الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الطبقة الاجتماعية واللغة : رؤية نقديَّة في طروحات بازيل برنشتاين اللغويَّة

علي أسعد وطفة
(Ali Assad Watfa)

2023 / 7 / 28
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


1-مقدِّمة:
======
يعد باسيل برنشتاين Basil Brenstein من أكثر علماء الاجتماع أهميَّة وخطورة في بريطانيا وقد خلف كارل مانهايم ليشغل كرسي علم الاجتماع والتربية في جامعة لندن. لقد أولى برنشتاين مسألة العلاقة بين اللغة والطبقات الاجتماعيَّة أهميَّة كبيرة، وأفرد بحوثا متعدِّدة يبيِّن فيها تأثير الانتماء الطبقي في بنية اللغة والتفكير عند الأطفال والتلاميذ، وشكَّلت الأبحاث التي أجراها نظريَّة متماسكة في مجال علم الاجتماع اللغوي. ولقد أدرج برنشتاين خلاصة أفكاره في كتابه المعروف «اللغة والطبقات الاجتماعيَّة Langage et classes sociales)([1]).

يميِّز برنشتاين في دراساته وأبحاثه المعمَّقة بين نمطين لغويين في إطار الثقافة العام!ة وهما: اللغة الرسميَّة وهي لغة رمزيَّة مكتوبة، تتَّصف بدرجة عليا من التسلسل المنطقي والتكامل الرمزي المجرد، وتوظّف في إطار المؤسسات الرسميَّة والتربويَّة. ويطلق على النمط الآخر اللغة العاميَّة (المحكيَّة أو اللغة الدارجة) وهي لغة الاتّصال في الحياة العامَّة وتتميَّز بالسهولة والبساطة كما تتميَّز بدرجة أدنى من التسلسل المنطقي والتجريد الرمزي. وتشتمل اللغة العاميَّة على منظومة من اللهجات المختلفة فلكل فئة اجتماعيَّة أو وسط اجتماعي لهجته الخاصَّة وطرقه الخاصَّة في التعبير والتواصل. إذ يمكن لنا أن نميِّز في إطار الحياة الاجتماعيَّة لغة الفلاحين ولغة العمّال ولغة الفئات المختلفة.

ولا يعني برنشتاين بالتعدد اللغوي وجود لغات متباينة من حيث الجوهر، بل يعني وجود أنماط خاصة من التعبير، تتباين في مستوى رمزيتها وفي مستوى تسلسلها المنطقي وفي غزارة المفردات وأنماط الدلالة. وما يدعونا إلى تبني هذه النظرة المجهريَّة، يعود إلى الضرورة المنهجيَّة في تحليل الكل إلى أجزائه الصغيرة لمعرفة قانونيَّة العلاقة بين هذه الجزيئات المصغّرة. وهو انطلاقا من ذلك عمل على معرفة التأثير الذي يمارسه الوسط الثقافي في التحصيل المدرسي انطلاقا من مبدأ تحليل اللغة بوصفها إحدى السمات الثقافيَّة الهامّة في بنية اللغة والتي تمارس تأثيرا جوهريا على عمليَّة التحصيل المدرسي عند الأطفال([2]).

فالتباين اللغوي بين الأفراد يعود في رأيه إلى التباين في أنماط الحياة الاجتماعيَّة، وإلى التباين في أنماط التفكير والتصوّرات التي تحيط بكل فئة اجتماعيَّة محدّدة. فنمط الحياة والتفكير عند الفلاحين يختلف عنه عند العمال أو الفئات الاجتماعيَّة الوسطى. والسؤال الأساسي الذي يطرحه برنشتاين هو: ما طبيعة العلاقة القائمة بين التحصيل المدرسي والتباين اللغوي؟ ومن أجل الإجابة عن هذا التساؤل يبيِّن برنشتاين أن اللغات العاميَّة تتقارب أو تتباعد بدرجات مختلفة عن اللغة المدرسيَّة، وهذا يعني في النهاية أن اللغة العاميَّة الأكثر تجانسا مع اللغة المدرسيَّة هي اللغة التي تتيح لأفرادها الفرص الأفضل للنجاح والتفوّق المدرسي. وعلى العكس من ذلك كلما تباينت درجة التقارب بين لغة الوسط ولغة المدرسة كلما تقلّصت فرص النجاح المدرسي عند الأطفال. وسوف نعتمد في توضيح هذه المسألة بالاستناد إلى أبحاث برنشتاين Bernstein وهو من أبرز الباحثين الذين أولوا هذه المسالة أهميَّة كبرى في مستوياتها الامبيريقيَّة والنظريَّة.

ويبين برنشتاين أنّ اللغة العماليَّة التي تسود الوسط العمالي لغة تتباين عن هذه التي تسود في أوساط الفئات المتوسّطة وأن ذلك يؤدِّي إلى التباين في مستوى النجاح المدرسي وذلك لأن لغة المدرسة أكثر تجانسا مع اللغة التي تسود في وسط الطبقة الوسطى. ويؤكِّد برنشتاين أيضا في كتابه هذا أن العلاقات السائدة في كل وسط اجتماعي تحدّد نمط اللغة وأساليب التعبير المستخدمة في إطار ذلك الوسط. ويبدو أن هناك تقاربا كبيرا بين آراء برنشتاين في بريطانيا وآراء بورديو وباسرون في فرنسا، ولاسيما فيما يتعلَّق بتأثير الوسط الاجتماعي في تحديد المستوى اللغوي لكل فئة اجتماعيَّة، والذي يكرِّس التفاوت التربوي بين الفئات الاجتماعيَّة الميسورة وبين الفئات الاجتماعيَّة التي تعاني من الحرمان والفاقة.

وتشـكِّل اللغة منطلق برنشتاين (Brnestien ) في نظريته حول النجاح والإخفاق المدرسـيين، ويرجـع برنشـتاين تبـاين التحـصيل المدرسي عند الأفراد إلى التبـاين في مستوى تحصيل اللغة الفصحى “الرسميَّة” وإلى قدرة الأفراد على اسـتخدام الرمزيَّة اللغويَّة وتوظيفها. وتلك خاصية يتميَّز بها أبناء الطبقات الوسـطى والتـي تمنحـهم القدرة على إدراك الأشياء التي تحيط بهم على نحو فوري. وفي هذا السياق يـرى برنشتاين أن أبنـاء الطبقـات الشعبيَّة يعولون في توظيفـاتهم اللغويَّة على ما يسمى باللغة العاميَّة “الشعبيَّة “التي تفتقر إلى التنـوّع الرمـزي الضـروري للتعبـير عن المشاعر والجوانب المعرفيَّة الانفعالية وهو تنوع تتميز به اللغة الفصحى.

ان تـأكيد برنشتاين عـلى الجـانب الاجتماعي للغة أعطاه إمكانيَّة التأثير الكبـير على أفكار علماء الاجتماع الفرنسيين الخاصّة باللغة والإدراك حيث لـم يستطع جان بياجيه Jean Piaget أن يحدث مثل هذا التأثير على سبيل المثال وذلك لأنه أهمـل في نظريته الجانب الاجتماعي للمسألة. لقد كرس برنشتاين جلّ أعماله لدراسـة الجـوانب الاجتماعيَّة في اللغة، واستطاع أن يرسم ملامح نظريَّة متكاملة حول طبيعة العلاقة بين اللغة وجوانب الحياة الاجتماعيَّة وسـنعمل فـي هـذه المقالـة عـلى تنـاول ثلاثة جوانب أساسيَّة في نظريَّة اللغة والمجتمع عند برنشتاين وهي :

1 – مقالاته النظريَّة الأولى (1958 1959).

2 – نتائج أعماله الميدانيَّة (1960- 1962).

3 – أعماله الأخيرة التي عدل فيها نظريته الأوليَّة (1964 1965).

ولا يمكـن لهـذا المخـطّط الموضـوع أن يكـون شـاملا ولكنـه كافيا لأغراض هذه المقالـة. حـيث سـنركز على تفاصيل المرحلة الأولى من أجل تحديد المحاور الأساسيَّة للنظريَّة. ولـن نذكـر المقالات الأخرى إلا عندما يكون هنا تغيرا أو تطويرا لمقالاته الأولى.

2- المحدّدات السوسيولوجيَّة للإدراك:
================
تبحـث الدراسـة الأولـى عام 1958 بشكل أساسي في مسألة (الافتقار المعرفي القائم في أطر العلاقة بين الطبقة الاجتماعيَّة ومستوى التحصيل الدراسي وتهدف الدراسة إلى تحـديد العلاقـة بين أنماط التعبير المعرفي أنماط وبعض الطبقات الاجتماعيَّة.

ويميّز برنشتاين بين نموذجين للتعبير المعرفي :

حـيث يقـوم النموذج الأوّل على إدراك محتوى الأشياء بينما يتمثـَّل الثاني في إدراك بنية الأشـياء. ومـن أجـل ذلك يحاول برنشتاين أن يختبر فرضيته هذه كمراحـل متجانسـة أكـثر منها كمراحل منفصلة. وهو يطرح من أجـل ذلك تحليل هذه المسألة بالعلاقة مع المحدّدات السوسيولوجيَّة والتربويَّة. ومـن أجـل ذلـك يرسـم لنا المحدّدات التالية :

1 – المحددات السوسيولوجيَّة الطبقيَّة.

2 – نمط التعبير المعرفي.

3 – المحدّدات التربويَّة.

تبيـِّن المحدّدات الاجتماعيَّة أن الوسط الخاص بالطبقة العاملة يدفع أبناء هذه الطبقـة إلى مقاومـة التربية الرسميَّة الخاصَّة بالطبقة الوسطى، حيث يميل أبناء العمال إلى إظهار الفوضى ورفض القيم التي يحاول المعلمون غرسها. ويلاحـظ أن أبناء هذه الطبقة يميلون إلى قبول المعرفة الوصفيَّة ويفضّلونها بدرجـة أكـثر مـن المعرفة التحليليَّة. ويعيـد برنشـتاين هذه المقاومة إلى الطريقـة الإدراكيَّة التـي تتمـيَّز بالتوجّـه إلى المحتوى وليس إلى الشكل.

وهذا يعني وجود نمطين إدراكيين مختلفين إلى حدٍّ ما، يتحدِّد كل منهما استعدادا مكتسبا في إطار نمط العلاقات القائمة. ومـن هـذا المنطلـق تتبـاين الخاصّـة الإدراكيَّة بين الطبقة الوسطى والطبقات الشـعبيَّة. وفـي هذا الخصوص يلاحظ أن الخاصّة الإدراكيَّة للطبقة الوسطى تتميّز عنهـا عنـد الطبقـات الشـعبيَّة بالنزعـة العقلانيَّة التي تتحدَّد وفقا للخصائص التالية:

1 – أهميَّة العلاقـة بيـن الوسـائل والغايات على المدى البعيد والتي تقوم على أساس معرفي.

