعر صرف الدولار رقمًا قياسيًا جديدًا، وأنّ أسباب انهيار العملة كثيرة وليس هناك سقف محدد للانهيار.
توافق أناييس المُجهدة على القيام برحلة ترويحية إلى أطراف المدينة للتخلّص من وطأة العزلة، وتخفيف آلامها لكنهما يواجهان أربعة من الغرباء وينضمّون إلى مجلسهم الذي لا يخلو من مشروبات روحية وحبوبًا مُخدِّرة، فينصبون لهم فخًا سرعان ما يسقطان فيه فقد وضعوا بعضًا من الحبوب المخدّرة في قنينة النبيذ ففقدا السيطرة على نفسيهما حيث تحوّل خطّار إلى هزأة بينما تحولت أناييس إلى وعاء جنسي. تختفي أناييس ذات يوم وينهمك خطّار بانشغالاته المتواصلة لكنه يتلقى مكالمة يطلب فيها المتكلّم "لحمًا من الطراز الأول" ويعده بإيصال حقه المادي بالكامل ولا ينسى أن يقرّعه على عمله الكيميائي السابق ومختبره الذي لا يُجدي نفعًا. كما لا ينسى المخرج أن يُذكّرنا بأنّ المواجهة قد تصاعدت بين البنوك والمودِعين الذين يطالبون بأموالهم المُحتجزة منذ أكثر من سنتين ونصف السنة في ظل غياب تام للقوانين التي تحمي الأموال المُودَعة.
ثمة طلب جديد يهزّ الأبدان، فالصديق على الطرف الآخر من الهاتف يريد "لحوم أطفال طريّة" وأنّهم يعتمدون عليه كثيرًا، وطلبوا منه أن يؤمِّن هذه الصفقة وبعدها سيكون لكل حادث حديث. وفي مقابل هذه الصفقة سوف يزودونه بقناصات وأسلحة أوتوماتيكية رشّاشة دقيقة إلى درجة بحيث أنها تصيب 95% من كل 100 هدف يبعد مسافة 900متر، وليست هناك حاجة إلى التدريب لأن البرنامج متطوّر جدًا ويعمل من تلقاء نفسه. وكل ما عليه أن يقطّع لحم الأطفال الطري ويفزره كي يبعث فيهم دماءً جديدة. ووعده في غضون شهر أو شهرين أن يغادر الفقر نهائيًا ويخرج من البيت الخرب الذي يسكن فيه.
لم ينسَ خطّار فكرة الانتقام من أفراد العصابة الذين أهانوه وأذلّوه أمام أناييس فبدأ يصمم أقنعة قماشية تخفي معالم وجهه المعروفة لبعض الناس فينتقم من المرأة التي كانت معهم ويقتلها خنقًا في إشارة واضحة إلى أنّ الدور قادم على البقية الباقية الذين أمعنوا في تعنيفه والإساءة إليه.
تحضر أناييس على حين فجأة وقد تغيّر مظهرها الخارجي، وتحسّن مزاجها المكتئب، فهي تلبس فستانًا أحمرَ، وثمة طوق عريض مذهّب يحيط برقبتها، وشال من الفرو الناعم يسقط من أعلى الكتفين ويصل إلى مادون الركبتين وهي توزع الضحكات الرقيقة ولا تجيب على أسئلته المتكررة التي يستفسر فيها عن وقت مجيئها، وأين كانت مختبئة، ولماذا لم تخبره وما إلى ذلكمن دون أن يصل إلى نتيجة مقنعة.
يلاحق خطّار في المشهد الأخيرة فتاة شابة على مقربة من ساحل البحر وينقضّ عليها ملتهمًا أحشاءها الداخلية في مشهد دايستوبي مروّع ولم يترك منها سوى بقعة من الدماء على ظهر أنبوب خرساني مدوّر.
هذا هو عالم كاراباش الذي يكسر فيه أفق توقعات المتلقي بجرأته وقدرته على تجاوز المحرّمات والرموز السياسية والاجتماعية التي رسمت توابث المجتمع اللبناني وسرقت منه كل شيء تقريبًا ولم تترك له حرية العيش في الغابات البعيدة نسبيًا عن المدينة المُدجّنة التي تجرّد فيها الإنسان اللبناني المعاصر حتى من مقوّمات العيش البسيط.
بقي أن نقول بأن كريستوف كاراباش من مواليد بيروت سنة 1979م. درس في جامعة باريس الثالثة، وحصل على منحة دراسية في جامعة أيوا في الولايات المتحدة الأمريكية. بدأ بإخراج الأفلام الوثائقية والروائية والتجريبية التي تتمحور حول شخصيات هامشية، وضائعة، ومعزولة تعاني من الأزمات العاطفية، وصدمات الحرب الأهلية. أنجز كاراباش منذ عام 2001م وحتى الآن 20 فيلمًا تبدأ بـ "التابوت" وتنتهي بـ "الزمان المظلم" 2023. ومن بين أفلامه المهمة نذكر "شظايا من حياة ممزّقة" 2003م، "المنطقة الحدودية" 2007م، "وادي خالد" 2008م،"بيروت كاميكازي" 2010م، "لمياء" 2015م"، "دوّامة" 2019م، "كمالوكا" 2021م. حصل كاراباش على جوائز محلية وعالمية كثيرة حيث نال Dodgem جائزة أفضل فيلم في مهرجان كلكتا للثقافة السينمائية في الهند، كما نال "لمياء"جائزة أفضل فيلم روائي طويل في مهرجان سيدني العالمي. وحصد فيلمه الوثائقي المميز "جمعية كلاشينكوف" جائزة أفضل وثائقي تجريبي في مهرجان أزمير للفيلم الوثائقي في تركيا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا