الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية للفتيان رجل النار طلال حسن

طلال حسن عبد الرحمن

2023 / 7 / 24
الادب والفن


رواية للفتيان





رجل النار





طلال حسن





شخصيات الرواية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ الإله بيرال

2 ـ الساحر تاما

3 ـ ماهويكي

4 ـ نانما

5 ـ المربية

6 ـ الخادم

7 ـ الشيخ الأول

8 ـ الشيخ الثاني




" 1 "
ــــــــــــــــــــــ

بين فترة وأخرى ، ومنذ صغرهما ، كان نانما وماهويكي ، يلتقيان صدفة أحياناً ، وعلى موعد مسبق أحياناً أخرى .
ونمت بينهما إلفة ، توطدت مع الأيام ، رغم أن الساحر ، والد ماهويكي ، كان يعترض دوماً على علاقتها بنانما ، وطالما نهاها عن اللقاء به ، ولكن وكما يحدث غالباً ، لم تصغ ِ ماهويكي إلى أبيها ، وظلت تلتقي بنانما خلسة ، بعيداً عن أنظار الآخرين .
واليوم التقيا ، عند شاطئ النهر ، وراحا يركضان متضاحكين ، على امتداد الشاطىء ، وهما يتراشقان بما يقع بين أيديهم ، من الحشائش والأزهار وأوراق الأشجار .
وتوقفت نانما لاهثاً ، بعد حين ، وقالت : كفى ، يا ماهويكي ، فلنجلس .
وتوقفت ماهويكي بدورها ، وقالت : اجلس وحدك ، مادمت قد تعبت ، سأعود أنا إلى الكهف .
وقال نانما : تعالي نجلس قليلاً ، تحت تلك الشجرة ، سأريك ما يدهشك .
وتلفتت ماهويكي حولها ، وقالت : لا أريد أن أرى الآن أي شيء ، إنني قلقة على الجدة العجوز .
واقترب نانما منها ، وقال : لا عليك ، يا ماهويكي ، إنها امرأة عجوز تهذي .
ونظرت ماهويكي إليه ، وقالت بصوت يشي بقلقها : إنني أخشى عليها من الشيوخ الثلاثة .
فقال نانما : اخشي أباك الساحر أولاً .
وأطرقت ماهويكي رأسها لحظة ، فقال نانما : ليتك تبقين حتى أريك ، عيداني ، التي تنفث الدخان .
ورفعت ماهويكي رأسها ، وحدقت في نانما ، ثم قالت : حذارِ يا نانما ، إن الشيوخ الثلاثة ، وفي مقدمتهم أبي ، لن يتساهلوا مع دخانك .
ولاذ نانما بالصمت ، فرفعت ماهويكي رأسها إلى السماء الحبلى بالغيوم ، ثم قالت : يبدو أن المطر سيهطل عاجلاً أو آجلاً .
واستدارت ومضت مبتعدة باتجاه الكهوف ، وهي تقول : عد إلى كهفك ، يا نانما ، وبسرعة .
لم يرد نانما ، وسرعان ما توغل في الغابة ، القريبة من النهر ، بحثاً عن عيدن يابسة ، يجرب بها محاولاته في بعث الدخان منها .
وسارت ماهويكي ، خائفة قلقة ، فقد تناهى إليها من أكثر من مجموعة مرت بها ، بأن الجدة العجوز قد دعيت صباح اليوم إلى كهف الشيوخ الثلاثة .
ووصلت ماهويكي الكهف ، الذي تقيم فيه هي وأبوها الساحر ، وراحت تتشاغل بترتيب آثاث الكهف ، وتعد الطعام ، وهي على أحرّ من الجمر ، فهي تريد أن تعرف من أبيها الساحر ، ما تقرر بشأن الجدة العجوز المسكينة .

















