الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الجنوب ( 6 ) / الجنوب ومفهوم الدولة الحديثة

اسماعيل شاكر الرفاعي

2023 / 7 / 30
مواضيع وابحاث سياسية


الجنوب ( 6 )
الجنوب ومفهوم الدولة الحديثة

( آ )
سأركز في هذا القسم من مقالنا : " الجنوب " ، على ذكر بعض مواقف الجنوبيين ( وليس صفاتهم ، تحاشيتُ استخدام مفردة " صفات " لاقترانها بالدلالة على الثبات وعلى جوهر خالد لا تطاله عوادي الزمن ) التي تشير الى طريقة استجابتهم للتحديات التي واجهتهم خلال المائة عام الاخيرة من تاريخهم : الذي حشروا فيه في حدود الدولة التي اسسها الاستعمار البريطاني رسمياً - بتتويج فيصل الاول ملكاً عليها - في 21
آب 1921 …
( ب )
حين يتكرر الموقف يتحول الى ظاهرة ، وليس الى صفة . والفرق بينهما هو بالضبط الفرق بين الثابت والمتغير ( استعير هنا عنوان كتاب الشاعر الموهوب ادونيس : الثابت والمتحول 1973 ، الذي افتتح به منهجاً نقدياً رائداً في دراسة الموروث الادبي ، بعد كتاب علي عبد الرازق : الاسلام واصول الحكم ، وكتاب : في الشعر الجاهلي لطه حسين ، وبعد كتاب صادق جلال العظم : نقد الفكر الديني ) ، اذ بالامكان ايقاف تكرر الموقف ومنعه من التحول الى ظاهرة ، وذلك بتغيير شروط انتاجه التاريخية ، لكن لا يمكن تغيير صفات الشيء الا بتغيير بنيته ، وصناعة شيء جديد …
(ج )
المواقف التي تكررت لدى الجنوبيين : وتحولت الى ظاهرة تجسدها طاعتهم الفورية لفتوى المرجع الديني في الجهاد العيني : 1914 ، او الجهاد الكفائي 2014 . لم يتم تشريح هذه الظاهرة كفاية من قبل الاكاديميين ، وحتى عالم الاجتماع والاكاديمي المهم فالح عبد الجبار لم يلقِ عليها ضوءً كاشفاً في اطروحته : العمامة والافندي . ان الموقف من فتوى الجهاد : يعكس مقدار الوعي بضرورة ، أو بعدم ضرورة وجود دولة حديثة . فقيام الجنوبيين بتنفيذ الفتوى والتطوع في التشكيلات العسكرية التي دعت اليها فتوى الفقيه : يعكس عدم وعيهم او عدم اهتمامهم او حتى رفضهم لوجود دولة مؤسسات تدير شؤونهم . وحين تقوم المرجعية الدينية للشيعة باصدار فتوى : الجهاد ، فانما تعبر عن نفسها كقوة لديها مقلديها ( اشياعها واتباعها ) وانها سلطة موجودة على ارض الدولة ، وتفعل ما تفعله اي سلطة ذات منهج خاص مستقل عن منهج الدولة ، لا تأبه لمقولات الدولة ، ولا تلتفت لرأيها واحتجاجها على ما قامت به من الدعوة الى تشكيل فصائل عسكرية . بالمقابل لا تأبه آليات اشتغال مؤسسات الدولة الحديثة باحتجاج الماضي : اذا ما تعارض عملها مع معطياته الفكرية والفقهية ، وفي نفس الوقت لا تسمح الا لسلطاتها المنتخبة في اتخاذ قرارات تخص الامن والدفاع وبناء المؤسسات …
( د )
الدولة الحديثة والفقيه : كائنان يستشعران الوجود من حولهما بمجسات منهجية مختلفة تماماً : قادتهما الى رؤيتين متعاكستين لمهامهما وواجباتهما . فلا بد للفقيه الشيعي - وهو يرى العدو يدنس ارضه الاسلامية - من ان يصدح بفتوى الجهاد للتصدي للعدو ، والا لم يعد مسلماً شيعياً . ومهمة الدولة الحديثة هي التصدي للاثنين : للعدو وفق استراتيجيتها الدفاعية الرادعة لحماية السيادة الوطنية من تدنيس العدو لها ، وكذلك التصدي لفتوى الفقيه الذي لم تعد فتواه عن الجهاد ملائمة لاقليم الشرق الاوسط الذي قسمته معاهدة سايكس - بيكو الى اوطان متعددة . ان فتوى الفقيه الشيعي ( وكل فتاوى الجهاد ) العابرة للاوطان والتي كانت صالحة لشكل آخر من اشكال الدول : هو الشكل الامبراطوري ، لم تعد صالحة للدولة الوطنية بناء على مفهوم السيادة الذي سيجعل العربية السعودية تشعر بان فتوى المرجع الشيعي هي دعوة مبطنة الى شيعة الاحساء والقطيف ، وكذلك تشعر دولة البحرين بهذا التدخل الصارخ بشؤونها الداخلية ، وغيرهما من الدول كالباكستان واذربيجان والهند …
