الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية الحياة لحظة- الفصل الثاني - صعلوك تكريتي

سلام إبراهيم
روائي

(Salam Ibrahim)

2023 / 7 / 24
الادب والفن


صعلوك تكريتي


أقلته الحافلة من المطار إلى أقرب محطة مترو شبه خالية. انزوى على آخر مقعد حزينًا مكسورًا نادمًا على ضرب رفيقه القديم، وكان قد قرر في المسافة التي قطعها بين الموقف الذي تركه فيه والموقف التالي الاعتذار له. لكنه لم يجده في الحافلة مما عمق أساه. من جديد يجد نفسه وحيدًا، ليس في بستان نخيل بطرف الديوانية، ليس في باحة جامع السوق المسقوف، ليس في ظل جدار في طفولته إذ سرعان ما ينسى هذا الشعور ما أن تحضنه أمه في المساء.. بل في حافلة روسية قديمة تمخر فضة الفجر باتجاه موسكو.. بعد أن طارت إلى السماء زوجته وطفلاه.. وحيدًا.. خائفًا من هذه المدينة التي عاشرت أحلامه منذ الصبا والتدله بالقراءة والفكر الماركسي والشيوعية.. المدينة التي لمسها وعاش فيها منذ قرون في عالم حرب وسلام «تولستوي»، في أقاصيص «تشيكوف»، ومع «ديستويفسكي»، المدينة التي هزمت «نابليون»، المدينة التي هزت العالم في 1917 وهزمت «هتلر» قبل خمسين عامًا.
مدينة مترامية الأطراف يجد نفسه فيها وحيدًا بعد تجربة الكفاح المسلح في الجبال، والتشرد في معسكرات اللجوء في تركيا وإيران.. وحيدًا دون وثائق تثبت شخصيته، فالجواز السعودي المزور المشترك مع زوجته وطفليه أخذته معها.. وحيدًا لا يعرف اللغة الروسية.. وحيدًا في الحافلة، يتخيل وضعه البائس في شقة في الطابق الثالث:
- ماذا أفعل بوقتي؟!.
قال لنفسه بخفوت، وهو يعبر عتبة باب يؤدي إلى سلالم المترو الهابطة عميقًا. سلالم تهبط إلكترونيًّا بشكلٍ شبه مستقيم حتى لا يعود المرء في إمكانه رؤية أعلى السلم. في الأسفل تكورت المحطة الفخمة المكسوة جدرانها بالرخام وحشد متناسق من رؤوس «ماركس» و«انجلز» و«لينين» منحوتة في الحيطان، أو موضوعة على أعمدة رخامية قصيرة، تتوسط رصيف المحطة الفاصل بين الاتجاهين. المحطة خالية إلا من عمال التنظيف المشغولين بجمع القمامة من صناديقها.. جلس على مصطبة من المرمر يحدق في الجدران ، في الأعمدة العظيمة ، في الصمت ، متخيلًا عشرات الآلاف من أسرى الحرب الألمان، الذين سخرهم ستالين في حفر شبكة مترو موسكو الواسعة.. تخيل الذين قضوا تعبًا في هذي البقعة التي يجلس عليها.. وعاد يتأمل وحدته، ألا يشبه وضعه وضع أولئك الأسرى الذين ضاعوا إلى الأبد في هذه المدينة؟!. بدأ الناس يتوافدون بكثافة نازلين من السلالم بوجوههم المتجهمة، الشديدة الصرامة، المهمومة.. فأدرك أن المترو قادم بعد لحظات بضجيجه الذي يصمّ الآذان.
دلف إلى العربة المضيئة الخفيضة السقف ، لينزوي على مقعدٍ في ركنها شاردًا، كأنه طفلٌ يغوص في ظل جدار بيت غريب مترسبًا في أخيلته، والقاطرة تشق باطن الأرض مزمجرة.
بصمتٍ لاحق ظلال ملامحه التي تبدو واضحة كلما سارت القاطرة، لتتلاشى عند توقفها في باحات المحطات المضيئة.. اندمج في اللعبة حتى توهم أنه حلُّ بذلك الظاهر والمختفي بزجاج نافذة العربة ناسيًا زوجته وطفليه، والرفيق الذي لكمه قبل ساعتين، اللجة كلها، السياسة، الحرب، كردستان، وذلك العنف الدامي الواشم أمكنة طفولته، وكأن كل ما جرى لا يخصه، بل يخص هذا الجالس جواره خلف نافذة المترو على مقاعد العربة المضيئة.. إلى أن أيقظه اسم المحطة القادمة التي أعلنها مذياع المترو، القريبة من سكنه. فهرع نحو الباب والسلالم المزدحمة بالأجساد المسرعة.
توقف أمام بوابة المترو العريضة العالية، يعب نسيم صباح ذلك اليوم الخريفي، ويتأمل الساحة الشاسعة المكتظة بالروس المهمومين اللاهثين والحائرين مما سيؤول إليه الأمر مع برسترويكا «جورباتشوف».. المواد الغذائية اختفت من الأسواق.. الأسعار ارتفعت.. والسوق السوداء صارت علنية.. والأجور إزاء هذا التضخم تدنت قدرتها الشرائية. لبث في مكانه متكئًا إلى سياج حديدي واطئ، يحد معبر الشارع غير راغبٍ في العودة إلى الشقة التي كانت قبل ساعات تضج بأنفاسها وأنفاس طفليه.. كان يلهي نفسه بتأمل التراجيديا الروسية، قال لنفسه مسترجعًا المرات العديدة، التي كاد يقضى عليه في المعتقل، وفي جبهات الحرب وفي كردستان:
- هم زين ما متت!
نجا من ميتات عديدة ليشهد آخر فصولها.. تداعي وهم الروس الذين ظنوا وأوهموا أكثر من نصف سكان الأرض بأنهم بنوا المدينة الفاضلة. لم يصدمه المشهد فقد كان على مسافة من ذلك اليقين الأعمى بالمدن الفاضلة، لكنه تذكر العشرات من أصدقائه الذين قضوا تحت التعذيب في الزنازين، وفي معارك الجبل وهم يعتقدون ، حتى اللحظة الأخيرة، بأن موسكو هي مفتاح المدن الفاضلة التي ستعم الكرة الأرضية. ألا يشبه وضع هذي الكتلة البشرية في ساحة من ساحات موسكو وضعه؟!..