" 2 "
ـــــــــــــــــــــ


تناول الساحر تاما ، طعام العشاء مع ابنته ماهويكي ، قبل أن تأوي الشمس إلى فراشها بقليل ، وراء الجبال العالية ، التي تعلوها الغيوم الحبلى بالمطر .
وتنهاهى من الخرج أزيز رياح شديدة ، فرفع الساحر تاما رأسه ، وأنصت ملياً ، ثم نظر إلى ماهويكي ، وقال : الإله بيرال العظيم غاضب .
وتوقفت ماهويكي عن تناول الطعام ، دون أن ترفع عينيها إليه ، أو تنبس بكلمة ، فقال الساحر تاما : يبدو أن أحدهم قد اقترف ذنباً .
ورفعت ماهويكي عينيها قليلاً ، ورمقت أباها بنظرة خائفة سريعة ، فنظر إليها ، وقال بنبرة تشي بالتهديد والوعيد : أو يريد أن يقترف ذنباً .
وتوقفت ماهويكي عن تناول الطعام ، فنهض الساحر تاما ، فقالت ماهويكي : لم تأكل شيئاً .
وقال الساحر تاما ، كأنما يحدث نفسه : الإله بيرال غاضب ، وعلينا أن نسترضيه .
ونظرت ماهويكي إليه مترددة ، وقالت : أبي .
وأنصت الساحر تاما ملياً ، وقال : سيهطل المطر ، لكنه مهما كان غزيراً ، لن يزيل خطايا المذنبين .
ومرة ثانية ، قالت ماهويكي بصوت مرتعش : أبي .
ونظر إليها الساحر تاما ، بعينيه الناريتين الغاضبتين ، فقالت : تلك المرأة ، العجوز ..
فردّ الأب قائلاً : تلك العجوز الخبيثة الكاذبة ، تكذب على الإله بيرال ، وتقول إنه جاءها في المنام .
وصمت لحظة ، ثم قال : إن الإله العظيم بيرال ، لا يمكن أن يأتي إلى امرأة ، حتى في المنام .
وقالت ماهوكي بنبرة توسل : إنها امرأة عجوز مسكينة ، لا تعرف ما تقول .
ونظر الساحر تاما إليها ، وقال بصوت صارم : إذا كانت بريئة ، وهي ليست بريئة ، فإن بركة التماسيح العادلة ، ستكون الحكم .
وشهقت ماهويكي قائلة : بركة التماسيح !
فردّ الساحر تاما ، وهو يأوي إلى فراشه : نامي .
وعلى الفور ، أوت ماهويكي إلى فراشها ، دون أن تنبس بكلمة واحدة ، وأغمضت عينيها ، لكنها لم تنم ، وكيف تنام ، والمرأة العجوز تتراءى لها ، وهي تلقى إلى البركة المليئة بالتماسيح الجائعة ؟
وهطل المطر ، وقد حلّ الليل ، واشتد أزيز الريح ، ولمع البرق ، فأضاء حتى الكهف ، وفجأة انفجر هزيم رعد يصمّ الأذان ، فتململ الساحر تاما في فراشه ، وقال : هذه نار الإله الإله بيرال ، يقتص بها من الخاطئين فيحرقهم بلهيبها .
وخفّ هطول المطر ، وكذلكم أزيز الريح ، وتناهى من الخارج صوت طائر يصيح : او .. هو هو .
وخفق قلب ماهويكي بفرح ، وهمت أن تنهض ، لكنها توقفت حين تململ الساحر تاما ، وقال بصوت ناعس : يا للشؤم ، هذا صوت بومة .
والتفت إلى ماهويكي ، وقال : نامي .
لم تنم ماهويكي ، رغم أنها تدثرت بفراء الدب الثقيل، وأغمضت عينيها ، فصوت الطائر ظل يتناهى إليها بين فترة وأخرى ، أما أبوها الساحر تاما ، فلم ينم حتى انقطع صوت الطائر تماماً .