2 – وجـود نظـام محـدَّد يتيـح إمكانيَّة النظـر إلى القيم في إطار تمايزها وتباينها.

3 – القـدرة عـلى اتّخـاذ التدابـير المناسـبة لتحـقيق الغايـات البعيــدة وذلـك عن طريق سلسلة من العلاقات التي تقوم بين الوسائل والغايات الموجهة.

ويتميَّز الوسط الاجتماعي لأطفال الطبقة الوسطى بالسمات الاجتماعيَّة التالية :

1- يتَّصف ببنية اجتماعيَّة بالغة التنظيم.

2 – تهـدف القـرارات التي تتَّخذ آنيا إلى تحقيق مستقبل الطفل على المدى البعيد.

3 – يتمّ السلوك وفقا لمنظومة واضحة من الأهداف.

4 – وجود نظام ثابت معياري لعمليّات التعزيز والعقاب.

5 – مستقبل الطفل مرهون وبشكل مباشر بحياته المدرسيَّة.

6 – يجعل الطفل تحت تأثير بيئة عقلانيَّة منظّمة.

7 – يدفع الطفل إلى التعبير اللغوي الحرّ المفتوح بعيدا عن التردّد.

8 – يركّز الوسط على أهميَّة التعبير الحر عن المشاعر والانفعالات.

فاللغـة كمـا يشـير برنشـتاين تنمو في إطار العلاقة التي تقوم بين الأطفال والآخرين عن طريق الاتصال والتعبير. وبالنتيجة فإن الشكل الذي تتعيَّن فيه بنية اللغة أي الطريقة التي تترابط فيها الكلمات والعبارات تعكس إلى حـدٍّ كبـير بنية المشـاعر والانفعـالات. ويذهب برنشتاين إلى الاعتقاد بأن اللغة التي تسود في وسط الطبقة الوسطى تتَّصف من حيث الشكل بالغنى والتنوّع وذلـك بالقيـاس إلى اللغـة التي تسود في وسط الطبقات الشعبيَّة. وذلك لأن الأسرة المتوسطة تنظر إلى الطفل بوصفه فردا، وتتعامل معه كما هو وتستخدم بنـى لغويَّة مختلفـة مـن أجل تعزيز النزعة الفرديَّة لديه. وإذا كانت الأم تنطلق في عملها التربوي من أطر مرجعيَّة شخصيَّة فإنها تعلِّم الطفل أهميَّة هذه الأطـر المرجعيَّة وتتيـح له نموذجا تربويا محدّدا يحاكيه ويقلّده. وبالإضافة إلى ذلك فإن تأكيد الذات عند الطفل يعزِّز من قبل الأم على نحو واضح. وعلى خـلاف مـا يتبـدَّى فـي إطار الطبقة الوسطى تتَّصف الأشكال اللغويَّة المختلفة المستخدمة من قبل الطبقة العاملة بأنها بنى لغويَّة شعبيَّة حيث يطلق عليها برنشـتاين اللغـة المحدّدة مقابل اللغة المتقنة عند أبناء الطبقة الوسطى. فاللغـة الشعبيَّة لغة تقوم على منظومة من العبارات المختصرة التي تأخذ شكل تـأكيدات قطعيَّة أو أسئلة بسـيطة وتنطـوي على نسق من دلالات رمزيَّة وصفيَّة ملموسـة وحسـيَّة. وهـي لا تشـتمل إلا عـلى قليـل مـن التوجّهـات التي تستوحي المعايير المنطقيَّة.

وعـلى خـلاف ذلـك نجـد أن اللغـة المتقنة تتّصـف بالغنى في دلالاتها الشخصيَّة الفرديَّة والغنـى في بنيتها المنطقيَّة وقلما تميل إلى التعبيرات الحسيَّة الحركيَّة التـي تـأخذ غالبـا أهميَّة ثانويَّة عندما تسجِّل حضورا لها. ويركز برنشـتاين عـلى أهميَّة الجـانب المعـرفي للغـة المتقنـة وليس على أهميَّة مفرداتهـا وهـو الجـانب الـذي يركِّز على أهميَّة التباين في الأشياء وليس على أهميَّة التجانس والتشاكل.

فـي مناقشة له هو الوسط المنظّم للطبقة الوسطى والذي يبرز في نسق العلاقات القائمـة بيـن الزمـان والمكان والعلاقات الاجتماعيَّة العالية التنظيم يؤكِّد برنشـتاين عـلى أهميَّة الإدراك البنيـوي الـذي ينطوي على عمليات التفاعل الدينـامي في التعبير عن المشاعر بطريقة شخصيَّة تتكامل مع مقتضيات اللغة وذلـك من أجل تحديد طبيعة الدلالات التي يستجاب لها. وهذا من شأنه أن يدخل فـي عمليَّة تنشـئة أطفـال الطبقة المتوسطة ويحدِّد مستوى التصورات النظريَّة الممكنة.

وتتجـلَّى أهميَّة هذه المسألة عندما تعمل المدرسة على مساعدة أبناء الطبقة الوسطى وتمكّنهم من ربط الحاضر بالمستقبل البعيد لأن ذلك لا يتعارض مع القيم السائدة لأطفال الطبقة الوسطى في وسطهم المنزلي. فالطفـل الذي يمـلك فضولا كثيرا ويملك الكفاءة المناسبة للانتقال من مستوى اللغة الشعبيَّة إلى اللغة الرسـميَّة يستطيع أن يتحسَّس الدور والمركز الذي من شأنه أن يسمح له بإظهار سـلوك يتَّصـف بـالغنى والتنـوّع المـوازي لغنـى وتنـوّع الأوضاع الاجتماعيَّة المحيطة به.

أما بالنسـبة لأطفال العمّـال الـذين يعيشـون فـي أوساط عائليَّة تفتقر إلى التنظيـم ويملكـون تصورا مبهما عن العالم الخارجي وعن العلاقة بين الزمان والمكـان، فـإنهم ينظرون إلى السلطة بوصفها أمرا اعتباطيا، ولا يعيرون أهميَّة كـبرى للأهـداف البعيـدة، بينما يولون أهميَّة خاصَّة للأهداف القريبة والغايـات الفوريَّة. ويعـود ذلـك إلى انخفاض مستوى وعيهم الخاصّ بمفهوم المسـتقبل والـذي يتحـدَّد لـديهم وفقا لمعيار الصدفة والحظّ بدرجة أكبر من معيار التخطيط والتنظيم.

ويـؤدِّي الوسـط الشـعبي بالنتيجـة إلى محدوديَّة إدراك الطفل لمفهوم الزمن. فاللغـة السـائدة بيـن الطفـل وأمـّه لغـة شعبيَّة وهي قلما تحتوي على خصائص النزعـة الفرديَّة أو الشخصيَّة وتميل إلى استخدام التعبيرات الحسـيَّة والتي تؤدِّي إلى تحديد إمكانيات التعبير الشفوي عن الأحاسيس والمشاعر. فالتمييز المعـرفي والانفعالي الـذي يؤديه أطفال الفئات العماليَّة أقل تطوراُ وذلك لأنهـم يميلون إلى إدراك محتوى الأشياء على حساب الشكل ولأنَّ لغتهم المحدّدة تعيقهم عن إدراك المحاور الأساسيَّة التي تشتمل عليها بنية الأشياء.ويمـيز برنشـتاين بين المحتوى والشكل على أساس مستوى التدرج في سلم تطور

المفاهيم. ويعنـي إدراك المحـتوى بالنسـبة لبرنشتاين معرفـة التضمّنات المنطقيَّة الأكثر بساطة أو معرفة حدود البنية. وبتحديد أكبر يبدو ذلك في أن بعـض جوانب الموضوع المدرك لا تؤخذ على أنها مؤشرات معرفيَّة. وهي عندما تؤخـذ بعيـن الاعتبار فإن التعبير الشفوي عنها يتميز بالمحدوديَّة. إن وسط العمـال يعـزّز العمليـات المعرفيَّة الوصفيَّة والتـي تأخذ الأحداث الجارية كأوليات جزئيَّة لا ترتبط ببيئـة منطقيَّة محددة. وهذا يرتبط إلى حد كبير بدرجة الفضول التي توجد عند الأطفال.

وبالنتيجة فإن وسط العمال يتعارض مع التربية الشكليَّة في المحاور التالية:

1- عـدم التـوازن بيــن الاســتجابات الفوريَّة المعتــادة عنــد الطفــل الاستجابات ذات المدى البعيد المطلوبة في المدرسة.

2- عـدم القـدرة عـلى اسـتخدام اللغـة المناسـبة فـي اللحظـة المناســبة ويعود إلى تباين المركز بين التلميذ والمعلم.

3- عـدم القـدرة عـلى التواصل مع المعلم بما يتوافق مع مستوى المعلم من الناحية الاجتماعيَّة.

4 يبـدي أطفال الفئات العماليَّة مقاومة تعاكس محـاولات تطويـر مفـرداتهم اللغويَّة والتي تهدف إلى تحسين وتقويَّة مستوى سيطرتهم على اللغة.

5- يجـدون صعوبـة فـي التعــامل مــع المفــاهيم المجــرَّدة وخاصَّــة فــي الرياضيات أو في مواد أخرى.

6- انخفاض درجة الفضول والميل إلى الوصف الدقيق في مجال التحليل المجـرد وهمـا مؤشـران لتـأكيد ضعـف وسـوء قـدرة الطفل على العمل والمبادأة.

7 فـرص أبنـاء العمـال تكـون قليلـة فـي إبراز مـواهبهم الخاصَّـة أو في ممارسة هواياتهم.

تتمـيَّز المقالـة الأولى بأهميَّة خاصة، وتغطّي بعض أوجه النقص في المعـارف الحاليَّة حـول مسـألة العلاقـة بين اللغة والوضعيات الاجتماعيَّة. وتمثـّل هـذه المقولـة مقدمـة نظريَّة متكاملـة حـول بعض الأسباب الاجتماعيَّة الثقافيَّة التـي تؤثر على عمليَّة التحصيل المدرسي. ولكن لابد من القول إن هذه المقالة تطرح بعض الصعوبات ولا بد من استعراض نقدي لبعض جوانبها

.ـ لــم تقـدم هذه النظريَّة تحديدا لمفهوم الطبقة الاجتماعيَّة بطريقة مرضيَّة. ويغلـب الغمـوض عـلى المفـاهيم المسـتخدمة في هذا الصدد. مثل الطبقات الوسـطى والفئـات الاجتماعيَّة المتجانسـة. ولم يبين لنا ما إذا كانت هذه المعايير تمثل شروطا ضروريَّة.

– إن تفكـير برنشـتاين في مفهوم الطبقة يشير إلى مدى الصعوبة في استخدام مفـاهيم الطبقة الاجتماعيَّة وهو يحتاج إلى معايير محددة ودقيقة في التمييز بيـن هذه المفاهيم. ومثل ذلك لا يظهر في إطار مقالته السابقة. ويتبين أن برنشـتاين يرتكز في مقولته حول ثلاثة مجموعات اجتماعيَّة هي الطبقة العاملة الانتقاليَّة والطبقـة العاملـة غـير الانتقاليَّة ثم الطبقة الوسطى. ويمكن تحديد هذه الفئات الاجتماعيَّة على النحو التالي :

الطبقة العماليَّة غير الانتقاليَّة: حيث يمارس الأب مهنة يدويَّة وهذا يقتضي ما يلي :

1- غياب التجربة التربويَّة الاصطفائيَّة.

2- لا يوجد هناك تأهيل مهني.

وتتصف الأم بالسمات التالية :
1- لا توجد تجربة تربويَّة اصطفائيَّة

2- لا يوجد تخصص في عمل ما

3- لا توجـد خـبرة فـي أي عمـل غـير مهنـي. وهـي لا تمـارس أي عمــل رفيــع المستوى.

الطبقة العاملة الانتقاليَّة :

الأب يمارس عملا يدويا ويتَّصف بما يلي :

1- توجد لديه خبرة تربويَّة اصطفائيَّة.

2-خضع لتأهيل من اجل التخصص.

و تتميَّز الأم بما يلي

1 -توجد لديها خبرة تربويَّة اصطفائيَّة

2- مارست عملا اكثر أهميَّة وحظوة من والدها. أي مهنة غير يدويَّة.

3- الممارسة اللغويَّة لأبناء الطبقة الوسطى :
==============
يمـارس أفرادها مهنا غير يدويَّة ويحملون على الأقل تعليما ثانويا. وينتج عـن ذلـك إن مقاومـة الطبقـة العماليَّة غـير الانتقاليَّة للتربيَّة الشكليَّة يقابلهـا ميـل كبـير من الطبقة الوسطى إلى التربية الشكليَّة وفي إطار هذه الموازنـة تحـتل الطبقـة العماليَّة الانتقاليَّة مركـزا وسطا في موقعها من التربية الشكليَّة.

ويستنتج مما سبق أن هذه النظريَّة تستوعب صورة الطبقات الاجتماعيَّة وتبين أن الطبقـة العاملـة الانتقاليَّة تتجـه نحو تمثل معايير الطبقة الوسطى وخاصة فيما يتعلق بالمسألة التربويَّة.

إن المفـاهيم التـي يوظفها برنشتاين للتميز بين نموذجي الإدراك الشكلي وإدراك المحتوى مفاهيم تتميز بالغموض أيضا. ويبـدو أن برنشـتاين حاول تجنب استخدام مفاهيم مثل المجردـ والمحسوس ولكنه لم يكن موفقا لأن المفاهيم التي استخدمها يغلب عليها الغموض وتتميز بطابع الخصوصيَّة. ويعود غموض هذه المفاهيم إلى غياب التحديد الإجرائي.

وفـي إطار أعماله الميدانيَّة يعترف برنشتاين في بمدى تأثره بسابير Sapir وورف Whorf ولكنـه لا يلاحظ المسافة التي تفصـله عن فرضيَّة وورف. ويبدو لنا فـي هـذا المسـتوى أن النظريَّة هنا تبدو على المستوى اللغوي محددة بدرجة أكبر من مستواها في مقالات أخرى وخاصة هذه التي ظهرت في عام 1965.

4- لغة أبناء الطبقات الشعبيَّة :
===================
بعض التضمنات السيوسولوجيَّة للشكل اللغوي :يسـتعرض برنشـتاين فـي هـذه المقالـة بشكل واسع ومفصل التباين بين اللغة العائليَّة الشـفويَّة واللغـة الشكليَّة ويحدد خصائص اللغة العائليَّة بالسمات العشر التالية :

1 تكـون عبـارات هـذه اللغـة قصـيرة وبسـاطة قواعديا وهي غالبا عبـارات غـير كاملـة تتمـيز بضعف البنية العامة. تميل إلى النشاط المجسد.

2ـ استخدام يبرز فيه تكرار الكلمات وأدوات الربط مثل: فإن ،إن ،وهكذا.

3ـ استخدام متكرَّر للأسئلة والأوامر المختصرة.

4ـ استخدام محدود للصفات والظروف.

5ـ استخدام محدود للضمائر غير الشخصيَّة مثل (هو هي).

6ـ تـأكيدات تـأخذ شكل الأسئلة الغامضة وعبارات المشاركة الوجدانيَّة مثل:

تصور هذا ? هذا طبيعي أليس كذلك ? ألا تعتقد ذلك أبدا؟

7 تفـرز خـلط كبير بين الأسباب والنتائج في إعطاء تأكيدات نموذجيَّة مثل: افعل كما أقول لك، لن تستطيع الخروج، أطرح ذلك، ابتعد عن ذلك.

8 استخدام واسع ومتواتر لبعض الكلمات الاصطلاحيَّة.

9 يعاني الاستخدام الرمزي من الغموض والعموميَّة.

10 المعيـار الشـخصي مضمـر فـي بنية العبـارة ومـن المتفق عليه أن ذلك يؤدي إلى تحديد شكل اللغة.

وعـلى خـلاف السـمات الخاصـة بالغة العائليَّة فإن اللغة الشكليَّة “الفصحى “تتميز بما يلي :

1 تأخذ العبارات مكانها في سياق محدد وفي إطار نظام قواعدي دقيق.

2 تتـوازن التحـولات المنطقيَّة مـع مسـتوى اسـتخدام المعطيـات القواعديَّة المعتمـدة. وعـلى الخــصوص فيمــا يتعلــق بجملــة التغــيرات الصرفيَّة والعبارات النسبيَّة.

3 تواتـر اسـتخدام الحـروف الدالـة عـلى روابـط منطقيَّة وروابط زمنيَّة أو مكانيَّة.

4 الاستخدام المتكرر للضمائر غير الشخصيَّة مثل هو هي.

5 اصطفاء مميّز للصفات والظروف.

6 وضــوح الإطار المرجــعي الشــخصي وذلــك عــبر البنــى والعلاقــات الداخليَّة للعبارة أي وضوح السمة الشخصيَّة

7 يضفـي التعبـير الرمـزي المشـروط بالصيغـة اللغويَّة عـلى ما يقال سمة انفعالية محدده.

8 يـؤدي اسـتخدام هـذه اللغـة إلى وجـود إمكانيات واســعة لتحــقيق بنية هرميَّة معقّدة تساعد على تنظيم التجربة الإنسانيَّة.

وفـي إطار تعليق لاحـق لبرنشـتاين حـول السـمات الخاصّـة باللغـة الشفويَّة العائليَّة بيـن برنشـتاين “إن اللغة العائليَّة (الشفويَّة (وظيفة للبنية الاجتماعيَّة الخاصة، وهنا يعارض برنشتاين نظريَّة وولف حيث يرى بان البنية الاجتماعيَّة تشكل المبدأ الأول في انطلاقات اللغة ونموها.

فغالبا ما ينظر إلى اللغة بوصفها إحدى الوسائل الأساسيَّة لتعزيز طرق التفكير والإحساس والسلوك الوظيفي الخاص بطبقة اجتماعيَّة ما. ولكن اللغة نفسها لا تعيـق عمليَّة التعبير عن أفكار خاصة، ولا تكره الفرد على الوقوف في مستوى معيـن مـن التصـورات. وهـذا يعنـي أن استخدام اللغة يسهل عمليَّة النمو في مجال خاص وانه لا يغلق الأبواب في مجالات واتجاهات أخرى.

ويضيـف برنشتاين نقطة هامة أخرى وهي أن أطفال الطبقة الوسطى لا يتميزن عن أطفال الطبقـة العاملـة مـن حيث حجم مخزون المفردات بل يختلفون أيضا في طريقـة تنظيم التجربة اللغويَّة وأنماط السلوك. ولا بد من التركيز على هذه النقطـة لان دراسـات كثيرة تذهب إلى أن تزويد الطفل بمفرده صحيحة من شأنه أن يساعده على حل مشكلة لغويَّة.

ويـرى برنشـتاين أن السـمات الأربعة الأولى للغـة العائليَّة تبرز المستوى المتـدني لهـذه اللغـة. لان العبـارة البسيطة “لا تسهل عمليَّة التواصل بين الأفكار والعلاقـات التـي تتطلب تشكيلا متطورا. وهذه البساطة في العبارة تسـمح فقـط بنـوع متـدن مـن التعبير المنطقي. ويضيف برنشتاين إن اللغة الشـفويَّة العائليَّة تكـرس قيمة الشيء اكثر من الاهتمام بالعمليات الجارية فيه.

وفيمـا يتعلـق بالسـمة السادسـة للغـة العائليَّة والخاصَّة بالاتّجاه العاطفي الوجـداني يؤكّـد برنشـتاين عـلى أهميَّة هـذا الجانب وذلك لان العبارات المتكرّرة تقلِّل من أهميَّة التحليل العميق وتغلق الحوار عند هذا المستوى لأن الفضـول يعـاني مـن عمليَّة كـبح حقيقيَّة وذلك عندما يتمّ تعزيز التضامن في العلاقـات الاجتماعيَّة. ويلاحظ أن المعايير التي استخدمت في البند السابع هي معايير اجتماعيَّة.

هـذا وتعـزِّز السـمة الثامنة التضامن الاجتماعي وذلك بالقياس إلى الاتّصال اللغـوي. وتؤكِّـد السـمة العاشـرة عـلى أهميَّة الجوانب المنطقيَّة والاجتماعيَّة والسـيكولوجيَّة التي تتَّسم بالوضوح والتكامل. ولكن هذه الدلالة المنطقيَّة تكون مضمرة وغير واضحة في اللغة العائليَّة. ويشير برنشتاين إلى أهميَّة الجـوانب المنطقيَّة والاجتماعيَّة والســيكولوجيَّة فــي متضمّنــات اللغة الشعبيَّة.

تنطـوي هـذه المقالة على مسألتين أساسيتين تمّ التعليق عليهما في المقالة الأولى. ويمكن لنا أن نسوق النقاط التالية :

تـوضح هـذه المقالـة مـوقف برنشـتاين مـن فرضيَّة وورف حـيث يــرى أنّ “ اللغـة تشـكِّل عاملا منظّما للعلاقة بين الفرد والسلوك، ويمكن للشكل اللغوي أن يوجّه الفرد في منحى دون الآخر”.

تخلى برنشتاين في هذا المقالة عـن التمييـز بين الشكل والمضمون نهائيا. وبدلا من ذلك بدأ يؤكِّد بأن الشكل اللغوي يحدِّد بقوّة موضوع التعلّ، وأنّ الطريقة في التعليم تؤثِّر على التدريب المستقبلي.

وفـي هـذا الخصوص يلاحظ وجود بعض الغموض الخاص بعمليَّة التمييز بين اللغة الشعبيَّة واللغة الشكليَّة :

– يلاحـظ أن هنـاك خلطـا بيـن السـمات العشـرة للغـة العائليَّة والســمات الثمانية للغـة الرسـميَّة. بعـض هـذه السـمات قــد تحــدَّد بشــكل واضــح والبعـض الآخر مازال غامضا ومن الصعب إخضاعه لمعايير القياس الموضوعي. إذ يلاحـظ بـان السـمة الأولى للغـة العائليَّة مغلَّفــة بغمــوض كبــير وهــي الخـاصّة التي تتعلـق بالبنية المنظمة للغة. ويبـدو أن برنشتاين يـلمِّح إلى وجـود طـرائق قواعديَّة غـير صحيحـة وغـير متوافقــة مـع المبادئ النحـويَّة.

– يلاحـظ أن السـمة التاسعة لا تتميَّز بالوضوح الكافي ولا توجد هناك أمثلة تستجلي ذلك الغموض. على الرغم من محاولة الربط بين اللغة الشـعبيَّة والبنية الاجتماعيَّة فـإن هنـاك مـا يشير إلى أن استخدام اللغة يتبـاين بتبـاين المناطق الجغرافيَّة والجماعات العرقيَّة والدين الخ (وهذه الظـاهرة لـم تـدرس بعد(ومن المهم الإشارة هنا إلى أن برنشتاين نفسه يـرى بأنهـا محاولـة أولـى لشـرح بعـض الفرضيات والافتراضات التي وردت في المقالة الأولى وهو لا ينظر إلى ذلك بوصفه نظريَّة متكاملة.

6- البنية الاجتماعيَّة اللغة والتعليم: 1961
==========================
فـي هـذه المقالـة الموجّهة إلى المعلمين يشير برنشتاين إلى مشكلة ما يعانيـه التلميـذ الـذي ينتمـي إلى الطبقة العاملة الدنيا والذي يستخدم اللغـة العائليَّة. ويرى برنشتاين أن صعوبات كثيرة تعترض تلميذ هذا الوسط فـي المرحلـة الثانويَّة التـي تصبـح أكـثر صعوبة من المرحلة السابقة من التعليـم حـيث تتزايد الهوَّة بين ما يستطيعه الطالب وبين ما هو مطلوب منه فـي هذه المرحلة. ويفسّر ذلك بأن برنامج المرحلة الثانويَّة يتحوّل تدريجيا إلى برنـامج تحليلي ويرتكز على عمليات شكليَّة وفقا لتصنيف جان بياجة

وهـذا مـن شـأنه أن يتعارض مع ميل أبناء العمال إلى التكيُّف مع العمليات الحسيَّة.

وهنـا يطـوِّر برنشـتاين نظريتـه لشـرح محدوديَّة حركة أبناء العمال في إطار المدرسة حول العلاقة بين الانتماء الاجتماعي واللغة. ويذهب برنشتاين إلى الاعتقاد بأن الشكل الاجتماعي للعلاقات القائمة يؤثر بطريقـة اصطفائيَّة عـلى نمـط محـتوى الاتصال. ويستشهد هنا برأي فيكوتسكي Vygotsky حـول العلاقـة بيـن اللغـة والمجـتمع والذي يعتقد أنه كلما كانت العلاقـات الاجتماعيَّة محـدودة كلما قلَّت الحاجة إلى وجود دلالات لغويَّة واضحة ومتطـوِّرة. فالاتّصـال يتـمّ على أساس من التوحّد الانفعالي مع الآخرين وذلك يـؤدِّي إلى انخفـاض مستوى الحاجة إلى التعبير الشفوي المنظّم. وفي إطار هـذه العلاقـات نجـد أن محـتوى العلاقـة يـنزع إلى الحسيَّة الوصفيَّة على وجه العمـوم وقلمـا يميل إلى الاتّجاه التحليلي المجرد. ويشير برنشتاين في هذا الخـصوص أنَّ أطفال العمال غير محظوظين بالضرورة وذلك لأنهم يعيشون وفي وسط يتطلـب منهـم أشكالا لغويَّة غير محددة وذلك لأنّهم أيضا وعلى الرغم من نموّهم فإنهم لا يستخدمون إلا اللغة الشعبيَّة وذلك في إطار وسطهم الاجتماعي الذي لا يشجِّع أنماطا أخرى من الاتّصال.

ويرتكـز برنشـتاين في مقولته هذه على فكرة كوهن Kohen عام (1959 ) وذلك مـن أجـل الإشارة إلى أنَّ آبـاء الطبقة الوسطى يميلون إلى الاستجابة وفقا لاهتمامـات الأطفال بينما يميل آباء الطبقة العاملة إلى الاستجابة الفوريَّة وفقـا لنتـائج الفعـل نفسـه. وهـذا يعنـي غياب البحث الشفوي فيما يتعلق بدوافع الأطفال واتجاهاتهم. وإذا كـانت هـذه المقالـة لا تطور نظريَّة برنشتاين فإن أهميتها تكمن في الإشارة إلى جرثومة أفكار برنشتاين حول علاقات السلطة القائمة بين الطفل الأم والتـي سـتأخذ مكانا هاما في نظريته حول الرقابة الاجتماعيَّة. كما أن هذه المقالة تشير إلى التباين الذي يقوم بين المدرسة والمنزل وخاصَّة فيما يتعلق بعمليَّة الضبط المستخدمة من قبل الأم وهذه المستخدم من قبل المعلمين. وسوف نجد تطويرا لهذه الفكرة في المقالات اللاحقة.

تعليـق:
=====
ـ لا تبـدو العلاقة التي توجد بين البنية الاجتماعيَّة واللغة والتعليم واضحة فـي هـذه المقالة. وبالتالي فإن المكان الذي يحتلّه النمط المعرفـي الذي يتـدرَّج فـي إطار النظام العـام لم يشر إليه بشكل واضح.

مـن المـدهش أن برنشـتاين لـم يذكـر الأعمال الجارية والتــي تعــالج الأطفال الصم. ولقد قام دونيس لوتون باختبار فرضيات برنشتاين وانطلق في ذلك من دراسة كولدمـان ايلـر الـذي قـام بتحـليل 1800 كلمـة مسـتخدمة وقام بتحليل هذه العبارات وكانت النتائج كما يلي:

أ -يوجـد هنـاك بعـض التبـاين العـام بين الطبقات الاجتماعيَّة وهو تباين متـوقّع حـيث لوحـظ أن أطفال العمـال يسـتخدمون عبـارات طويلـة وســطيا وكلمات قصيرة ويتوقّفون قليلا بين عبارة وأخرى.

ب -يوجـد تبـاين بيـن الفئـات الاجتماعيَّة عـلى نفس الوتـيرة فيمـا يتعلَّق بالاختبارات غير اللفظيَّة.

ج هنـاك تبـاين ثابت بين الطبقات الاجتماعيَّة فيما يتعلَّق بالذكاء الشفوي وغير الشفوي ولكن ذلك لا ينطبق على استخدام طول الكلمات.

د- لوحــظ أنَّ أطفال الفئــة المتوسـّـطة يحــقِّقون نجاحــا أكــبر فــي الاختبـارات الشـفويَّة حـيث يستخدمون عبارات طويلة وكلمات طويلة في إطار منظَّم.

ه- فيمـا يتعلـَّق بمجموعـة الطبقـة العاملـة الـذين حـصلوا عـلى معدَّل ذكاء متوسط لوحظ أن فواصل الكلام تكون بدرجة أقل من غيرهم. يلاحـظ كولدمـان أن الحـوار المجـرد يترافق بوقفات أطول وأن هذه التوقفات تتكـرَّر بدرجـة أكـبر. ويلاحظ برنشتاين أنَّ ظاهرة التردّد تتوافق مع مستوى التبـاين الاجتمـاعي والـذي يجد ترجمة له في السلوك غير الشفوي. ويرى أن هـذا التبـاين يتوافق مع وجود نموذجين لغويين: المحدّد والمفتوح واللذان يؤديان إلى وجود توجهين لغويين مختلفين نوعيا في عمليَّة السلوك المعرفي.

7- الاتِّجاه السوسيولوجي اللغوي للتعلّم الاجتماعي:
===============================
تـبرز الجـوانب المتكاملة لنظريَّة برنشتاين في إطار هذه المقالة. وهي إذا كـانت تخـلو مـن أي جـديد فإنها تحدّد اطروحات برنشتاين في إطارها العام وخاصَّة في إطارها الاجتماعي اللغوي.

في هذا السياق يحاول برنشتاين أن يحدِّد موقفه الواضح من فرضيات وورف. وينظـر إلى الأصل الاجتماعي بوصفه عاملا محدّدا للعلاقات اللغويَّة المحدّدة. وبعبـارة أخرى تنطـوي البنـى الاجتماعيَّة على أشكال لغويَّة تقوم بدورها في عمليَّة التحويل الثقافي وتمارس أثرها على أنماط السلوك. ويقوم برنشتاين هنا بتحديد أدق لمفهومي النموذجيين اللغويين المحدود والمتقن. لقـد أتاحت المقالة الأخيرة عرض نظريَّة برنشتاين بشكل واضح على الرغم من صعوبتها وتعقيدها. ولكن هناك بعض الصعوبات التي تفرض نفسها. إن تحـديد النموذجـين عـلى طريقـة التكـهّن أمر يسـتدعي بعض الصعوبات على المسـتوى الاختبـاري. حيث لم يتّح اختبار مصداقيَّة هذين النموذجين حتى الآن وذلك لصعوبات تعود إلى صعوبة الاختبار نفسه. إنَّ مقـالات برنشـتاين التـي تصف بشكل موضوعي قابلة العلاقة بين الرمزيَّة والتنظيـم الشفوي للقياس تعطي إمكانيَّة بناء وحدة بين اللغة الأساسيَّة التي تسمح بالتمييز بين النموذج المحدّد والنموذج المتقن. فـي النموذج المحدّد تبدو الوحدة الأساسيَّة كأنها حلقة في سلسلة. وهي حلقة أطـول منهـا فـي النموذج المتقن. ويضاف إلى ذلك أن إمكانيَّة الاختيار هي أكـبر فـي النمـوذج المنظـّم وبالتالي فان هناك مرونة أكبر في هذا السياق الشمولي. ولابد من الإشارة إلى وجود بعض الغموض وخاصَّة فيما يتعلَّق بمفهوم “المحـدد “وذلـك على المستوى اللغوي. حيث نجد أن برنشتاين يعطي للمفهوم أبعادا جديدة في كل استخدام.