( هـ )
أصدر المرجع الشيعي آية الله علي السيستاني فتواه في جهاد الدولة الاسلامية ( داعش ) في عام 2014 " فتوى الجهاد الكفائي " ، وقبل مائة عام حين كان الجنوب محكوماً من قبل الدولة العثمانية : اصدر المرجع الديني الشيعي : آية الله كاظم الطباطبائي اليزدي عام 1914 فتوى : " الجهاد العيني " ، لمقارعة القوات البريطانية الغازية .
( و )
والحقيقة ان المرجعية الشيعية ، بما اصدرته من فتاوى الجهاد اثبتت بوضوح : بانها لا تعترف بمفهوم السيادة ، الذي يحصر سلطة اتخاذ قراراً يخص المؤسسة العسكرية والامنية بيد سلطتها المنتخبة ( الحكومة والبرلمان ) ، ولا يسمح لسلطة الماضي الفقهية بان تتخذ مثل هذا القرار نيابة عن سلطة الدولة المنتخبة . لقد ولد مفهوم السيادة في ظرف كانت المجتمعات الاوربية فيه تتوق الى وسيلة فعّالة تلغي تعدد مراكز القرار الذي كان وراء تفجر الحرب الاهلية الطائفية واستمرارها لمدة 30 عاماً . فالسيادة ليست بالمفهوم التجريدي الذي ولد نتيجة تأمل معزول عن الواقع ، بل كان مفهوم السيادة وليد حاجة الشعوب الاوربية للوسيلة التي تصفي بها مراكز القوى العديدة وتوقف الحرب الاهلية الطائفية . واذا كانت مشكلة المياه الجوفية التي تعيق عملية التعدين هو ما دفع البريطانيين لاختراع محركات بخارية متطورة : فأدى ذلك الى قيام الثورة الصناعية ، فان مشكلة الحرب الاهلية الطويلة التي حولت المدن الاوربية الى خرائب هو ما دفع اوربا لايجاد مفهوم السيادة للقضاء على تعدد مراكز القرار في الدولة الواحدة ، واطفاء لهيب الحرب الاهلية . وهكذا فان مفهوم السيادة جعل من الدولة : السيّد الاعلى ولا سيد سواها . انه المفهوم الذي فرضته الحاجة الى القضاء على احد اهم اسباب الحروب الاهلية : وهو تعدد مراكز القرار ( كما هو الحال في العراق الآن ) وبتحقيق هذه المهمة النبيلة ، والغاية السامية ، اصبح مفهوم السيادة احد اهم مفاهيم الدولة الحديثة . كانت الولادة التاريخية لمفهوم السيادة قد تمت في صلح وستفاليا 1648 ، لايقاف الحرب الاهلية التي دامت ثلاثين عاماً من 1618 الى 1648 ، فجعل هذا المفهوم : الدولة وحدها صاحبة القرار في الميادين : العسكرية والامنية : لقطع الطريق امام قيام حروب داخلية جديدة . فمفهوم السيادة يمنع ان تكون قوة اخرى الى جانب قوة ألدولة : تشارك الدولة في ادارة شؤون الناس العامة ، ويمنعها من التفاوض مع الخارج باسمهم ، او تجنيدهم في وحدات عسكرية او امنية خاصة ، فهذا تطاول على الدولة وانتهاك لحرمة مجالها الحيوي في اتخاذ قرارات الحرب والسلام …
( س )