" 3 "
ــــــــــــــــــــ

اختفت الغيوم الحالكة الحبلى بالمطر ، في اليوم التالي ، وأطلت الشمس ساطعة دافئة ، من فوق أشجار الغابة ، المطلة على النهر .
وتأهب الساحر تاما للخروج من الكهف ، بعد أن تناول ، طعام الإفطار ، لكنه توقف مفكراً ، حين تناهى إليه من الخارج ، صوت الطائر ، الذي سمعه عدة مرات ، ليلة البارحة .
وارتفع صوت الطائر ثانية ، فنظر الساحر تاما إلى ماهويكي ، وقال : يبدو أن هذه البومة اللعينة ، لا تنام ليلاً ولا نهاراً .
ونظرت ماهويكي إليه ، دون أن تتفوه بكلمة ، فاتجه إلى اخرج الكهف ، وهو يقول : ابقي في الكهف ، ولا تغادريه ، حتى أعود .
وخرج الساحر تاما ، ومضى وهو يتلفت حوله ، لعله يرى ذلك الطائر الليلي المزعج ، أهو طائر حقاً ؟ هذا ما يريد أن يعرفه ، بأي ثمن .
وما إن ابتعد الساحر تاما ، حتى تناهى إلى ماهويكي صوت الطائر ، من مكان قريب ، فانطلقت إلى الخارج ، وهي تصيح فرحة : نانما .. نانما .
وبرز نانما ، من وراء إحدى الأشجار ، وصاح بصوت فرح : ماهويكي .. ماهويكي .
واقتربت ماهويكي منه راكضة ، وقالت : كفى ، سيسمعك أبي .
وقال نانما : البارحة ليلاً ناديتك عدة مرات .
وقالت ماهويكي ضاحكة : او هو هو هو .
وضحك نانما ، وقال : لم تردي .
وقالت ماهويكي : المطر كان يهطل بشدة .
وهز نانما رأسه ، وقال : لقد انتظرتك طويلاً ، تحت ذلك المطر ، يا ماهويكي .
وقالت ماهويكي : حاولت أن أخرج إليك ، لكن أبي لم ينم ، حتى صمت الطائر ، الذي تعرفه .
ونظر نانما إليها ، وقال : أبوك لا يحبني ، وأنا أحب ابنته ماهويكي ، فما العمل ؟
وقالت ماهويكي ، وهي تغالب ضحكتها الفرحة : هش .. هش ش ش ش .
فضمها بين ذراعيه ، وقال : لن أهش .
وتملصت ماهويكي من بين ذراعيه ، وهي تقول : أيها المجنون ، دعني ، قد يرانا أبي .
فقال نانما : هذا ما أريده ، ليرانا ، فأنا لكِ ، وأنتِ لي .. يا ماهويكي .
ولاذت ماهويكي بالصمت ، فتساءل نانما بصوت رقيق : أليس كذلك ، يا ماهويكي ؟
فأطرقت ماهويكي رأسها ، دون أن تنبس بكلمة ، فاقترب نانما منها ، وقال : أنتظركِ غداً ، في مكان لقائنا ، قرب النهر .
ورافعت ماهويكي عينيها إليه ، دون أن تردّ بكلمة ، فقال : لدي ما أقوله لك ِ .
وتلفتت ماهويكي حولها ، وقالت : اذهب الآن ، أحدهم قادم .
لم يذهب نانما ، فتراجعت ماهويكي ، فقال : انتظرك غداً ، انترظكِ ، يا ماهويكي .
واستدارت ماهويكي ، دون أن تتفوه بكلمة ، ثم مضت راكضة نحو الكهف .







" 4 "
ـــــــــــــــــــــ

قبل الموعد المحدد ، كان نانما ، على عادته ، يقف قرب النهر ، ينتظر ماهويكي ، التي طالما تواعد معها في هذا المكان .
وعلى غير عادتها ، لم تأتِ ماهويكي ، في الموعد المحدد ، وانتظر نانما ، انتظر طويلاً ، حتى مالت الشمس للغروب ، وكادت تختفي وراء الجبال الشامخة ، دون جدوى .
وبدل أن يثور نانما ، ويتملكه الغضب ، انتابه القلق ، ترى ما الذي منعها من المجيء ؟ وفكر أنها ربما تعرضت لحادث ، أم .. أم ماذا ؟
وعند مغيب الشمس ، وراء الجبال الشامخة ، غادر نانما المكان ، لكنه قرر بينه وبين نفسه ، أن يرى ماهويكي اليوم ، مهما كلف الثمن .
