الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


زيزف وزوربا

رولا حسينات
(Rula Hessinat)

2023 / 7 / 26
الادب والفن


كان ذلك في الأول من نيسان قبل شهرين عندما انقطعت كلٌّ منهما عن زيارتها...فقد بقيت على تلك النظرة، لا تحيد عنها أبدًا، عندما طلبت من الخادمة الإندونيسية أن تأتي إليها بالمبخرة، وتلف بها حولها...كان ذلك لأول مرة في حياتها التي بلغت الخامسة والخمسين؛ فهي امرأة قديرة لا تؤمن بما يؤمن به الناس حولهم من خزعبلات وعن توارد الأرواح؛ وأن الأموات يعودون للحياة بأشكال جديدة، هذه الحقيقة التي أصابتها بالهلوسة، خادمتهم الإندونيسية استنكرت إصرارهما على تكرار فتح الأمر الذي نهتهما السيدة عنه...أخذت تتمتم: ماما شيء غريب.
فهي تعرف ما تفكر فيه دون أن تنطق، لقد طالت خدمتها لها العشرة أعوام دون أن تملَّ، ودون أن تطلب العودة إلى بلادها...رغبتها بالعودة باتت رهانًا خاسرًا لزوج تزوج بأخرى بمجرد أن غادرت البيت الطيني المكسو بالصفيح، حنينها ربما لقطعة الأرض المليئة بالمحاصيل الزراعية، جلستها في السوق لبيع الخضراوات والفواكه...ما تبقى من نهار...ترسل تنهيدة إلى البعيد...والسؤال العالق في رأسها: ولِم تعود؟ تركت كل شيء لتأتي بالمال...مال أكثر مما جاءت به جارتهم واشترت به قطعتان من الأرض الخصبة، كان عليها أن ترضخ لطلبه، وبخاصة بعد فقدانها الولد الأول ثم الثاني والثالث في آخر أشهر حملها، كانت تطيح بهم، لماذا لم يعرف أحد لذلك سبباً؟! العجائز تبارزن بالأعشاب ومنقوع الزعفران، والفلفل الحار الأحمر والقليل من خلطة سرية تعمر بيت الولد، بعضهن لجأ لكيها... ولكن دون جدوى؛ فقررت أن تغادر بصمت، لم يعد هناك ما يربطها بأيّ شيء حتى الحلق الذهبي في أنفها؛ رغم أنها لم تخلعه...لكنه مجرد ماض قد انتهى. تطيل النظر في الأفق البعيد وهي تسحب نفسًا طويلاً ثقيلاً...السنة تلو الأخرى وهي تسير على قدم أمهما دون أن يحدث بينهما أيُّ خلاف من أيّ نوع...أو أن يكون هناك أيّ شيء قد يسيء إليهما؛ رغم وحدة أمهما بعد وفاة أبيهما طيلة العشر سنوات الماضية...رغم الداء الذي أصابه ورغم التزامه السرير أغلب سنوات عمره فقد كانت خير أنيس لها، هكذا كانت تحدثهما بطيب في بداية الأمر حتى تغيرت وأصبحت أكثر عدائية...أخبرتهما أن يسألا الجيران إن كانت لهم ذاكرة لهما أو فليسألاها إن كانت تذكرهما... لقد تبادر لأذهان الجيران بالفعل أنّها نسيت ابنتاها زوربا وزيزف فحتى اسماهما غريب... لم تخبر أحدًا بسره، بقيت على تلك الجعبة من الأسرار الخانقة دون أن تخبرها لأحد، دون أن ترويَّها لأحد، كم فكرتا أن تغيراه، ولكن الخشية من غضب أمهما ثبطهما عن عزمهما...فاكتفت زوربا باسم ابنها سلمان أما زيزف فقد أثرت أن تكنى باسم زوجها فؤاد...
الكثير من الأشياء تحتاج للتغيير كانت تلك فكرة زيزف، وهما في طريقهما إلى القصر ...ببساطة ما تريدانه لا يتعدى حقهما.
- نصيبنا من ميراث أبينا، لا نريد منها شيئًا فلما تحبسه عنا وتضنُّ به علينا وهو أبسط حقوقنا...أخذت تردد زيزف طيلة الطريق، الطريق التي تحتاج بالسيارة ساعة من الزمن، قطعتاها بثلاث ساعات...تورمت أذنا زوربا وزيزف لا تكف عن الحديث، وإمساك طرف ثوبها كلما اشتدت بها الحماسة، فتضطر الأخيرة لأن توقف السيارة على يمين الطريق، رغم زامور السيارات وشتائم السائقين الذي يخرق أذنيها، سلمان فاقت خشيته على أمه قدرته على أن يحتمل، فهو يخشى على أمه من خالته الكثيرة الكلام؛ ويلح عليها بأن تحسم أمر هذه الزيارات التي لا يطالهم منها سوى الصداع الذي يصيب أمه...
كان كلامه واضحًا بالقدر الذي ضايق زوربا إلا أنّها كانت مقتنعة به تمامًا: توقفي عن تلك الزيارات أو اذهبي وحدك...ولسانه يردد: جدتي لا تريد أحدًا حتى أنتما لم تعودا تصلحان لشيء بالنسبة إليها، ولم تكونا يومًا كذلك...ببساطة لديها طقوسها الخاصة.
استوقفتها حينئذ تلك الكلمة، أصرَّت عليه أن يعيدها على أسماعها ثانية بأدق التفاصيل...لكنه تراجع إلى الوراء وهو يبتلع ريقه، وقد أصفر لونه وبدا الشحوب يغزو جبينه العريض ووجنتيه، وهو يخطو بغرابة خطوات إلى الوراء ثم يمضي لا يلوي على شيء، وكأنَّه رأى جنيًا أو جنية.
تعوذ من الشيطان الرجيم مرارًا وتكرارًا ولكنه ولى مدبرًا دون أن يبرر ما حدث، مما جعلها تطيل التفكير بكلامه وما حدث أمامها وأن تحسم أمرها.
الكوابيس التي تتكرر كل ليلة، والتي تستفيق منها مفزوعة تنبأ بسوء سيحدث، ولكن ما هو؟ حاولت جاهدة أن تشحذ ذاكرتها كي تتذكر تلك الكوابيس، الأخيلة التي تروح وتجيء بين عينيها لأناس لا تعرفهم...ذلك المرجل الكبير والنار المتدفقة منه تحرق كل شيء والناس حوله في غمرتهم يرقصون، ويرقصون ويتصايحون...والطبول من حولهم تجعلهم يدورون ويدورون والنيران من حولهم...وهي تحاول الفرار، تحاول التعلق بأيّ شيء يبعدها عن المكان...لكن ألسنة النار تتراقص حولها وهي تصيح وتصيح دون أن يسمعها أحد ثم تستيقظ وهي تتصبب عرقًا...كم ليلة بقي لتتحقق النبوءة ويحترق كل شيء.
ربما قريبة هي النهاية أقرب مما تتصور. وربما بعيدة أبعد من أن تقدر ذلك...ولكن أيّ كان بعدها أو قربها ستبقى النهاية التي لن يستطيع أحد الفرار منها مهما كانت قوته.
مسحت وجهها وبدأت تفكر في الخطوة القادمة، إن كانت هناك نهاية فلم عليها أن تراهن على خسارتها، ستبقي على شعلة الانتصار حتى تحرقها النيران.
ما الذي يحدث لأمهما؟ وما الذي تفعله؟ لا تستطيع أن تتنبأ بشيء غير أنَّ هناك خطأ ما، ولكن كيف ستخبرها؟ كيف ستسألها؟ وحتى زيزف لم تفطن لهذا الأمر بقي أمر الميراث مسيطرًا على تفكيرها...سلمان لم يعد كما في السابق لم يتحدث بأمر جدته ثانية، ولم يتحدث عن أيّ شيء غيره أبدًا لقد بقي صامتًا وهو يقلب كتبه بناظريه...
سلمان محب للقراءة ويقرأ كتبًا كثيرة، وربما تعلم من هذه الكتب أن يعرف شيئًا تعلمه هو دون غيره، ولم لا! فقد كان يقضي أوقاته إما وحيدًا في غرفته وإما مع صديق له لا تعرف اسمه...تذكر أنها دخلت عليه غرفته يومًا وكان يقرأ كتابًا حاول جاهدًا أن يخفيه، وحينها أصرَّ بأن تخرج دون أن تعلم السبب...
الفضول الذي استهواها بعد يومين عندما خرج من المنزل والذي دعاها لأن تدخل غرفته لتلقي نظرة على ما يخفيه...