هو الآخر لا يدري أين سيفضي به المطاف.. هو الآخر يجد نفسه وحيدًا بمواجهة نفسه والقصة والفكر.. وحيدًا تلك الوحدة التي ظل كل عمره، يحاول الهرب منها بالانغمار في عنيف التجارب في الصداقات والسياسة والمواقف ؛ لكنه يجد نفسه هذه اللحظة وكأنه روسي . كان يظن أنه بلغ حلم العدالة لكنه يكتشف بُعْدَ ذاك عن الواقع بُعد الثريا.. وحيدًا بلا يقين.. وحيدًا يتأمل المارة وشمس الخريف.. إلى أن وجد نفسه مثل مخدّرٍ يتوجه نحو كشكٍ يبيع البيرة، عبأ لترًا بزجاجة اشتراها من البائع ، راح يرتشفها ببطء إلى أن شعر برغبة شديدة في النوم. فاستقل الحافلة إلى الشقة متعبًا تعبَ مَن يتحول لديه خيال الاستلقاء على فراش ، محض حلم بعيد.. رغبة غريب مفلس تعبان سكران ضائع مفارق أحباب يائس.. رغبة من ظل يهجس بفقدان الحبيب.. ذلك الهاجس الذي كان يراوده كلما استعاد علاقته بها.. فقد همست له يومًا أنها لم تكن لتحبه لو أنها اكتشفت أول أيام العلاقة بأن لا علاقة له بحزب ماركس.. هي الأخرى اكتشفت أن مدينتها الفاضلة لم تكن إلا وهمًا وهي تصرخ:
- الروس شعب سكِّير!
في تعليقها وهي تشاهد طوابير البشر، التي تمتد منذُ غبشة الصباح إلى أكثر من ثلاثة كيلو مترات لملء لتر بيرة.. كان يعلق ضاحكًا:
- لولا ذلك لما صدقوا «ماركس» و«لينين» بالجدية التي جعلتهم يثورون!.
كانت تصرخ بغضب:
- لا تبرر إدمانك على الخمرة!.
قطع الحديقة الصغيرة المؤدية إلى بوابة البناية.. دفع بعناء ضلفة الباب الثقيلة.. تسلق السلالم الحجرية القديمة. في الفسحة الصغيرة الكائنة أمام أبواب شقق الطابق الثالث، تمهل وتراجع خطوة إلى الخلف، وتوقف مستندا على حافة سياج السلم، محملقًا بذهول في باب الشقة المفتوح ، فعندما خرجوا بعد منتصف الليل أغلق الباب بنفسه.. أيعود أدراجه من حيث أتى؟!.كان يفكر في المافيا الروسية التي بدأت تزدهر تلك الأيام، لكنه أين سيذهب ومن يؤويه في موسكو الشاسعة، التي لا يعرف عنوان أحدٍ فيها:
- ماذا بك يا «إبراهيم»؟.. صاير جبان!
سخر من خوفه.. كان لا يبغي من الدنيا سوى غفوة على فراش.. شدَّ عزمه وخطا نحو الباب نصف المواربِ قائلاً لنفسه:
- الجنة.. فراش مُتْعَب!.
وعبر العتبة.. بعد أربع خطوات جاوز باب الحمام، وقبل أن يدخل الغرفة الوحيدة التفت نحو اليمين إلى المطبخ فرأى سيدة متوسطة العمر جميلة بشعرها المصفف بعناية جالسة على الكرسي المواجه لوقفته. كانت منهمكة بقراءة جريدة. بادرته هي بالتحية وقامت من كرسيها مرتبكة لتشرح له سبب مجيئها. لم يفهم ما كانت تنطق به.. لكنه فهم من إشارات يديها أنهم تركوا البارحة حنفية الحمام تجري حتى خرَّ الماء متسربًا، خلال سقف شقة الطابق الثاني، فاتصلت الساكنة وهي متقاعدة روسية بها؛ كي تتكلف بإصلاح الأمر هذا ما فهمه من لغط لغتها الروسية ومحاولها رسم كلامها بالحركات وفهم أنها جالسة بانتظار عامل التمديدات. لم يعلق بشيء هزّ رأسه وكأنه فهم كل الكلام ليدلف إلى الغرفة ويستلقي على الأريكة منهكًا.. محطمًا، غير مكترثٍ بزوجة صاحب الشقة الجالسة في المطبخ.
كان يقاوم شعورًا غريبًا بفقدان رفيقة العمر التي طارت قبل ساعات إلى المجهول. حاول أن يغفو لكن ملمس جسدها الساخن على ضيق أريكة مضاجعة أول البارحة طرد النوم.. شعور غريب سيبقى يتذكره وهو ينحدر حثيثًا نحو مسافات الوهم والخدر.. شعور اكتسحه بعنف في رقدته المستسلمة لما يجري حوله:
- هل ستتحول هي الأخرى إلى مجرد ذكرى، كما جري لي مع أصدقائي وأحبائي الذين قضوا في السجون أو في جبهات الحرب أو ضاعوا في أمكنة العالم المختلفة؟!.
كان واثقًا بكل كيانه أنها صارت ذكرى منذُ اللحظة التي غابت فيها مع طفليه خلف بوابة، تؤدي إلى السماء في المطار قبل ساعات معدودة.. هذا الهاجس ظلَّ يلح ويزحم وقته، وبينما كان في الوحدة القاحلة تلك، غائصًا في الرماد والعجز واللاجدوى، غائصًا في الأريكة الفائحة بعطر جسدها سمع صوتًا يأتي من الشارع.. صوتًا ضاجًّا ينادي باسمه الحركي في كردستان:
- «إبراهيم».. «إبراهيم».. جيتك.. جيتك!
