الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المواطنة والدولة

شاهر أحمد نصر

2023 / 7 / 26
مواضيع وابحاث سياسية


(نص المحاضرة التي ألقيت في المركز الثقافي في طرطوس بتاريخ 24/7/2023)
ثمة أسئلة كثيرة تعتمل في أذهان الغيورين على مصير الوطن والشعب، بحثاً عن أجوبة لأسئلة لا حصر لها، منها: ما السبيل لمعالجة الكارثة التي دُفعت بلدانا إليها، وما العمل لتجاوز هذا الواقع الأليم والمرير؟ وما هي بنية الدولة التي تستطيع معالجة الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتوحيد البلاد، وصون استقلالها ووحدة أراضيها؟
وتجد من يتساءل بمرارة، "ما جدوى البحث النظري، وما فائدة المحاضرات في أجواء تفاقم حياة معيشة المواطنين؟" ويتابع هواجسه كمن ألقي في نفسه: "وفروا لقمة معيشة، وحياة كريمة للنّاس قبل أن تنظّروا عليهم في مسألة بناء دولة المواطنة!"
إنّها مرارة مشروعة؛ إنّما هل الصمت يحسّن معيشة المواطنين؟ أم ينبغي لنا التفكير معاً وبصوت عال والبحث عن سبل معالجة هذا الواقع المرير؟ وما السبيل إلى ترجمة الأفكار إلى واقع؟
تعاني شعوب منطقتنا عموماً، وبلادنا خصوصاً، صراعات عميقة تعبّر عنها أزماتها السياسية والاقتصادية البنيوية، صراعات تأخذ أحياناً طابعاً مذهبياً وطائفياً، في ظلّ هيمنة بنى سياسية واقتصادية فاسدة تقف عائقاً أمام أي محاولة تهدف إلى تنمية وتقدم هذه الشعوب، التي تعاني انتشار الفقر، وتعمّق الفوارق الطبقية الحادة بين الفقراء والأغنياء، وتعميم الجهل والتخلف، واضطهاد المرأة وتردي وضعها، وانسداد الأفق أمام الشبّان وميل بعضهم إلى التطرف، وتوق أغلبهم إلى الهجرة بهدف امتلاك جنسية ثانية، ويضاف إلى ذلك خطر المشاريع الإقليمية الخارجية، المناوئة للتقدم، ولتطور مجتمعاتنا، مما يزيد من تفاقم الأزمة، وتعمق حالة الاغتراب الاجتماعي والسياسي، وفقدان الأمل، نظراً لعدم وضوح الرؤيا، وفقدان النّاس سيطرتهم على مصيرهم ومستقبلهم...
وقد أثبتت التجارب التاريخية أنّ انتشار تربة وحوامل الانغلاق الديني والمذهبي في أي بلد، وانحداره إلى درك الطائفية يفضي إلى التعصب، والاستبداد والتطرف، ويكلف ذلك البلد وشعبه أثماناً باهظة تودي به إلى الهاوية والدمار، ولا سيّما، إذا تصاعد الاحتقان الطائفي، وترافق مع الأزمات الاقتصادية والسياسية وهيمنة فكر متطرف وتنظيمات منغلقة رافضة للآخر، واستمرار الفشل في إيجاد أي حلول واقعية لمعالجة تلك الأزمات، إذ تتحول الأفكار ومساعي البحث عن حلول إلى شعارات مجردة ونظريات فارغة، ما يزيد من خطر تفتت المجتمعات، وتقسيم الدول...
وفي سياق البحث عن حلول لهذه الأزمات يرى كلّ تيار من تيارات المجتمع السياسية، أو الدينية أنّه يمتلك الحقيقة والحلّ، فثّمة من يراه في بناء الاشتراكية، وآخرون يرونه في بناء الدولة القومية، وآخرون يعلنون: الإسلام هو الحلّ، وثمّة من ينادي بإلغاء الآخر والقضاء عليه تماماً... غير أنّ تزايد هذه الدعوات لم يعالج الأزمات؛ فالأنظمة التي بُنيت على أسس ونماذج شمولية، ودينية، ونماذج الديكتاتورية الاشتراكية على اختلاف أشكالها، بما فيها ما يُعرف بالديمقراطية الشعبية الشمولية، ونماذج المليار الذهبي النيوليبرالية المتوحشة، فشلت جميعها في معالجة مشكلات مجتمعاتها... تالياً من الخطأ إعادة إنتاج هذه الأنظمة، وصدق من قال: لا تهدروا وقتكم وجهدكم في التفكير بـ"اختراع دراجة هوائية"، هذا ينطبق على المجتمعات البشرية، إذ جربت الحلول التي اقترحتها تلك الأنظمة ولم تتجاوز معاناتها... أجل، لقد وصلت نماذج الحكم التي تعدّ ثمرة من ثمار المرحلة الصناعية، والفكر التنويري في القرن التاسع عشر إلى نهايتها، ولم تعد تلبي متطلبات عصر المعلوماتية، وهذا يشمل أنظمة الحكم في أكثر الدول تباهياً بالديمقراطية كأوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية، فمن غير المنطقي في الألفية الثالثة الاستمرار بآلية حكم صيغت في القرن التاسع عشر تسمح، على سبيل المثال، لحزبين سياسيين تداول الحكم والانتظار كل أربع سنوات لانتخاب الشخص الأسوأ من بين شخصين اثنين سيئين كرئيس لأقوى دول العالم... أي إنّ الشعوب في عصر المعلوماتية ضاقت ذرعاً بآليات وأساليب الحكم القديمة... وفجّر ذلك حراكاً شعبياً في أكثر من منطقة في العالم، بما في ذلك منطقتنا... فالمجتمعات البشرية في حاجة كل فترة من تطورها (حوالي قرناً من الزمان) إلى صيغة جديدة من أساليب الحكم تتجاوز أساليب الحكم السابقة، وتلبي متطلبات التطور الاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي الذي بلغته البشرية... وتبقى مسألة البحث عن أسلوب الحكم المناسب في القرن الواحد والعشرين مفتوحة للنقاش، وتحتاج إلى النقد، والإغناء من قبل جميع المفكرين، والباحثين المهتمين بمستقبل الشعوب...
على هذا النحو يتضح، أيضاً، أنّ أزمتنا المحلية جزءٌ من أزمة عالمية، وهذا جلي حتى قبل أن تتدخل القوى العالمية مباشرة في الصراع على بلادنا، وزيادة تعقيد أزماتها وتفاقمها...