ومضى يتجول هنا وهناك ، على غير هدى ، منتظراً أن يهبط الليل تماماً ، ويستغرق الساحر تانا في نوم عميق ،
فيخلو له الجو ، ويتمكن من لقاء ماهويكي ، عسى أن يعرف لماذا لم توافيه في الموعد .
وما لم يعرفه نانما ، أن الساحر تاما ، عاد متجهماً عند الغروب ، إلى الكهف ، وما إن وقع نظره على ماهويكي ، حتى قال لها : إنني جائع ، لم أتناول لقمة واحدة طول اليوم ، هاتي الطعام .
وعلى الفور ، وضعت ماهويكي الطعام أمامه ، وجلست قبالته ، دون أن تنبس بكلمة واحدة ، فقال الساحر تاما ، وهو يضع لقمة في فمه : تلك العجوز اللعينة ، ثبت اليوم أنها ، وكما توقعت ، لم تكن بريئة .
ونظرت ماهويكي إليه ، واللقمة في يدها ، فتابع الساحر تاما قائلاً : لقد ألقيناها في الحوض ، ولأنها لم تكن بريئة ، انقضت عليها التماسيح ، والتهمتها .
ورفع الساحر عينيه إلى ماهويكي ، وقال : كلي .
لكن ماهويكي لم تأكل ، بل أعادت اللقمة إلى الطبق ، وقالت : لستُ جائعة .
وحلّ الليل ، مسدلاً عباءته السوداء ، المرقطة بالنجوم المتغامزة ، على كلّ شيء ، الجبال والغابات والكهوف ، وأوى الساحر إلى فراشه ، وهو يقول : لقد حلّ الظلام ، هيا نامي .
ورقدت ماهويكي في فراشها ، وأغمضت عينيها الغارقتين بالدموع ، لكنها لم تنم ، وسرعان ما سمعت أباه الساحر ، يغط في نوم عميق .
وتناهى من الليل ، في الخارج ، صوت طائر تعرفه ماهويكي جيداً : او هو هووو .
واعتدلت على الفور ، إنه نانما ، وتمنت أن لا يصبح هذا الطائر المجنون ثانية ، فقد يستيقظ أبوها الساحر ، ويمنعها من الخروج .
وبهدوء ، أبعدت فرو الدب عنها ، ومضت على رؤوس أصابع قدميها إلى الخارج ، وعلى ضوء القمر الشاحب ، لمحت نانما يشير إليها ، أن تعالي .
وتلفتت ماهويكي حولها بحذر ، ثم انطلقت مسرعة إليه ، فمدّ يده وأحتضن يدها ، وقال : ماهويكي ، تعالي خلف هذه الشجرة ، لن يرانا أحد .
وقالت ماهويكي بصوت منفعل : لن أبقى طويلاً ، فأبي يفيق بين فترة وأخرى ، ويتفقدني .
واختلس نانما نظرة إلى مدخل الكهف ، ثم قال : انتظرتك طويلاً قرب النهر .
فقالت ماهويكي بصوت متحشرج : لم أستطع أن آتي ، بعدما حدث .
وتساءل نانما : ماذا حدث ؟
واختلست ماهويكي نظرة أخرى إلى مدخل الكهف ، ثم قالت : المرأة العجوز المسكينة ، ألقوا بها ، صباح هذا اليوم ، في بركة التماسيح .
وهزّ نانما رأسه ، وقال : يا للغباء ، يبحثون عن العدالة ، عند التماسيح .
وهنا تراجعت ماهويكي قليلاً ، وهي تدفع نانما ، وتقول بصوت هامس : نانما ، اهرب ، جاء أبي .
وقبل أن يهرب نانما ، قال لها بصوت هامس : أنتظرك غداً في نفس المكان ، لا تتأخري .
وجاء الساحر تاما ، لكنه لم يجد غير ابنته ماهويكي ، تقف وحدها قرب الشجرة ، فتلفت حوله ، وقال : تناهت إليّ حركة مريبة بين تلك الأشجار .
فاتجهت ماهويكي إلى الكهف ، وهي تقول : لعله ثعلب ، يا أبي ، فالثعالب كثيرة هذه الأيام .
وتلفت الساحر تاما حوله ثانية ، ثم لحق بابنته ماهويكي ، وقال لها : ماهويكي ، لا تخرجي من الكهف ليلاً ، فالليل يعج بالوحوش .








" 5 "
ـــــــــــــــــــــــ

على عجل ، أقبلت ماهويكي ، إلى المكان المحدد للموعد ، وتمنت في أعماقها ، ويا للعجب ، أن لا تجد نانما قرب النهر ، لكنها وجدته ينتظرها .
وما إن لمحها من بعيد ، مقبلة عليه ، حتى أسرع إليها كالعادة ، وهو يقول مرحباً : أهلاً ماهويكي .
فتوقفت ماهويكي ، وقالت : أسرع ، أخبرني بما تريد ، إنني مستعجلة .
فقال نانما : مهلاً ، سيذهلك ما اكتشفته .
وقالت ماهويكي ، دون أن تبتسم : لقد أذهلتني ، عندما اكتشفت النملة .
وأراها كسرتين يابستين من عيدان شجرة ، وقال : أنظري .
وهمت ماهويكي أن تستدير ، وتعود من حيث أتت ، وهي تقول محتجة : نانما .
وأمسك نانما يدها ، وقال : لقد اكتشفت النار .
وتوقفت ماهويكي ، محدقة فيه ، ثم نظرت إلى كسرتي الشجرة ، وقالت : النار !
وهز نانما رأسه ، وقال : بالصدفة ، ككل المكتشفات العظيمة .
وصمت لحظة ، ثم قال : أردت ، قبل أيام ، أن أبري عوداً بعود ، لأصنع سهما أصطاد به ، فلم يكن تحت يدي كسرة حجر حادة ، وفوجئت بدخان يخرج من أحد العودين .
وفغرت ماهويكي فاها ، وقالت : اكتشفت الدخان ؟
وتابع نانمي قائلاً ، دون أن يلتفت إلى تعليقها : لم أتوقف ، وازداد الدخان ، حتى أخذت أسعل ، وكدت أتوقف هذه المرة ، لكني رأيت العود ، الذي يصدر عنه الدخان ، يحمرّ رأسه ، ثم .. النار .
ومرة أخرى نظرت ماهويكي إلى كسرتي العودين ، الذين يمسكهما نانما في يده ، دون أن تتفوه بكلمة ، فقال نانما : مهلاً ، سترين ذلك الآن ، وستعجبين وستكونين أول إنسان يرى النار ، التي اكتشفتها .
وعلى الفور ، جاء نانما بقليل من القش اليابس ، وجلس مقرفصاً قربه ، وراح يحك كسرتي العيدان أحداهما بالأخرى ، وهو يقول : لن تصدقيني ، إذا لم تري النار بعينيك .. بعينيك الجميلتين .
وردت ماهويكي ، وهي تراقب الكسرتين : دع عينيّ الآن ، وأرني نارك .
وفغرت فاها ، قبل أن تنتهي من كلامها ، فقد بدأ خيط من الدخان يتصاعد من أحد العودين ، وسرعان ما احمرّ رأس العود ، وانطلقت منه عدة شرارات ، لامست القش فاشتعلت فيها .. النار .
وتراجعت ماهويكي ، وقد اتسعت عيناها خوفاً وذهولاً ، وهي تتمتم : نانما .
ووقف نانما ، ونظر إلى ماهويكي فرحاً ، وقال : ماهويكي ، هذه هي .. النار .
واقتربت ماهويكي من نانما ، وأمسكت يده بأصابع منفعلة مرتجفة ، وهي تراقب النار ، حتى أتت على القش ، وانطفأت .
ونظر نانما إليها ، وقال : ماهويكي ..
وقاطعته ماهويكي بصوت مرتعش : نانما ، إنني أخشى هذه .. النار .
فقال نانما : بالعكس ، أنها مفيدة ، فهي كما رأيت ، تظيء ، وتدفيء ، ومن يدري ، ربما لها فوائد أخرى ، سنكتشفها مع الزمن .
ونظرت ماهويكي إليه ، وقالت : لا أعني هذا ، يا نانما ، إنني أخشى أبي ، ترى ماذا سيكون موقفه منك ، ومن هذه .. النار ؟