صوتٌ أنهضه من رقدتهِ وجعله يقفز نشطًا نحو الشرفة ، ليرى وجه «أسعد» ، الباسم يلوح بقنينة فودكا.. يعجز اللسان والقول عن وصف مبلغ بهجته بالقادم.. التكريتي المنقذ بوجهه الصخري وتلقائية حضوره .. وجه من حجرٍ مقدد بشمس حارقةٍ.. رآه أول مرةٍ في موقع «كافّيه» في كردستان. وجذبته كتلة وجهه الحجرية، وضحكته الفريدة وكونه الوحيد الذي لا يحمل سلاحًا في ذلك الموقع، ذلك ما جعله يسأل رفيقًا حميمًا عن سر هذا الكائن الصخري، فهمس بأذنه:
- ملتحق من الداخل.. لكنه تكريتي..
- تكريتي!. أش لون دبرت هذي!.
- أقرباء رفيقنا «حميد»..
فانبثق وجه «حميد» بشواربه الكثة وملامحه البدوية الصارمة.. شعر رأسه كثّ، أنف ضخم متسق مع وجنتين قُدتا من الحجر، لكن ما يخفف صرامة تلك الملامح ، عيناه الواسعتان الداكنتان اللتان لا يفارق حوافهما طيف بسمة يقابل بها كل من يلقاه.. أول مرة يرى «حميد» فيها عندما كان في زيارة لأخيه الطالب في الجامعة التكنولوجية في بغداد الجديدة في ربيع 1976 فقدمه له قائلا:
- تكريتي لكن شيوعي!
وانخرط الثلاثة بضحك صاخب.. سيلتقي به في معسكرات الجنوب اللبناني عام 1979 حيث كانوا يتهيئون للتسلل إلى كردستان. سينجحون في ذلك.. وسيبقى أخوه في الداخل ويعتقل عام 1980، ليبلغ عن تصفيته في عام 1983 سيعيشان في الفصيل نفسه بأحد المقرات، سيتقاسم مع «حميد» التكريتي كل شيء.. أحلى الأوقات.. أحلى الكلام في يوم الجبل الصعب.. سيقع في حب رفيقة.. سيتزوجان.. وستعير زوجته ذهب عرسهما لخطيبته التي كانت هي الأخرى طالبة معه في الجامعة التكنولوجية ببغداد.. ظل يحتفظ بصور ذلك الزفاف الجميل، الذي تمَّ في القاعدة حيث استعار العريسان كل شيء.. الملابس والحلي.. الفراش والفوانيس.. لكن بغتةً في منتصف الثمانينيات اختفي هو وزوجته التي كانت تتسلل باستمرار للداخل.. ظل يفتقده ويسأل عنه همسًا هنا وهناك.. ولا مجيب إلى أن شاع خبر اعتقاله، فهمس له أحد المسئولين بالقصة التي استغرب كيف فكر حميد فيها أصلًا؟!..
كان غرض نزوله كسب أفراد من حماية «صدام» يمتون إليه بصلة قرابة.. كي يدبروا عملية اغتياله علّ ذلك يغير الوضع السياسي، فتبين أن الشخص الذي كسبه «حميد» لتنفيذ العملية كان يخبر «صدام» شخصيًّا بكل التفاصيل خطوةً.. خطوة!. فقبضوه بهدوء!
وقتها شعر بالغضب منه.. من سذاجة ما أقدم عليه. وظل شديد القلق على مصيره ومصير زوجته.. وعلى أثر ذلك التحق «أسعد» بالثوار مخافة أن يرد اسمه في التحقيق. لكن مأزقه الإنساني الفريد يتجلى في سؤال:
- من يصدقه؟!.
فهو تكريتي أولًا.. والمخابرات العراقية تضخ بالمئات من عناصرها، الذين كانوا يستبسلون في معارك الأنصار قبل أن يُكتشفوا ثانيًا.. فمن يثق بـ «أسعد» بهيئته التي تدعو إلى الريبة بقسماته الصلدة القاسية وبشرة وجهه السمراء الصلبة.. من يصدقه؟!.. وتكريت جذر المصيبة ومنبعها.. قال لنفسه لحظتها:
- الله يساعدك يا «أسعد»!.
قال ذلك وهو يراه مجردًا من السلاح في واقعٍ شديد العنف يستحيل فيه السلاح خلاصًا، سواء بالمقاومة أو بالانتحار في اللحظات الحرجة كما فعل العديد من الأنصار. رغم ذلك كان «أسعد» سعيدًا.. أو هكذا يبدو ، ينكت طوال الوقت ويجيد الحديث بلكنته البدوية ساردًا عديدًا من حكايات الحكمة الطريفة. وقتها لم يخبره عن مدى علاقته بـ «حميد».. فالوقت الذي كان يقضيه في «كافيه» قصيرًا، لم يتح له معرفته بعمق يكفي.. يضاف إلى أنه كان خائفًا.. فصديقه ورفيقه «حميد» وزوجته في المعتقل، فمن يضمن هذا الشكل المقدد الساخر طوال الوقت.. المتسرب إلى قواعد الثوار، والذي يشعرك رغم عدم معرفتك به وكأنه يعرفك منذ الطفولة؟.. من يضمن أن لا يكون مبعوثًا من قبلهم؟!. لكن في أوردكاه زراعان الإيرانية بعد نزوحهم مع الأكراد، عقب عمليات «الأنفال»، زارهم في غرفتهما بالمعسكر، فأخرج له صور زواج «حميد».. وقص عليه علاقته البعيدة معه.. كاد يجن وصار يزورهم كل يوم.. ليكتشف خلف هذا الوجه الصخري قلبًا حنونًا يشعرك بالدفء والأمان، وذهنًا لامعًا يلقط كل شيء. أباح له شدة معاناته من عيون المقاتلين المتشككة والملاحقة حركاته في النهار والليل، في النوم واليقظة، وكي يخفف عنه قال ضاحكًا:
- أولا - خلصت من الحراسات والمفارز والقتال، وثانيًا - فترة قصيرة وعبرنا الحدود!
- ..