هي لا تعرف ما الذي تبحث عنه ولكنه بالتأكيد شيء غير عادي وكيف يكون عاديًا ويسيّر سلمان كما يريد، الغرفة المليئة بالكتب رائحتها رائحة كتب قديمة، حساسية الأنف أصابتها والكثير من العطاس وهي تحاول أن تسحب كتابًا ثم آخر من فوق الأرفف المكتظة...لا تدري إن كانت ستهوي عليها دفعة واحدة وتكون هي القاضية! لم تجد ما ينفعها من بين كتاب السياسة والاقتصاد وعلم النفس والقانون...رغم أنها لا تعتقد أنَّ مثل هذه الكتب ما يفضلها ولدها، ولكن كبر الصغار الذين كان أكبر همهم شراء حبة من المثلجات أو اللعب لساعات بكرة دائرية صغيرة...تنهدت وجلست متعبة إلى كرسيه الصغير، وقد لفت الغرفة بعيتنيها الدائريتين، حتى استوقفتها لوحة قديمة مركونة إلى الجدار...لا تذكر أنها قد رأتها قبل هذه المرة. ربما أدخلها إلى البيت دون علمها...خطواتها المضطربة فوق أرضية الغرفة أشعرتها وكأنَّ الأرض تميد بها، شعرت كأنَّ أيادي تسحبها إلى الأسفل حتى سقطت على بُعد مدة يد منها...الذي رأته أجفل قلبها وجعلها تهرب مسرعة رغم الألم الذي ألهب مفاصلها، جريها خارجة من الغرفة وهي تنظر خلفها جعلها تصطدم بجسد قوي، لقد كان سلمان، انعقد لسانها وقد تراقصت عيناها من الخوف من المجهول.
-إهدئي، واشربي قليلاً من الماء...قالها وهو يحاول أن يضم يدها إلى كأس الماء الزجاجي الذي انزلق محدثًا صوتًا عاليًا.
- لا عليك يا أمي...لا تخشي شيئًا، فأنت في أمان.
- ما الأمان الذي تتحدث عنه و...قالتها ثم ألجم لسانها. فهي عاجزة عن وصف ما رأت.
تذكر أنها كانت تذاكر معه في غرفته منذ زمن بعيد، ولكنه لم يعرها اهتمامًا...جلوسها إلى جانبه في حجرته عدة مرات لك يغير في الأمر شيئًا، لم يتكلم، لم يتحرك له ساكن، ولم يزح جسده ولو قليلاً ليتحدث إليها. وهو اليوم كما كان في السابق رغم أنَّه يريد أن يخفف من روعها ولكنها الخطفة التي انتزعت قلبها من مكانه...أتكون الكوابيس التي تزورها كل ليلة من صنيعه...أتكون ألسنة النار التي تحرقها كل ليلة بسببه؟ ولم تره يفعل بها هذا؟ وما الذي جعله يعرف عن جدته الأسرار وهي ابنتها لا تعرف عنها شيئًا؟ ولم تلك الزجاجة بالسائل الأحمر في غرفته...هي تعرفها جيدًا لقد رأتها وهي صغيرة في غرفة أمها وحين مات والدها اختفت...وهاهي هنا...
كيف؟ ومتى؟ ولماذ؟ أسئلة كثيرة تدور حول رأسها، حاولت أن تلتقط أنفاسها ولكنها لم تستطع وسقطت مغشيًا عليها.
اغرورقت عيناها...الدموع بدت لاذعة، أخذت تقرأ على أمها كل ما تحفظه من سور المصحف الشريف: (" فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4)"الملك).
-ما الذي يحدث يا سلمان؟ ما الذي حدث لأمي؟ قالتها وهي تتم وضع كمادة باردة على جبين أمها المتصبب عرقًا...هل علينا أن ننقلها إلى المستشفى؟ أخشى أن تموت بيننا ونحن لا نستطيع فعل شيء.
لم يستطع أن يقف على قدميه وهي توجه الحديث له رغم أنها لم ترمقه بعينيها، أخته الصغيرة تتهمه بأنه وراء ما حدث لأمهما...ربما يكون الأمر صحيحًا، ولكن هل بالفعل عرفت سر ما لديه...هو نفسه لا يعرف كيف وصلت الزجاجة ذات السائل الأحمر إليه، ما يذكره أنها كانت على السدة القديمة بين أغراض كثيرة، حينها كان يلعب بالكثير من الأشياء رغم تحذيرات جدته له حتى عثر على هذه الزجاجة وكتاب غريب... خبأه بين حاجياته وأخذهما معه...لم يخبر أحدًا عن كنزه، فقط احتفظ به لنفسه...خبأه في الجدار...كيف استطاع أن ينقب الجدار ويحتفظ بهما هو نفسه لا يعرف، ولكنه يدرك بأنَّ عليه الإبقاء على سره الذي يعرفه؟
وهو يعرف أنَّ جميعهم سيهلك، ولكنه لا يعرف متى!
يذكر جيدًا ما أصابه حين بدأ بقراءة الكتاب، سحر كبير فيه، ألجم لسانه...جعله يفقد رغبته في كل شيء...لقد بقي صامتًا مدة طويلة من الزمن...جلوس أمه إلى جانبه لم يفده كثيرًا...فهو لا يستطيع إخبارها بكل ما حدث، بماضي أمها...الآيات التي كانت تقرأها عليه جعلت جسده يلتهب ويشعر بأنَّ روحه تصَّعد إلى السماء.
لقد كانت آخر ما قرأته عندما سقط وجهه على كتابه...شهران بالتمام والكمال بقي مغشيًا عليه...كان ذلك في الأول من نيسان أيضًا.
عندما نقلته إلى المستشفى، لم تكن لتخبر زوجها وهيب بالأمر الذي حدث قبل ذلك التاريخ...تغير ولدها وغرابة أمها...وكل ما يحدث من حولها، لقد خشيت من كلّ شيء! ولم تعرف لماذا؟ حتى زيارة أمها لم تعد تهمها...هي لا تريدها وفقط.
إصرارها على الضغط على زر رفض الاتصال أكثر من مرة مع أختها زيزف أصبح عادة بالنسبة إليها. لقد قررت أن تصمت هي الأخرى، وتكتفي برواية من دموع عينيها، خشيتها على رمال وتامر من كلّ شيء، أوقفت عمل السائق وأخذت تقلهما جيئة وذهابًا إلى المدرسة، وتنتظرهما ساعات طويلة وحتى في البيت تبقى تناظرهما حتى ينهيا فرائضهما ويخلدان إلى النوم.
لم يعرفا ما الذي حدث لها؟ ربما مرض سلمان، ولكنه صدمة لهم جميعًا، لقد اختلفت كثيرًا، بدت أكثر شحوبًا، وأكثر اصفرارًا من ذي قبل.
في الصباح عند سلمان في المستشفى، وطيلة النهار معهما حتى أخذ بها الأمر أن تنام عندهما، ربما لو طال الأمر لقسمت جسدها قسمين.
- ليتها تستطيع! أخبرت رمال تامرًا وهي تمسح فوق رأسه بحنان. لقد كانت أمهما تعاني؛ فهي تعرف أمها جيدًا؛ فهي تخشى عليهم من كلّ شيء والذي حدث مع سلمان كان فوق طاقتها، لم يعرفه أحد ولا أحد يعرف متى سيفيق من غيبوبته الأمر قاسيًا على بيتهم الكبير في البلدة الريفية، لقد كانت تبعد عن المدينة قرابة النصف ساعة، وعن بيت جدتهم ساعة كاملة...لكنهم منعوا من الذهاب إلى هناك، كان هذا منذ زمن بعيد حتى أنهما نسيا صورة جدتهما، لم ترد أمهما أن تصحبهما معها في أيّ زيارة منها.
تذكر له رمال أنَّها سمعت أمهما يومًا تحدث خالتهما:" أنَّ هناك أمورًا كثيرة قد تغيرت، والأمر أشبه...أشبه بالسحر." قالتها همسًا في أذنه، قبض إليه جسده وقال بوهن: كيف لي أن أغمض عينيَّ الآن؟ أخبرته بأنَّها تستطيع أن تقرأ خط اليد ليتسليا، فقد تعلمت الشيء الكثير من بنات مدرستها؛ فسمية ابنة الشيخة صفية تعرف كيف تقرأ الغيب وتدعي بأنَّها أفضل من أمها، والنسوة يؤممن بيتهم من كلِّ مكان؛ ليعلمن ما خفي عنهن، أما وداد ابنة الشيخة صبحة فقد كانت تعرف كيف تعالج الأمراض التي لم يعرف لها الأطباء سرها.
أطرقت في صمت عميق حتى أيقظها منه أخوها وقد احمرت عيناه من البكاء ربتت فوق كتفه وقالت: لا عليك يا تامر، كنت أفكر في شيء ما سأخبرك به لاحقًا هات يدك ودعني أقرأ الخطوط...
أما الآن فقد آن لسلمان يوقظ أمه بعد أن وقفت إلى جانبه في غيبوبته، وصمم أنَّه سيخبرها الحقيقة...الحقيقة كاملة.