" 6 "

ــــــــــــــــــــــ

خلال اليومين التاليين ، لم تلتقِ ماهويكي بنانما ، رغم أنه لم يغب عن بالها ، هو وناره لحظة واحدة ، لا في الليل ولا في النهار .
وراحت عيناها الخائفتان المتوجستان ، تتلصصان خلسة على أبيها الساحر تاما ، لعلها تعرف ما إذا كان قد علم باكتشاف نانما أم لا ، وما الذي يمكن أن يقوله ، أو يفعله إذا علم بذلك .
وفي هذه الأمسية ، بعد يومين من لقائها بنانما وناره الحارقة ، أقبل الساحر تاما ، عابساً ، متجهماً ، إلى البيت ، وما إن رأته ماهويكي ، حتى خفق قلبها خوفاً ، وقالت في نفسها : إنها العاصفة ، ستهب الليلة ، لابد أنه علم بالنار ، مسكين نانما .
لكن العاصفة ، التي توقعتها ماهويكي ، لم تهب تماماً تلك الليلة ، وإن تناهى إليها صوت دمدمتها المنذرة ، وخاصة عندما جاء صوت الطائر من الخارج : او هو هووو .
فقد هبّ الساحر تاما من فراشه ، ومضى إلى الخارج ، وهو يقول مهدداً : هذه البومة لن تفلت مني ، سأمسك بها ، وأرميها في بركة التماسيح .
وتجمدت ماهويكي خائفة ، تحت جلد الدب الثقيل ، ولم تكد تتنفس ، حتى عاد الساحر تاما من الخرج ، واندس في فراشه لاهثاً ، وهو يقول : لن تفلت مني هذه البومة العينة .
وبدا لماهويكي ، في صباح اليوم التالي ، أن العاصفة ، لم تعد بعيدة ، فقد حدق فيها الساحر تاما ، أكثر من مرة ، وهو يجلس قبالتها ، يتناول طعم الفطور .
وقبل أن يخرج ، قال لها : ابقِ اليوم في الكهف .
فردت قائلة ، دون أن ترفع عينيها إليه : لقد نفد ماؤنا .
فقال الساحر تاما بحزم : لا تخرجي أنت ، سأرسل من يجلب لك الماء من النهر .
وأطرقت ماهويكي رأسها ، فمضى الساحر تاما ، والعاصفة تئز في أعماقه ، وتنذر بالانفجار ، وتحطم من تستهدفه ، في أية لحظة .
وعلى الفور ، تسللت ماهويكي من الكهف ، ومضت مسرعة ، عبر طريق قلّ من يسلكه ، إلى كهف نانما ، الذي لم يكن بعيداً عن النهر ، وما إن رآها نانما ، حتى هبّ من فراشه ، وصاح : ماهويكي !
وقالت ماهويكي منفعلة : العاصفة ستهب ، وتقضي عليك ، وأنت نائم هنا .
ونظر نانما إليها حائراً ، ثم قال : تبدين منفعلة ، تعالي اجلس ، وارتاحي .
وردت ماهويكي : دعني ، لم آت لأجلس ..
وسكتت لحظة ، ثم قالت : نارك المجنونة ستحرقك .
ونظر نانما إليها ، وقال : لابد أن أباك الساحر تاما ، قد علم بأمرها .
فردت ماهويكي قائلة : بل ربما سمع بها الكثيرون أيضاً ، مادمت تثرثر حولها في كلّ مكان .
وقال نانما : صدقيني ، لم أخبر سوى صديق أو صديقين ، ولعل أحدهما أوصل الخبر لأبيك .
وصمت نانما لحظة ، ثم قال : ومهما يكن ، فسيعرف الجميع بأمر النار عاجلاً أو آجلاً.
ولاذت ماهويكي بالصمت لحظة ، ثم قالت : نانما ، لم أنم خلال هذين اليومين ، إنني خائفة عليك .
وابتسم نانما ، وقال : عندي دواؤك .
ونظرت ماهويكي إليه صامتة ، فمدّ نانما يديه أليها ، وقال : سآخذك من أبيك الساحر ، وأنيمك بين ذراعيّ ، هذا هو الدواء ، يا ماهويكي .
وتملصت ماهويكي من بين يديه ، ومضت إلى الخارج ، وهي تقول : هذا إذا لم تحرقنا نارك .























