الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


و عاودني عصاب الحرب .

محمد حسين يونس

2023 / 7 / 29
سيرة ذاتية


أكثرأيام حياتي هدوء و سلاما و سكينة .. أمضيتها في مستشفي عسكرى للأمراض النفسية بكوبرى القبة .. بعد عودتي .. من الحرب في 67.. و فشل محاولاتي المستمرة لقبول الواقع و إعتباره كما اشاعوا أنه نكسة .. و جولة قتال سيعقبها جولات .
لقد عملت علي الجبهة .. أنشيء الملاجيء و نقط المراقبة .. و بالأسكندرية أنشيء قواعد الصواريخ البحرية .. و في الصعيد نلغم خطوط الكهرباء الضغط العالي ..
كنت أرى حولي .. كل الاسباب التي أدت للهزيمة تتكرر .. شعب مغيب.. يقوده من لا يحترمة أو يثق فية .. و قرارات علوية عشوائية بنفس العنجهية و العنطزة الفارغة خصوصا بين كبار الضباط ..الذين هرب أغلبهم من الميدان .. و صراع بين أكثر من طرف يدعي كل منهم أن الأخرين خونة و وحدات الجيش تترك مقارها و تحتمي بالمدنيين ..و قوات العدو متفوقة تصل إلي أى مكان بالوادى .. و تدمر حتي مدارس الأطفال علي أساس أنه كان علي سطحها مدافع مضادة للطيران ..
الدكتور عدنان البية .. كان يستمع لي بصبر .. و حياد .. ليس فيه تعاطف و لا إدانه .. ثم وصف حالتي بأنها عصاب حرب مزمن شديد .. و إحتجزني في جنته لشهرين حتي أستطيع أن أتزن و أسترد قدرتي علي التعامل مع البشر .
في ذلك المكان و مع الأدوية شديدة المفعول .. كان لا يهمني من أمر الحياة إلا أن أعيش اليوم .. أقرأ أسمع أغاني و موسيقي من راديو صغير .. أتحدث مع المرضى أحاديث طويلة تستغرق الساعات أفهم منهاالحقائق عارية دون خوف أو تورية أو طمع في مستقبل أفضل .
لم يعد يعنيني الزوجة و الطفلين فلقد إرتحت من مطالبهم .. و مشاكلهم ..و الخوف علي مستقبلهم ..و لم يكن يهمني النجاح في المهام الوظيفية أو التفوق ..أو حتي تعلم جديد .. ولم يكن يؤرقني ما يحدث لأبي أو أمي أو أختي أو أخي .. فلقد حصلت علي أجازة مدفوعة الأجر من هموم الحياة .
في ذلك الزمن حول سبعينيات القرن الماضي .. كنت أتجول في الحياة .. دون تواجد حزين .. متشائم .. لا أرى أى ضوء في نهاية النفق .. لا أحترم رؤسائي أو زملائي.. و لا أضع أى إعتبار لهذه العلامات العديدة علي الأكتاف .. فلقد رأيتهم يزحفون في طابور الأسر .. و يتصارعون مع الشباب من أجل الحصول علي طماطمية أكبر حجما .
و في ذلك المصح رميت كل هموم الحياة خلفي .. و كنت أرى الواقع كما عشته .. كلاب تنهش في حثث الموتي المضروبة بالنابلم ..و جوع و عطش يحول أخلاق الناس إلي غيلان .. حتي أن أحدهم يغرق في جردل ممتليء بالماء لضغط زملاء له علي رأسة من أجل محاولة الحصول علي شربة ماء .
تدهورت ثقتي في قدرة النظام علي التغيير منذ اليوم الأول لعودتنا في صباح مشمس من أيام يناير 1968 .. عندما أوصلتنا الأتوبيسات الإسرائيلي إلي الضفة الغربية من القناة .. و حملتنا لنشات مصرية تحت حماية علم الأمم المتحدة للضفة الشرقية .. ثم أتوبيسات القوات المسلحة إلي الكلية الحربية لنمضي فترة إسبوع تحت عيون المخابرات الحربية قبل أن ننتقل للتعامل مع الناس خارج الأسوار .