إنّما، هل ننتظر معالجة الأزمات الدولية حتى تعالج أزمتنا، وهل ننتظر نضج ما يسمى عملية تشكل الأقطاب الجديدة، التي ربّما تستغرق عقوداً، حتى نعالج أزماتنا؟ وماذا إذا كان البعض قد راهن على الجواد الخاطئ في هذه العملية؟
ويبقى الهاجس الرئيس هو: كيف نوقف الدمار، ويتغلب مجتمعنا على آفة الطائفية المهلكة، ويعالج أمراض الفقر والجهل، والفروقات الطبقية، وأزماته السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية؟ وما السبيل للخروج من هذا المأزق، وبلوغ سكة التنمية الشاملة؟ وأين يكمن الخلل، وهل يوجد حلّ؟
المجتمعات البشرية لا تعرف الفراغ في مسائل تدبير شؤونها، ولا سيّما، في مسألة أسس حكمها... علماً أنّ أي آلية أو صيغة حكم جديدة لا بدّ أن تستفيد من الصيغ السابقة لها لتأسس عليها، وتتجاوزها... وأهمها تلك الصيغ التي جاءت ثمرة صراع فكري وعملي حول أنظمة الحكم في العالم، وقد تركز بين مذهبين رئيسين:
- مذهب الحكم المطلق في الدولة الثيوقراطية: الذي يرى في الحاكم استمراراً لسلطة الله على الأرض... لقد سارت الدول الدينية، وتبعتها الحكومات الشيوعية، وتلك التي عُرفت بالديمقراطية الشعبية والتقدمية في القرن العشرين، ومن سار في فلكها على هذا النمط، على الرغم من تبنيها العلمانية(1) في دساتيرها، وكانت في أغلبها أشبه بالحكم الثيوقراطي المطلق تحكم باسم دين الاشتراكية، هذا ما أوصلها إلى طريق مسدود، وكذا صيغة الحكم الليبرالية المتوحشة، التي حولت رأس المال إلى صنم ومعبود، وأصبحت أيديولوجيتها أقرب إلى الديانة، كأنّها تسير على خطا الماكيافلية، مما زاد من تناقضها مع العلمانية، فأضرّ ذلك بالعلمانية تاريخياً...
- مذهب "العقد الاجتماعي": الذي يدعو إلى بناء الدول على أساس التعاقد بين الأفراد كجماعة، أو بينهم وبين الحكام... من محاسن العقد الاجتماعي أنّه يمكن تعديله، وتطويره بما ينسجم مع تطور الحياة، هذا يكسب السلطة في الدولة مرونة، تتجاوز تقديس الحاكم والدساتير، وتقبل كلّ ما هو جديد في الحياة يمكنها من معالجة التناقضات الاجتماعية كي لا تتحول إلى تناقضات تناحرية مدمرة...
ويُذكر أنّ أوروبا عرفت دولة العقد الاجتماعي العلمانية بعد صلح وستفاليا في سنة 1648 في نهاية حروب الثلاثين عاماً الدينية بين الكاثوليك والبروتستانت في أوروبا، إذ تأسست الدولة القومية علي أساس جغرافي سياسي قومي، وليس علي أساس ديني، وعُدّ الانتماء الوطني أساس الانتماء للدولة... وقد ترافق ذلك مع تطورات فكرية في أوروبا في القرن الــسابع عشر الميلادي، حينما ظهرت تيارات تنويرية وفلسفية على يد فلاسفة ومفكرين كبار أمثال جون لوك الذي حدد مهمة الدولة في إدارة وتدبير شؤون المجتمع علي نحو يحقق ويفي بحاجات الناس في كافة الأصعدة، وليس في خلاص النفوس وإعداد الناس لدخول الجنة... وقد مهدت هذه الفلسفة السياسية الجديدة التربة لتقبل العلمانية، ودعمتها أفكار هوبز، وروسو وغيرهم، وانتقلت النظرة إلى أسس الحكم في الدولة من أنّه تجل للإرادة والمشيئة الإلهية إلى أن مصدره الشعب ويقوم على عقد اجتماعي...
وتذكرنا حال المجتمعات العربية هذه بحالة المجتمعات الأوربية في القرن السابع عشر، التي وجدت في دولة المواطنة منقذاً لها ولشعوبها... وتُعد صيغة وآلية دولة المواطنة من أهم الصيغ المجربة التي تساعد المجتمعات البشرية في الخروج من أزماتها، من المفيد تطويرها لتنسجم مع متطلبات مجتمعنا ومتطلبات عصر المعلوماتية ومواجهة تحديات المستقبل...
فما هي مواصفات دولة المواطنة، وكيف يساعد بناؤها في معالجة أزمات مجتمعاتنا؟
دولة المواطنة دولة دستورية تداولية تحقق سيادة القانون والعدالة والمساواة في الحقوق والواجبات بين أفراد المجتمع بعيداً عن أي تمييز ديني، أو عرقي، أو سياسي، دولة توفر فضاء قانونياً من الحرية الفردية والعامة المسؤولة التي تسمح برصد أمراض المجتمع وتعريتها، ومعالجتها؛ دولة يسودها نظام يخدم الناس والأفراد، ويوفر لهم حياة كريمة "بلا ظلم ولا ظلامية"، ويحترم دياناتهم وأيديولوجياتهم وحقوقهم بصرف النظر عن انتماءاتهم... وتصبح مهمة الدولة "تدبير شؤون المجتمع علي نحو يحقق ويفي بحاجات الناس"، ويصون حريتهم وكرامتهم، وينظّم الحكم عقد اجتماعي ينتقل بموجبه نظام الحكم من المزرعة إلى الدولة، وينتقل الناس من مفهوم الرعايا إلى مواطنين، إذ إنّهم في الدول ما قبل دولة المواطنة يُعرفون بالــ رعايا، لهم راع هو الحاكم؛ يمثله "راعي الخراف"، هو من يقود، ومن يفكر، ومن يعاقب وليس للرعية سوي الامتثال والخضوع والطاعة، فلا حقوق لهم... وكلّ ما يرفلون فيه من نعم هي من بركات الراعي "الحاكم" وكرمه... أما في دولة المواطنة فيصبح جميع أبناء الوطن من حكام ومحكومين مواطنين لهم حقوقهم وعليهم واجباتهم...
وتُعدّ المادة 10 من إعلان حقوق الإنسان والمواطن لعام 1789 التي تنصّ على منع: "التعرض لأي شخص بسبب آرائه وأفكاره، بما في ذلك الدينية منها، شرط ألا يخل التعبير عنها بالنظام العام المحدد بالقانون"، هي أساس بناء دولة المواطنة في العصر الحديث.
فالمواطنة هي مسؤولية انتماء الفرد إلى وطن (بلد) ما برضاه، وما يترتب عن ذلك الانتماء من حقوق وواجبات، ويضمن حرية الفرد وكرامته في فضاء من المحبّة والتسامح وسمو إنسانية الإنسان...
والمواطنة لغةً: مصدر لفعل واطَن أيّ شارك في المسكن... أي إنّ مصطلح المواطنة هو اشتقاق من كلمة وطن؛ أي المكان الذي يقيم به الفرد ويستوطن به، ويعود أصل مصطلح المواطنة إلى الحضارة اليونانية القديمة وتعني المدينة، إذ كان سكان الحضارة اليونانية القديمة يشاركون في اتخاذ قرارات الدولة، وفي إدارتها.
وتعني المواطنة مشاركة الفرد بالتساوي والتكافؤ مع جميع أبناء وطنه في المجالات: السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، وفي تقرير مصيره الذاتي ومصير وطنه، مع إشباع حاجاته الأساسية، لكي يسهم بدوره في شؤون الصالح العام، بالتعاون مع أبناء شعبه في مؤسسات المجتمع الأهلية والمدنية والسياسية والرسمية لتحقيق غايات مشتركة جوهرها النهوض بالفرد والمجتمع في فضاء من التعاون والتقدم والعطاء. فالمواطنة مفهوم يعبّر عن حالة إنسانية في استيعاب الوطن جميع أبنائه، وصون حقوقهم، في فضاء المواطنة الجامعة القائمة على المساواة بين المواطنين بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينية، أو المذهبية، أو العرقية، أو الجنسية...
إذاً؛ لكي تتحقق المواطنة ينبغي أن تتحقق عناصرها الأساسية؛ وهي عناصر قانونية مدنية، وسياسية، واقتصادية اجتماعية وثقافية؛ تتجلى مدنياً في حرية الفرد وحماية حقوقه في الاعتقاد والإيمان، والثقافة والتعبير عن آرائه، وحقه في الاختلاف والمعارضة، وحقه في الملكية والعدالة أمام القضاء... أما سياسياً فتتجلى المواطنة في مشاركة الفرد في الحياة السياسية عبر المؤسسات الحزبية، والمؤسسات التشريعية المحلية، والبرلمانية والمشاركة في الانتخاب، وإدارة مؤسسات الحكم... وفي المجال الاجتماعي الاقتصادي تتحقق المواطنة عبر ممارسة الفرد حقوقه الاقتصادية كالرعاية الصحية والتعليم، والثقافة، والعمل، على سبيل المثال... وفي المقابل يؤدي المواطن كفرد في الدولة الواجبات الواردة في الدستور، والقوانين المعتمدة ...
وتُعرف درجة تحقق دولة المواطنة بمدى أداء الدولة والمواطن واجباتهما ونيل حقوقهما بمقياس الالتزام بمعايير المواطنة، ومنها:
- مقدرة الفرد على ممارسة الحياة السياسية والمدنية، التي تضمن حرية الإنسان في معتقداته، وأن يعبّر عن رأيه عبر وسائل إعلام متاحة للجميع، وحسن تنظيم العلاقة بين مختلف الهيئات الثقافية ودور العبادة، وحرية مشاركة الفرد والتنظيمات في التظاهر السلمي والتجمعات المصرح بها، وحريته في السفر والتنقل بكرامة، واهتمام مؤسسات الدولة والمجتمع المدني بالمبدعين في كل المجالات...
- التزام الدولة بتحقيق العدالة الاقتصادية والاجتماعية، والتضامن الاجتماعي، ومعالجة مسألة البطالة، والتكافل الاجتماعي، ومكافحة الفساد، وتحقيق تكافؤ الفرص بين جميع المواطنين، وتحقيق المساواة بين المرأة والرجل في نيل الحقوق وأداء الواجبات المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية جميعها، ورعاية الطفولة والاهتمام بالجيل الشاب، ودعم مبادرات العمل المؤسساتي والتطوعي الجماعي الأهلي والمدني، في مختلف المجالات، وتأمين السكن الصحي، وتطوير الريف والمدينة... وتوفير فضاء سليم لنشوء وتطور مؤسسات المجتمع الأهلي، والمدني، والسياسي، كي تصبح معيناً للسلطات التنفيذية والتشريعية في تنفيذ خططها التنموية...
- يساعد تحقيق المواطنة في تكوين شخصية الفرد وتنميتها. ثمة ارتباط متبادل بين مفهومي الوطنية والمواطنة، فالوطنية هي ظاهرة إنسانية تعكس حالة نفسية اجتماعية يعبر الفرد والجماعة عبرها عن محبّتهم لوطنهم أرضاً وشعباً، والسعي إلى خدمة مصالحه؛ علماً أن أساس هذه المحبّة ينبع من شعور الفرد بأنه مشارك في الجماعة الوطنية، وفي الدولة وحصوله على حريته وحقوقه الكريمة وأدائه واجباته. وبعبارة أخرى: الوطنية والمواطنة وجهان متبادلان للتعبير عن الارتباط الحرّ بالجماعة الوطنية...
أما الواجبات المرتبطة بالمواطنة فتشمل مجموعة من المهام نذكر منها ما يلي:
- شعور الأفراد والجماعات الدائم بالولاء للوطن والفخر والاعتزاز به بالانتماء إليه...
- مشاركة الـأفراد والجماعات في مختلف النشاطات والفعاليات الوطنية، والسعي المستمر لتعزيز الالفة والمحبّة في المجتمع لتوحيد أبناء المجتمع في الدولة من مختلف الأعراق والانتماءات.
- مساهمة الأفراد والجماعات في المشاريع المدنية، والخدمات الاجتماعية، وتعزيز روح التضامن الاجتماعي...
- صيانة وحدة واستقلال الدولة والدفاع عنها عبر جيش وطني واحد موحد، تتساوى فرص أبناء الوطن في الانتماء إليه...
في سمات دولة المواطنة، وشروط تحقيق مبادئها
إنّ تحقيق المواطنة مقياس مدى نضج بناء الدولة المتحضرة، ويتجلى ذلك فيما يلي:
- مشاركة المواطنين في بناء الدولة وتكافؤ الفرص والمساواة أمام القانون وتتفتح الطاقات الإبداعية دليل على تقدم الدولة وتحضرها، كما أن تقدم الدولة وامتلاكها ثقافة متحضرة يرتبط بتعزيز مفهوم الديمقراطية ومفاهيم الواجبات والحقوق، ونشر المساواة والعدالة، وتمتين أواصر الترابط والوحدة بين أفراد الوطن مهما اختلفت انتماءاتهم ومعتقداتهم، أما غياب تلك الميزات، وحرمان شرائح واسعة من المواطنين من حقوقهم واحتكارها من قبل شريحة محددة، فهو دليل على انتشار الاستبداد وحكم القلة، وازدياد مخاطر النزاعات والصراعات التناحرية التي تهدد مستقبل هذا المجتمع ودولته... أي إنّ العلاقة بين المواطنة وتطور الدول هي علاقة عضوية متبادلة...
إنّ أحد أهم شروط تحقيق المواطنة هو تطبيق المبادئ والأسس الديموقراطية في الحكم وتحقيق مبدأ: "الشعب هو مصدر السلطات"، وتطبيق مبدأ المساواة السياسية والقانونية بين المواطنين، وهذا يتطلب الارتقاء بالوعي الفردي والاجتماعي، وتوفير المعلومة والثقافة والمعرفة للجميع... المعرفة هي أهم ركائز تحمل المسؤولية، كما تعزز مقدرة المواطن في المشاركة في إدارة شؤون الحياة الاجتماعية والسياسية.