أمر أخته رمال بأن تعتني بتامر وأن تبقيه في أمان...ابتعدت أخته وقلبها يحدثها بأنَّ عليها أن تبتعد قدر الإمكان.
دخل سلمان غرفته وغاب فيها زمنًا طويلاً، قرأ من الكتاب الشيء العجب وكيف يستطيع أن ينسي أمه ما عرفته...هي لا تستطيع أن تغير الماضي أو المستقبل...ستموت بحسرتها إن أنهكتها الحقيقة المرة.
وضع القليل من السائل الأحمر وعشبة رجلة الراعي وقبضة من مسحوق عجيب ودقها جميعًا حتى أصبحت متجانسة معًا وضعها بقليل من الماء...حملها إلى غرفة أمه رفع رأسها بإشفاق...من بين شفتيها انزلق السائل المحمر...
بضع ساعات وقد بدأت أصابعها بالتحرك، جسده المتيبس على الكرسي ألمه وهو يخطو ببضع خطوات إليها، أمسك يدها برفق وربت عليها.
رعشة من جفنها حتى تمكنت من أن تستيقظ وهي تقول: لقد فاتني أن أحضر لكم طعام الغداء.
زيزف لم ترزق بولد هكذا قالت لأختها، ولكنها فقيرة الحال بحاجة إلى المال ولأبيهما ملك كثير، لم لا يكون لهما شيء منه؟، أليس هذا حكم الله؟ وأمهما مالها قد تغيرت؟ ألا تخشى أن تموت هي الأخرى؟ كلهم ميتون لن يعمر أحد ولو عُمر لرأوه يمشي على قدمين. لِم تتصرف بهذا الجنون؟
الذي أصاب زيزف لم يكن في بال زوربا فقد أخذت تطيل التفكير بالذي صار إليه حالهم، لِم كلّ هذا التغيير؟ لم يبق في القصر غيرهما؛ الخادمة الإندونيسية وهي. البقية هربوا طردتهم لسبب لا أحد منهم يعرفه.
لا تدري ما الحقيقة؟ الكثير من التأويل يتحدث به الكثيرون، ولكنها تصمّ أذنيها، لمِ لا تخبرهم أنّ هناك أمرًا مريبًا يحدث؟ هل بالفعل أمها لها علاقة مع الجن؟ ولكن لماذا؟ لِم تلبسها ولا يستطيعون فك السحر عنها؟
كلما فكرت بأن تقرأ عليها القرآن استشاطت غضبًا، حتى لم تعد تطيق رؤيتهما ها قد مرّت عشر سنوات على موت أبيهما ولا جديد، لقد بدا الشرخ أكثر اتساعًا مما مضى وكأنهما ليستا ابنتيها، وكأن ذلك الرجل الذي مات ليس زوجها، وكأنها باختصار ليست هي، إذن من تكون؟
-أتكون قد قُتلت وجاء أحدهم بشبيه لها؟ قالت زيزف بحماقة صمتت زوربا طويلاً حتى انتزعت من صحرائها جوابًا: لا أدري لكن لا بد من طريقة نفكر بها أنا بصراحة لا أستطيع فعل شيء ...المشهد الذي عاشتاه مع أمهما بأنّها ثقيلة كما يصف الناس المرأة التي لها وزنها، تزن كلامها، تحترم لباسها، وحديثها وكلّ أمرها، الغريب أنهما تتسألان: هل هي جن أم إنس؟
أمور كثيرة قد تغيرت...الأحاديث التي كانت تسمعها بين الحين والآخر من جارتها جميلة عن أخبار أثارت اهتمامها..." في المدينة امرأة يسكن بيتها الجن" وأيّ جن _تتفل في ثوبها_ وهي تقول: دستور إنّه الجن الأعظم الذي إن غضب حلت لعنته وانتقامه على الجميع.
إن هي حدثت أختها زيزف ستجن وستولول وينتهي الأمر بفضيحة، وهي لا ينقصها أمر كهذا.
ابنها سلمان في الجامعة وزوجها في العراق تحت مظلة البنادق والمليشيات وابنتها وابنها الصغير.. المال بيدهم هي في الواقع تعيش في بيت من طابقين عليه علامات الثراء، رغم أنّ حياتها بسيطة ولكن كلّ شيء حولها يدل على ثراء أهل هذا البيت، وكما يقولون: صيت غنى لا صيت فقر...