يبتسم بشحوب محملقًا بعينين حزينتين ويخرج من صمته:
- ابن عمي آذوني هواي!.
يصمت للحظات، ثم يطلق حسرة من أعماقه مردفًا:
- الرفاق آذوني حيل!.
ظل يلاحقه الأمر حتى في موسكو، ففي يومٍ ثلجي عاصف قرع باب الشقة.. دخل لاهثًا مطعون القسمات.. تهالك على الأريكة القديمة مهدودًا عاجزًا عن النطق:
- أش بيك.. خير.. أشبيك؟!
وهرع إلى المطبخ ليجلب كأسًا من الماء. عبّهُ وكأنه قدم لتوه من الصحراء، ثم صرخ ملتاعًا:
- هذي جيتي من المدرسة الحزبية.. تعرف أش يقولون.. تعرف!..
يقولون «حميد» ضابط كبير بالمخابرات وكان مندسًّا بصفوف الحزب!. جادلتهم لكن الكل يؤكد أن هذا الخبر تبليغ حزبي!. وما بقى أحد غيرك أسأله.. أنت أش تقول؟!. معقوله كان صديقك يخدعني.. «حميد» عمي يخدعني!.
ولكم يا ناس.. يا عالم راح أشرك.. والكعبة الشريفة راح أشرك!.
ظل ينقل نظره في حيرة بين وجه زوجته المتسائل ووجهه، فماذا يقول؟. ومَنْ يصدق مَنْ في هذا الخراب الذي عمّ كل شيء؟!.. فالواحد منا اكتشف هنا أنه قضى أكثر من نصف عمره واهمًا بمدينة فاضلة، تبين أنها هشة لا تختلف عن أي مدينة تحت وطأة قوانين قسرية صارمة يرزح الفرد في قعرها محتقرًا لا كرامة له، ممكن أن يغيب في أية لحظة في معتقلات سرية رهيبة..
ماذا يقول والمرء بدأ يشك في نفسه وفي كل شيء؟!.
ركّز نظره على قسمات «أسعد» المضطربة والمخذولة، فأدرك إلى أي مدى ممكن طعن الإنسان بالأقاويل التي تمس علاقاته الحميمة.. ومن تلك اللحظة صار يميل إلى الصمت في مثل هذه المواقف.. فهاهو المستنجد به مذبوحًا على الأريكة ينتظر:
- أش تقول.. أنت!.. أنت أش تقول؟!.
انفجرَ بغتة بضحكة عاصفة وسط دهشة زوجته، و«أسعد» الذي سكنت ملامحه بانتظار الجواب:
- مجنون أنتَ.. إذا «حميد» مندس فأنا مندس!
قالها بكل كيانه محدقًا بعينين ضاحكتين بالقسمات الصخرية الهائجة، التي بدأت تهدأ وتصفو شاردة، قبل أن يحدث نفسه بصوت مسموع:
- قلت مع نفسي ماكو غيرك يخلصني!
وقفز من الأريكة ليحضنه ويمسك برأسه بين كفيه، ويطبع قبلاته على جبهته، رأسه، وجنتيه.
«سيسمع لاحقًا نبأ إطلاق سراح «حميد» وزوجته.. عن صعود وضعه المادي بفتح شركة هندسة كهربائية سيتوسع عملها في بغداد .. سيسأل عنه عقب سقوط «صدام» فيخبره أحد رفاقه القدامى في ساحة البلدية بكوبنهاجن؛ حيث تجمعوا للتضامن مع العراق الجديد عن عودته للعمل السياسي، وهو الآن صاحب امتياز صحيفة « القاسم المشترك» التي تصدر في بغداد.
كان «أسعد» يغيب عند حافة جدار البناية. رجع إلى الغرفة، فسمع ضجة أقدامه المرتقبة بصخب سلالم الطابق الثالث. استقبله في المدخل الضيق. عانقه، وقبل أن يدخلا الغرفة التفتا نحو المرأة الجالسة في المطبخ، فوجداها ترفع رأسها عن الصحيفة وتحدق نحوهما بخجل. حضّر «إبراهيم» الطاولة الصغيرة. أخرج «أسعد» من جيب معطفه الطويل قنينة الفودكا التي لوح بها من الشارع، ومن الجيب الآخر أخرج علبتي سمك سردين وزيتون وقطعة جبن ورغيف خبز أسود. تناول من المكتبة القريبة كأسين صغيرتين. وجلسا بمواجهة بعضهما. انتبه إلى ساعة الحائط، فوجدها تشير إلى الثانية ظهرًا.. كان «أسعد» يتفحص «إبراهيم» بعينين ضاحكتين نشطتين متحركتين كعيني صقر، ثم انفجر بصوته الأجش لكنه عالي النبرة:
- أش بيك يا ول.. وجهك مثل الميت.. أي وين راحوا للحرب..شو طاروا للجنة.. لو للدنمارك لو لسويسرا.. وتعال أقولك ستذهب إليها بكل الأحوال.. ثم اسمع أنت ليش ما تهيص مثل ما تسوي العالم.. ما دام عندك فرصة وحدك بموسكو العجيبة!.
أخرج منطق الكلام «إبراهيم» من الوجوم والرماد.. فهذا البدوي المعذب يواجه كل شيء بمنطق «عيش اللحظة».. منطقه القديم نفسه الذي وجد نفسه متطبعًا به منذُ الطفولة. كان يعاند الكل ويفعل ما يحلو له.. لا يهمه الكبار وقوانينهم، وبسبب ذلك شبع ضربًا من أبيه وأعمامه والمعلم.. ورغم ذلك تشبث بمنطقه الذي كان المحيط يجد فيه غرابةً وخروجًا على القيم.. ذلك ما جعله يجرب الخمرة والتدخين، وهو في سن الرابعة عشرة.. ويمعن في التنافر مع كل شيءٍ منظم.. ليصل إلى حرية خاصة به .. غير مقيدة بالقوانين أو العرف الاجتماعي، ذلك ما جعله يتطرف في كل شيء.. في الأخلاق.. في السياسة.. في الملبس والكلام.. متحملًا تبعات ذلك في بيئة العراق المغلقة..