- اعتماد دستور بمنزلة عقد اجتماعي يضع المواطنة أساساً في العلاقة بين الفرد والدولة وأن ينصّ على ضمان تحقيق المساواة السياسية والقانونية لجميع المواطنين في الحصول على حقوقهم وأداء واجباتهم... أن يتضمن دستور البلاد مواداً في: تعريف نظام الحكم الديمقراطي التعددي التداولي، يسمح بتشكل حكومة ائتلافية وتكنوقراطية يراعى فيها تمثيل جميع الأحزاب والمكونات السياسية والعرقية في البلاد مهما اختلفت نسبة تمثيلها في البرلمان... وأن يحقق نظام الحكم الفصل بين السلطات والتوازن بينها، وتحديد مدة إشغال أي مسؤولية في وحدات الإدارة المحلية، أو المنظمات الشعبية والثقافية، أو البرلمانية، أو رئاسة البلاد بولايتين انتخابيتين فقط مدة الواحدة منهما خمس سنوات، وفق قانون انتخاب تحدد فيه العتبة الدنيا لدخول البرلمان بثلاثة بالمئة، والعليا تسع وأربعين بالمئة، على أن توزع النسبة التي تزيد عن تسع وأربعين على الأحزاب السياسية المشاركة في الانتخابات حسب نسبة فوز كل منها حتى لا يطغى أي حز سياسي على الأغلبية المطلقة في البرلمان... كما ينبغي الاستفادة من الفضاء الالكتروني الذي خلقته ثورة المعلوماتية واستثماره على نحو صحيح في صالح المواطنين ولمراقبة سلوك المسؤولين في مؤسسات الدولة، بما في ذلك وجود قاعدة بيانات وطنية، وثقافية وإعلامية، ووجود برلمان إلكتروني وطني مفتوح، لمراقبة السلطات الحاكمة في مختلف مستوياتها لتحسين أحوال المواطنين، ورصد الثغرات في عمل الحكومة ومؤسسات الدولة...
- تطوير الفضاء السياسي في المجتمع السياسي في الدولة، الدي يتكون من جميع التيارات والأحزاب السياسية، التي تتشكل بدورها من موطنين متساويي الحقوق والواجبات، تالياً لا فضل لتيار أو لحزب على آخر، ولا مجال لإلغاء أي تيار أو حزب من قبل حزب آخر، يفترض أن تكون برامج هذه الأحزاب، وناظم العلاقة بينها مبني على صالح المواطن والمجتمع والدولة، ومن غير المقبول أن تقوم أيديولوجيتها على العنف والتطرف والكراهية، بل تقوم على الحق والقانون، والتسامح والمحبّة، وتصبح إحدى مهام الدولة تطبيق القانون بالتساوي على الجميع، وعلى الحاكم والمحكوم، وتنظيم المحبّة والتسامح، والعدالة والحرية ونشرها في المجتمع، بدلاً من الخصام والكراهية لتصبح دولة المستقبل هي دولة المحبّة والتسامح والحرية والعدالة والقانون... ومن أجل تحقيق فضاء المحبّة والتسامح في المجتمع ثمّة أسس ومعايير ينبغي وضعها وتحقيقها، أساسها مرونة البنيان السياسي وأسسه الدستورية والقانونية والنظرية، لكي يستوعب متطلبات التغير المستمر في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وتحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية، ونشر الثقافة الإنسانية في المحبّة والتسامح والحرية، ثقافة تنويرية متحضرة تسمو بوعي الإنسان وحريته وكرامته... ويفترض من كل تيار أو حزب سياسي في المجتمع أن يخاطب منافسيه بلغة المحبّة وثقافة التسامح لا الكراهية: "نحن نحبّكم وننتظر المحبّة من طرفكم"، والبحث عن نقاط التلاقي لا الخصام، ولا الافتراق... فأعضاء التنظيمات السياسية السلمية والمواطنون الأحرار جميعاً هم أبناء المجتمع وسيبنون الدولة معاً، ومن غير المقبول تكفير أو إلغاء أي فريق فريقاً آخر، أو منحه مزيات خاصة كمزية الحزب القائد الشمولية، على سبيل المثال، أو تسمية منظمات شعبية وحكومية باسم حزب أو تيار أو دين ما، وغير ذلك من احتكار المزيات، الذي تتنافى مع أسس بناء دولة المواطنة... وينبغي الانطلاق من مبدأ: خسارة أي مواطن هي خسارة للدولة، إذ لا يمكن لأي دولة أن تستورد مواطنين من الفضاء...
- لمّا كان المواطن هو العنصر الأساسي في بناء الدولة؛ فينبغي أن تظلّ الفائدة المرجوة من التقدم العلمي، والزراعي، والصناعي والعمراني هي أن يتمتع المواطن بثمارها، لأنّه هو المنتج الحقيقي لها، وتنتفي في دولة المواطنة الطرق الملتوية لاحتكار القطاعات الاقتصادية، أو استغلال الموقع الوظيفي لتحويل مؤسسات أو شركات الدولة إلى ملكية خاصة، أو بقرة حلوب لفئة من المسؤولين، فضلاً عن أنّ تلبية حاجات الإنسان الأساسية كالغذاء، والمسكن، والتعليم، والطبابة هي من أهم مقومات المواطنة، وغيابها يفقد المواطنة قيمتها الجوهرية، إذاً ينبغي للدولة أن تهتم بتلبية احتياجات الفرد الاقتصادية وتنشئته علمياً، واجتماعياً، وصحياً، وثقافياً، وسياسياً في مختلف مؤسسات المجتمع الأهلية والمدنية، وأن تؤدي الدولة واجبها في بناء وتمويل ورعاية تلك المؤسسات في مختلف المجالات، كي يستطيع المواطن بالمقابل أن يؤدي واجباته...
ما أوجه الاختلاف بين دولة المواطنة والدولة ما قبل المواطنة؟
تتصف الدولة ما قبل المواطنة، التي عُرفت بالدولة الدينية باضطهاد الأغلبية الدينية أو الحزبية المهيمنة فيها للأقليات الأخرى، وقد تجلى ذلك، على سبيل المثال، في اضطهاد الكاثوليك للبروتستانت في فرنسا، واضطهاد البروتستانت للكاثوليك في إنكلترا... واضطهاد اتباع المذهب الغالب في الدول الإسلامية إلى أتباع المذاهب والديانات الأخرى، ومنح مزيات تمييزية لأتباع الحزب الحاكم (القائد) في الدول الاشتراكية، والديموقراطية الشعبية السابقة عن سائر المواطنين، ويختل في هذه الدول مبدأ حيادية الدولة تجاه انتماءات مواطنيها العرقية والحزبية والأيديولوجية والدينية... هذا هو حال الدولة والسلطات الدينية والحزبية والشمولية على مرّ التاريخ... إذ مارس علم اللاهوت وقادة الأحزاب الشمولية وظيفة التكفير؛ فكفرت بعض الأحزاب القومية، والدينية، والشيوعية والاشتراكية، ولا سيّما الحاكمة، بعضها بعضاً، وحرمت معارضيها من حقوقهم، مثلما كفّرت المذاهب المسيحية بعضها بعضاً، وكُّفر غاليلو، وقتل كثرٌ من العلماء، وكذلك فعلت فرق إسلامية، فكُفّر ابن رشد، وقُتل الحلاج، وعانى كثر المصير نفسه بتأييد من الحكّام... وهذه أحد أسباب دعوة كثير من الفلاسفة والمفكرين إلى بناء دولة المواطنة، علماً أنّ مفهوم المواطنة يرتبط بالدولة المتحضرة من جهة وبالديمقراطية من جهة ثانية، وهما ترتبطان بمنهج حكم اتفق على تسميته بالعلمانية...
