الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ديمقراطية اشتراكية ام ديمقراطية ليبرالية

رانية عبيد احمد
كاتب وباحث

(Rania Obead Ahmed)

2023 / 7 / 31
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


في أول انتخابات شاركت في التصويت فيها في عام 2021 وهي انتخابات البرلمان الأسكتلندي حاولت ان اعرف عن تاريخ هذا التصويت. فوجئت بانخفاض نسبة الأفراد الذين يشاركون في عملية التصويت. وحسب الشكل الموضح ادناه فان نسبة التصويت في انتخابات البرلمان الأسكتلندي وعلى ثلاث فترات انتخابية (2003 - 2007 - 2011) كانت 50٪ او اقل من عدد الأشخاص الذين يحق لهم التصويت. ووصلت النسبة إلى 63,2٪ في انتخابات عام 2021 وهي تعتبر الأعلى منذ سنوات. والإشكال الأكبر الملاحظ أن هذا العزوف عن التصويت يزداد في الفئات العمرية الصغيرة. هذه النسب المنخفضة في التصويت ليست مقتصرة على دولة أو نظام كما ملاحظ من الأشكال المرفقة، فهي متشابهة في انتخابات البرلمان الأوروبي والبرلمان البريطاني والانتخابات الأمريكية. هذه النسب جعلتني أطرح عددا من الاسئلة: لماذا كل هذا العدد من المواطنين اختاروا أن يتنازلوا عن حقهم في اختيار برلمانهم الذي لديه الحق في اتخاذ العديد من القرارات التي تؤثر مباشرة على حياتهم وحياة كل من حولهم، وهل هذه الانتخابات التي يشارك فيها عدد محدود قد يكون في بعض الاحيان اقل من نصف عدد السكان تعتبر ديمقراطية وتعبيرا حقيقيا عن الجماهير، هل الانظمة الحالية تتساءل عن سبب عزوف هذا العدد الضخم من المواطنين عن الإدلاء بأصواتهم؟ هل ياترى هذا المجموع الكبير من العازفين عن التصويت فقدوا الامل في ان هذا النظام يمكن أن يحقق لهم ما يطمحون من حياة كريمة، هل الاحزاب التي تكون هي اللاعب الأساسي في العملية الانتخابية لم تعد تلبي طموح هذه الجماهير العريضة واين صوت هذه الاغلبية الصامتة واين المعبر عنها؟
والسؤال الأساسي هنا الذي يطرح نفسه هو: هل الديمقراطية الليبرالية بشكلها الحالي مازالت تلبي طموحات الشعوب التواقة للمشاركة الفاعلة في الحكم، وهل هذا النموذج من الحكم مازال براقا وجاذبا ويمكن أن يكون طموح وأمل الدول التي مازالت في طريق سعيها لتحقيق نظام حكم رشيد، أم أن الوقت قد حان لرؤية كل العثرات التي تمر بها الديمقراطية الليبرالية والعمل على إنتاج نظام جديد يلبي طموح هذه الغالبية الصامتة.




الديمقراطية هي طريقة الحكم التي يحكم فيها الشعب او ان الحكم يكون لصالح الاغلبية. وقد نتجت فكرة الحكم الديمقراطي من أنه من حق كل شخص أن يعيش بكرامة واحترام وقبول. ويمكن ان تُعَرّف الديمقراطية في حدها الادنى بأنها ممارسة الاقتراع الحر مع توفر الظروف المواتية له مثل وجود اثنين أو أكثر من الأحزاب السياسية، وحرية الإدلاء بالأصوات، مع وجود مراقبين محايدين. اما التعريف الوسيط للديمقراطية فيشمل بالإضافة للشروط السابقة شرطين وهما توفر الحريات الشخصية بما فيها حرية المعتقد والرأي، وكذلك التعددية الفكرية والسياسية. أما في حدها الاعلى فهي ان الديمقراطية هي الامتداد الحقيقي للحقوق المدنية وهي الأساس لإقامة الدولة الديمقراطية والاختبار الحقيقي لها هو التطبيق العملي بتلبية الحقوق المدنية وتوزيع السلطة بين كل افراد الشعب1. وفى تعريف مشابه يقسم ليدمان الديمقراطية الى ثلاثة انواع: ديمقراطية إجرائية وهي تعتمد على مرتكزين أساسيين أولا حرية التنافس ومنها وجود أحزاب سياسية وحرية المعارضة والثانية حرية الاقتراع. أما الديمقراطية الليبرالية فتضيف أهمية وجود الحريات والحفاظ على حقوق الانسان، واخيرا الديمقراطية الاشتراكية والتي توسع مفهوم الديمقراطية إلى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية2.
الديمقراطية الليبرالية التي يمتد تاريخها الى بضع مئات من السنوات تطورت خلال القرنين الماضيين وأخذت شكلها النهائي المعروف لدينا اليوم. بدأت في شكل برلمانات محدودة العدد والصلاحيات حيث ان عددا محدودا من أفراد الشعب يحق لهم التصويت ( مثلا في بريطانيا ارتبط التصويت بما يملكه الفرد الذكر من أراضي، إذ يسمح بالتصويت لمالكي عدد معين من الهكتارات وبالتالي اُستبعد العديد من الأفراد- ولم يسمح لكل المواطنين بما فيهم النساء بالتصويت إلا في عام 1928) هذا الشكل من الديمقراطية البرلمانية تطور عبر تاريخ طويل ليصل للشكل المعلوم لدينا الآن.
ما هي إشكاليات الديمقراطية الليبرالية؟
تحدث بارنتي في كتابه ديمقراطية الأقلية عن أن نقد النظام القائم هو البداية الصحيحة لاقتراح أي حلول مستقبلية حتى ولو كانت ملامح الخيار البديل غير واضحة تماما3.
حتى عام 1990 كان المفهوم السائد للديمقراطية هو الديمقراطية الليبرالية التي تتلخص في وجود نظام للانتخابات وأحزاب سياسية مع وجود عدد من القواعد التي تُحاسب على أساسها الحكومات. لكن الآن هناك عدد من المنظرين يعتقدون أن هذا المفهوم محدود جدا للتعبير عن الديمقراطية التي لابد أن تشتمل على الحرية وحقوق الإنسان والمساواة امام القانون1 .
ويعتقد بيوجي وقنوزا في كتابهم الديمقراطية الشعبية أننا في عصر يشهد أكبر مشاركة شعبية للأفراد في العملية السياسية وذلك عبر مشاركتهم في القرار عبر البرامج المختلفة التي تعمل بها عدد من الحكومات، كما أن هذه الفكرة توسعت الى دول الجنوب عبر دعم المنظمات العالمية. وواقع الحال أن هذه المشاركة تتم بأن تلجأ الحكومات المحلية لاستفتاء المواطنين حول بعض القضايا، ولكن الإشكال الكبير في هذه المشاركة انها غالبا ما تكون محلية ولأغراض محددة وتختلف بشكل واسع من منطقة لأخرى وهى ليست ملزمة كما أنها ليست السمة الأساسية في الديمقراطية الليبرالية4 .
في بداية السبعينات من القرن الماضي نضجت فكرة النيو ليبرالية التي وجدت كحل لتباطؤ حركة السوق والتضخم وقد قامت على فكرة أساسية وهي عزل الاقتصاد عن السياسة بالتالي فان العديد من القرارات الاقتصادية في عصرنا الحالي اصبحت بعيدة تمام عن تحكم الجماهير ممثلة في برلمانها. كما أن جانبا مهما من النيو ليبرالية هو حرية السوق وعولمة الاقتصاد، وذلك بأن أصبحت حركة الاقتصاد غير محكومة بالحدود الجغرافية. ومع تمدد العولمة الاقتصادية فإن العديد من القرارات الاقتصادية أصبحت في يد المنظمات الاقتصادية العالمية وقل تحكم الحكومات والبرلمانات المحلية عليها. كما أن من معالم خروج القرارات الاقتصادية عن العملية السياسية الحرية الكبيرة المعطاة للبنوك المركزية التي أصبحت تعمل في كثير من الأحيان بمعزل عن الحكومة، الشيء الذي يجعل المحركات المالية والاقتصادية والمتحكمين فيه هم أصحاب التأثير الأكبر على قرارات البنوك المركزية. ومن الملاحظ ايضا ان حرية الأسواق والاستثمارات جعلت المنافسة محتدمة بين الدول لجذب الاستثمارات مما قلل من تحكم الدول في قرارات اقتصادية هامة مثل سعر الفائدة والضرائب والقوانين الاستثمارية المختلفة. كما استخدمت دعاوى جذب الاستثمارات ايضا في تخفيض الضرائب على الشركات الكبرى وزادت الضرائب على العمال والموظفين لسد هذا النقص، وهذا الوضع يزداد سوءاً في دول الجنوب. وايضا وفى خلال هذه الفترة بدأت العديد من الدول في استخدام القطاع الخاص لتوفير الخدمات التي كانت تقوم بها الدولة في السابق تحت دعاوى مختلفة منها أن الحكومات تتحمل العديد من الأعباء، وكذلك ان الخصخصة تساعد على خفض التكلفة وزيادة الكفاءة. ولقد قلل تحكم القطاع الخاص في هذه الخدمات من الرقابة الشعبية عليها وأبعدها تماما من أي ممارسة ديمقراطية. والوضع اسوأ في دول الجنوب حيث القطاع الخاص ليس هو المتحكم فقط، بل إن الشركات العالمية وصندوق النقد الدولي هما اللذان يحددان السياسات الاقتصادية لهذه الدول وبالتالي فإن هذه القرارات تكون بعيدة تماما من تحكم البرلمانات والحكومات وبالتالي بعيدة تماما عن الرقابة والمحاسبة الشعبية لذلك من المرجح أي تتبع سياسات ليست في مصلحة الجماهير وهذا هو واقع الحال5 .
التمويل والدعاية للحملات الانتخابية واحدة من أهم إشكاليات الديمقراطية الليبرالية. مثلا الحملات الانتخابية في أمريكا التي تنظم لدعم المرشحين يُقدم فيها التمويل للمرشح وليس للحزب السياسي، كما أصبح المرشحون يحتاجون لأموال طائلة لدعم هذه الحملات وذلك لاستخدامها لأغراض الدعاية الورقية والتلفزيونية والإذاعية وكذلك لتعيين فريق متكامل من الخبراء لقيادة الحملة الانتخابية. في عام 2008 وخلال انتخابات الرئاسة والكونغرس الأمريكية تم صرف 5,3 بليون دولار في مجمل الحملات الانتخابية. ان هذه الاموال الطائلة التي تصرف في الدعاية الانتخابية أما تمول بواسطة المرشحين أنفسهم الشيء الذي يعنى أنهم يملكون هذه الاموال او يتم التمويل عبر الشركات الكبرى التي بالضرورة تحتاج أن تضمن مصالحها في حال فوز هذا المرشح. وهذا التمويل الضخم للحملات الانتخابية يمثل حجر عثرة اساسية امام الافراد متوسطي ومنخفضي الدخل وكذلك الاحزاب الصغيرة من خوض الانتخابات وامكانية الفوز فيها. أن تحكّم الفئة المتحكمة (الأحزاب الرئيسية والشركات الكبري) على وسائل الإعلام المختلفة يلقى بآثاره الثقيلة على العملية الديمقراطية. فالإعلام التابع بغالبهُ للشركات الكبري يتحكم تماما فيما يصل للمتلقي من حيث المادة والمحتوى كما يحدد أي حقيقة تصله واي حقيقة تحجب عنه. كما ان الاعلام يستخدم كأداة في الترويج السياسي وتدمير الخصوم وارسال الرسائل التسويقية لمرشحين معينين لخلق صورة مرسومه بدقه عبر شركات إعلام متخصصة وقد تكون هذه الصورة في بعض الأحيان غير مشابهة للواقع. أما التغطية الإعلامية للانتخابات فتتركز حول المرشحين وأدائهم وشخصياتهم بدلا من التركيز على البرامج الانتخابية، وبالتالي تبعد تركيز الجماهير عن القضايا المهمة إلى القضايا الثانوية. والإعلام في الغالب يركز على الأفكار المحافظة وفى بعض الأحيان الليبرالية كما يكاد ينعدم صوت اليسار وممثلوه في الإعلام. اما الاعلام الترفيهي كالأفلام والمسلسلات فتوجهاتها في الغالب بدعم من الشركات الممولة لنشر أفكارها حول المجتمعات المثالية والثقافة الاستهلاكية ويقل تركيزه على القضايا المجتمعية والسياسية والاقتصادية3.
في اغلب الديمقراطيات مثل امريكا وبريطانيا يقتصر التنافس الانتخابي على حزبين فقط الشيء الذي يبعد العديد من الأفراد المستقلين والأحزاب الصغيرة أو حتى المتوسطة من مواقع اتخاذ القرار. وايضا النظام الانتخابي في هذه الدول الذي يعتمد على أن يفوز المرشح صاحب الاصوات الأعلى (حتى ولو بفارق صوت واحد) بمقعد في البرلمان في حين أن كل المرشحين الآخرين لا يحصلون على أي تمثيل حتى ولو كانت اصواتهم عالية مما يحرم الغالبية من ان يكون لهم صوت، وذلك بعكس نظام التمثيل النسبي الذي يسمح بتمثيل كل الاصوات حسب ثقلها وبالتالي يعطى الفرصة للمستقلين والاحزاب الصغيرة بالوصول للبرلمان وبالتالي لمواقع اتخاذ القرار3.
ان الديمقراطية الليبرالية تعنى بالحقوق السياسية وليس المساواة الاقتصادية مع الأخذ في الاعتبار ان الفقر يعتبر من العوامل الاساسية التي تحد من قدرة الأفراد على المساهمة في الحياة العامة، كما أنه من الملاحظ أن النساء اللائي يعانين من إشكالات الفقر أكثر من الرجال وبالتالي فإن هذا ينعكس على قدرتهم على المشاركة الفاعلة في الحياة السياسية. وعليه فانه لا يمكن ان تتحقق ديمقراطية كاملة من غير أن تحدث إعادة هيكلة للنظام الاقتصادي والاجتماعي والثقافي بما فيها الحقوق الجندرية1. وفي الشكل أدناه الذي يوضح النسبة بين الدخل السنوي للأسرة والمشاركة في تصويت عام 2016 في أمريكا، نجد أن العلاقة قوية بين انخفاض دخل الأسر وانخفاض مشاركتهم السياسية اذ ان نسبة المشاركة تنخفض إلى حوالي 50٪ عندما يكون الدخل 5000 دولار وتصل الى 88٪ في حاله ان الدخل 150000 دولار في العام1.


وطالما أنه لا توجد دولة في العالم لا تعاني من عدم المساواة فيمكن ان نقول انه لا توجد ديمقراطية حقيقية في عالم اليوم، طالما أنه لا توجد عدالة للنساء والاقليات المختلفة والفقراء وغيرهم.
حول الديمقراطية الاشتراكية
الديمقراطية الشعبية/ الاشتراكية هي الديمقراطية التي تمكن أفراد المجتمع من التحكم في مصائرهم، وهي التي تملّكهم الأدوات المناسبة مع توفر السلطة التي من خلالها يستطيعون التحكم في واقعهم السياسي والاقتصادي والاجتماعي. وتحقيق هذه الديمقراطية يواجه العديد من المعوقات منها بيروقراطية الدولة ونظم الحكم والاحزاب السياسية وايضا تنقصها الخبرة ومعرفة الأدوات المناسبة لبنائها وتأثيرات الأنظمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية القائمة6.
ولبناء الديمقراطية الشعبية/ الاشتراكية لابد من بناء نظام جديد يسمح بالمشاركة الواسعة وبالتأكيد السلطة التي تسمح للعمال بامتلاك وسائل الانتاج والتحكم فيها في مواقع العمل بالتالي هذه السلطة تعطيهم القدرة على التحكم في الاقتصاد ككل وذلك من خلال التعاونيات والملكية العامة وشبكات التعاون بين المجموعات في أماكن العمل والسكن هذا هو السبيل الوحيد لتحقيق ديمقراطية شعبية حقيقة6. ولكن هنالك العديد من الأسئلة الجوهرية التي تواجه إمكانية تحقيق ذلك على الأرض ومنها ما هي الانظمة التي يمكن أن تكون مناسبة في المجتمعات ذات التركيبات الاجتماعية المعقدة وكيف يمكن أن تطبق المشاركة العالية في ظل هذه التعقيدات المجتمعية وكيف يمكن أن تتم عملية بناء وتنسيق كل الاختلافات الموجودة في المجتمع وماهي حدود المشاركة وما هي أقصى غاياتها4 وأيضا ماهي التجارب التي يصلح الاستفادة منها لبناء هذا الطريق وما هي الاستراتيجيات المختلفة التي تصلح لبناء هذا الطريق الطويل؟ ويبقى التحدي الأكبر في ظل الأوضاع القائمة حاليا هو بناء نظام اقتصادي سياسي اجتماعي يمكن أن يحقق التغيير الكامل في البنية والتركيبة الاجتماعية. كما انه لابد من النظر الى التغيير كعملية مستمرة ومليئة بالصعاب والتحديات وبالتأكيد المعوقات. وهذا التغيير يضع المستقبل أمام عينه من خلال مرآة نقد الحاضر بكل اشكالاته، تغيير لا يمكن ان يكون في حال تصاعد دائم، بل قد يتعرض للنكسات والتراجعات6.
إن النظام القائم حاليا بُنى على عقود طويلة من تمكين مجموعات صغيرة ومحددة من التحكم في واقع الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية للشعوب والديمقراطية الشعبية تسعى لانتزاع هذه السلطة واعادتها للأغلبية التي عانت ما عانت من استغلال هذه المجموعات. ولابد من ملاحظة أن هاتين المجموعتين (المجموعة المسيطرة والجموع المهمشة) ليست دائما مجموعات متجانسة فداخل كل مجموعة هناك العديد من الاختلافات في النوع والعمر والاثنية وحتى الطبقة الاجتماعية. والديمقراطية الاشتراكية تعتبر هدفا وطريقه في نفس الوقت، فهي تهدف للوصول الى مجتمعات لا تتركز فيها السلطة في يد اقلية على حساب الاكثرية وهي ايضا طريقة للتغيير بتطوير القدرة والكفاءة للمجموعات التي ظلت طوال عهود معزولة عن ممارسة حقها في السلطة وذلك لتمكين هذه المجموعات من تحديد احتياجاتها والعمل على تلبيتها بما يضمن حل المشكلات الاجتماعية المختلفة، وهى طريقة لخلق وتشكيل مستقبل مختلف تتغير فيه كلياً التشكيلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للمجتمعات6.
ومن أهم معالم الديمقراطية الاشتراكية اللامركزية، وهي أن القرارات تتخذ في كل المستويات، وأهمها الوسيطة والدنيا، ولا تتركز القرارات في أعلى هرم السلطة، إذ أن الأفراد في مجتمعاتهم ومواقع عملهم يكون لهم الحق في اتخاذ القرارات التي تؤثر على حياتهم. ومميزات اللامركزية كثيرة ومنها توسيع المشاركة الشعبية، والمرونة والسهولة في اتخاذ القرارات، وسهولة تنفيذ القرارات لأنها مرتبطة بالواقع، وتوسيع الروابط بين أفراد المجتمع الواحد، كما تسهم في تطوير الافراد وزيادة معلوماتهم، وتزيد ثقتهم في أنفسهم وتربطهم ببعضهم البعض وبقضايا مناطقهم وتحولهم من مستهلكين للسياسة لمنتجين لها. الا ان اللامركزية تواجه العديد من العقبات والتحديات ومنها طبيعة وامكانية العلاقات الافقية بين مجموعات اتخاذ القرار المختلفة وايضا العلاقات الرأسية بينها وكيف يمكن ان تخلق علاقات تكامل وتعاون بدلا عن علاقات تنافس بين هذه المجموعات، وكيف يمكن صناعة هرم السلطة، وما هي علاقة المستويات المختلفة في هذا الهرم ببعضها البعض، وماهي طبيعة العلاقة بين وحدات اتخاذ القرارات والمؤسسات القومية، وإلى أي حد يمكن أن تؤثر كل منها على الأخرى، وكيف يمكن حل النزاعات والاختلافات بين مراكز السلطة المختلفة وما هي المرجعية. لقد سعت الديمقراطية الليبرالية بشدة لتطبيق مركزية السلطة لتمكنها من دعم الرأسمالية وتراكم رأس المال عبر التحكم في القرارات الاساسية بواسطة الطبقة المهيمنة، ولذلك فإن من اكثر التعقيدات الواضحة التي تواجه الديمقراطية الشعبية هو أن هذه التجربة الجديدة، ككل نظام جديد يتم بناؤه، ستواجه الكثير من المعوقات التي سيضعها النظام القائم في طريقها6 .

خاتمة
في اغلب الادبيات يقل الربط بين السياسة والاقتصاد والسياسة والصراع الطبقي وذلك بالتأكيد لمصلحة الديمقراطية الليبرالية التي تعنى فقط بالمشاركة السياسية عبر الانتخابات. إن الديمقراطية الليبرالية التي تختزل المشاركة الشعبية في اقتراع يتم كل عدة سنوات ولا تعنى بالمشاركة الفعلية للجماهير في ادارة الدولة والثروة. وهي ذات الديمقراطية التي تعزل العديد من القرارات المفصلية عن الشعوب الممثلة في برلمانها ومنها القضايا الاقتصادية رغم أهميتها الحاسمة في حياة الأفراد. في هذا المقال أوضح أنه لا يمكن اطلاقا ان نفصل بين السياسة والاقتصاد وأنه لا يمكن تحقيق ديمقراطية حقيقية دون عدالة اجتماعية.
إن وجود طبقات في المجتمع يحدّد بالضرورة موقع الطبقات المختلفة من مواقع اتخاذ القرار. والطبقة المهيمنة دائما تكون هي صاحبة القرار بينما يقل أو يختفي دور الطبقات الأخرى في التأثير على مواقع اتخاذ القرار. وكل المحاولات التي يمكن ان تبذل لتمكين الطبقات المُستَغَلة من المشاركة السياسية ستبوء بالفشل في ظل أوضاع عدم المساواة والبؤس التي تعاني منها هذه الطبقات.

"الديمقراطية شرط مسبق للاشتراكية كما أن الاشتراكية شرط مسبق لتوسيع الديمقراطية"3



المراجع

1 Grugel, Jean. Democratization: A Critical Introduction. New York: Palgrave, 2002
2 Landman, Todd . Developing Democracy: Concepts, Measures, and Empirical Relationship, International Institute for Democracy and Electoral Assistance. 2007
3 Parenti, Michael. Democracy for the Few ninth edition. Cengage Learning. Boston, USA. 2002
4 - Baiocchi, Gianpaolo and Ganuza, Ernesto. Popular Democracy: The Paradox of Participation. Stanford University Press. 2016
5 Freeman, Dena. De-Democratisation and Rising Inequality: The Underlying Cause of a Worrying Trend, International Inequalities Institute.London. 2017
6 Kaufman, Michael and Alfonso ,Haroldo Dilla. Community power and grassroots democracy The Transformation of Social Life. Zed BookSLtd, London. 1997








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - واقع بلداننا يقول غير ما تكتبين
د. لبيب سلطان ( 2023 / 7 / 31 - 20:22 )
الاستاذة المحترمة رانيا عبد الرحمن
اجد في مقالتك بعدا هائلا عن مشاكل بلداننا حيث تناقشين الديمقراطية في اميركا واسكتلندا وتطرحين نموذجا لايقوم له اساسا واقعيا في هذه المجتمعات وهي ادرى بشؤونها، وبلداننا تعاني اساسا حتى من ممارسة الديقراطية بابسط اشكالها وانت تريدين اقامة مجالس عمال والصناعة عندنا شبه معدومة ، ان الكلام النظري لاينطبق على الجنوب ..

