الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


طباخ في الحرب

رياض ممدوح جمال

2023 / 7 / 28
الادب والفن


مسرحية ذات فصل واحد
تأليف : رياض ممدوح جمال

الزمان : اثناء الحرب العراقية الايرانية، الوقت عصرا.
المكان : موضع في الجبهات الامامية من المعارك.

الشخصيات :
الطباخ : يرتدي ملابس عسكرية ، سمين وذو كرش كبير.
حسن : مقاتل نحيف الجسم ذو ملابس عسكرية رثة، اسمر البشرة.
حميد : مقاتل متوسط الجسم والسمنة، بشرة بيضاء، بملابس عسكرية جيدة.

المنظر : (موضع تحت الارض مسقف بالصفائح المعدنية، فيه ثلاث اماكن
للنوم مفروشة على الارض، كل من المقاتل حسن والطباخ مواجه احدهما الاخر،
الطباخ يتكئ ويرتشف رشفة من قدح خمرة امامه. يظهر من خلال منفذ صغير
اعلى الموضع ان اشعة الشمس تخفت وتغرب).

حسن : من اين تحصل على المشروب هذا؟
الطباخ : الذي يجهزنا بمستلزمات الطبخ، يجهزني بالمشروب. (يضحك)
حسن : اننا أقرب إلى الموت من غيرنا، إننا في حالة تأهب قصوى.
والمعلومات تؤكد أن العدو سيهجم علينا صباح الغد. فيجب أن تحسب حساب
الآخرة.
الطباخ : بمشروبي هذا، سأبعد الموت عني شهورا وربما سنين.
حسن : ساعة موتك ثابتة ولا يمكن أن تغير فيها لحظة واحدة.
وكيف ستبعد الموت عنك بالمشروب، هل فقدت وعيك، من اثر المشروب؟
الطباخ : بالعكس، أنا عندما اشرب ازداد صحوة، واتوقد تفكيرا.
حسن : من المؤكد انك بمشروبك هذا، تضمن لك مكانا في جهنم.
الطباخ : حين ينتحر الانسان، الا يعتبر كافر؟
حسن : نعم اكيد، هو سيكون كافرا.
الطباخ : انا افعل العكس. اني احافظ على ما وهبني الله اياه، وهي حياتي.
فهل يعاقبني الله على ذلك! فإن الله خلق لنا الحياة لنعيشها، لا للموت فيها.
حسن : ليس الاوان مناسبا لهذا النقاش، يا ملحد (مازحا).
الطباخ : بالعكس انا مؤمن، لكن عندي الدين بسيط، واهتم بجوهره. وليس
مثلك تعقد الدين ولا تفهم من جوهره شيئا. وانا على ثقة، باننا نحن وعدونا في النار.
ما دمنا نقتتل على اختلاف الافكار. ما دامت كل الأديان من الله، فيجب أن توحدنا،
لا ان تفرقنا.
حسن : ارجوك لنغلق النقاش بالأمور الدينية. وقل لي كيف ستبعد الموت عنك؟
(باستخفاف).
الطباخ : وهل من المعقول أن أبوح بسري لرجل متعصب مثلك! (مازحا).
حسن : ارجوك كن أكثر جدية معي، فانا احبك، وامرك يهمني. قل لي ما هي
علاقة المشروب بعملية إنقاذ نفسك! إن الهروب من هنا مستحيل.
الطباخ : سبق لي أن هربت وفشلت، أعلم أن هذا مستحيل.
حسن : اذن كيف؟ قل لي.
الطباخ : يبدوا عليك الرغبة في مشاركتي الخطة لإنقاذ نفسك. (مازحا)
حسن : ممكن، ولم لا، ان كانت الخطة معقولة.
الطباخ : في البداية، عليك أن تشاركني المشروب. فإن الخطة تحتاج لأقصى
جرأة. وصنع المشروب لنقوم بالأعمال التي لا يمكننا القيام بها اثناء صحونا، وذلك
لسيطرة الجبن علينا. (مبتسما)
حسن : اللعنة عليك وعلى خطتك. لا يمكنك أن تكون جادا ابدا.
الطباخ : صدقني انا جاد في قولي. فما سأقدم عليه يتطلب منتهى الشجاعة،
والتي يخلقها المشروب.
حسن : افضل الموت على خطة تتطلب مشروب. اقرب شيء علينا نحن
هنا هو الموت، وتريد أن أموت مخالفا لديني؟
الطباخ : عندما تقتل غدا رجالا من نفس دينك الا تخالف بذلك الدين؟
حسن : اني انفذ ما يطلب مني. والا سيتم اعدامي.
الطباخ : على الاقل، تموت دون ان تقتل احدا.
حسن : انه كالانتحار، والانتحار حرام.
الطباخ : وقتل الآخر، اليس حراما؟
حسن : هذا موضوع اكبر من ان نقرره نحن.
الطباخ : هكذا انتم دائما، تغلقون ابواب ادمغتكم، وتتبعون القطيع.
حسن : شكرا لك على هذا التشبيه. (ينهض، ويتهيأ للخروج)
الطباخ : إلى أين أنت ذاهب؟ ارجوك اجلس، اني امزح معك. (يضحك)
حسن : لقد حان دوري بدلا من زميلنا حميد في واجب الحراسة. وقد
صدعت راسي دون أن أفهم منك شيئا، وسياتي حميد فهو لعله يفهمك أفضل مني.