" 7 "
ـــــــــــــــــــــــ

عاجلاً وليس آجلاً ، حدث ما كانت تخشاه ماهويكي ، وما كان يتوقعه نانما ، فقد تأكد للساحر تاما ، أنّ ما أشيع عن نانما ، وناره الحارقة ، كان حقيقة .
وعلى الفور ، تحرك الساحر تاما ، فنادى الخادم الذي يقف بباب كهف الشيوخ الثلاثة ، وقال له : اذهب إلى نانما ، حيثما يكون ، وجئنا به في الحال .
وانحنى الخادم للساحر العظيم ، وقال : أمر سيدي .
فقال الساحر العظيم : اذهب بسرعة .
وذهب الخادم بسرعة ، يبحث عن نانما ، والنهار يكاد ينتصف ، لم يجده في كهفه الصغير ، ولم يجده عند شاطىء النهر ، حيث يتواجد هناك أحياناً ، ليصطاد السمك ، وأخيراً وجده في أجمة كثيفة الأشجار ، تقع على حافة الغابة .
لم ينتبه نانما ، حين اقترب منه الخادم ، فقد كان منهمكاً بحك كسرة عود جافة بكسرة أخرى ، ويراقب الدخان والشرر ، اللذين يصدران منهما .
وتوقف الخادم على مقربة منه ، وهتف به : نانما .
ورفع نانما عينيه إليه المتادحتين ، وحدق فيه ، ثم قال : خيراً .
وقال الخادم : خيراً إن شاء الإله بيرال .
ونهض نانما ، وقال : تكلم .
فقال الخادم : تعال معي ، الساحر يريدك .
ولاذ نانما بالصمت ، فقال الخادم يستعجله : هيا ، انه ينتظرك ، في كهف الشيوخ .
وتذكر نانما ما حدثته عنه ماهويكي ، فقال للخادم ، وهو يتقدمه : هذا ما توقعته ، هيا فلنذهب .
وسار نانما ، والخادم يخبّ وراءه ، حتى وصل الكهف ، ودخل على الشيوخ الثلاثة ، الذين ينظرون عادة في القضايا المهمة ، ويقررون فيها حكمهم .
وتوقف نانما أمام الشيوخ الثلاثة ، الذين حدقوا فيه بعيون جامدة صارمة ، فانحنى أمامهم ، وحياهم قائلاً : أيها السادة ، طاب يومكم .
لم يردّ أحد من الشيوخ على تحيته ، وظلوا يحدقون فيه بعيونهم الصارمة المتجهمة ، فلاذ نانما بالصمت لحظة ، ثم قال للساحر العظيم : سيدي ، أرسلت في طلبي ، وها أنا أمامكم ، تفضل .
وقال الساحر العظيم ، بصوت حازم جاف : نانما .
فردّ نانما قائلاً : نعم ، أيها الساحر العظيم .
فقال الساحر : أنت تعرف ، أننا رعيناك كواحد من أبنائنا ، حين رحلت أمك ثم أباك ، وأنت صغير ، حتى كبرت ، رغم أن أمك ليست منّا .
وقال نانما : أنا واحد منكم ، وسأبقى واحداً منكم ، في السراء والضراء ، يا سيدي .
ونظر الساحر إليه ، بعينين غاضبتين صارمتين ، ثم قال : بلغنا عنك أمر خطير ، نرجو نحن الشيوخ الثلاثة ، أن لا يكون له أساس من الصحة .
ولذ نانما بالصمت ، فقال الشيخ الأول : نانما ، تذكر أن ما ستقوله أمامنا ، يمكن أن يقرر مصيرك .
وقال الشيخ الثاني : نحن لا نريد أن نعرضك لأي خطر ، فأنت يا نانما واحد مناّ .
وقال الشيخ الثاني : لقد رأيت المصير ، الذي انتهت إليه ، قبل أيام قليلة ، المرأة العجوز الكاذبة .
وقال الساحر العظيم بنبرة تهديد : لقد كذبت على الإله بيرال ، وقالت إنه زارها في المنام .
فقال الشيخ الأول : وتأكد كذبها ، حين ألقيناها في بركة التماسيح ، ولم تخرج .
وساد الصمت برهة ليست قصيرة ، قال بعدها الساحر : بلغنا ، يا نانما ، أنك قلت ، أمام العديد من الناس ، أنك خلقت النار .
فردّ نانما قائلاً : عفواً سيدي ، أنا لم أخلق النار ، بل اكتشفتها ، اكتشفتها صدفة .
لم يلتفت الساحر العظيم إلى كلامه ، وصاح بصوت كالرعد : الإله بيرال .. هو الخالق .. وهو من خلق النار.. التي تتجلى في صواعق الرعد ..
واتسعت عيا نانما قلقاً ، وتمتم : سيدي ..
وقاطعه الساحر العظيم بصوته الرعد مستطرداً : يحرق بها الكاذبين .. المفترين عليه ..
وقال نانما : لستُ .. كاذباً .. يا سيدي .
وقاطعه الساحر العظيم مهدداً : سنلقيك في البركة ، ولتقل التماسيح العادلة كلمتها .
وقال نانما ، وهو ينظر إلى الشيوخ الثلاثة ، الواحد بعد الآخر : سادتي ، اسمعوني ، سأشعل النار أمامكم ، وقرروا بعدها ما ترون .
وبدل أن يردّ أحد الشيوخ الثلاثة عليه ، صاح الساحر : أيها الخادم .
وأقبل الخادم ، وكان بالباب ، وانحنى للساحر ، وقال : نعم سيدي .
فقال الساحر : خذ نانما هذا ، وضعه في الكهف ، المخصص للمحجوزين ، واغلق عليه الباب .
فقال الخادم : أمر سيدي .
وهمّ نانما أن يمضي مع الخادم ، فقال الساحر العظيم : اسمع جيداً ، يا نانما ..
وتوقف نانما ، ونظر إلى الساحر العظيم ، الذي واصل كلامه قائلاً : سترمى غداً في حوض التماسيح ، إذا لم تأتنا مساء اليوم ، قبل غروب الشمس ، وتعترف بأنك كاذب ، وأن النار لا يخلقها إلا الإله بيرال .
وهمّ نانما أن يتكلم ، فصاح الساحر العظيم بالخادم : خذه إلى الكهف .

