في الكلية الحربية .. حاول مدير المخابرات اللواء محمد صادق .. أن يجعلنا نفهم أن الوضع مستقر .. و الناس تزاول حياتها كالمعتاد .. و أن الأسعار لم تتغير ..كيلو اللحمة زاد سعره شوية لكن رجع بستين قرش ثم زارنا الوزير محمد فوزى .. و بشرنا باننا سنعود إلي وحداتنا المقاتلة ندافع عن الحدود الجديدة .. و أن وزير الشئون الإجتماعية (واحد من الضباط الأحرار ) قرر صرف إعانة عشرة جنيهات لك منا .
في تلك الأيام لم أقبل هذه الحلول السهلة .. يعني إيه الأحوال هادئة و مستقرة .. يعني لو كنت مت كان دمي حيروح هدر .. الناس دى إيه.. مبيثروش ليه .. إيه معني إغفال أن قائد الكتيبة و رئيس العمليات قد هربوا و تركوا الضباط و الجنود عمي فريسة لقوات العدو .. بل لقد هددني نائب مدير سلاح المهندسين بانني سأنال عقابا لو تكلمت عن هروب قادة الكتيبة .. ((م كل الناس هربت و سابت سلاحها .. و محدش بيتكلم .. هو إحنا عجبة .. عايز تفضح السلاح )) .
و فضحت السلاح و كل الأسلحة لقد سقطت القيادات في نظرى .. ولم أعد أخاف أو أعمل حسابهم .. بل تعمدت إحراج مدير السلاح ( اللواء جمال محمد علي ) أمام الجميع في قاعدة بحرية كنا ننشئها عندما أعطاني تعليمات غير صحيحة .
لقد عشت عمرى كله حتي ما بعد الثمانين .. لا أتفق مع الحكام .. أبحث عن الخطأ.. و أصارعة .. و أفضحه .. حتي تلك الأيام .. الذى أصبح الخطأ فيها هو الفعل المعتاد .. في كل شيء.. وللبغاة اليد الطولي .. و الجوع و الفقر يحكمان المجتمع .. و اليأس .. أبشع من زمن هزيمة 67 .. فعاد لي مرضي الذى لم يغادرني ليوم ((عصاب حرب مزمن شديد ))
اسف
هكذا أصبحت أكثر أيام حياتي رعبا و خوفا .. و حزنا .. و عدم إتساقا و بعدا عن الناس هي ساعات النهاية.. ليتني مت شهيدا في معركة خاسرة .. حتي أعفي من رؤيه مثل هذا النموذج غير المتزن ينحل وبر بلدنا و يستولي علي أموال ينفقها بسفه علي العاب سكة حديد و متروهات و مونوريل .. قد يدمرها بعد ساعة أو ساعتين من اللهو بها و لا أستطيع أن أقول له الحقيقة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - مقال ممتاز مفعم بالأسى والشجن
Magdi ( 2023 / 7 / 29 - 19:01 )
مقال ممتاز مفعم بالأسى والشجن
نادرا ما يجمع المصرى بين التفوق فى القسم العلمى ( كيمياء ، رياضيات .. ) والقسم الأدبى ( يسموه أنسانيات :فلسفة ، علم أجتماع ،تاريخ... ) مثل المهنس والمفكر القدير محمد حسين يونس والمرحوم محمد البدرى ( كان مهندسا).
الأقباط مثلا متفوقين جدا فى القسم العلمى (أنظر المهندس هانى عازرالذى أشرف على بناء محطة قطارات برلين) ولكنهم غير متفوقين فى القسم الأدبى بأستثناءات قليلة (سلامة موسى و د. لويس عوض ).
ومعظمهم مغيبين مثل سائر المصريين ( تحت سيطرة رجال الدين ).
أقترح عمل ج 2 لكتابكم القيم ( خطوات على الأرض المحبوسة ) لبيان بالتفصيل ماذا حدث بعد 1968..أعرف أن هذا العمل سيكون شاقا مرهقا..لذا أتمنى أن تجد سكرتيرا تحكى له ما حدث فى هذه المرحلة العصيبة.
مع خالص المودة. مجدى سامى زكى
Magdi Sami Zaki