وفي هذا السياق يمكن ملاحظة ما يلي:

1- يمكـن لهـذا المفهـوم أن يشـير إلى عـدد مــن القــرائن الاجتماعيَّة التي تؤدِّي إلى تطوير لغة صحيحة.

2- يشـتمل مفهـوم المحدوديَّة عـلى مجموعـة أنماط مرجعيَّة التــي يمكــن تحويلهـا شـفويا. وهـذا يـؤدي إلى نتائج معرفيَّة وعاطفيَّة وتقويميَّة.

3- تتعلـق نوعيَّة التحـديد بحجـم الجماعـة ومــدى مــا تشــمله مــن أفــراد يشتركون في النظام اللغوي.

مع ذلك فإن هناك أسئلة تبقى دون إجابة عنها ومنها :

هل تؤدي المحدوديَّة الاجتماعيَّة حقا إلى محدوديَّة في الأبعاد اللغويَّة عند الأفراد؟

هل هناك اختلاف فعلي بين شخص يملك لغة محدودة وآخر يملك لغة متقنه؟.

إن اختبار برنشتاين لمفاهيمه في مقالته عام 1961 حول الموقف النظري إزاء الإمكانيّات البنيويَّة الخاصّة بتنظيم العبارات يجعله يعتقد بأن شروط حياة الطبقـة العاملـة وبنيتهـا الاجتماعيَّة لا تسمح لها بتطوير اللغة على نفس الوتـيرة التـي تتوافـر عنـد أبناء الطبقة الوسطى الذين يستخدمون اللغة المتقنـة. واللغـة المتقنة تمثِّل صورة متمايزة عن المحاكمة التي تقوم بين الأشخاص والعلاقـات التي تقوم بين الأشياء. وهي قادرة بالضرورة إلى قياس العلاقات القائمة بين الأشخاص والعلاقات القائمة بين الأشياء. ويلاحظ أن هذه النظريَّة تشهد تطوّرا في كل مرحلة من مراحلها حيث كانت تتميَّز بالبساطة في إطار المقولات الأولى. وعلى الرغم من جوانب الضعف التي تتخلَّل بنية هذه النظريَّة فإنها تأخذ مكانا هاما وأساسيا بين النظريات اللغويَّة المطروحـة وذلـك لأنهـا تحـاول الربط بين الوسط الاجتماعي واللغة الشفويَّة والتربية. وهـي عـلى الرغم من كل التحفّظات تبقى أفضل طريقة للتفكير في مسألة العلاقة بين الطبقة واللغة والتربية.

8- لغة أبناء العمال ولغة أبناء الطبقة الوسطى:
============================
ويميِّز برنشتاين بين لغة العمال ولغة الفئات الوسطى ويطلق على لغة العمّال تسميَّة اللغة المحدودة وهي لغة «حسيَّة حركيَّة تفتقر إلى أدوات الربط وينحدر فيها مستوى التعبير الرمزي المجرَّد وتتداخل فيها المقدمات والنتائج كما تسودها عبارات طفيليَّة(مثل أليس كذلك تعرف الخ ). أما لغة الفئات الوسطى فهي اللغة التي يطلق عليها اللغة المتقنة، فتتميَّز بدرجة عليا من الرمزيَّة والتجريد، واستخدام الضمائر، والتسلسل في استخدام الأزمنة(حاضر وماضي ومستقبل) وأدوات الترابط»([3]).

ويرجع برنشتاين هذا التباين بين العمال ولغة الفئات الوسطى إلى تباين طبيعة الحياة الاجتماعيَّة بين الوسطين. فالوسط العمالي يتميز بهيمنة البعد العاطفي للحياة المشتركة التي تتطلب نوعا من الحوار البسيط أو لغة التفاهم الضمنيَّة. فالحياة المشتركة تجعل الأفراد قادرين على فهم كثير من الأمور بإشارات بسيطة وهي بالتالي تقلِّل من أهميَّة الحوار المتقن.

وفي هذا السياق تشير الملاحظات الجارية أنَّ معلمي اللغات الأجنبيَّة أكثر قدرة من غيرهم على فهم ما يريده طلابهم الأجانب وذلك يتمّ بشكل عفوي عبر كلمات بسيطة جدا وتلميحات عابرة، ويعود ذلك إلى طبيعة الحياة المشتركة التي تجعل الفرد قادر على فهم وتفسير ما يدور في إطار الجماعة، التي يعيش فيها، دون بذل كثير من الجهد في الحوار أو التفكير. وبالتالي فإن هذا النمط من الحياة المشتركة لا يساعد على عمليَّة نمو اللغة أو التفكير عند الأطفال. وعلى خلاف ذلك كله فإن حياة الفئات الوسطى تتميز بدرجة عليا من الفرديَّة والنزعة إلى الاستقلال، وهذا من شأنه أن يساعد على نمو الحياة والفكريَّة عند الأطفال.

ويشير دونيس لورتون، من جامعة لندن، في إحدى دراساته في أواسط الستينات حول القدرات اللغويَّة عند أبناء العمال وأبناء الطبقة الوسطى، إن لغة أبناء الطبقة الوسطى كانت أقوى في الدلالة على الثقة بالنفس، والتعبير عن الذات، وفي مستوى الغنى والتوازن العفويَّة؛ بينما كانت لغة أبناء العمال اقرب إلى التعبير الميكانيكي القائم على الصيغ الكلاميَّة المحفوظة من الكتب المدرسيَّة([4]). ولا بد لنا من الإشارة في هذا الخصوص إلى التجانس بين أفكار كل من برنشتاين ولورتون مع جان بياجة Piaget حيث يؤكد ذلك الأخير بان تحطيم النزعة المركزيَّة (الأنويَّة) يشكِّل خطوة أساسيَّة نحو التفكير المنطقي المتكامل. فالطفل الذي ينمو في الأوساط البرجوازيَّة يميل إلى الاستقلال بينما يميل الطفل الذي ينمو في الأوساط الاجتماعيَّة العماليَّة إلى المشاركة الوجدانيَّة العميقة في حياة الجماعة حيث لا تتاح له الفرص الموضوعيَّة الكافيَّة نحو الاستقلال الذاتي. هذا وتشير الملاحظة إلى أن الأسر المتوسطة(الأطر العليا والمتوسطة وفئة المثقفين) تتيح لأطفالها نوعا من العلاقات الديمقراطيَّة وأجواء مناسبة لتنمية أساليب الحوار المنطقي، فالأطفال هنا يستطيعون التعبير عن ذواتهم وميولهم ورغباتهم، ومن شأن ذلك كله أن ينعكس إيجابيا على نمو طاقاتهم الفكريَّة واللغويَّة والمعرفيَّة. ويتميز نمط العلاقات التي تسود في إطار الأوساط التقليديَّة (أوساط العمال والفلاحين) بدرجة عليا من الكبت والتسلّط وأساليب القمع، ومن شأن ذلك، كما هو معروف على المستوى التربوي والنفسي، أن يعيق عمليَّة النمو والنضج الفكري واللغوي عند الأطفال. ومن أجل المقاربة يمكن أن نضرب مثالا على ذلك يتعلَّق بالحياة اليوميَّة: عندما يحدث الطفل نوعا من الضجَّة المزعجة يلجأ الأباء إلى أساليب وعبارات متعدّدة لمواجهة الموقف وإعادة الهدوء، ومن هذه الأساليب أن يقول الأب للطفل لماذا ذلك؟ أو أن يقول إن هذه الضجة مزعجة يا بني، أو أن يقول لو سمحت توقف عن إصدار هذه الضجة إنني متعب. وعلى العكس من ذلك قد يلجأ الأب إلى عبارات تسلطيَّة عنيفة غالبا ما تسود في الأوساط الاجتماعيَّة الفقيرة.

وتنعكس جملة هذه العلاقات والأساليب اللغويَّة في النهاية على مستوى التحصيل المدرسي عند الأطفال. فالطفل الذي يملك لغة جيدة هو، غالبا، الطفل الذي يشارك ويغني الحوار في قاعة الصف، وهو نفسه الطفل الذي يبادر دائما في اللحظات المناسبة للمشاركة في كافة النشاطات الفكريَّة والعقليَّة في المدرسة؛ وغالبا، ما يتحدر ذلك الطفل من أوساط اجتماعيَّة متوسّطة تتميَّز أجواؤها بدرجة عالية من سيادة العلاقات اللغويَّة ذات الطابع الديمقراطي.

وغالبا ما يتحدَّر الأطفال السلبيون، في إطار النشاط المدرسي، إلى أوساط اجتماعيَّة، تعاني من الاختناق الديمقراطي، في مستوى العلاقات اللغويَّة والتربويَّة. ولا يمكن لنا في أي حال من الأحوال أن نتجاهل الأثر الكبير الذي تمارسه لغة الوسط في النجاح المدرسي، فاللغة تمارس دورا حاسما ليس في تحقيق النجاح فحسب في مواد اللغة نفسها وإنما في كافة المواد الأخرى. ومن شأن القدرة على التعبير الجيد، والأسلوب اللغوي المتميز تحديد المصير المدرسي للأطفال سواء كان ذلك في مدارسنا، أو في بعض الأنظمة التربويَّة في العالم، كالنظام الفرنسي الذي يولي اللغة أهميَّة بالغة الخصوصيَّة في النجاح المدرسي. وفي ذلك النظام الأخير تتشابه اللغة التي تستخدم في الأوساط الاجتماعيَّة الراقيَّة(البرجوازيَّة) مع لغة المدرسة. وفي كل الأحوال، فالمسيرة المدرسيَّة، الخاصَّة بأطفال ذلك الوسط، مضمونة النتائج وذلك لأنهم يستحوذون على المهارات اللغويَّة المطلوبة في إطار المؤسّسات التربويَّة والمدرسيَّة، وهذا ما يذهب إليه بورديو وباسرون واستابله وسنيدر في كثير من أعمالهم ودراساتهم الخاصَّة بالمسألة في المجتمع الفرنسي.

ويمكن لنا أن نعثر على عدد كبير من الدراسات الميدانيَّة في فرنسا والتي أبرزت أهميَّة الوسط الثقافي في نجاح الأطفال على المستوى المدرسي. لقد قام المعهد الوطني بالدراسات الديمغرافيَّة بعدد من الدراسات الخاصَّة بهذه المسألة والتي أكَّدت على أهميَّة الوسط الثقافي المرجعي في تحديد مستوى تحصيل الأطفال المدرسي. وفي هذا الإطار يندرج بحث السيد بول كليرك Clerc Paul الذي أجراه حول عيِّنة واسعة من طلاب المرحلة الإعداديَّة في الضواحي الباريسيَّة عام 1963 ولقد خرج الباحث بنتيجة أساسيَّة وهي أن تأثير الوسط المرجعي هو تأثير ثقافي بالدرجة الأولى وأن مستوى النجاح المدرسي يتدرّج ارتفاعا مع تدرّج ارتفاع مستوى التحصيل المدرسي لذوي الطلاب([5]).