(يخرج الجندي حسن، ويبق الطباخ وحيدا يرتشف الخمر)

الطباخ : نعم، سبق لي ان جربت الهروب من الجيش، انه أصعب من
الموت هنا في جبهات القتال. في كل دقيقة فيها، تموت آلاف المرات. وان الموت
هناك اقرب اليك من الموت هنا. فللموت الاف العيون هناك، شبكة رهيبة من العيون
ترقبك، يصبح هذا الكون الفسيح اضيق من حجم فنجان قهوة، تعجز أن تخبئ نفسك
فيه. لم أكن احاذر عيون الجواسيس وازلام النظام فقط، بل كنت احاذر حتى
الاحباب، من ان زلة من لسانهم تؤدي بي الى الموت. زلة لسان امك العجوز في
حديثها مع جارتها، ممكن أن تؤدي بك إلى الموت. زلة لسان طفلك مع زملائه في
المدرسة ممكن ان تؤدي بك إلى الموت. حين تهرب لتنقذ نفسك، ترمي اهلك
وعائلتك في التهلكة. وكأنك تنقذ اصبعا، فتهلك الجسد كله. حين ارسلت وحدتي
العسكرية، خبر هروبي منها، إلى الجواسيس في منطقة سكناي، تكالب الجميع في
البحث عني، وكأني سأكون وحدي السبب في خسارة الحرب. رغم أن الذين
بحثوا عني، يمكن تشكيل جيش كامل منهم، وبإمكانهم إحراز النصر في الحرب،
لا النصر في القبض علي. وحين فشلوا في القبض علي، قبضوا على والدي
المريض العجوز. وهددوا باعتقال امي وزوجتي واخواتي، ان لم اسلم لهم نفسي،
فاسجن أو اعدم. ولكي أنقذ العائلة كلها، سلمت نفسي، ولكوني لم اهرب سابقا، وان
هذه هي المرة الأولى، فقد حكموا بسجني ثم ترحيلي إلى الخطوط الامامية الخطرة
من جبهات القتال، وها انا ذا هنا.

(يدخل الجندي حميد، يركن سلاحه على الحائط، يخلع حذاءه العسكري، يجلس
قبالة الطباخ، واثناء كل ذلك يتحدث)

حميد : مرحبا أيها السكير. لقد ازعجت زميلنا حسن كثيرا. بماذا تحدثتما؟
الطباخ : اني دائما اتجنب النقاش معه، لان راسه محشو بأفكار مسبقة، لا
تعود اليه، ولكنه متخذا منها نبراسا له، حتى دون ان يفكر هو فيها.
حميد : كم مرة اقول لك ان لا تناقشه بشيء.
الطباخ : المشروب، كما تعلم يا عزيزي، يثير النقاش. فالمشروب هو
المذنب، لا انا.
حميد : (ضاحكا) يقول انك تتحدث الغازا، ولم يفهم منك شيئا، سوى انك
تدبر شيئا ما، للتخلص من معركة يوم غد. وانا اعلم انك لست بهذه السذاجة.
الطباخ : نعم، هو على حق، فأنا أدبر واخطط لإنقاذ نفسي.
حميد : وكيف ذلك؟
الطباخ : اعلم انك تحب الالغاز، وتبحث عنها في الصفحات الاخيرة من
الصحف والمجلات. (مبتسما)
حميد : ان اللغز الاول الذي اريد حله، هو لماذا تشرب ولم يأت الليل بعد؟
الطباخ : وما هو اللغز الثاني؟
حميد : هو، لماذا لم تترك لي شيئا من المشروب، وقد أفرغت القنينة؟
الطباخ : سيأتيك الجواب الليلة، يا عزيزي.
حميد : وهذا لغز اضافي، يا عزيزي.
الطباخ : سأبدأ الان بطرح الالغاز الجدية عليك، فانت اذكى بكثير من زميلنا
حسن.
حميد : هيا، فأنا كلي أذان صاغية لك. وقد شوقتني لألغازك.
الطباخ : التضحية بالجزء من أجل ربح الكل. وعندما يضحي صياد السمك
بالطعم ليصطاد سمكة، هل هذا عمل احمق؟
حميد : كلا طبعا، انه عمل سليم.
الطباخ : وعندما عدت انا الى هنا بعد ان هربت، الم اكن الطعم الذي ينقذ عائلتي؟
حميد : نعم، هذا أيضا صحيح.
الطباخ : في مركز سوق مدينتي، رأيت امرأة تعرض طفلها الرضيع للبيع،
من اجل اطعام بقية اولادها. وجار لنا باع تباعا، جميع الابواب الداخلية لغرف داره،
لكي لا يضطر لبيع الدار نفسه.
حميد : هذه من نتائج الحروب.
الطباخ : قرأت مرة، انه في أفريقيا، يقتلون الصبي الضعيف، ليحافظوا على
سلالة من الاقوياء فقط.
حميد : لقد جعلت الالغاز اكثر تعقيدا علي. ما الذي تريد ان تقوله بالضبط،
يا عزيزي؟ انا ايضا أصبحت مثل زميلي حسن لم أفهم منك شيئا. لكن الذي افهمه،
هو انه للوطن حق علينا في الدفاع عنه.
الطباخ : (يضحك) ان كثرة قراءتك للصحف والمجلات المحلية، شوشت
عقلك. لقد حان الان موعد ذهابي إلى المطبخ لإعداد وجبة العشاء للجنود. مع
السلامة.