ونظراً لوجود توجس لدي كثيرين من مصطلح العلمانية، فمن المفيد التأكيد على عدم تقديس المصطلحات وعدم إخضاعها للأهواء السياسية؛ فالعلمانية مصطلح قديم، وقد تطور خلال قرون من تاريخ المجتمعات البشرية، وهو ليس مصطلحاً جامداً أو مقدساً، ينبغي تطويره باستمرار لينسجم مع متطلبات تطور المجتمعات على أسس حضارية معاصرة، ولتجاوز ما هو مترسخ في أذهان كثيرين من معنى رافض للدين ومؤسساته؛ فالعلمانية تقرّ بأهمية وجود الدين في تاريخ المجتمعات البشرية، وموقفها محايد بالنسبة إلى الدين وليست رافضة له، بل إنّ العلمانية تحمي الدين، كما تحمي مختلف المعتقدات الفكرية والروحية في المجتمع... هذا يستدعي العمل باستمرار لتوضيح ذلك، كيلا تتحول العلمانية إلى دين جديد، أو إلى نزعة دوغمائية كنزعة اليمين المتطرف والنزعات الدينية والقومية الشوفينية والاشتراكية الجامدة، التي تشبه الأصوليات الدينية والعقائدية المغلقة... علماً أنّ التطرف في العلمانية تعبير عن فشلها في تأدية دورها الاجتماعي والمعرفي، ويكبل الممارسة الديمقراطية، وينفيها لأنّ العلمانية والديمقراطية متلازمتان لتنظيم الصراعات والاختلافات في المجتمع وفق آليات التشارك، والانتخاب والتعبير السلمي، بين الأطراف المتباينة في مناهجها واعتقاداتها، وتوفير البيئة المناسبة لبناء الإنسان قيمياً ومعرفياً، ومعالجة مسألة تغييب عقول الرعايا وتحرير عقول المواطنين من طغيان منهج التفكير بإيحاء من السُلطات المهيمنة في المجتمع، وبعقولها وتوجيهاتها... ونشر ثقافة: "وجادلهم بالتي هي أحسن" السمحاء.
يروجون لمفهوم الدولة المدنية كشكل من أشكال الردة على الدولة العلمانية
ثمة رهاب شائع من المصطلحات عموماً، ولا سيّما من مصطلح العلمانية؛ إذ يستبدل مفهوم "المجتمع المدني"، بـ"المجتمع الأهلي"، و"الدولة العلمانية" بـ"الدولة المدنية"؛ فما سرّ هذا الخوف؟
ومن اللافت للانتباه الآراء المعادية للعلمانية والداعية إلى إسقاطها، التي تدغدغ المشاعر الدينية كالقول: "إن العلمانية "كفر وشرك" (طريق الدعوة – أحمد فائز – ص 107)... وليس لحكامها (العملاء) أدنى حق في السمع والطاعة من الأمة... وليكون هذا (الفرقان) بين الإسلام والعلمانية هو نقطة البدء في إسقاط العلمانية وقطع الطريق على عودتها في المستقبل"(*). وتترافق تلك الدعوات مع الترويج لمفهوم الدولة المدنية.
يجدر التنويه إلى وجود غايات من استخدام مصطلح الدولة المدنية الفضفاض، بدلاً من العلمانية، إذ تجد تيارات الدين السياسي في هذا المصطلح تبريراً لحكم الأحزاب الدينية، كالأحزاب المسيحية في أوروبا، أو الإسلامية في الشرق، أو إلزام الدولة باعتماد وتطبيق مبادئ وشرائع دين محدد، خلافاً لجوهر موقف دولة المواطنة المحايد في علاقتها بكل الأديان، ومع مبدأ حرية العقيدة... فضلاً عن أنّ هذا المصطلح يسمح بانتصار التطرف الديني والسياسي، ووصول الحركات التي تمثله إلى الحكم باستغلال شعبية طارئة، وركوب قطار الديمقراطية إلى محطة واحدة هي محطة الحكم، أي حكم تلك الحركات الأبدي في انتخابات (ديمقراطية) مرة وإلى الأبد، ما يشيع الخوف لدى شرائح ونخب عديدة من فكرة الديمقراطية ذاتها، ويقدم ذريعة للحكومات الاستبدادية للتشبث بسلطتها باستغلال فزاعة حكم القوى المتطرفة دينياً، أو وسياسياً الأشد استبداداً... فيتعمق المأزق الداخلي، وتُلغى مهمة الدولة في تنظيم العلاقات بين السلطات المختلفة، وبين الحاكم والمحكوم، ويهدد عملية التماسك الشعبي والاجتماعي من خطر الانقسامات والنزاعات العرقية والطائفية الأهلية... وقد اثبتت تجارب الشعوب أنّ بناء دولة المواطنة هو السبيل السليم والفعّال، الذي يسهم في معالجة مشكلات المجتمع ونقله إلى سكة التقدم والازدهار الحضاري...
علماً أنّ التمعن موضوعياً في مسيرة التطور التاريخي للدولة العربية الإسلامية الأولى يُظهر أنّ: مفهومي العلمانية ودولة المواطنة ليسا غريبين عن الإسلام
العلمانية (الدنيوية) منجز إنساني عام، إنّها ليست معاديةً للدين، ولا مرادفة للإلحاد، وفي هذا السياق من المفيد التمعن في المسائل التالية:
- هل قارب يسوع المسيح مسألة الخطيئة مقاربة دنيوية لمّا قال «من منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر»؟
- هل قارب الرسول العربي محمد بن عبد الله المسائل الاقتصادية الزراعية مقاربة دنيوية لمّا قال لأهل المدينة "أنتم أدرى بشؤون دنياكم"؟
- هل قارب على بن أبي طالب مسألة التربية مقاربة دنيوية لمّا قال: "لا تربوا أبناءكم كما رباكم آباؤكم، فإنّهم خلقوا لزمان غير زمانكم"؟
- هل قارب عمر بن الخطاب مسألة بناء الدولة مقاربة دنيوية لمّا قال "دون الدواوين"؟
ألا تدل هذه الأمثلة أنّ العلمانية لا تتناقض مع الدين، ولا مع موروثنا الفكري النبيل المتحضر، بل هي أحد سبل خروجنا من أزماتنا؟
لقد استطاع العرب المسلمون إقامة دولة، ونشر فكر وعلم استفادت منه البشرية، بفضل اعتمادهم على السنن الدنيوية في بناء دولتهم على أسس أقرب إلى الدنيوية العقلانية، وأبعد عن الغيبية، فتطورت نزعات فلسفية تقارب العقلانية، وأكد بعض المفكرين كالمعري أن "لا إمام سوى العقل..."، كما حضّ ابن رشد على إعمال العقل، كلّ ذلك يدل على أن للعقلانية، وللدنيوية (العلمانية) جذور في الفكر العربي الإسلامي، فهي ليست غريبة عن مجتمعاتنا، ولا عن شعوبنا، ولا عن فكرنا... لولا تلك النزعات العلمية، وبعض الأسس التي استندت على مقومات دنيوية (عَلمانية) لم يستطع العرب المسلمون بناء دولة يصل إشعاعها إلى أوربا والصين...