2 - جيش البلد والعذاب
على سالم ( 2023 / 7 / 29 - 20:11 )
الاستاذ محمد , من الواضح انك تعرضت لتجربه عنيفه وقاسيه جدا ومؤلمه الا وهى الخدمه فى هذا الجيش المصرى الاغبر العره , ربما انا اكون احسن حظا منك بسبب اننى لم اخدم فى هذا الجيش المخربط السئ السمعه , يعنى لو كنت انا خدمت كان ممكن تكون كارثه لى , ربما قد يحدث لى انفجار فى المخ او ربما كنت استخدمت الرشاس وفتحت النار على الضباط البهايم المرضى المتكبرين , يعنى بواقع شهادتك اتعجب واضرب اخماس فى اسداس عندما انت رأيت السيد قائد الوحده الهمام وهو يهرب مثل النسوان وتهديدك اذا انت قلت حقيقه هؤلاء الفئران المذعوره , ايه ده ؟ دى اكيد كارثه ومصيبه سودا تم ابتلاء مصر بها وهى القوات المشلحه المصريه


3 - Magdi Sami Zaki الأستاذ
محمد حسين يونس ( 2023 / 7 / 30 - 01:58 )
أشكر مرور سيادتك و إضافتك الطيبة .. بعد طول العمر أجد أن من عاش في منطقتنا .. بعد أن .. تحررت من الإستعمار الاوروبي و حكمها ضباطها .. لم ير الحياة إلا صراع و خيانة .. حتي بين العصابة التي طارد بعضها بعضا ..
هناك محاولتين لإستكمال قصة الخطوات علي الأرض المحبوسة أحدهما (( علي شفا الموت .. علي شفا الجنون)) تحكي عن زمن عبد الناصر (الموت ) و زمن السادات ( الجنون) .. ورواية ثالثة عن زمن الإنفتاح و تغير المجتمع (( أجمل الكلمات لم أهمس بها بعد )) .. و الروايتين علي النيت .. افكر أن أستكمل المجموعة لو طال بي العمر لبعد إنزياح الغمة التي تسيطر علي كل مداخل و مخارج العقل المصرى .. و لكنه حلم غير قابل للتحقق


4 - الأستاذ علي سالم
محمد حسين يونس ( 2023 / 7 / 30 - 02:26 )
أشكر مرور حضرتك .. نعم هذا حدث لي .. لقد ذهبت لأحضر رشاش أطلق منه علي قائد كتيبتي و رئيس العمليات .. لولا أن طبيب الوحدة حولني علي العيادة النفسية في مستشفى كوبرى القبة
العسكرى فبقيت هناك تحت العلاج حتي أحيلت للمعاش بعجز جزئي عصاب حرب مزمن شديد تحياتي


5 - كل ما تكتب
عدلي جندي ( 2023 / 7 / 30 - 19:36 )
هو توثيق لسرطان بدأ منذ أن تولى مرتزقة المناصب والعنجهية وتضخم الذات المريض أمور شعب يقال أنه شعب متدين بطبعه وللأسف الأغلبية فيه شعب خانع بطبعه قابع في جبة أسا فل البشر من بائعي الوهم والخرافة
جد حزين مع كل خبر أسمعه عن إنقطاع التيار بعد أن قطعوا عنه أنوار العقل أمثالكم لم يتبق إلا قطع النور المادي هزيل الثمن في مقارنته بقطع أنوار العقول النيرة
أتمنى لك كامل السلامة أمثالكم كنز للحقيقة والحقائق
دمت بخير مع وافر المحبة والإحترام


6 - الأستاذ عدلي جندى
محمد حسين يونس ( 2023 / 7 / 31 - 06:09 )
أشكر كلماتك الطيبة و مرورك الإيجابي .. للاسف توقف عقلي و فكرى عن الإنتاج بعد أن اصبح اليأس في التغيير ظلام أسود يلف كامل المجتمع و أغلبنا يعاني من الإكتئاب سواء بسبب زيادة الأسعار أو تبخر المدخرات .. أو بما تقوم به الحكومة .. من أعمال نصب عام ..و فتونه تحياتي

اخر الافلام

.. مقتل 5 أشخاص جراء ضربات روسية على عدة مناطق في أوكرانيا


.. هل يصبح السودان ساحة مواجهة غير مباشرة بين موسكو وواشنطن؟




.. تزايد عدد الجنح والجرائم الإلكترونية من خلال استنساخ الصوت •


.. من سيختار ترامب نائبا له إذا وصل إلى البيت الأبيض؟




.. متظاهرون يحتشدون بشوارع نيويورك بعد فض اعتصام جامعة كولومبيا