الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


القراءات الخاطئة وجحيم البلاد - ٢ -

محمود حسين موسى
(Mahmoud Housein)

2023 / 7 / 31
مواضيع وابحاث سياسية


وسقطت بغداد لفرط مدائحها.. 
.........

مفكر معاصر، لا يرى في سقوط روما في القرن الخامس الميلادي مفاجأة وأن الغزاة لا يستحقون شرف إسقاطها، فروما كانت قد سقطت من الداخل قبل الغزو بزمن طويل. هذا القول يفرض نفسه على ما جرى لبغداد قبل عشرين سنة، ليس من باب التجاور فقط، بل لما ذهبت اليه المدينتان من مصير، المدينة المغدورة مرات روما ومثلها بغداد قد سقطتا قبل الغزوات، ففي الوقت الذي كانت تُتلف فيه آخر دفعات من الصواريخ (مداها 150 كم) أواخر سنة 2002م، ومغادرة البعثات الأممية المكلفة بالبحث عن أسلحة (الدمار الشامل) قبل انطلاق الحرب أسابيع.

شاعر غير محظوظ تفور حماسته ويطلب التقرّب الى مولاه بآخر المدائح السلطانية وأعلى درجات التعبّد. تقرّب يثير التساؤل والريبة معا في وقت كانت تهرب فيه الثروة والميسورين الى دول الجوار التي فتحت أبواب مصارفها وفنادقها، كان الشاعر مغميّا عليه لفرط حماسته أو كان يراهن على محدودية الحدث مثلما جرى في حرب تحرير الكويت سنة 1991م ويفوز بالمنزلتين، وفي الحالتين تساؤل يفرض نفسه،

هل ذهب الشاعر فعلا الى مولاه ؟ وهل انتظر المفدّى عبده ؟

اذا كان الشعر ديوان العرب وفي الديوان يأمر السلطان، أعطوه ألف درهم، فسيرة آلاف المدائح وأطنان الأناشيد وطوابير المادحين لا تخالف سيرة الأولين، سيرة جمع بعضها عدنان الجبوري في (معجم كتاب وأدباء ومؤلفي أم المعارك) بتسعة مجلدات، كتاب من الأهمية عليه أن يكون في كل بيت، وقد يفسر ما حصل.

ما الذي جرى للبلاد ؟
ومن أين أتى كل هذا الجنون الذي أخذ الجميع للخراب والمحرقة ؟

معجم يولد من رحم آخر، ودجاجة من بيضة ثم دجاجة تبيض ..

ففي الوقت الذي كان تسلخ فيه جلود العراقيين في قصر النهاية وفي الأمن العامة (شيّد على أنقاضها مجمع الوزارات الحالي، الصناعة والتربية والتعليم العالي)، أغلق جاري اليساري جدا أذنيه عن صرخات المسلخ في جريدته التي لا تبعد سوى أمتار عن المسلخ،
صرخ (كاسترو العرب) حين لمح الامبراطور بسيكاره الكوبي وهو يطلّ على شاشته الوحيدة اسمها القناة 9 !!،
عندها خجلت كوبا من فعلتها وظنت أن زعيمها مزيّف، غرّد مظفر النواب يومها خارج السرب، (كان عرسا أمميا انما قد دعي النفط ولم يدعى العراق)، والنواب صار يخرمشه بعد موته معجم كاسترو العرب.

حي سكني غير محظوظ يتبدل اسمه ثلاث مرات خلال سنوات من مدينة الثورة الى مدينة صدام ثم الى مدينة الصدر حتى اختلط الاسم على قاطنيه ومثله تبدل الكثير، هذا الواقع المركب والمتحول الذي طال الاجتماع والثقافة والاقتصاد والسياسة والعمران، الأفراد والجماعات، أخذ الجميع من عالم متنوع الى عالم مغلق، انتهى الى شللية اجتماعية وسياسية وثقافية بمصالح جديدة كما يصفها سلام عبود، الثقافة ليست بريئة من هذا الواقع، فالشللية الجديدة التي شاعت بعد سنة 2003م تكاثفت لذات الأسباب، الأخوة الأعداء، الضحية والجلاد، القاتل والمقتول، الواشي والموشى به في مركب واحد فضائيون ودرجات خاصة ومستشارون وبغداد عاصمة الثقافة بمليار دولار.

وشايات ثقافية من الطراز الرفيع يطفح في بعضها الطرافة والابداع معا، ومن وحي الوشايات سعار التسقيط الثقافي والسياسي والاجتماعي، بالتوازي حروب شرسة ضدّ النجاح من الفاشلين أو من الذين نضبت أو جفت ثمارهم قبل الأوان في الكهوف، وحروب الغيرة مستعرة، غيرة المتجاورين بالاختصاص.