وفي البلدان الاشتراكيَّة السابقة، التي تمّ فيها، إلى حدٍّ ما، تقليص الفوارق الاقتصاديَّة بالقياس إلى البلدان الرأسماليَّة، يلاحظ الباحثون أنَّ اللامساواة الثقافيَّة والتربويَّة تشهد نوعا من الاستمرار والتواصل وذلك تحت تأثير التباين في الانتماء الثقافي لذوي الطلاب والتلاميذ. وفي ذلك تأكيد على أهميَّة الدور الكبير الذي يلعبه رأس المال الثقافي واللغوي في «معاودة الإنتاج» على حد تعبير بورديو[6].

وتؤكِّد أبحاث هنغاريَّة عديدة قام بها كل من ب – شاتث وشن كوملي، وت- ديمين، وغيرهم: على الأهميَّة الحاسمة للغة الوسط وثقافته في تحديد مستوى النجاح المدرسي والمتابعة في سلم التعليم والتحصيل العلمي عند أبناء الفئات الاجتماعيَّة المختلفة([7]).

ومن المناسب أن نذكر في هذا السياق الدراسة التي أجرتها سيزان فيرج Suzanne. F حول ديمقراطيَّة التعليم في هنغاريا، والتي تؤكِّد فيها على أهميَّة الوسط الثقافي المرجعي في تحديد درجة النجاح والتفوق المدرسيين عند أبناء مختلف الفئات الاجتماعيَّة الثقافيَّة. “فاللامساواة التربويَّة كما تؤكد نتائج هذا البحث تعود إلى التفاوت الثقافي القائم بين الأسر، ولا سيما في مستوى التحصيل العلمي للآباء، أو في مستوى الاستهلاك الثقافي الذي تمّ رصده، وفقا لحجم المكتبة المنزليَّة وعدد الكتب المقروءة، والدوريات العلميَّة المتاحة، وعدد الأدوات الثقافيَّة المتوافرة في المنزل من تلفزيون وفيديو([8]).

وعلى مستوى الوطن العربي وخصوصا في سوريا ما تزال الدراسات والأبحاث المتعلّقة بهذه المسألة محدودة وبالكاد غير معروفة أو مطروقة. وقد كان لنا أن نسهم في محاولة متواضعة لاستطلاع مقارن بين رأي طلاب جامعة دمشق وجامعة كان في فرنسا عام 1985 حول أهميَّة العامل الثقافي في مستوى التحصيل العلمي وذلك بالقياس إلى جملة من العوامل الأخرى كالعامل الفردي والعامل الجغرافي والعامل الاقتصادي. ولقد بيَّنت النتائج أن الطلاب في كلا الجامعتين يعطون العامل الثقافي الدرجة الثانية بينما يحتلّ العامل الفردي الدرجة الأولى في مدى أهميَّة وتأثيره على مستوى النجاح المدرسي([9]). وفي دراسة أخرى أجريناها على عينة من طلاب جامعة دمشق تبين لنا أن وتيرة التحاق الطلاب في الجامعة ترتفع بارتفاع مستوى التحصيل المدرسي والثقافي لذويهم وبالتالي فإن معدل الترابط كان مرتفع بين نسبة تسجيل الطلاب في الفروع الجامعيَّة الهامة(كالطب والهندسة) ومستوى التحصيل الثقافي لذويهم([10]).

9- جدل العاميَّة والفصحى في أدبيات برنشتاين:
============================
تعدّ الفصحى الشكل اللغوي الأكثر تطورا في بنيتها المنطقيَّة، وفيما تنطوي عليه من دلالات فنيَّة وجماليَّة، وهي الشكل اللغوي الذي يواكب حركة التطور الفكري والعلمي ويشكل إطاره الرمزي. ويتميَّز هذا الشكل اللغوي عن غيره وفقا لرؤية برنشتاين السوسيولوجيَّة بالسمات التالي:

1 – تأخذ الكلمات والعبارات مكانها في سباق قواعدي دقيق.

2 – تعتمد على درجة عالية من التسلسل المنطقي والعلاقات المنطقيَّة التي تقوم بين الأشياء وبين الزمان والمكان.

3- تميل إلى استخدام الضمائر غير الشخصيَّة مثل: هو هي هم.

4 – غنيَّة بالظروف والصفات وحروف الجر ذات الدلالة المنطقيَّة.

وهذا يعني أن الفصحى، أو اللغة الرسميَّة كما يطلق عليها برنشتاين، تشكل نظاما منطقيا متكاملا يمكن الإنسان من التفكير الرمزي المجرد([11]). وعلى خلاف ذلك تنقسم اللغة المحكيَّة(العاميَّة) بالسمات التالية:

1- تكون عباراتها قصيرة هي غالبا عبارات غير كاملة تفتقر إلى البنية القواعديَّة وتتميز بضعف البنية العامة.

2- تميل هذه اللغة إلى توظيف التعبيرات الحسيَّة المجسدة كالإشارات والإيماءات.

3 – استخدام محدود للصفات والظروف.

4- تنطوي على تكرار استخدام أدوات الربط الطفيليَّة مثل: فإن، لأن، وبالتالي، وهكذا.

5 – استخدام محدود الضمائر غير الشخصيَّة مثل: هو هي هم.

6 -تنطوي على تأكيدات تأخذ صيغة الأسئلة الغامضة مثل :تصور ذلك، هذا طبيعي أليس كذلك.

7 – هناك خلط عميق بين الأسباب والنتائج.

8 – مستوى الاستخدام الرمزي يتميز بالغموض والعموميَّة.

وفي إطار المقارنة بين النموذجين اللغويين يمكن أن تبرز ما يلي :

1- اللغة الرسميَّة لغة تعتمد التسلسل المنطقي والنحوي على خلاف اللغات المحكيَّة.

2- تميل اللغة الرسميَّة إلى الرمزيَّة بينما يمثل اللغة المحكيَّة إلى الحسيَّة كالإيماءات والإشارات الجسديَّة.

3- بينما تتجه اللغة الرسميَّة إلى استخدام الضمائر غير الشخصيَّة مثل: هو هي، هم تنزع اللغة المحكيَّة إلى التركيز على الأنويَّة أي استخدام اللغة الشخصيَّة مثل أنا ونحن. وهذا يعني ابتعاد اللغة المحكيَّة عن مبدأ الموضوعيَّة.

4- تتجه اللغة الرسميَّة إلى الموضوع بينما تنزع اللغة المحكيَّة إلى النهوض في تراكيبها ودلالاتها الرمزيَّة.

10- الأصول الاجتماعيَّة للتباين بين أنماط اللغة العاميَّة:
====================
يرى برنشتاين أن الوسط الاجتماعي يحدِّد مستوى اللغة وشكلها عبر أوّليات اجتماعيَّة متعدّدة. ويمكن أن نميِّز في إطار اللغة العاميَّة نسقا من النماذج (لهجات محليَّة) المتباينة إلى حدٍّ ما، ومثال ذلك لغة الفلاحين، لغة العمال، ولغة الفئات المتوسطة. فالفئات المتوسّطة تستخدم وشأنها في ذلك الفئات الاجتماعيَّة الأخرى لغة خاصة بها وهي ومتباينة عن النماذج اللغويَّة التي تستخدمها الفئات الاجتماعيَّة الأخرى، وهي بالطبع النماذج اللغويَّة المستخدمة في إطار الحياة اليوميَّة والعائليَّة.

ويضاف إلى ذلك أن مستوى ونمط كل نموذج لغوي فئوي يتباين عن اللغة الرسميَّة(الفصحى) بدرجات مختلفة تتحدد بطابع ومستوى الحياة الاجتماعيَّة لكل وسط اجتماعي خاص. إن النظر إلى اللغة كنظام اجتماعي متكامل أمر يقتضي منا أن ننظر إلى اللغة بوصفها نظاما للإدراك والاتصال والمعرفة وهذا يعني أنه يجب أن ننظر إلى اللغة بوصفها معطى اجتماعي يتحدَّد ويتشكَّل في إطار الوسط الاجتماعي شكلا ومضمونا. وفي إطار الوسط الاجتماعي يمكن أن نحدّد جملة من العناصر الأساسيَّة التي تمارس تأثيرها على تحديد شكل النماذج اللغويَّة ويمكن أن نذكر منها العوامل التالية :

1- المعطيات المعرفيَّة للوسط الاجتماعي.

2 – المعطيات الماديَّة للوسط الاجتماعي :الأشياء التي توجد في إطار الوسط.

3 – نمط العلاقات الاجتماعيَّة السائدة في الوسط المعني، وعلى الأخص مستوى السلطة ومدى التفاعل الاجتماعي في الوسط.

وفي إطار ذلك يمكن القول بأن لكل وسط اجتماعي معطياته الفكريَّة والماديَّة ونمطه من العلاقات الاجتماعيَّة السائدة فيه. ويترتب على ذلك وجود نوع من التباين في مستوى ومضمون وشكل اللغة التي تسود في إطار كل وسط اجتماعي محدد. فاللغة نظام للاتصال، ليس مع الآخرين فحسب، بل هي نظام للاتصال مع الوسط الاجتماعي بمعطياته المعرفيَّة والإدراكيَّة. ويستنتج من ذلك كله، على سبيل المثال وليس الحصر، أن الوسط العمالي يتباين إلى حد ما عن وسط الفلاحين فيما يتعلق بنظام الإدراك المعرفي، كما يتمايز عنه بخصوص العلاقات الاجتماعيَّة السائدة فيه. ويضاف إلى ذلك التباين الذي يتجسد في الشروط الماديَّة الموضوعيَّة التي تحيط بالوسطين. ومن شأن ذلك كله أن ينعكس على البنية اللغويَّة والاتصاليَّة والرمزيَّة القائم في كل وسط من الأوساط المعنيَّة.

وفي هذا الخصوص، يلاحظ على سبيل المثال، أن المفردات اللغويَّة عند أبناء الفلاحين تختلف، في نوعيتها ومدى غناها عن المفردات، التي توجد عند أبناء العمال. وبالتالي فإن التباين القائم بين النموذجين اللغويين يمكن أن يؤخذ على أنه مؤشر للتباين القائم بين معطيات الوسط الاجتماعي لكل فئة اجتماعيه. فالنظام الإدراكي عند العمال يميل إلى التركيز على تحديد العلاقات المنطقيَّة السببيَّة القائمة بين الأشياء؛ بينما يميل الفلاحون إلى نمط إدراكي آخر، تأخذ فيه الصدفة دورا أساسيا، وذلك بحكم شروط الحياة الإنتاجيَّة الخاصة للعمل الزراعي عند الفلاحين: فسقوط الأمطار، على سبيل المثال، لا يرتبط بقانونيَّة وضعيَّة وذلك في البلدان التي تسود فيها أنماط الإنتاج الزراعي التقليدي. ومثل ذلك التباين في النظام الإدراكي المعرفي ينسحب على الفئات الاجتماعيَّة الأخرى أيضا. وفي هذا السياق يرى برنشتاين أن أبناء العمال يميلون إلى المعرفة الوصفيَّة بينما يميل أبناء الفئات الوسطى إلى إدراك ذو طابع تحليلي، يتمركز حول الدلالات الرمزيَّة.