لكن مرجعية الشيعة سمحت بتوظيف موروثها الفقهي السياسي القديم الذي ولد قبل اكثر من الف عام كقوانين لامبراطورية زراعية تتمول من ضرائب الخراج التي تفرضها على الاراضي الزراعية الداخلة في حدودها الدولية ، وهي تتناقض جملة وتفصيلاً مع مباديء تنظيم الدولة الحديثة . والحشد الشعبي الذي صنعته فتوى الفقيه الشيعي عام 2014 : دخل من لحظة تشكله كطرف في الصراع الاقليمي : فذهب للوقوف الى جانب النظام السوري ضد التشكيلات العسكرية المتعددة في الحرب الاهلية الطائفية . ووقف الى جانب الحوثيين في الحرب الدائرة في اليمن بين النفوذين السعودي والايراني . وبهذا لم تتحقق السيادة لدولة العراق بعد 2003 ، وكانت مفهوم السيادة يدور - قبل عام 2003 - حول سيادة القائد الضرورة ، وزعيم الامة الملهم ، وهدية السماء اليها ، ومن يمس بها : يمس بسيادة الدولة والامة والشعب والدين والموروث والماضي ، وعقوبته الموت ...
( ح )
والحقيقة ان نظرية الامامة التي ينطلق منها فقهاء الشيعة في مواقفهم السياسية : لا تسمح لهم ببناء علاقة صحية وصحيحة مع الدولة ، فموقفهم من الدولة يظل موقفاً قلقاً وغير مستقر ويتفاوت من مجتهد الى آخر : فهم ينقسمون الى فقهاء اخباريين ، يرفضون قيام دولة شيعية : ما دام امام الزمان غائباً ، ويطعنون بشرعية كل الدول والحكومات . اما القسم الآخر فيسمون بالاصوليين ، وهم الاكثرية ، ويدعون الى الخروج على حكومات زمانهم ، وبناء دولة على شاكلة دولة الفقيه في ايران ( دولة نائب الامام الغائب ) …
( ط )
في الممارسة السياسية حكمت الاحزاب الاسلامية العراق بما يخدم دولة الفقيه في ايران ، وعملت بجد واجتهاد على تعويض ايران عن الحصار المضروب عليها : بنقل وتهريب ما تحتاجه من واردات العراق النفطية اليها : باساليب وتكتيكات ومناورات متعددة ، مثلما قامت بتزويد حزب الله في لبنان والحوثيين في اليمن والنظام السوري بحاجتهم الى المال . على حساب العراقيين . ومثلما كانت ايران تدفع الخراج عن اراضيها الزراعية ( طبعاً ظلماً ) لدولة المدينة ثم لدول العوائل القريشية ؛ الاموية والعباسية : صار العراق هو الذي يدفع الخراج لايران الآن : ليس على انتاج ارضه الزراعية ( وقد اصابها التصحر وجفف السلطان التركي ضرعا تهريهما ) وانما على ما يستخرج من باطنها من نفط وغاز وثروات اخرى ( وهي عملية تشبه الضريبة على ما تضم الارض من كنوز وتسمى فقهياً : الركاز ) .
لقد تحولت الدولة في العراق الى ظل من ظلال المرجعيات ، والانكى ان مفهوم المرجعية نفسه لدى الشيعة ليس مفهوماً وطنياً : فلا توجد مرجعية دينية خاصة بشيعة العراق ، ومرجعية خاصة بشيعة لبنان او ايران ، انما مفهوم المرجعية يشبه مفهوم الكنيسة المسيحية ومفهوم الكنيس اليهودي والمشايخ السنية : عابر للجنسيات والثقافات والاعراق : وهذا ما يسمح لاصابع "ولاية الفقيه " بتحريك حشود الجيش الشعبي الموالية لها : من العراق الى مكان آخر ، كلما دعت الحاجة اليه .
ان عدم قيام دولة حديثة في العراق يجعل من شعارات حكومة السوداني وقبله جميع الحكومات : عن القضاء على الفساد ، ومنع تهريب عملة الدولار ، واصلاح الكهرباء ، وشحة المياه والتصحر ، من باب ذر الرماد في العيون ، لا اكثر ، والسيادة هي المفهوم الاول الذي تحاك حوله مؤامرة صمت في اعلام الحكومة والاحزاب الاسلامية ..
( ي )
لكن ما القطب او الجهة او العنصر الواجب تغييره في معادلة ظاهرة طاعة الجنوبي لفتوى الفقيه ، وتنفيذه السريع لمضمونها ؟