سعدون جابر يرمي كاظم الساهر بحجر ويعلن على الشاشات (أن سبب شهرة الساهر هو ظهور الفضائيات، وكذلك منع النظام السابق المطربين من الغناء كي يظهر كاظم الساهر)، هذا القول هو أقرب الى الطرفة منه للحقيقة حين نستذكر، أن الساهر صار الأول عربيا منذ سنة 1989-1990م أي زمن الكاسيت، باعتراف الصحافة المصرية التي دفع ضجيجها الساهر (في حروب الغيرة أيضا) لمغادرة القاهرة للعيش في أوربا حينها، وحين انطلقت الفضائيات هي التي صارت تتسابق عليه، وأن الجابر أكثر من أنشد للامبراطور، شاعر يلغي شعرية جاره ويلقي به في سلة المهملات، ومسرحي يقذف جاره المتألق بالجنون وكراهية البلاد.

هذا الواقع المؤلم يسحل معه أسئلة لا تقل ايلاما عن حبال السحل المقدّس، ويوجه أصابع الاتهام لموقع الثقافة ومنظوماتها ورجالاتها من الخراب الطويل، بيان يقفز من بقايا الزمن الجميل بعد قصف بيت الرئيس (الكاظمي) في ت2. 2021 بمسيّرات، يصفها بالصورايخ التافهة، يكشف هذا البيان أن بدلة الطلائع المرقطة الزرقاء كبرت وتحولت الى الخاكي بلحظة، ويسحل معه البيان الذاكرة الى النسخة الأصل من البيان العسكري المتلفز قبل أربعين عاما (وألقت طائرات العدو المجوسي قنابلها التافهة !!).

واذا سلمنا لرأي علي الوردي في حديثه عن الوعاظ بالازدواجية (مسلم في عقله الظاهر بدوي في عقله الباطن)، وأن أدران الحسد والأنانية مركبات انسانية يصعب ازالتها بالماء والصابون، فان مناطق معتمة تتشابك فيها الخيوط، يصعب تفكيك مركباتها وعقدها في قلب الثنائيات والازدواج ومفاهيم المدرسة الخلدونية الحديثة وحدها.

بعد كل هذا،
وبعد خراب البصرة وذهاب البلاد الى آخر المقبرة حسب نبوءة سعدي يوسف، الى البداوة والعشيرة وعصر ما قبل الدولة، الى اللا ماء واللا كهرباء، مازلت الدهشة والتبرير تستوطن الخطابات المضمرة، ومازال النقد عصيا وغائبا، ومازال تاريخنا سائبا يستجدي مؤرخا من خارج الحدود ليكتبنا ويرسم صورتنا، ومازالت الاشارات المرجعية الى حنا بطاطو والمس بيل هي الأكثر، ومازالت الثقافة العراقية تخشى النقد وتتعالى عليه، تقاومه وترفض مفاهيمه وتحاربه، عصية على الاعتراف وتخشى حتى الندم، المفارقة هنا أن مؤلفات باشلار وفوكو هي الأكثر مبيعا وتداولا حسب صاحب احدى المكتبات، فاطمة المحسن تخرج عن القاعدة في تدوين سيرتها وقبلها فالح عبد الجبار الذي كان شجاعا، أعلن ندمه الصريح ومثلهم آخرون، فلا المؤسسة كسلطة وإرادة قوة تحتكر مؤثرات وشروط انتاج الخطاب تستجيب، ولا الفرد يستجيب حتى لو كان ناقدا في النهار متواريا في الليل، والأسلحة كل الأسلحة ستشهر بوجه أية محاولات نقدية حتى لو كانت جنينية، وستكون أية ممارسة نقدية عرضة لمهاجمة الجميع، الطابور الذي انتظم في قافلة القطيع الأيديوثقافي وقبلهم ومن خلفهم المؤسسة.

بعد كل هذا، مازال الشعر ديوان العرب،
ومازال المعجم ينتج من رحمه بيضة لتصبح معجما.
.................

سيكون الجزء - ٣ -
(سنتوريون الجرو النابح ومشروع محمد غازي الأخرس).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. Brigands : حين تتزعم فاتنة ايطالية عصابات قطاع الطرق


.. الطلاب المعتصمون في جامعة كولومبيا أيام ينتمون لخلفيات عرقية




.. خلاف بين نتنياهو وحلفائه.. مجلس الحرب الإسرائيلي يبحث ملف ال


.. تواصل فعاليات معرض تونس الدولي للكتاب بمشاركة 25 دولة| #مراس




.. السيول تجتاح عدة مناطق في اليمن بسبب الأمطار الغزيرة| #مراسل