أخذها الحنين لأبيها فأخذت تقلب ألبوم الصور، أخذته من الرف العلوي، لقد كان في درج المكتب قبل ذلك...هزت رأسها باستغراب، مسحته وجلست على الكنبة الجلدية تنظر فيه...صورتها وهي طفلة مع زيزف، أخذت تتأمل الصورة شيء غريب لاحظته هذه المرة، لم تلحظه من قبل، هناك خيال أسود عند رأسيهما أخرجت نظارتها الخاصة بطول النظر الذي أصابها، وبدأت تتأمل الصورة ثانية، بالفعل لقد كان ما لاحظته صحيحًا، مرت على جميع الصور...صورة أبيها صورة والديها معًا، لكن هناك صورة مفقودة ظنت أنّها غيرت مكانها، أغمضت عينيها، أيّ صورة كانت؟ عصرت ذاكرتها لقد تذكرت، لقد كانت صورتهم معًا، أول صورة أسرية لهم...لقد اختفت. لِم اختفت؟ لم يكن أحد من أولادها ليعبث بخصوصيتها! ولكن من الذي غير مكان ألبوم الصور خاصتها؟ لقد كان في درج المكتب، وأغلقته بالمفتاح والمفتاح أسفل علبة الورق...رفعتها لقد كان هناك، إذًا ما الأمر؟ ليس من طبيعتها أن تنسى لقد عرف عنها منذ أيام المدرسة الداخلية أيام الصغر؛ نباهتها، ودقتها وهو ما يعرفه بها الجميع، ويصفونها بالذكية والدقيقة، أوراق زوجها، مواعيده وأمور حياتها مرتبة على الخيط كما يقولون.
إذن ما الذي حدث لهذا الألبوم؟...فتحت الدرج بعد التكتة الثانية للمفتاح لم تستطع أن تحتمل المفاجأة، جلست إلى المقعد خلفها التقطته بيد مرتجفة، أزاحت نظارتها ثم ارتدتها ثانية، ما الذي يحدث؟ ربما أصيبت بالتعب اليوم! ولكن ليس لهذه الدرجة، ما الذي كان بين يديها قبل قليل والذي لمحته في الرف العلوي وسحبته ألم يكن ألبوم الصور...
والغرابة التي مدت أشواكها في عقلها لم تستطع أن تتخلص منها أعادت وضعه ثانية من حيث التقطته. ولكن مدت يدها إلى ذاكرتها التي لا يمكن لها ان تسقطها...ما وجدته وانعقد له لسانها هو نفسه ألبوم الصور الذي أعادته للتو فوق الرف والذي تعرف أنه موجود في في الحقيقة في الدرج.
وضعته أمامها بالضبط كما خبأته، كان ذلك في الأسبوع الماضي يوم الاثنين... تذكره تمامًا لقد كانت وحيدة، وتشعر بالأسف لما يحدث لهم بعد وفاة أبيهم، ولكن لم يكن من عادتها الصراخ، فوجدت نفسها تبكي مع كلّ صورة رغم أنّ ذاكرة الصورة كانت صغيرة ...فتحت الألبوم بيدين مرتجفتين، قلبته بسرعة، قلبته ببطء، قلبته ورقة ورقة، فتحت درج المكتب، أزالته من مكانه أرجعته، بحثت على المكتب، لم تجد شيئًا، لقد وقع قلبها، لم تجد شيئًا يخبرها بالأمر، كل ما لديها الفراغ، لقد اختفت الصور، ولكن فطنت إلى الألبوم الذي كانت تنظر فيه قبل وقت قصير، مدت نظرها إلى الرف العلوي...لم تجد شيئًا، لم يكن هناك شيء، لا كتاب، ولا صور، ولا شيء، أغلقت عينيها ووضعت رأسها بين كفيها وبكت...بكت بكاء الخائفين، لقد حانت النهاية إنّها تشعر بذلك، لا بد أنَّ هناك أمرًا سيئًا سيحدث لهم.
لا تعرف ما هو ولكنها متأكدة من حدوثه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بعد فوز فيلمها بمهرجان مالمو المخرجة شيرين مجدي دياب صعوبة ع


.. كلمة أخيرة - لقاء خاص مع الفنانة دينا الشربيني وحوار عن مشو




.. كلمة أخيرة - كواليس مشهد رقص دينا الشربيني في مسلسل كامل الع


.. دينا الشربيني: السينما دلوقتي مش بتكتب للنساء.. بيكون عندنا




.. كلمة أخيرة - سلمى أبو ضيف ومنى زكي.. شوف دينا الشربيني بتحب