ويصف برنشتاين الفروق القائمة بين الأنظمة الإدراكيَّة لكل من الفئات المذكورة: على النحو التالي :

يشدد النظام الإدراكي عند أبناء الفئات الوسطى على أهميَّة العلاقة بين الوسائل والغايات على المدى البعيد، ويميل إلى إبراز التباين القائم بين الأشياء، ويمكن من توظيف التدابير المناسبة لتحقيق الغايات البعيدة. وعلى خلاف ذلك يميل النظام الإدراكي الخاص بأبناء العمال إلى التركيز على اتخاذ القرارات الآنيَّة، ويلاحظ هنا غياب أهميَّة العلاقات الممكنة بين الوسائل والغايات وهذا النظام الإدراكي يعمل على إبراز أهميَّة التجانس في بنية الأشياء لا أهميَّة الفروق القائمة بينها([12]).

ومن الأهميَّة بمكان هنا الإشارة إلى طبيعة التفاعل بين الإدراك واللغة، حيث إذ يمارس كل منهما تأثيره في الآخر في إطار علاقة جدليَّة متواصلة، حيث يعمل كل منهما على إغناء الآخر أو إفقاره. وهذا يعني أن التباين بين الأنظمة الإدراكيَّة الاجتماعيَّة من شأنه أن يحدد مستوى اللغة وشكلها وطابع تطورها عند أبناء كل فئة اجتماعيَّة معينه.

ويمكن القول اختصارا، إن الظروف الاجتماعيَّة الماديَّة والمعرفيَّة الخاصة بكل وسط اجتماعي تحدّد النموذج اللغوي السائد شكلا ومضمونا ويتمّ ذلك كله بموجب عمليات نفسيَّة واجتماعيَّة بالغة الأهميَّة والتعقيد.

11- مستوى التباين اللغوي بين الفئات الاجتماعيَّة:
================================
يتحدَّد شكل اللغة ومستواها في إطار الظروف الاجتماعيَّة السائدة لكل وسط اجتماعي محدّد. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ما حدود التباين والاختلاف اللغوي الذي تقرّره ظروف الحياة الاجتماعيَّة؟ وكيف يمكن تقييم مستوى اللغة عند كل فئة اجتماعيَّة؟ والإجابة عن ذلك ليست معقّدة من حيث المبدأ، وذلك لأن اللغة الرسميَّة السائدة(الفصحى) تشكّل معيارا لتحديد مستوى تطور وفعالية ونمو الأنماط اللغويَّة الاجتماعيَّة المختلفة. ومن أجل قياس ذلك، يتمّ حساب مدى التباين القائم بين اللغة الرسميَّة بوصفها النموذج المثالي لحركة اللغة ونموها وبين الأنماط اللغويَّة لمختلف الفئات الاجتماعيَّة في إطار المجتمع.

ومن أجل قياس مدى التقارب والتباعد بين الأنماط اللغويَّة السائدة في المجتمع واللغة الرسميَّة يمكن وضع مدرج لمستوى التقارب والتباعد اللغوي تحتلّ فيه كل لغة مكانها المحدّد. وغالبا ما يتمّ اعتماد مؤشّرات عديدة مثل مستوى الدلالات الرمزيَّة القائمة في كل نموذج لغوي، ومدى التماسك المنطقي، وغنى المفردات، ومدى الانسجام مع البنى النحويَّة، ومعيار طول الجمل أو قصرها، وذلك لتحديد مستوى تطور كل نموذج لغوي محدد. وتشير دراسات متعدّدة في هذا المضمار إلى أن لغة الفئات الاجتماعيَّة الوسطى تتجانس إلى حدٍّ كبير مع طابع ومستوى اللغة الرسميَّة(الفصحى) وذلك على خلاف الفئات الاجتماعيَّة الأخرى كالفئات العماليَّة والفئات الفلاحيَّة.

ويرجع الباحثون ذلك التقارب الملاحظ بين النماذج اللغويَّة لأبناء الفئات الاجتماعيَّة الوسطى والنماذج اللغويَّة الرسميَّة، إلى بعض السمات الثقافات الفرعيَّة الخاصَّة بأبناء هذه الفئات والتي تنطوي على السمات الثقافيَّة التربويَّة التالية:

1- البيئة الاجتماعيَّة المنظمة لأبناء الفئات المتوسطة.

2- يجري سلوك أبناء هذه الفئة وفق منظومة واضحة من الأهداف والغايات.

3 – يوجد نظام تعزيز معياري ثابت فيما يتعلق بالثواب والعقاب.

4- يربط مستقبل الأطفال بمصيرهم المدرسي.

5- تتسم البيئة الوسطى بأنها بيئة عقلانيَّة منظمة.

6- تتيح هذه الفئة لأبنائها مزيدا من حريَّة التعبير والتواصل.

7 – تؤكد هذه البيئة على أهميَّة التعبير عن المشاعر الانفعالية عند الأطفال. وفي هذا الخصوص، يقول برنشتاين:« تنظر الأسرة المتوسطة إلى الطفل بوصفه فردا ذا شخصيَّة وهي تتعامل معه كما هو، بالتالي فإنها تستخدم بنى لغويَّة من أجل التعبير عن الفرديَّة«([13]).

12- جدل العلاقة بين التباين الاجتماعي والتباين اللغوي عند الأطفال:
==========================================
يلاحظ الباحثون، في عدد متواتر، من دراساتهم أن تباين اللغة بين الأطفال يعود إلى التباين الاجتماعي والثقافي القائم بين أوساطهم الاجتماعيَّة المرجعيَّة، وان مستوى لغة الطفل يتحدَّد بمستوى وطابع الحياة الاجتماعيَّة والثقافيَّة للوسط الذي ينتمي إليه. وتشير الدراسة التي قامت بها موربيت كايو Mouriettee Gayaux حول التباين الحاصل في مستوى اللغة وفقا للأصل الاجتماعي الاقتصادي إلى النتائج التالية:([14]).

1- يعطي أطفال الفئات الميسورة، ثقافيا واجتماعيا، جملا كاملة، من حيث طول الجملة ودلالتها، وذلك بغض النظر عن مستوى وصولهم إلى المستوى الإجرائي لجان بياجيه. وعلى خلاف ذلك، فإن خيارات الأطفال، الذين ينتمون إلى أوساط فقيرة، كانت غير كاملة على الرغم من وصولهم إلى المرحلة الإجرائيَّة.

2 – تأكد للباحثة أن التراكيب اللغويَّة تتأثَّر إلى حدٍّ كبير بالوسط الاجتماعي، وبالتالي فإن النموذج اللغوي المستخدم يترجم نموذجا اجتماعيا محدّدا. ومن أجل إلقاء المزيد من الضوء على طبيعة التباين اللغوي الملاحظ عند الأطفال، وفقا لمتغيّر الانتماء الاجتماعي، لا بد من استعراض بعض المحاور التي تؤخذ على أهميَّة الوسط المرجعي في تكوّن اللغة وفي تشكلها. وفي هذا الصدد، يقول تشومسكي Chomisky«إن الطفل يولد وهو مزود بقدرة فطريَّة خاصَّة لتعلّم اللغة)…) وإن هذه القدرة تميل إلى النشاط بين الشهر الأول من العمر والسنة الخامسة ثم تبدأ هذه القدرة بالضمور بعد أن تكون قد أدَّت الغاية من وجودها«([15]).

ومع أن تشومسكي يرفض أهميَّة الوسط الاجتماعي في تعلم اللغة، ويرى أن اللغة حالة فطريَّة بنائيَّة، فانه في مقولته هذه يؤكِّد أهميَّة الوسط الاجتماعي وخاصة في مرحلة السنوات الخمس الأولى من حياة الطفل حيث يتشكل الطفل نفسيا، وتتحدد لغته، من حيث البناء والمضمون. وتؤكد مدرسة التحليل النفسي عموما، أن الطفل يتشكل نفسيا وانفعاليا في السنوات الخمس الأولى من العمر، ويرى جان لاكان Lacan: إن اللاشعور ليس سوى ركام من المفردات اللغويَّة «والإنسان لا يعدو أن يكون، بالنسبة إليه، سوى كيان لغوي يتكون من خلال اللغة، واللاوعي هو كيان وبناء لغوي خالص «([16]).

وإذا كان لاشعور الإنسان يتمثَّل في الخبرات والتجارب التي يعيشها الفرد، في مراحل حياته الأولى، فإن الوسط الاجتماعي يلعب دورا فعالا في عمليَّة تحديد السمات الأساسيَّة للبنية اللغويَّة عند الأطفال بوصفها لاشعورا. وفي هذا السياق يقول جيروم برونو »يجب أن نبحث عن الأصول النشوئيَّة للغة خارج اللغة، وفي أشكال من الفعل البشري الذي تتحقق من خلالها عمليَّة انعكاس الواقع الخارجي وتشكل الصورة الذاتيَّة للعالم«([17]).

ولا تعدو لغة الطفل أن تكون سوى اللغة التي يكتسبها في مرحلة طفولته المبكّرة وفي إطار الوسط الاجتماعي المبكر. وهي اللغة الأوليَّة التي تتمازج مع فكر الإنسان وعواطفه وتعبّر عنها. وفي الوقت الذي تتباين فيه الأوساط الاجتماعيَّة فإن التباين ينعكس دون شك على بنية اللغة وشكلها.

13- اللغة والنجاح المدرسي:
==================
تمارس اللغة كما تبين أهميَّة كبيرة وتأثيرا بالغا في مستوى النجاح المدرسي الذي يحقّقه أطفال الفئات الاجتماعيَّة المختلفة. ولا تعدو لغة المدرسة في كثير من جوانبها المعرفيَّة أن تكون إلا صورة عن اللغة الرسميَّة التي تسود في إطار الحياة الاجتماعيَّة.

ويلاحظ الباحثون في هذا السياق أن الأطفال، الذين يتحدّرون من أوساط اجتماعيَّة ميسورة، يستطيعون تحقيق نجاح أكبر بالقياس إلى أبناء الفئات الاجتماعيَّة الدنيا. ويرجعون هذه الظاهرة إلى وجود تماثل وتجانس بين الثقافة المدرسيَّة وثقافة الأوساط الاجتماعيَّة الميسورة، ولا سيما فيما يتعلق باللغة بوصفها المؤشر الثقافي الذي يحدد مستوى ثقافة اجتماعيَّة ما.

ولا تقف دلالة اللغة، التي يتكلمها الأطفال في المدرسة، على دلالة اللغة كمادّة تدرس وأنما ترتكز على دلالتها الاتصاليَّة التكيّفيه وعلى جوانبها الثقافيَّة بوصفها نظام معرفي اجتماعي.

عندما يصل أبناء الفئات العماليَّة إلى المدرسة، يجدون أنفسهم في أوساط ثقافيَّة مباينة لثقافتهم، ويجدون أنفسهم إزاء لغة تختلف عن لغة الوسط الذي يعومون فيه، ومن هنا، بالذات، تأتي إشكاليَّة الإخفاق المدرسي. وفي هذا الصدد، يقول بودلو واستابليه «إن لغة المدرسة لا معنى لها بالنسبة لأطفال الفئات الاجتماعيَّة المحرومة، وذلك لأنها لا تعبر عن تصوراتهم وطرق حياتهم وأنماط تفكيرهم، واللغة المدرسيَّة تجعل من المدرسة بالنسبة لهم عالما غريبا لا يستطيعون العوم فيه. وعلى خلاف يجد ذلك أبناء الفئات الاجتماعيَّة الميسورة في ثقافة المدرسة مدا طبيعيا لثقافتهم، وفي لغتها استمرار لتطور وجودهم اللغوي، وذلك يشكل منطلقهم في النجاح والتفوق المدرسيين([18]).

وينظر جورج سيندر Synders George إلى التعارض بين لغة المدرسة ولغة العمال« على انه تعارض كلي وشامل »([19]). ومن شأن ذلك أيضا أن يؤدي إلى إخفاق أبناء الفئات الاجتماعيَّة المحرومة. إن عدم قدرة أبناء الفئات الشعبيَّة على مواكبة النجاح المدرسي دفع عددا من الباحثين إلى تقصي هذه الظاهرة. وبدأت الدراسات الجارية في هذا الميدان تشكل اتجاها نظريا متكاملا حول مسألة اللغة والإعاقة اللغويَّة.

14- العوامل الأسريَّة المؤثرة على نمو اللغة عند الطفل:
===================================
يتحدد المستوى الاجتماعي للأسرة في ثلاث مستويات أساسيَّة وهي: المستوى الثقافي، والمستوى الاقتصادي، وأخيرا المستوى المهني. وتتداخل هذه العوامل لتشكل ما يطلق عليه المستوى الاجتماعي للأسرة. وفي جانب آخر تنطوي الأسرة على عامل بالغ الأهميَّة يتعلق بالتفاعلات الاجتماعيَّة القائمة بين أفرادها ونمط التنشئة الاجتماعيَّة السائد فيها. ومن حيث المبدأ يرى الباحثون أن مستوى الأسرة الثقافي يؤثر بشكل مباشر على مستوى النمو الانفعالي والمعرفي واللغوي عند الأطفال. وعلى المستوى اللغوي يلاحظ أن أجواء الأسرة تشكل مناخا لغويا مناسبا كلما ارتفع مستوى تحصيل الأبوين التعليمي والثقافي. ونعني بالمناخ الأسري جملة المثيرات اللغويَّة والثقافيَّة التي تتمثل بسلوك الأبوين الثقافي، فالآباء الذين يتميزون بارتفاع مستواهم الثقافي، غالبا ما، يحيطون الطفل بشلال من العبارات اللغويَّة المتكاملة التي يكتسبها الطفل بشكل عرضي ولا شعوري وشعوري أحيانا. وهم بذلك يشكلون مناخا لغويا مناسبا لنمو السلوك اللغوي عند أطفالهم. وفي أغلب الأحيان يلجأ الآباء المثقفون إلى استخدام الأساليب الديمقراطيَّة في علاقاتهم مع الأطفال، ويتركون لهم حريَّة التعبير الحر عن ذواتهم ونشاطاتهم، وهم يساعدون الأطفال على تطوير أنماط سلوك لغويَّة متطورة ومتقدّمة. فالأسر ذات المستوى الثقافي المتطوّر يمكن أن تتيح للطفل ما يلي:

1.فرص متنوِّعة للتعليم داخل المنزل.

‌2.مفردات لغويَّة متطورة وغنيَّة.

3.أسلوب لغوي متميِّز ومتطوّر.

4.يجد الطفل إمكانيَّة واسعة لتصحيح أخطائه اللغويَّة.

5.غالبا ما يجد الطفل المثيرات الثقافيَّة في الكتب والمجلات والصحف.

6.غالبا ما تكون الأحاديث التي تدور بين الأبوين أو الأصدقاء ذات مضمون اجتماعي ثقافي متطوِّر وهذا من شأنه أن ينعكس على مستوى لغة الطفل

7.تميل العلاقات السائدة في وسط الأسرة إلى تحقيق حريَّة واسعة في التعبير.

وعلى خلاف ذلك عندما يكون مستوى الأبوين متدنيا في السلم الثقافي أو التعليمي فإن الطفل يجد نفسه في بيئة لا تساعده على نمو استعداداته العقليَّة واللغويَّة. وبالطبع فإن ذلك يؤثِّر على تطوّره الفكري واللغوي اللاحق.

وعلى المستوى الاقتصادي يلاحظ أن الأسر الميسورة تستطيع دائما أن تقدِّم مساعدات هامة في مجال تطوير المستوى العقلي واللغوي عند الطفل وذلك عن طريق تأمين احتياجاته المختلفة، وغالبا ما يقترن المستوى الاقتصادي بالمستوى الثقافي للأسرة ويصبح مناخ الطفل أفضل عندما تقترن السويَّة الثقافيَّة العالية للأبوين بسويَّة اقتصاديَّة ومهنيَّة عاليتين.

15- خلاصة :
========
الحديث في شأن اللغة وأحوالها الاجتماعيَّة أمر بالغ الأهميَّة والتعقيد. ولا نستطيع في هذا المستوى من العمل أن تعالج الجوانب المختلفة لهذه المسألة. إن ما قدمناه على متن هذا الفصل لا يشكل سوى محاولة بسيطة حاولنا فيها تسليط الضوء على جوانب التباين اللغوي الذي يعود إلى منشأ اجتماعي. ونأمل أن يكون ما قادرا على تقديم صورة أساسيَّة موجزه لطبيعة التفاعل الذي يقوم بين اللغة والأوساط الاجتماعيَّة المختلفة.

وإذا كان من كلمة أخيره تقال فإنها دعوة إلى الباحثين تحدوهم إلى تقصي أبعاد هذه المسألة ميدانيا في الوطن العربي وإلى اختبار عدد كبير من الافتراضات النظريَّة التي وجدت من يعني بها في بعض البلدان الأوروبيَّة المتقدِّمة.

ويمكن لنا أن نلخص نظريَّة برنشتاين اللغويَّة فيما يلي :

1-التطوّر اللغوي للطفل مرهون ومشروط إلى حد كبير بالوسط الاجتماعي الذي يعيش فيه.

2- نمو اللغة الشفويَّة وتطورها يلعب دورا هاما في نمو القدرات العقليَّة وتطورها عند الأطفال.

3- يتأثّر النمو اللغوي عند الأطفال بطبيعة العلاقات العائليَّة القائمة في إطار الوسط العائلي، وهي لا تساعد على النمو اللغوي في الأوساط الاجتماعيَّة الدنيا لأنها تتميَّز بكونها بسيطة ومباشرة وسلطويَّة، أي على عكس ما يحدث في الأوساط الاجتماعيَّة العليا([20]).



هوامش المقالة ومراجعها:
================
[1]-Brenstien Basil, Langage et Classes sociales, Minuit, Paris, 1975.

[2]-Brenstien Basil, Ibid.

[3] -De Coster (S.)& Hotyat Fernand, La sociologie de l’éducation université. de Bruxelles, Bruxelles, 1970. (P 92)

[4] – مجموعة مؤلفين: الطفل والتلفزيون، ترجمة علي وطفة، وزارة الثقافة، دمشق 1996.

[5]– Clerc Paul: La famille et l’orientation scolaire au niveau de la sixieme, I.N.E.D., Population, n. 4, 1964. (P 40).

[6] – Bourdieu (P )et Passeron (J.C ): Langage et rapport au langage dans la situation pédagogique , les temps modernes , 1965 , pp 435- 466 .

[7] – ريناتا غوروفا، مقدمة في علم الاجتماع التربويˇ ترجمة نزار عيون السود، دار دمشق، دمشق، 1984 (ص119).

[8] -Suzanne Ferge, La démocratisation de la culture et l’enseignement en Hongrie, Dans Costel Robert et Passeron Jean Claud, la sociologie l’éducation, Moton. 1967. (PP61-77).

[9] – Watfa Ali, l’inégalité sociale dans l’enseignement supérieur: Des Ov.cité (P15).

[10] – Watfa ali, l’inégalité sociale Même source,(P81)

[11] -Alain- Gras, Sociologie de l’éducation, Textes fondamentaux, Larousse, Paris, 1974, P73.

[12]­- Alain- Gras, Sociologie de l’éducation, ov.cité,P69.

[13] -Alain Gras, Męme source, P69.

[14] -­C.R.E.S.A.S. L’handicapes socio-culturel en question E.S.F. Paris, 1981,P85.

-[15] مزينه الخطيب: معضلة القصور اللغوي عند الطفل، كليَّة التربيَّة، جامعة دمشق، 1987،ص2.

[16] ­-Jean Marie Domenache: Enquête sur les idées contemporaines Seuille, Paris, 1981,P44.

– [17] امطانيوس ميخائيل: الإشكاليات الفلسفيَّة في فكر تشومسكي اللغويَّة المعلم العربي، السنة الثالثة والأربعون، العدد 1، 1990، (صص (26-32)،ص31.

[18] -Baudelot.C.C- Estabelet.CR., L’école capitaliste en France Paris, Maspero.1971.

[19] -Synders George: Ecole Classe ET Lutte des Classes Paris, P.U.F., Paris, 1974.

[20]– Boudon Raymond, l’inégalité des chances, Armond Colin, Paris, 1974.P60.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الجزيرة ترصد مطالب متظاهرين مؤيدين لفلسطين في العاصمة البريط


.. آلاف المتظاهرين في مدريد يطالبون رئيس الوزراء الإسباني بمواص




.. اندلاع اشتباكات عنيفة بين الشرطة الإسرائيلية ومتظاهرين في تل


.. مراسلة الجزيرة: مواجهات وقعت بين الشرطة الإسرائيلية ومتظاهري




.. الاتحاد السوفييتي وتأسيس الدولة السعودية