مبكرًا ارتبط بالحزب الشيوعي ليس كونه حزب حرية.. بل كونه سريًّا ممنوعًا.. لكنه عندما تعرف على أفكاره في كتب «لينين»، تنافر معه ذاهبًا إلى «تروتسكي» فراح يبشر بأفكاره.. يضاف إلى نظرية «فرويد» في الجنس.. ووحشة «كافكا» .. وغريب «البير كامو» اللامبالي. طبع غذته الكتب لتلقيه في وحشة الوحدة، فوجد نفسه غريبًا ساخرًا من كل شيء.. يبرر كل شيء عدا خيانة الضمير طبعًا..
عاند الكل حتى وجد نفسه - مجبرًا - يخوض تجربة النضال السياسي وسط الحزب الشيوعي ، المتنفس الوحيد المنادي بمدينة فاضلة حرة يتساوي فيها البشر في كل شيء.. وما أسهم في تهذيب تمرده وقوعه في شرك غرامها.. فتدله بها كيانًا متفجرًا لا يعرف الهدوء ، منحه أحلى وأمتع اللذات في بيئة مغلقة، وبكل شجاعة.. إذ كانت لا تشعر بالذنب.. فوجد بها شبيهه في الجنس الآخر.. فما كانت تفعله يعد جريمة كبرى بمنظور الأعراف.. ذلك ما وطّدَ علاقتهما .. ورويدًا.. رويدًا وجد نفسه يتنازل عن عرامة تمرده، وينقاد كحملٍ وديع إلى مشيئتها.. ليدخل خضم النضال ويتغرب.. ويحمل السلاح.. ويرى الفظائع.. ويكتشف غور الإنسان العجيب.. واجدًا بموقف طفولته وصباه من الكبار والمجتمع صوابًا لكن علاقته بها عقلته.. وبتعبير أدق كبلته، وجعلته يتحمل بصبر.. بغلٍّ مساوئ النخب.. التي تبرر حتى الإهانة الشخصية..
ففي الجبل اضطر مرتين إلى ضرب رفاقٍ له حاولوا النيل منها.. جعله حبها عاجزًا مؤطرًا بما يفرضه واقع تلك العلاقات الملتبسة، وذلك ما أفقده الكثير من طبعه الأصيل.. هاهو التكريتي الصعلوك يبعث بقوله كل ذلك الماضي بإرثه المحلي.. القادم من المدينة وبشرها.. أحاله إلى إرث التمرد لا في الكتب.. بل إلى شخوص المدينة المنسيين.. إلى أولئك الذين انتحروا بالخمرة.. أو حرقًا في الشارع.. وكلا النموذجين عرفه عن قربٍ؛ فـ «حنتوش» وأخوه «صاحب سلام» انتحرا حرقًا في شارع علاوي الحنطة القديم وسط المدينة لوصول اللغة مع البيت والشارع والناس حدود الخرس.. أما الذي قضى بدكانه مخمورًا بالأخيلة والصبية.. المصور الفوتوغرافي النازح من الناصرية.. «شاكر م» الذي كتب قصيدة شهيرة عن عشقه لصبي جميل، يمر كل يوم من أمام دكانه:
- «إن چان ربك خالگك تسبي العباد
هواية أرغب ياحلو تسبيني»
فهو من جسَّد فلسفته عن الوجود العابر .. عن ضآلة الإنسان في غموض الكون، الذي يزداد الإنسان جهلا به كلما اكتشف المزيد.. شموس سوف تموت.. وأكوان بعيدة مستحيلة لا تحيط بها إلا مخيلة الضوء وحساباته.. ثقوب سوداء قادرة على شفط شموس مجرة..
- ما أبخس الدنيا.. والبشر هنا يقيمون الحروب ، يحقدون ، يقتلون يتناحرون ، يتفاخرون.. يتعايرون!
أرجعه هذا البدوي ، صخريُّ الملامح إلى طبعه الكامن.. فوجد في ظهيرة موسكو الفريدة، وبعد ساعات من طيرانها مع طفليه إلى المجهول ، أن القطعة التي خطها المصور الزنجي السكير «شاكر م» كدعاية تحرض الناس على تحنيط لحظتهم فوتوغرافيًّا:
« الحياة لحظة فصوِّرها قبل أن تنفجر»
وجد بها دواءً لوحشته .. وقع التكريتي على أسه الأصيل المنسي، فأقام مجد تلك الأيام.. فلم الوجوم إذن؟!. سأل نفسه بصمت وعبَّ كأسًا أخرى من الفودكا الأكثر صفاءً من الماء. وجعل ينصت لفلسفة بدوي تكريتي حميم فتح قلبه دفعةً واحدة..
- يخايب كلنا نموت بكرى لو بعده.. عندك رأى آخر.. لاتسويها مناحة.. هذي فرصة.. وحدك بموسكو.. فرصتك حتى تعرف بشر موسكو اللي كنا نحلم بها وكأنها جنة الخلد، وهي فعلًا جنة بنسوانها لا بالاشتراكية!.
ظل ينصت بلذةٍ إلى قصص يسردها ببراعة عن مغامراته الجنسية.. عن حرارة الأرداف الكبيرة، عن وجوه الروسيات المنتشية لحظة الذروة، عن السهولة التي تنقاد بها الروسية إلى الفراش، وعندما سأله عن عائق اللغة، انخرط في قهقهة صاخبة وعلق مؤشرًا على وسطه:
- شوف هذه المنطقة ما تحتاج كلام!