(ينهض ويرتدي جاكيته وحذاءه والبيرية على راسه ويخرج مترنحا)

حميد : يا لهذه الحروب البشعة التي تشوه الانسان، تجعل من أبشع الأعمال
بطولة معقولة وتثير الإعجاب. الحروب تشوش وتقلب الموازين راسا على عقب.
انها تذل أكبر الشخصيات الجبارة. فأنا الذي كنت اعتبر نفسي صاحب شخصية
وكرامة وعزة نفس، طلبت من والدي موقف مذل بالنسبة له ولي، وهو أنه يذهب
إلى ضابط، تربطه به صلة قرابة بعيدة، ان يتوسط لي، لا لشيء، الا لكي يجعلني
مراسلا، اي خادما عند احد الضباط، لكي لا اشارك في القتال وقت المعارك. يا لها
من مهزلة! لأنه لا يوجد حرب مقدسة، أو حرب عادلة. لا يوجد مبرر انساني
يجعلني أن اقتل شخصا لا اعرفه، أو أن يقتلني شخص لم اعاده انا يوما. فنكون
أمام خياران أحلاهما مر، الموت بلا معنى او التنازل عن انسانيتك. انك تعيش
الجحيم عندما تتحاشى الجحيم. إننا الان في بركة من الاوحال، لا يخرج منها أحدا
دون أن يتلوث. وتحس انك خلقت في المكان والزمان الخطأ. لعنة الله على الحروب
ومشعليها.

(يدخل حسن مرعوبا، مصدوما، مرتبكا، متلعثما بكلامه)

حسن : كم كنت غبيا! كانت الحقيقة أمامي، كعين الشمس، وقد حجب
بغربال. يا للهول، لقد تبينت حلول كل الالغاز الان، يا حميد.
حميد : ما بالك تهذي، يا عزيزي؟ هل هذا اليوم، هو اليوم العالمي للألغاز؟
وما الذي حدث؟ هل هجم العدو علينا؟ هل بدأت المعركة؟
حسن : لقد بدأت معركتنا الصغيرة نحن وانت. وقد حقق فيها زميلنا الطباخ ما اراد.
حميد : يا لهذا اليوم الذي لم تنته الغازه ابدا! اتوسل اليك اوضح، ما الذي جرى؟
حسن : الآن فهمت كل الغاز الطباخ. وكم كان واضحا!
حميد : ارجوك اشرح لي الالغاز، لكي ننهي هذه المسرحية.
حسن : ان زميلنا الطباخ قطع اصبع ابهامه بساطور تقطيع اللحوم.
حميد : ماذا تقول!
حسن : وتم نقله على وجه السرعة الى المناطق الخلفية لعلاجه. ومن المؤكد
بعد ذلك سيتم تسريحه من الجيش باعتباره معوقا. وذلك طبعا بعد ان يتحققوا منه ان
كان متعمدا ام حدث الامر سهوا.
حميد : يا للهول!
حسن : لقد قفز زميلنا الطباخ إلى الضفة الأخرى من النهر، ونجا.
حميد : ونحن سنبقى في المستنقع ننتظر مصيرنا. كأغنام تساق الى المسلخ.

ستار








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - مسرحية تدين الحرب
صباح كنجي ( 2023 / 12 / 11 - 01:19 )
مسرحية قوية تنقلنا الى اجواء الحرب وتغوص في ثنايا نقاشات جادة لا تخلو من السخرية تنقلنا لحالة رفض الموت في زمن الموت تجسد رغبة الانسان في الحياة وحبه وعشقه للحرية تدين الحرب باسلوب جميل وترفض ان يتحول البشر لوقودها -- اتمنى ان ينتبه لها المخرجون ويحولوها الى مشاهد مسرحية تعرض للجمهور

اخر الافلام

.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال