الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


البكالوريا السورية ضحية الغش العام

راتب شعبو

2023 / 7 / 24
مواضيع وابحاث سياسية


من ينظر إلى نتائج الشهادة التعليمية الأهم في سورية، نقصد شهادة البكالوريا التي تحدد مصير الطالب، سيخرج بانطباع أن التعليم مزدهر في هذا البلد الذي أصبح "على الحديدة" بعد أكثر من عقد من صراع مسلح استهلك كل طاقات المجتمع، وجعل الكلمة العليا لأكثر الناس بعداً عن التعليم ومعناه.
نلاحظ منذ سنوات أنه في كل سنة هناك طلاب كثر يحصلون على العلامة التامة في الامتحان النهائي، الأمر الذي لم تعرفه سورية في تاريخها، ولا علم لنا بوجود مثله خارجها. أذكر أنه في العام 1985، حصل طالب سوري على العلامة التامة في الامتحان النهائي للبكالوريا. حينها بدا الأمر أشبه بأعجوبة اخترقت شرارتها المجتمع السوري من أقصاه إلى أقصاه. ولا زلت حتى اليوم أذكر اسم ذلك الطالب "الفلتة". فيما أصبحت العلامة التامة في البكالوريا اليوم أمراً عادياً لا تخلو منه سنة دراسية، ويحصلها طلاب بالجملة. تفيد الأخبار أنه في هذه السنة حصل ثمانية طلاب من اللاذقية، من مدرسة واحدة، على العلامة التامة في الامتحان النهائي للبكالوريا. يعاند المرء نفسه إذا قال إن في الأمر ما يثير الإعجاب.
المفارقة أن هذا "الازدهار" التعليمي، يأتي في الوقت الذي تعيش فيه سورية أسوأ أزمنتها الحديثة، حيث الكهرباء والخدمات وسعر صرف الليرة والقدرة الشرائية وأمان الناس وسعادتهم واطمئنانهم في الحضيض. وفي مستوى التعليم المباشر، تعرض أكثر من 42% من المدارس للأضرار في سياق الصراع المسلح، نصف هذه النسبة تعرض إلى دمار كامل، بحسب مصادر "الحكومة السورية" نفسها. كما تعطلت نسبة كبيرة من المدارس لأنها تحولت إلى ملجأ للنازحين أو إلى استخدامات غير تعليمية. وقد خلصت دراسة أجرتها منظمة اليونيسيف في العام 2015، بعنوان "آثار الأزمة على التعليم في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة السورية"، بعد أن استعرضت دمار البنية التحتية التعليمية، وتدني مستوى المعلمين ... الخ، إلى أن "التعليم لم يعد أولوية"، وهؤلاء الطلاب الذين يحصلون على العلامات التامة هم أبناء هذه الفترة التي لا أولوية فيها للتعليم.
الحق أن التعليم لم يكن أولوية في "سوريا الأسد" في أي وقت، ولكن الدراسة المذكورة تدل على المزيد من هامشية التعليم، كما هو متوقع في ظل الصراعات الداخلية المسلحة المديدة. معروف أن "الاستعداد" لصراع آخر ضد "العدو الصهيوني" ثابر، لعقود، على استهلاك 70% من الميزانية السورية، لكي يقف، في النهاية، أبطال "الاستعداد" وهم يراقبون من على شرفات قصورهم المنيفة، طيران العدو يقصف مدننا حيث يشاء ومتى يشاء. أما التعليم فلم يترك له إلا القليل (والحال إن حصة التعليم في الدول المتحضرة تحتل المرتبة الأولى في الموازنة) الذي قد يستكثره الوزير "الموثوق" فيحوله إلى حسابه في الخارج، بعد أداء الفرض لأولي الأمر.
فكيف يزدهر التعليم في هذا الحضيض؟ ما هو تفسير هذه المفارقة؟