يرى كثير من الباحثين أنّ دولة المدينة المنورة هي أنموذج الدولة العربية الأولى التي تأسست على دستور مكتوب اعترف بحقوق المواطنة لجميع المكونات الدينية والعرقية للسكان باعتبارهم" أمة من دون الناس" حسب تعبير دستور المدينة المعروف باسم "الصحيفة" (سيرة ابن هشام) إذ نصت على أنّ "اليهود أمة والمسلمين أمة" (أي أمة العقيدة، وأمة السياسة أو المواطنة)، أي شركاء في نظام سياسي واحد يخولهم حقوقاً متساوية حسب التعبير الحديث، وهذا يتناقض مع عقيدة تيارات الإسلام السياسي التي تعدّ: "جنسية المؤمن عقيدته"، فالجنسية تتحقق بإقامة الفرد في دولة محددة، وليس بعقيدته.
- يحتل الإنسان قيمة ومنزلة مركزية سامية في بنية الدين الإسلامي، الذي يعدّ البشرية تنحدر من أسرة واحدة، وأن: "من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً" (المائدة-32) ، تالياً ينبغي أن يكون المسلمون أول من يهتم ويسعد بميثاق حقوق الإنسان.
- لقد عرف المسلمون مفهوم أهل الذمة ومفهوم الجزية اللذين ألقيا ظلالاً من التمييز السلبي على قسم من مواطني الدولة غير المسلمين، ومع تطور الحياة أضحى مفيداً وضرورياً بناء الدولة على مبادئ التسامح، المعروفة في الحضارة العربية والإسلامية ومنها مبدأ: "لا إكراه في الدين" (البقرة-256)، ومبدأ "لكم دينكم ولي دين" (الكافرون-6)، ومن المفضل للإسلام وللمسلمين استبدال مفهومي أهل الذمة والجزية بمفهوم المواطنة، الذي يحقق المبدأ الإسلامي في المساواة بين المواطنين، وذلك على قاعدة "لهم ما لنا وعليهم ما علينا"... ولمّا كانت المساهمة في بناء الوطن والدفاع عنه وأداء الخدمة العسكرية الإلزامية جزءاً من واجبات المواطن بصرف النظر عن دينه، فلقد تجاوز الزمن والمجتمع تلك المفاهيم، وأصبح ضرورياً اعتماد مبادئ مشتركة للحقوق والواجبات بين المواطنين جميعهم...
- حينما قال الخليفة العادل "دونوا الدواوين" اقتباساً عن فارس، فإنّه أراد أن يؤسس لتقليد اقتباس التجارب الناجحة والنافعة من الآخر، في فضاء التأثر والتأثير بين الحضارات...
إذاً، مفهوم ومبدأ المواطنة، أيضاً، ليس مبدأ غريباً عن الإسلام، ولا عن ثقافة شعوب المنطقة قبل الإسلام، وشعوبنا قادرة على الاستفادة من موروثها وتطويره لتأصيل فكرة المواطنة والديمقراطية والمجتمع المدني، وهذا في صالح تطور وتقدم شعوب المنطقة وانسجام دولها مع متطلبات التطور والتقدم الحضاري...
أين نحن من دولة المواطنة؟
ألم يحن أوان تحكيم صوت العقل؟!
لقد وصل مجتمعنا مفترق طرق يتطلب تعزيز الوعي الوطني الفردي والجمعي من أجل الوقوف في وجه الطائفية والتعصب، والمشاركة في بناء دولة المواطنة، التي تخلق المناخ المناسب لإيجاد الحلول لمختلف التحديات والأزمات التي تواجه المجتمع، لوقف هذا التفقير والتصحر والانحطاط والتشظي وما يحمله من خطر محدق على مصير البلاد ومواطنيها؛ فما العمل لتحقيق هذه الأهداف؟
إنّ الحال التي تمرّ بها بلادنا حال استثنائية جداً، إذ إنّ الأحداث التي عصفت بها نتيجة الأزمات والتناقضات الداخلية المتراكمة في المجتمع طوال عقود خلت، والمترافقة مع مشاريع إقليمية تسعى للنيل منها، وعدم معالجة تلك التناقضات والأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسة الداخلية، مهدّت السبيل لتدخلات خارجية رسمت الواقع المرير الذي تعانيه البلاد وغالبية الشعب... وينبغي لمن يريد أن يبحث عن الحلول أن يوصّف واقع الحال بموضوعية، إذ ثمّة عوامل وعناصر تهدد وجود الدولة، فما بالك بمسألة بناء دولة المواطنة، يمكن تلخيص ملامحها على النحو التالي:
- يُلاحظ انسداد آفاق معالجة ما آل إليه تطور الأحداث وصولاً إلى كارثة وطنية بدءاً من المستوى الاستراتيجي العام لتعثر الحلّ السياسي، الذي يضمن وحدة البلاد ويصون استقلالها، وحتى أبسط مسائل الحياة المعيشية اليومية للمواطنين، وتفاقم المعاناة، في فضاء نوع من الديمقراطية الشكلية المترافقة مع هيمنة وتناغم عدد من المسؤولين مع رأس المال الفاسد... وتزايد الأحكام التي تحد من الحريات، إذ تصل حالة الرهاب إلى خوف من يضع Like على منشور إلكتروني أن يتعرض للمساءلة... وهذا يحمي قوى الفساد، ويتسبب في انكفاء أغلب المواطنين، ولا سيّما، الشبّان عن الاهتمام بالشأن العام، وعن المشاركة في الحياة السياسية، ووضع الهجرة والحصول على جنسية ثانية هدفاً لهم بدلاً من هدف بناء الوطن...
- معاناة ملايين النازحين والمهجرين واللاجئين الذين يفتقدون إلى رعاية دولة المواطنة، وتستدعي عودتهم إلى البلاد ومعالجة أوضاعهم في دولة المواطنة حلّاً سياسياً وبنية اقتصادية سليمة...
- هناك مناطق واسعة من البلاد تحت احتلال جيوش أجنبية، وهناك مجموعات مسلحة متنوعة تعارض بناء دولة المواطنة... وتتطلب وحدة أراضي البلاد وخروج الجيوش الأجنبية والمجموعات المسلحة منها حلاً سياسياً للأزمة التي أفرزتها كي يتوافر المناخ الملائم لبناء دولة المواطنة...
- الحصار الاقتصادي يرهق البلاد والشعب، ويترافق مع طغيان الفساد، ويمنع أي دورة اقتصادية طبيعية أو تنمية سليمة تعالج مسائل الغلاء والفقر وتدني الأجور وتلبية احتياجات المواطنين كأحد مبادئ دولة المواطنة، وترتبط معالجة هذه المسائل، وإعادة الإعمار أيضاً بالحل السياسي للأزمة...
- تقهقر في كافة المجلات، في ظلّ وضع عام لا معقول، واقتصاد يتخبط خارج قوانين الاقتصاد مع انتشار الغلاء والفساد واللامسؤولية وغياب المحاسبة؛ ما يزيد من غربة الفرد ويضعف إحساسه بالمواطنة، ويدفعه إلى الانسحاب من تأدية واجباته، والعكوف عن المشاركة الفعالة على كافة الأصعدة، مادام لا ينال حقوقه، ويصل الأمر إلى الهجرة والبحث عن جنسية مواطنة جديدة، ما يؤثر في بنية دولة المواطنة ومستقبلها...
ولمّا كانت معالجة المسائل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المعقدة أعلاه تتطلب حلاً سياسياً للأزمة السورية، وفق أسس الشرعية الدولية، أي وفق القرار الأممي 2254، كي تسهم الأمم المتحدة في معالجة هذه الأزمة، والقضاء على الفقر والجهل ومختلف الأمراض الاجتماعية، والانتقال إلى بناء دولة المواطنة الجامعة لجميع أبناء الشعب بمختلف انتماءاتهم الدينية والمذهبية والقومية، فيمكن عدّ الحلّ السياسي، ونيل جميع المواطنين بمن فيهم الأخوة الأكراد وأبناء جميع القوميات حقوقهم الدستورية، مهمة وطنية وإنسانية يسهم التأخير في اعتماد هذا الحل السياسي إلى تفاقم تلك الأزمات، وزيادة إفقار، ومعاناة أبناء الشعب وسحقهم، وفرض واقع جديد يهدد مستقبل دولة المواطنة، ومن يتاجر بالحل السياسي لمعالجة هذه لأزمة، ويعرقله لا يهمه مصير الشعب السوري، وثمّة مخاطر من انتظار الدول الأجنبية كي تعالج أزماتنا، ويبقى السؤال: ما السبيل لكي ينتقل زمام المبادرة إلى الشعب المسؤول عن معالجة أزماته ومشكلاته، وبناء دولة المواطنة... أما الانتظار فيزيد من تفاقم الأوضاع وتعفنها... وفي نهاية المطاف سيقول التاريخ كلمته...
لماذا دولة المواطنة وما هي مشكلات تطبيقها؟
لقد أصبح واضحاً أنّ دولة المواطنة تحقق المساواة في الحقوق والواجبات بين أفراد المجتمع، وتوفر فضاء قانونياً للحرية الفردية والعامة المسؤولة التي تسمح برصد أمراض المجتمع وتعريتها، واتباع أفضل السبل لمعالجتها؛ وثمّة شواهد في تاريخ بلادنا تبين دور وسائل اعلام والشخصيات التنظيمات السياسية الوطنية في نشر الفكر التنويري ومحاربة ظواهر الفساد والتخلف، ولا سيّما في مرحلة ازدهار التجربة الوطنية في أواسط القرن الماضي، وأفضال النظرة الوطنية في التعامل مع المسائل الملحة: لقد حفّز شعار «الدين لله، والوطن للجميع» (العلماني) الذي رفعه سلطان باشا الأطرش قائد الثورة السورية الكبرى في العام 1925، مناضلي الوطن، ومختلف قياداتها من مختلف الأديان، والطوائف، والمذاهب، ومن مختلف المناطق إلى التوحد، وخاضوا معاً معارك وطنية تحررية ضد الاحتلال الفرنسي...
وشهدت سوريا تجارب كثيرة أثبتت أنّ حرية وسائل الإعلام الوطني خير وسيلة لمواجهة قوى التخلف والفساد، ومعالجة المشكلات الاجتماعية؟ إليكم هذه الأمثلة:
حين فشلت قائمة بركات – شعباني للمتدينين في الانتخابات التي جرت في حلب في اربعينيات القرن العشرين، راحت صحيفة (جريدة) التي يصدرها الشعباني ويحرر بها عدد من رجال الدين، بإيعاز من مديرية الأوقاف بالهجوم على الاتجاه الوطني الذي يمثله إبراهيم هنانو ورفاقه واصمة إياهم بالإلحاد، وبأنهم دعاة للسفور والإباحية.. وردت كتلة هنانو عليهم عبر الصحافة الحرة والرأي العام، ما زاد من مكانة هنانو في قلوب أبناء الشعب والتفافه حوله في النضال ضد الرجعية والاحتلال...(2)
طبعاً، لا يكفي استحضار تجارب الماضي، ومن غير المنطقي الحديث عن بناء أي دولة من دون حلّ سياسي للأزمات المستعصية، فالبنية السياسية السليمة هي المحرك الرئيس لمختلف القضايا الاقتصادية والاجتماعية، ولن يصل أي مقترح إلى مبتغاه من دون وجود بنية سياسية سليمة تلبي متطلبات العصر، ومن دون استقرار وعلاقات داخلية سليمة بين مكونات المجتمع من مختلف الانتماءات، وعلاقات خارجية متوازنة مع دول العالم... حينما تتحقق هذه الظروف يشكل بناء دولة المواطنة العلمانية القائمة على تكافؤ الفرص والمساواة في الحقوق والواجبات قاسماً مشتركاً بين مختلف فئات الشعب يجمعهم في وطن واحد...
- في دولة المواطنة يرتقي وعي المواطن والحاكم معاً، فلا يعود الحاكم أو المدير يرضى أن يظلّ "راعي خراف"، بل يرتقي في تفكيره إلى أنه مواطن أيضاً، وسيعود مواطناً عادياً بعد فترة من الحكم... وتغتني حياة المجتمع وترتقي ثقافة المواطنين بمن فيهم الحكام والمديرين والمسؤولين إلى حالة يقتنعون فيها بوجود مهن أخرى مناسبة لهم أيضاً تبزّ ممارسة الإدارة والسلطة والحكم...
- ارتبط نشوء دولة المواطنة بمفهوم العلمانية وتطبيق أسس الديمقراطية، لا نستطيع القول إنّ مشروع دولة المواطنة استقر واستتبت الأمور لتطبيقه، ولا يمكن تجاهل المعارضة والمقاومة الشديدة التي يتلقاها من قبل قوى وشرائح مختلفة، ولا سيّما، محاربة فضائه العلماني... إذ تجد حكومات في الألفية الثالثة تمنع تشكيل جمعيات علمانية منها، على سبيل المثال، رفض وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل بدمشق طلب شهر "الجمعية السورية العلمانية" بقرارها رقم /646/ تاريخ 7/2/2020.