ورد في مقالتك حول دول الجنوب مايلي- والوضع اسوأ في دول الجنوب حيث القطاع الخاص ليس هو المتحكم فقط، بل إن الشركات العالمية وصندوق النقد الدولي هما اللذان يحددان السياسا الاقتصادية لهذه الدول -. الواقع ان الفساد المالي والاداري لمؤسسات الدولة، الاقتصادية او المالية او الخدمية ، والنهب والسلب والمافيات السياسية هي من يدير ويسيطر ع اقتصاد الجنوب والعراق ومصر وسوريا والجزائر والسودان امثلة ..ان التعميمات التي تنطلقين منها مثل تلبيس مقولات على الواقع القائم ..فليست الليبرالية مشكلتنا ( حتى لو تحقق 20% منها في بلداننا قياسا للغرب لحمدنا الله ..وشكرناه، ولا اقتصاديات بلداننا هي كما تصفين، اتمنى الواقع يكون هو المنطلق في البحث
ولك فائق الاحترام


2 - وهم الديمقراطية المباشرة واديمقراطية الاشتراكية
منير كريم ( 2023 / 7 / 31 - 20:51 )
الاستاذة المحترمة رانية عبيد احمد
الديمقراطية المباشرة جاء بها اليعاقبة خلال الثورة الفرنسية وادت الى الارهاب اليعقوبي المعروف
والديممقراطية الاشتراكية كانت ااسلوب حكم الشيوعيين ولم تكن الا استبدادا ونظاما شموليا ارهابيا , والديمقراطية المباشرة والاشتراكية قائمتان على مبدا الجماعة فوق الفرد
لم تنجح الا الديمقراطية الليبرالية القائمة على العلمانية والمواطنة والحريات والحقوق الفردية
وفبها الفصل بين السلطات وتداول السلطة
والاعتراضات على هذه الديمقراطية لاتشكل بديلا
شكرا لك


3 - ماهي الديمقراطية المباشرة
د. لبيب سلطان ( 2023 / 8 / 1 - 10:20 )
عزيزي استاذ منير
لم افهم من تعليقكم اعلاه مالذي تقصدونه بالديمقراطية المباشرة ، وما هي الغير مباشرة
ان مجازر التطرف لنادي اليعاقبة لم تستطع ان تطغي على اهم انجاز تاريخي قامت به الثورة الفرنسية وادعوه تاريخيا كونها ولاول مرة وضعت اسس اقامة نظم الحكم على المبادئ الثلاث. التي ذكرتموها في تعريف الديمقراطية الليبرالية ، واولها وضع حقوق المواطن الفرد وحرياته اساسا للحكم ، علمانية الدولة ، وفصل السلطات الثلاث، وهي جميعا تتويجا لمفكري فلاسفتها على امتداد القرن الثامن عشر ( وجميعهم رحلوا قبلها بعشرالى عشرين عاما)، ولكن وثيقة الحقوق، ومثلها لائحة الحقوق في الدستور الاميركي عام 1785 كانت من فكرهم كما قال جيفرسون كاتب الدستور
اني دوما اضع اليعاقبة حركة غوغائية ارهابية خارج مفاهيم وانجازات الثورة الفرنسية تاريخيا انها استغلت ظروف الفوضى الثورية لتقضي عليها وتقوضها ، فهم ليسوا من مفكري الثورة الفرنيسية فولتير وروسو ومنتسيكو ، بل عصابات متطرفة قضوا عليها ،ولكنهم لم يستطيعوا
القضاء على النقلة التي احدثتها تاريخيا في وضع المواطنة وحقوقها اساس الحكم
ولكم طيب تحياتي


4 - الديمقراطية المباشرة والديمقراطية غير المباشرة
منير كريم ( 2023 / 8 / 1 - 17:35 )
الدكتور العزيز لبيب
الديمقراطية الليبرالية السائدة اليوم هي الديمقراطية غير المباشرة التي تسمى احيانا
الديمقراطية النيابية وفيها يمارس الشعب سلطته بشكل غير مباشر عبر نواب الشعب
الديمقراطية النيابية هي ثمرة الفكر الحر الليبرالي الممتد الى جون لوك
الديمقراطية المباشرة فيها يمارس الشعب سلطته مباشرة عبر مجموعات مختارة بشكل مجالس
كمجالس السوفيتات اوغيرها وتدعي التعبير عن مصالح الشعب
وهذه الديمقراطية تضع مصلحة المجموع فوق حقوق الفرد وحرياته
وتمتد فكرة الديمقراطية المباشرة الى جان جاك روسو وموضوعته الارادة العامة للشعب والتي ليس من الضروري حسب روسو ان تقاس بالاكثرية
في ايامنا هذه تحاول بعض القوى اليسارية المتطرفة الرجوع لهذه الفكرة التي فشلت سابقا
شكرا