قبل ساعات او قبل ايام ، خرج الجنوبي بمظاهرة تطالب الدولة بالتوظيف او بالخدمات ، ولا تطالب الفقيه : مع انه يلتزم بتعليمات واوامر الفقيه ويسلمه سنوياً ما مفروض عليه من التزامات مالية : وهو لا يفعل ذلك مع الدولة التي لا يدفع الضرائب في منافذها الحدودية على ما يستورده ، ولا يحترم قوانين مرورها ، ويبني له داراً في واحدة من العشوائيات ، ويتطوع في الجيوش المتكاثرة للقتال دون شعارات الفصيل الذي انتظم في صفوفه : وجميع هذه الشعارات ضد الدولة التي يحمل جنسيتها . كيف يطالب الجنوبي الدولة ، وهو يدوس يومياً مع فقيهه على سيادتها . التجاوز على القانون في أي نشاط من انشطة الدولة : يخل بتوازن الدولة ، ويصيبها بالدوار فتفقد السيطرة على نشاطاتها الاخرى ، خاصة وان سلطات ما بعد 2003 الحكومية لم تستطع ان تعاقب الفقيه على فتاواه المخلة بالنظام العام في الدولة ، لانها لا تقوى على ذلك ، فالوجود الحقيقي للدولة هو في ما وراء ظاهر واجهتها وسطوحها الخارجية . انه الدولة العميقة التي يديرها الولاء المطلق للمرجعيات ولولاية الفقيه في ايران ...
( ك )
. ولأن الدولة لم تعالج هذا الخلل الوظيفي الذي احدثه تحالف الفقية - الجنوبي في اللحظة والتو ، أخذ بالتوسع والتمدد الى جميع مؤسسات الدولة ودوائرها : ففي الجانب الامني يتوسع بيع وشراء عضوية الحكومة والبرلمان والمناصب العسكرية والامنية والمخابراتية ، وفي الجانب الاقتصادي يتوسع نشاط مكاتب الاحزاب الاقتصادية المطالبة بنسبة من ارباح عقود الشركات الاجنبية ، وتجرأَ صغار الموظفين على نهب المال العام المخصص للاستثمار : وفي هذا يكمن سر تردي الخدمات في المجال التعليمي والمجال الصحي وجميع الدوائر والمؤسسات ، اما المجال الذي سجلت فيه الدولة انجازاً : فهو مجال تكميم الافواه ، واخماد صوت النقد ، ومصادرة حرية الاعلام والصحافة ، ومصادرة حرية الضمير والمعتقد ، وحرية التجمع والمظاهرات …
( ل )
يقوم تحالف : الفقيه - الجنوبي ، على مبدأ التقليد : وهو واحد مفاهيم منظومة التشيع الفكرية : الذي يفرض على عضو الطائفة الشيعية الاثني عشرية : ان يختار له فقيهاً يقلده : يلتزم بما يصدر عنه من آراء فقهية بخصوص العبادات والطقوس والمعتقد ، ويسلمه ما مفروض عليه من تزكية سنوية لامواله ( الخمس والحقوق الشرعية الاخرى ) . ولذلك ترى الجنوبي يسارع الى تنفيذ ما أمرت به فتوى الفقيه الذي يقلده ، ويتبعه في كل ما يصدر عنه . ويقوم مبدأ التقليد على الاختيار الحر : اي ان عضو الطائفة الشيعية يختار له ( معلماً ) في امور الدين والدنيا : مِمَن بلغ درجة الاجتهاد . فالتقليد احد اركان مذهب التشيع الاثني عشري ، وَمَن لم يتخذ له مُقَلِداً ممن بلغ درجة الاجتهاد واستنباط الاحكام الشرعية مات - كما يقول مذهب التشيع - ميتة جاهلية …
( م )
العلاقة بين الجنوبي وبين الفقيه الذي يقلده ، هي اعلى في متانتها من نوعية العلاقة التي تربط الجنوبي بالدولة . وهذه المتانة في علاقة : الفقيه بمقلده ستمنع ولادة دولة حديثة في الجنوب …








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مفاوضات الهدنة: -حماس تريد التزاما مكتوبا من إسرائيل بوقف لإ


.. أردوغان: كان ممكنا تحسين العلاقة مع إسرائيل لكن نتنياهو اختا




.. سرايا الأشتر.. ذراع إيراني جديد يظهر على الساحة


.. -لتفادي القيود الإماراتية-... أميركا تنقل طائراتها الحربية إ




.. قراءة عسكرية.. القسام تقصف تجمعات للاحتلال الإسرائيلي بالقرب