" 8 "
ـــــــــــــــــــــ

بقلق وتوجس وشعور بالخوف ، راحت ماهويكي تتابع أخبار نانما ، وخفق قلبها بشدة ، حين علمت أن أباها الساحر ، استدعا نانما ، قبيل منتصف النهار ، إلى كهف الشيوخ الثلاثة .
وساعة بعد ساعة ، أخذت تترقب ما يجري في محيط كهف الشيوخ الثلاثة ، وما يرشح من نذر منه ، وبدا لها أن جميع من يعرف نانما مهتم بأمر استدعائه ، وخاصة الشباب والفتيات .
وتملكها الأسى والخوف الشديدين ، عندما علمت أن الشيوخ الثلاثة ، احتجزوا نانما ، في كهف المذنبين ، الذي يُلقون عادة ، في اليوم التالي ، في بركة التماسيح المرعبة ، التي لم يخرج منها أحد .
وانتظرت بفارغ الصبر ، أن يأتي أبوها الساحر العظيم ، في آخر النهار ، لعلها تتأكد من بعض ما جرى ، وقبل غروب الشمس بقليل ، جاء الأب الساحر العظيم ، وانقبض قلبها حين رأته عابساً متجهما ، وقال لها ، دون أن ينظر إليها : هاتي الطعام .
وعلى الفور ، وضعت ماهويكي الطعام أمامه ، فقال لها ، وهو يأكل : تعالي كلي .
وجلست ماهويكي قبالته ، وبدأت تأكل ، رغم أنها لم تكن تشتهي أن تـكل أي شيء ، وسرعان ما نهض الساحر ، وجلس في فراشه متأهباً للنوم ، ونظر إلى ماهويكي ، وقال : هذا اللعين نانما ، كان كما توقعت ، أشد خطراً من المرأة العجوز ، التي ألقيناها قبل أيام ، في بركة التماسيح .
وأطرقت ماهويكي رأسها ، دون أن تتفوه بكلمة واحدة ، فقال الساحر ، وهو يرقد في فراشه : نامي .
وتمددت ماهويكي في فراشها ، وتدثرت بجلد الدب الثقيل ، فقال أبوها الساحر : ماهويكي..
وردت ماهويكي بصوت واهن : نعم .
وتابع أبوها الساحر قائلاً : إياكِ أن تخرجي من الكهف ، مهما كان السبب .
وأغمض عينيه ، ثم قال : لن تسمعي صوت ذاك الطائر مرة أخرى .
وأغمضت ماهويكي عينيها ، لكنها لم تنم ، وكيف تنام ونانما في كهف المذنبين ؟ لابد أن تراه ، الليلة ، مهما كان اثمن ، وارتفع غطيط أبيها الساحر ، لقد استغرق كالعادة في نوم عميق .
آه سينهض أبوها غداً مبكراً ، فلديه مهمته المقدسة ، التي طالما تفاخر بها ، وهي إلقاء من يراهم مذنبين ، في بركة التماسيح .
وخفق قلبها بشدة ، فالآن جاء دور نانما ، وإذا ألقوه في بركة التماسيح ، لن يخرج ، كما لم يخرج أحد منها ، فالأفضل أن يلفوها هي الأخرى معه ، ، أو ..
وتناهى إليها من الخارج ، صوت الطائر الحبيب : هووو..
وخفق قلبها قلقاً وفرحاً ، أهو نانما !
لا يمكن ، فنانما مسجون في كهف المذنبين ، والباب مغلق عليه ، و .. ومرة أخرى تناها إليها صوت الطائر : هوووو .
إنه هو ، نعم هذا نانما نفسه ، وأبعدت عنها جلد الدب الثقيل ، ونهضت بهدوء ، وبهدوء أشد خرجت من الكهف ، وعلى مقربة من الشجرة ، لمحت على ضوء الشاحب للقمر ، نانما يشير إليها ، ويقول بصوت خافت متشنج : تعالي ، تعالي بسرعة .
وأسرعت ماهويكي إليه ، فتلقف يديها بيديه ، وسحبه وراء الشجرة ، فقالت بصوت لاهث : نانما ، علمت أنك في كهف المذنبين .
فردّ نانما قائلاً : نعم ، لكن لو بقيت فيه ، لألقوني غداً ، مع شروق الشمس ، في بركة التماسيح ، التي لا يخرج منها أحد حيّاً .
وشهقت ماهويكي : يا ويلي .
وأطبق نانما بيده على فمها ، وقال : ماهويكي ، أتريديني أن أبقى .. ؟
ورفع يده عن فمها ، فقالت : كلا ، لو بقيت سيلقونك في بركة التماسيح .. وعندها .. سأموت ..
فقال نانما : ليس أمامنا إلا حلّ واحد .
فتساءلت ماهويكي ، وقد اتسعت عيناها : نهرب !
فقال نانما : نهرب عبر الجبال ، إلى حيث يعيش اخوة أمي وأخواتها ، إنهم يحبونني ، وطالما دعوني للعيش معهم ..
وتلفتت ماهويكي حولها خائفة ، ونظرت إلى مدخل الكهف ، ثم قالت : ظننتُ أن أبي قد استيقظ .
ومدّ مانما يديه ، وأمسك يديها ، وقال : ماهويكي ، إذا لم تأتي معي الآن ، فسأعود حالاً إلى كهف المذنبين ، وأنتظر مصيري على يدي أبيك الساحر ..
ووضعت ماهويكي يدها على فمه ، وقالت : أريد أن نعيش معاً ، يا نانما ، تعال نهرب ، ونعيش حياة آمنة ، وراء الجبال الشاهقة .
3 / 3 / 2013








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفلسطينيين بيستعملوا المياه خمس مرات ! فيلم حقيقي -إعادة تد


.. تفتح الشباك ترجع 100 سنة لورا?? فيلم قرابين من مشروع رشيد مش




.. 22 فيلم من داخل غزة?? بالفن رشيد مشهراوي وصل الصوت??


.. فيلم كارتون لأطفال غزة معجزة صنعت تحت القصف??




.. فنانة تشكيلية فلسطينية قصفولها المرسم??