سأله عن بائعة الورد الروسية التي جلبها قبل شهرين إلى هذه الشقة، والتي حظيت بإعجاب زوجته. كانت شديدة الخجل تنظر نحوهما بعينين حالمتين.. غير مصدقتين.. فهم لاحقًا من «أسعد» أنها تمنت أن يكونا زوجًا مثلهما.. أي أنها كانت تتخيل حالمة بوضع شبيه بوضعهما.. فأخبره أنه بدأ يتهرب منها لأنها تلح عليه كي يستقر معها في موسكو.. مجنونة .. علق هازًّا بيده.. أني عفت خطيبة بمدينتي.. بنت عمي يا ول.. بعدين أسمع بلا نصائح بلا مواعظ.. أنا أرى الأمر بهذه البساطة.. مُطَّلَقَة.. متوسطة العمر.. مليئة الجسد.. تقف طوال اليوم بمحطة المترو بمحل الورد.. ما عندها صاحب صار سنين حسب قولها.. يعني بالعراقي «مجيمه». وإجه أخوك من قحط تكريت وكردستان وإيران. راح تظل تتذكرني عمرها كله.. وريتها فنون.. كل قطعة من جسمها تشهد.. أش تريد مني بعد. ذوقتها ست أشهر عسل بدل شهر واحد.
- مسكينة!..
علق باقتضاب على قصة بائعة الورد، فنهض «أسعد» من مكانه صارخًا:
- أنا المسكين. عمري ستة وثلاثين سنة.. لا زواج.. لا استقرار.. شفت الويل وأنت تعرف كل القصة.. راح تشوف غيري.. عندها شغل وولد وأم وأبو.. وبيت صيفي ومزرعة كبيرة.. وأني ما أدري راح تقبلني الأمم المتحدة لاجئ لو راح أظل محصور بموسكو.. لا فلس.. لا إعانة.. لا شغل..
كان وفد من منظمة مساعدة اللاجئين قد قدم إلى موسكو من جنيف لمقابلة أكثر من ثلاثمائة عراقي من الأنصار السابقين، الذين كانوا في طريقهم إلى الدول الاسكندناﭬﻴﺔ، لكنهم انحصروا في موسكو بسبب اندلاع حرب الكويت عام 1991 .
- بعدين اسمع.. إني أريد أذوق كل الأنواع.. كل واحدة طعمها مختلف..
أمنية تراود البشر سرًّا.. أمنية تبدو مستحيلة، لا تقبلها الشرائع والقوانين.. رغبة في التداخل جسديًّا بكل النساء.. سيكتشف لاحقًا أن النساء تراودهن الرغبة نفسها في مضاجعة أنواع مختلفة من الرجال. كان يمعن في التملي بالوجه المنفعل.. المنهمك بالسرد والتحليل.. بمنطقه في الحياة.. القريب جدًّا من شعاره القديم.. الحياة لحظة.. لكنه سلك في حياته عكس مثله حينما وقع في حبائل التي طارت إلى السماء.. أطفال.. وفاء.. عفة.. ورطة كان ينوء بعبئها، ما كان يلهيه عن ذلك العناء هو الإبحار في جسدها الفتّان كل ليلة:
- جرب يا ول.. جرب!
كان يبتسم لنداء هذا البدوي الصاخب الذي أزال قدومه شعور الأسى والوحدة والغم بحديثه وأقاصيصه، يبتسم ويصغي لنصائحه التي تخص العلاقة بالروسيات، وكأنه عاش العمر كله في موسكو.. يصغي متخيلًا طراوة الأفخاذ، صلابة النهود، نعومة البشرات بألوانها المختلفة، متابعًا كفي «أسعد» اللتين ترسمان في الفراغ فوق الطاولة الصغيرة بينهما قبب المؤخرات، وبطرف السبابة رجفة الحلمات. ويفيض في وصف الوجوه في اللحظة، التي ترتفع فيها إلى جلال النشوة والخدر والصراخ:
- اسمع .. المضاجعة مضاجعة وجوه.. كل اللي وصفته راح تحس به باللمس.. وبكل جسمك.. لكنْ ركزْ على الوجه والعيون.. يا ول الكبيرة تصغر تصير شابة لما تبدي تفقد وتذوب روحه.
كان ينصت مستغربًا من قدرة هذا البدوي على خوض تجربة الجنس بكل هذا العنفوان والتفاصيل، ولم يمض على وصوله إلى موسكو مهربًا سيرًا على الأقدام عبر الحدود الإيرانية السوفيتية ؛ سوى عدة أشهر. يضاف إلى ذلك أن الناظر إلى شكله من الخارج سيقدر أن من الصعوبة عليه الحصول على واحدة ؛ لذا يراوده ظنٌّ في بعض اللحظات بأن ما يقصه محض أخيلة، تنضح من مخيلة مكبوتة، لكن بائعة الورد التي جاء بها لزيارتهم، والتي بدت مسحورة بين يديه يطرد ظنه، فيعود يصغي إصغاء تلميذٍ مبهورٍ:
- ابتعد عن الصغيرات.. أكثرهن عاهرات نضجن في عهد «جورباتشوف»، أولا؛ ما يمتعن، لأن يفكرن بس بالفلوس، وثانيًا؛ أكثرهن مريضات، تعرف أش صار بالرفاق البيشمركة منهن.. أمراض جنسية عجيبة.. من السيلان إلى قراد العانة.. والله وحده يدري يجوز ضربهم الإيدز وما يدرون. لكن متوسطات العمر العاملات بالمخازن، محلات بيع الورد، البائعات بسوق الخضار، اللي فاتهن القطار مثلنا، اللي نضجن زمن بريجنييف هذني يا ول نظيفات.. ينطين روحهن بالفراش.. مو بس روحهن يعيشنك.. وإلا منين أشرب وأكل.. الرفيعة ترقص جواك وفوقك، والسمينة جدًّا ما تقدر تتحرك.. أسمع.. أسمع لا تفكر بجسمها تروح تبرد، ركز بس على وجهها، تقوم تصرخ صراخ مخنوق مثل اللي يغرق، وبعدين تقوم تقرط بأسنانها وتْطَلِعْ موجات.. موجات من نصف وجهها. تشوفها جوه الجلد تتموج وتختفي خلف الأذنين.. عالم عجيب يا ولد جرب.. جرب.. صحيح الرفيقة مثل أختي.. لكنها أولا ما تدري.. وبعدين أحنه رجال مثل الثيران لا نحبل ولا نجيب.. وهذا من يوازينه.
وأشار بسبابته السميكة المنتصبة من قبضة يده المضمومة، وكأنها فوهة مسدس، إلى وسطه مردفًا:
- نتخبل.. مو تمام!.