- تعاني مسألة بناء دولة المواطنة وفكرتها تراجعاً بسبب صعود التيارات والمذاهب الفكرية الغيبية المنغلقة على ذاتها والمستترة بالدين، والترويج للفكر الطائفي والمذهبي المنغلق...
ومن اللافت للانتباه الانتشار الواسع لوسائل الإعلام والقنوات الإعلامية التي تروج للفكر الديني، والغيبي، والسحر والشعوذة، وندرة القنوات والوسائل التي تنشر فكرة المواطنة، والفكر العلماني، ويقودنا إلى السؤال عن مصادر مراكز تمويل تلك الوسائل والقنوات، وهل ثمّة دور لبعض الدول المتشبثة بفكرة بناء الدولة الدينية كدولة إسرائيل اليهودية، وغيرها في تمويل ونشر ذلك الفكر لتبرير مشروعها؟! وهل يمكن التأثير في رؤية ممولي تلك الوسائل والقنوات وتبيان أخطار بناء الدول على أسس دينية تمييزية، ودورها في خلق التطرف والإرهاب، تالياً سينعكس ذلك سلباً على الجميع وعلى أبنائهم وأحفادهم...
- إنّ مجرد إعلان تبني مبدأ المواطنة والعلمانية في دساتير الدول لا يعني أنّها تجاوزت مشكلاتها وأزماتها، فكثيرة هي الدول التي تتبنى مبادئ المواطنة والعلمانية في دساتيرها، في أفريقيا وغيرها، على سبيل المثال، استمرت تعاني الأزمات السياسية والاقتصادية والفساد وتعثر التنمية، وقد اثبتت التجارب أنّ المواطنة تواجه أزمة حينما تتخلى الدولة عن تأدية واجباتها والتزاماتها...
- لا تتحقق قيم المواطنة في دفعة واحدة، إذ لم تُحقق دولة المواطنة المساواة في الحقوق ولا سيّما مع انتشار حالات التباين في الثروة والجنس وأحياناً العرق والقومية، فلقد ظلّ رأس المال يتدخل في الانتخابات، ولم تنل المرأة حق الانتخاب إلا في مرحلة متأخرة.
- اقترفت بعض الدول التي تبنت مبادئ المواطنة والعلمانية في دساتيرها الاضطهاد في حق شعوبها، وشعوب الدول الأخرى، كما فعلت النازية والفاشية وعدد من الحكومات الشيوعية، ولم ينل السود في الولايات المتحدة حقوق المواطنة حتى ستينيات القرن العشرين... وقامت في الغرب والشرق حكومات ديمقراطية على أساس المواطنة ولم تتبنى العلمانية في دساتيرها، بل تتبنى دينا رسمياً مثل انكلترا حيث تجتمع في رئاسة الدولة السلطتان الدينية والسياسية...
- ينبغي ألا تدفع حرية التعليم إلى تجاهل مخاطر وجود تعليم ذي طابع ديني أو فكري أو شوفيني متطرف منغلق يدعو إلى الكراهية وسوء التعامل مع الآخر ويشمل ذلك استخدام أو ارتداء الرموز الدينية التي تكتسي طابعاً بارزاً يفاقم مخاطر الانغلاق ويسيء إلى الآخر...
ويبين ذلك أنّ الإنسانية في حاجة ماسة إلى مفكرين تنويريين جدد وابتكار أساليب حكم جديدة تلبي متطلبات عصر المعلوماتية والذكاء الاصطناعي... وإنشاء تحالف عالمي لإدخال قيم وثقافة المواطنة الإنسانية والعلمانية في شرعة الأمم المتحدة، مثلها مثل حقوق الإنسان...
إنّ بناء دولة المواطنة مهمة وطنية من الدرجة الأولى، ولا سيّما في عصر المعلوماتية، علماً أنّ الشبّان في عصر الانترنت والمعلوماتية لن ينتظروا الكهول حتى يبنوا لهم دولة المواطنة، وسيفرض هذا العصر وأدواته الجديدة قيمه وثقافته التي تميزها الحرية والتغيير وعدم احتكار المعرفة والفكر والمعلومات، أو تقييد مبتكريها... وسيسارع أولئك الشبّان إلى الاستفادة من منجزات الثورة المعلوماتية ويبنون دولهم الافتراضية، ويتواصلون مع شبان العالم اجمع، ولن يكترثوا بحكوماتهم التي تدفعهم في هذا لاتجاه، إن لم تنشئ مؤسسات وطنية تجذبهم وتلبي طموحاتهم... فهلا استمعنا إلى رجاء وطموحات أبنائنا وأحفادنا قبل فوات الأوان...
هل يأتي يوم يقتنع فيه الكهول، أنّ تصالحهم مع طموحات أحفادهم، يصالحهم مع الحياة!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - ‎ بحث قيم وفائدة لمجتمعاتنا
د. لبيب سلطان ( 2023 / 7 / 27 - 07:39 )
لاستاذ المحترم شاهر احمد نصر
تحية طيبة وشكرا على هذه المحاضرة القيمة التي تضع المواطنة وحقوقها جذرا لاقامة وحدة المجتمع وطنيا اولا كما وهي اهم اسس اقامة علمانية الدولة في فصلها عن الدين ومعاملتها لمواطنيها سواسية. واذ اجد انكم تلجاون لاسلوب النصح في الاخذ بنموذج المواطنة والعلمانية لاقامة نظم الحكم في المجتمع ( وانا افهم طبعا ظروف القاء محاضرة في طرطوس فيها تدخل بما لايجيزه رئيس مخابراتها ورئيسه) ولكن هذا لايمنع من تناول وطرح امورا نظرية على الاقل في مسألة الحريات الخاصة والعامة للمواطن والمواطنين كي تكتمل صورة المواطنة بملهومها واعتبارها اهم اسس شرعية قيام نظم الحكم في العالم اليوم وهي مفاهيم الثورة الفرنسية التي كان بامكانكم استخدام شعاراتها نظريا لتوضيح هذه الاطروحة ضمن شرح الثورة الفرنسية( أي بصورة غير مباشرة) ، وعموما شكرا لكم ولجهودكم واني استمتعت بقراءة محاضرتكم والى مساهمات جديدة

اخر الافلام

.. سائق يلتقط مشهدًا مخيفًا لإعصار مدمر يتحرك بالقرب منه بأمريك


.. إسرائيل -مستعدة- لتأجيل اجتياح رفح بحال التوصل -لاتفاق أسرى-




.. محمود عباس يطالب بوقف القتال وتزويد غزة بالمساعدات| #عاجل


.. ماكرون يدعو إلى نقاش حول الدفاع الأوروبي يشمل السلاح النووي




.. مسؤولون في الخارجية الأميركية يشككون في انتهاك إسرائيل للقان