5 - رد على د لبيب سلطان
رانية عبيد احمد ( 2023 / 8 / 1 - 18:00 )
اشكرك يادكتور على التعليق
اتفق معاك ان واقعنا يعانى من الكثير من الاشكالات ولكننا فى طريقنا لبناء اسس الديمقراطية فى بلداننا ولذا اظن اننا يجب ان نبدا بدراسه ماحولنا ونقده لنتمكن من خلق نموذخ خاص بنا ويتخطى مشاكل الديمقراطية الليبراليه


6 - رد على استاذ منير كريم
رانية عبيد احمد ( 2023 / 8 / 1 - 18:05 )
شكرا على مداخلتك يااستاذ
دعنى اختلف معك فى ان الديمقراطية الاشتراكية لم تطبق بعد كما ان الديمقراطية الليبرالية
تعانى من العديد من الاشكالات وقد وضحت اغلبها فى مقالى
ولا ارى ان الديمقراطية الليبرالية تحقق حكم الشعب كما تدعى بل هى دكتاتورية الاقلية المهيمنه
انا اظن ان الديمقراطية الشعبيه هى الحل وهى لا يمكن ان تتحقق الا عبر الإشتراكية


7 - لايمكن تجاوز المراحل يا استاذة رانية
د. لبيب سلطان ( 2023 / 8 / 1 - 23:11 )
استاذتنا العزيزة
تعقيبا على جوابك مشكورة على مداخلتي الاولى اود ان اطرح التمييز بين تطور المجتمعات وبين خيارات تتم على اساس الافضل كما تطرحين
دعينا نتفق ان نمو الطفل هو طبيعي يبدء بالزحف ثم الوقوف ثم المشي ثم الركض واية تجربة لاجبار طفلا على المشي او الركض قبل الوقوف سيكون كارثة ، ، وتطور اي مجتمع لايتم عبر نظرية افضل الخيارات، خصوصا الغير مجربة ، فالمحتمعات ليست مختبرات ، واي فشل هو كارثة ما بعده من كارثة، كاجبار الطفل على السير قبل تعلم التوازن في الوقوف
ان نقد الديمقراطية اللببرالية هو دعم لمزاعم السلفية ان شئت ، اما النموذج الذي تطرحينه فهو قد فشل ياسيدتي ، ليس لانه غير منطقي، بل لانه غير علمي ..وهناك فرقا بينهما ، العلم يقول ان الاقتصاد علم منفصل وله قوانينه ، بينما تقول الماركسية ان الاقتصاد يجب ان يخضع لمبدأ العدالة
الاجتماعية ولكن الاخيرة هي مقولة سياسية اجتماعية وحلها سياسيا احتماعيا ، وهنا يفترق العلم عن الطروحات الفلسفية ، والاحرى الاخذ بالعلم ودراسة محتنعاتنا بواقعها وليس
بطروحات ومقولات فلسفية جربت وفشلت ونحاول لليوم تلبيسها للواقع تلبيسا
مع افضل السلام والاحترام

اخر الافلام

.. بعد نحو عقد من حكم الانفصالين للإقليم.. الاشتراكيون يفوزون ف


.. فريد العليبي: فلسطين وأساطير التاريخ




.. عوام في بحر الكلام - الأغنية دي هي اللي وصلت الريس حفني لـ ج


.. اشتباكات بين الشرطة ومتظاهرين مؤيدين لفلسطين في أورلاندو




.. فيديو: ابنة كاسترو ترتدي الكوفية الفلسطينية وتتقدم مسيرة لمج