لا يدري كيف أمتعه هذا التفصيل المباشر شبه التجريدي للعلاقة الجنسية من زاوية رجل بدوي.. لا يدري لكنه وجده يشبه خطوط عظماء الرسامين الذين صوروا جسد المرأة عارية.. فالكلام هنا يشبه تلك اللوحات، أو جعله يرى التفصيل الفيزيقي للجسد، زائد القصة المروية بطريقة يصبح فيها الكلام تجسيدًا أكثر حيوية فعلًا من الشريط السينمائي.. وكأنك ترى كل شيء أمام عينيك لحظة القص، وقسمات الراوي الصخرية تستحيل إلى كتلة رائقة من الوهج والماء تبهر الرائي..
- هل سر نجاح مغامراته يكمن في هذا؟!.
لم يتأخر الجواب طويلًا. أخرسَّ فجأة. تجمد وكأنه تمثال بوضع الذهول.. تجمد وكفه المضمومة دون سبابتها، التي كانت تشير إلى ما بين فخذيه سكنت متحولة إلى شبه قطعة نحتْ. مفتوح الفم يحدق نحوه بعينين احمرتا قليلًا بفعل الخمرة، وقنينة الفودكا شارفت على النفاد. مشهدٌ ظل حيًّا يراوده في لحظات السكر والصحو .. لحظة فريدة وجدَ بها ذاته التي ضاعت بين قصة الحب والأيديولوجيا والنضال.. لحظة ذهول البدوي مفصلية كانت بحياته أفضت به إلى علاقة واهية بالأشياء.. علاقة ذكرى متأخرة ووعي بائت.. دفعه بعنف نحو الخمرة والنساء.
استكن يحدق بعينين متسائلتين بالبدوي الجالس الصامت الجامد، وكأن لعنة حولته إلى حجر كما يقول الناس عن أسد بابل.. «أسعد» أسد صامت.. صار أسئلة.. وظل بخباثة بدوي ينتظر أن يُسأل عما ألم به. تخابثَ «إبراهيم» ولم يَسأله.. مستمرًّا في التحديق بصمت نحو كتلتهِ الجامدة، ومحاولًا قدر الإمكان الظهور بمظهر الحياد، وكأنه غير معنيّ بما يفكر.. مما جعل «أسعد» ينتفض وكأن عقربًا لسعته، ليتساءل:
- «إبراهيم».. نسيت أهم شيء!.
باغته السؤال:
- أش نسيت؟!.
- من دخلنا كانت مَرَه قاعدة بالمطبخ..
- أدري..
- من هي؟!.
أخبره أنها زوجة مالك الشقة، منتظرة قدوم عامل فني كي يعالج نسيانه حنفية الحمام مفتوحة طوال الليلة الفائتة، حينما توجهوا إلى مطار موسكو. لمعت عيناه ببريق غريب، مسد شاربيه. حك رأسه بأصابعه وحرك كفيه يمينًا وشمالًا حركة خبير، ثم رفع رأسه ناظرًا نحوه وقال:
- ليش ما دعوتها تقعد معك!.
كان زوجها «فاديم» قد زارهم في الشقة قبل سفر زوجته، وعلم منه أنها مهندسة كهرباء يسكن في شقتها، وهذه شقته، وأن لها ولدًا من زوجها الأول يبلغ العشرين من عمره، وهو نزيل السجن الآن لجرائم عادية.
- أول مرة أشوفها!..
- .. وإذا..
- ..!
فضل الصمت، شاعرًا أنه في وادٍ، و«أسعد» في وادٍ.
- لا تسكت.. بعدين أنت إذا تبقى بهذا الحال راح يقتلك الحزن.. وتدمن ع الشرب!
قام من كرسيه.. تناول معطفه.. دس كفه الضخمة بالجيب الداخلي، وأخرج قنينة أخرى من الفودكا:
- عامل حسابي.. أدري أش لون رؤوس عدنه!.
ملأ الكأسين حتى حافتيهما، وقال مشددًا على مخارج الحروف:
- اطلع من نفسك.. اطلع!
جعلته جملة التكريتي يرى نفسه ضائعًا في مجاهل نفسه. ودَّ لو يخرج حقًّا من ذلك الدهليز الذي بدا بلا نهاية!.
- ارفع كأسك يا ول!
أمره، فمد كفه ليحيط بالكأس، ويرفعه إلى شفتيه:
- في يوم راح ننتبه.. نلقي أرواحنا معجزين!..
- ...
مسح حوافَّ فمه، ونهض «أسعد» قائلًا:
- أنت ما تعرف الرفيقات الروسيات!.
واستدار قاصدًا باب المدخل.. سمعه يتحدث معها في المطبخ بروسية مكسرة، تلاها ضحكٌ صاخب مختلط بصوت ناعم مرتبك. قال مع نفسه مضطربًا:
- هذا البدوي راح يدخلني بمشكلة!.. وسَأُطرد من الشقة!.
أنصت متوترًا إلى صوت الضحك ووقع الأقدام. ظهرا ضاحكين، كان منتشيًا، وكانت خجلة مسلمة قيادها لجسده الضخم. كان يمسك كفها اليسرى الصغيرة بقبضته الضخمة.. بينما ذراعه اليمنى ألتفت حول ظهرها. سحب كرسيه، رجع خطوة إلى الخلف، وانحنى كفارس من العصر الوسيط؛ ليقُبِّلَ ظاهر كفها ويقول بالفرنسية:
- بونجور مدام!
كان يحدق بذهول نحو قسمات البدوي التي تألقت وصارت تتدفق حتى تكاد تسيل رقةً. قال لنفسه:
- يا أيها الملعون وكأنه شخصية من شخصيات «ديستويفسكي» الأرستقراطية في حضرة أميرة!