الواقع أن هذه مفارقة زائفة، لأن ما يبدو على أنه ازدهار في التعليم هو في الواقع تراجع حاد في المستوى، أكان في مستوى التعليم وجودته، أو في مستوى الحاجز الامتحاني الذي يتوجب على الطالب تجاوزه (مستوى الأسئلة)، أو في مستوى الانضباط والنزاهة أثناء الامتحان (الغش الذي باتت النظرة العامة إليه كما لو أنه حق، وبات الأهالي يدفعون من مالهم الشحيح للمشرفين على القاعات والمراكز الامتحانية، كي يضمنوا لابنهم شروط غش مناسبة). لا مفارقة إذن، والحضيض الذي تعيشه سورية والسوريون، يشمل التعليم فيما يشمل. الازدهار الوحيد الذي يمكن الكلام عنه في سورية اليوم، يحتكره الفساد والتشبيح وتحتكره صناعة الكبتاغون. في الحقيقة، لا يزدهر في مثل الحال التي تعيشها سورية اليوم إلا ما يتغذى على بؤس الناس وخوفهم وما يزيد في تشتتهم وضياعهم. أما القيم الانسانية، من تكافل وتضامن واحترام للحقوق ونصرة المظلوم، فعليها أن تقاوم كي تحافظ على وجودها، وكثيراً ما تنهار أمام قسوة الظروف.
المفارقة الثانية تأتي من الحديث عن صعوبة منهاج البكالوريا السوري، الشيء الذي يذكره كثير من السوريين وكأن ذلك بحد ذاته مصدر فخر. على صفحة "الجمهورية" على الفيسبوك (صفحة تبرز هويتها بوضع صورة بشار الأسد على غلافها) نقرأ البوست التالي الذي يعود إلى 2018، ويحصل على أكثر من 30 ألف إعجاب ومئات المشاركات وآلاف التعليقات السعيدة: "منهاج البكلوريا السوري أتى في المرتبة الأولى كأصعب منهاج بكلوريا في العالم حسب استطلاع قامت به جامعة أوكسفورد الإنكليزية". إذا افترضنا أن هذا الخبر صحيح، فلا أظن أن أحداً يجادل في أنه لو قامت به جامعة دمشق مثلاً، لما كانت له أي قيمة يتباهى بها هؤلاء. الأمر الذي يضمر احتقار هؤلاء المتباهين، للتعليم المحلي سلفاً. كيف يمكن أن نفهم هذه الكلام: أصعب منهاج في العالم، وعشرات العلامات التامة؟ وتحصل هذه النتائج، فوق ذلك، في الظروف المادية والنفسية التي يعيشها السوريون منذ دزينة من السنين.
من النادر في فرنسا، كمثال عن الدول الأوروبية، أن يحصل طالب على العلامة التامة في البكالوريا، علما أن هناك مصححين، يضعون العلامة التامة للطالب الأفضل، أي يضعون للعلامة الأفضل بين الأوراق علامة تامة. ويقولون إن العلامة التامة لا تعكس الصواب التام. في حين كان أحد أهم معلمي اللغة العربية في اللاذقية، وقد درسنا في الصف الثاني الثانوي، يقول إنه لا يمكن وضع علامة تامة على أي موضوع أدبي، حتى لو كان كاتبه "محمود درويش"، فلا وجود للكمال في الأدب.
لا يعني ما سبق التقليل من قدرات الطلاب السوريين الذين يثبتون، في الخارج، إنهم لا يقلون عن غيرهم في القدرات وفي الابداع. على العكس، يبدو لنا أن الطالب المتفوق والمتميز حقاً هو ضحية نظام تعليمي يسطّح الاختبارات، فيغدو الموضوع الأدبي، مثلاً، نصاً يكتبه المعلم ويحفظه الطلاب ويسُمح بتكراره حرفياً. وهو أيضاً ضحية جو الفساد العام الذي يلقي ظلالاً كثيفة من الشك حول النتائج التي لا شك أن من بينها نتائج مستحقة. وقد تصبح شهادة البكالوريا السورية نفسها ضحية. لكن الحقيقة الأهم هي أن المجتمع السوري ككل أصبح ضحية غش عام مزدهر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صورة مفجعة لفلسطينية في غزة تفوز بجائزة -أفضل صورة صحافية عا


.. وسط تفاؤل مصري.. هل تبصر هدنة غزة النور؟




.. خطوط رفح -الحمراء- تضع بايدن والديمقراطيين على صفيح ساخن


.. تفاؤل في إسرائيل بـ-محادثات الفرصة الأخيرة- للوصول إلى هدنة




.. أكاديمي يمني يتحدث عن وجود السوريين في أوروبا.. إليك ما قاله