تلفت باحثًا عن كرسي،ّ ولما لم يجد هبط جوار قدميها على سجادة الأرض متمتمًا بروسية عندما يلفظها، كأنه يتكلم بلغة بدو العرب المندثرة. ارتكز على ركبتيه يخوض معها في حديث متصل، ثم أشار لها نحو قنينة الفودكا.. هزت رأسها معتذرة، لكنه نهض ليتناول من درج المكتبة الصغيرة خلفها كأسًا ثالثة. وصب فيها. أوقفته عند منتصف الكأس ضاغطة بأصابعها البيضاء الناعمة الصغيرة على ظاهر قبضته الملتفة حول الزجاجة.. ظل إبراهيم يحملق في أصابعها.. في البشرة الرقيقة التي يظهر تحتها بوضوح مجرى العروق.. بوجهها المضرج وعينيها الزرقاوين المنحنيتين على «أسعد»، الذي هبط على ركبتيه جوارها. ورويدًا.. رويدًا غادرها الخجل وتآلفت معه، فراح أثناء الحديث يضع كفه على فخذها القريب من مستوى جلسته، ويربت في حركة تبدو ظاهرًا شديدة البراءة. وعندما تنشغل عنه بالتحديق عبر الطاولة إلى حيث يجلس صامتًا. كان أسعد يرمقه بنظرة خاطفة مع غمزة سريعة بطرف العين..
- الملعون من أين جاء بهذه الطلاوة كلها.
كان يكلم نفسه فيما يصب «أسعد» كأسًا ثانية لها. وهذه المرة لم توقفه.. كان بين الحين والحين يلتفت نحوه ويقول بالعربية:
- يا ول هذه ناضجة ما تحتاج تعب!.
- أكيد ما مرتاحة بحياتها!.
سيكتشف لاحقًا أن حدس «أسعد» صحيح؛ إذ إنها فعلًا لم تكن مرتاحة بحياتها مع «فاديم» السكير الذي لديه عشيقة سرية.. ستتصل لاحقًا بالشقة هنا كي يرتب لها أصدقاؤه من الذين يعرفون اللغة الروسية لقاءات معه. سأل «أسعد» بعدها بفترة:
- كيف عرفت أنها غير مرتاحة مع زوجها.. هل أخبرتك هي؟!.
قال:
- لا.. لكن مبَيْنه، من رجفة أصابعها بين أصابعي!.
أي فراسة يمتلكها هذا البدوي، وكأنه يقتفي الدرب في أفق الرمل مستدلًّا بالنجوم.. قال في سره ونظر إلى نفسه فوجدها ملبدة.. بلدتها الحياة الزوجية والسياسة.. والإدمان على التعامل مع الزوجة.. والحذر من بقية النساء سواء في حضورها حيث تكون عيناها تترصدانه، وفي غيابها حيث يكون الرأس وقيم الوفاء. ظل صامتًا مبتسمًا شاردًا يتأمل وجه الروسية، الذي بدأ يتورد ويندمج بالعالم الذي خلقه «أسعد» في هذا الوقت القصير.. في ذلك السر العجيب الكامن في المناخ السابق لفعل التداخل بين الجنسين.. في التوهج المتصاعد درجةً.. درجةً إلى حدود النشوة. يتأمل نادبًا جمود حواسه، التي قمعتها المؤسسة الزوجية وطهر الأفكار الثورية.
- ما تحكي.. تريدك تحكي!
انتبه على صوته الأجش، فأبتسم قائلًا:
- أش أحكي.. ما أعرف لغة!.
- ما يهمْ.. ما يهمْ.. أحكي وهي راح تفهمك!
أنفجر في قهقهة صاخبة من أفكار البدوي العجيبة:
- أي أضحك وغازله بالعربي!. وما عليك!
حلت لـ «إبراهيم» اللعبة، فابتدأ يطري جمالها مؤشرًا بيديه نحو عينيها.. أنفها.. شعرها.. شفتيها.. رقبتها.. نهديها.. بطنها.. فخذيها اللذين إتكأ عليهما البدوي بكل ثقة.. كانت تتألق.. وتتألق وكأنها تفهم كل ما يقوله.. نهض «أسعد» من جوارها قائلًا:
- موسيقى.. موسيقى!.
ووضع أسطوانة بوب غربية وأنزل الإبرة فدارت. انحنى أمامها مرة أخرى، وكأنه أمير مادًّا ذراعيه كي تقوم وترقص معه. أمسكت بكفه وقامت إليه. حضنها وراح يدور معها راقصًا في أرجاء الغرفة الواسعة. تابع من جلسته وجهها النشوان الضاحك من طريقة - «أسعد» - في رقصه الغريب.. خليط من إيقاع البعير وقفزات الأسد مصحوبة بصراخ الله وأكبر:
- شوفهه.. شوفهه.. ذابت.. ذابت!.
ركّز على ذراعه القوية الملتفة حول خصرها الضامر.. على حركة الوركين العامرين.. وأصابع يديهما المشتبكة!.
الحياة لحظة.. الحياة فقاعة.. فصورها قبل أن تنفجر!. رسخت من جديد مع هذا البدوي، الذي يدور وبين ذراعيه هذه المرأة الروسية الجميلة المائعة بهجةً، التي كانت قبل ساعة شديدة الحياء تجلس مرتبكة بالمطبخ. مشهد سيظل يتراءى له في خيالات الخمرة والحشيش وهو يلتحف مصاطب منزوية في الأرصفة.. ومداخل العمارات.. ومحطات المترو.. وبيوت المشردين المنتشرة في أرجاء كوبنهاجن شتاءً، لاعنًا ذلك التكريتي الذي وصل إلى السويد، وتزوج بنت عمه التي جلبها من العراق عن طريق كردستان.. ويعيش معها الآن بهدوء.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مهندس الكلمة.. محطات في حياة الأمير الشاعر الراحل بدر بن عبد


.. كيف نجح الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحسن طوال نصف قرن في تخليد




.. عمرو يوسف: أحمد فهمي قدم شخصيته بشكل مميز واتمني يشارك في ا


.. رحيل -مهندس الكلمة-.. الشاعر السعودي الأمير بدر بن عبد المحس




.. وفاة الأمير والشاعر بدر بن عبد المحسن عن عمر ناهز الـ 75 عام