الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


غرامُ آينور هانم: تأريخُ الخيانة

دلور ميقري

2023 / 7 / 31
الادب والفن


1
نسيانُ مونيكا، لم يكن بهذه المُساهلة إلا آنياً وبدافع الإنفعال؛ مع أنها ذكرى مؤقتة، على أيّ حال. لقد أمكنَ للعاشقَيْن إستعادةَ تلك الليلة الحميمة، اليتيمة، وذلك في أثناء مناقشة طبيعة علاقتهما وما لو كان لها أفقٌ قاتم أو مستقبلٌ مُشرق. قبل ذلك، وفي خلال الطريق من غوتنبورغ إلى أوبسالا، أستغرقت آينور هانم في الضحك، لما أحيطت علماً بتحليل دارين لعلاقتها المُلتبَسة مع تلك الفتاة الدنماركية: " إنك تُعطي نفسكَ مزيداً من الأهمية، وكأنك محورُ الكون. فإنك تتجاهلُ، أو تجهلُ فعلاً، أنني إمرأةٌ ذاتَ ماضٍ وبالكاد تعرّفتُ عليك. قد تكون تجاربي على فأر المخبر ـ وهذا كانَ تعبيركَ أنتَ منذ البداية ـ من أجل الحُكم على تصرّفات رجلٍ آخر؛ ربما هوَ زوجي أو شخصٌ ما؟ ". كانت تتكلمُ أو تلتزمُ الصمتَ والسيجارة في فمها، ممسكة مقودَ السيارة بكلتا اليدين ـ كأغلب النساء. دارين، بالرغم من أنه لم يكن مُدخّناً، فإنه كانَ يتحمّلُ رائحةَ السجائر.. إلا أنه صارَ يمقتُ هذه الرائحة، حينما أضحى شغوفاً بالنرجيلة، وذلكَ عقبَ زيارته لمصر في مُستهل الألفية الجديدة.
لم يعُد دارين ينصتُ تماماً لبقية حديث عشيقته، مع أنّ فكرَهُ بقيَ مُركّزاً عليها ـ كحالةٍ إنسانية أكثر منها حالة خاصّة. لقد أستوقفته كلمتها، بأنها إمرأةٌ ذاتَ ماضٍ، وذلك كي يُراجع في ذهنه ماضٍ أكثر بُعداً. قراءاته في التاربخ العثماني، قادته إلى استنباطِ نوعٍ من التفسير لتلك الحالة، التي لم يكن ميؤوساً منها تماماً. مثل العملة العثمانية ـ وأيّ عملة معدنية في حقيقة الأمر ـ كانَ للحالة المذكورة وجهان، ولكن أحدهما ظاهرٌ والآخر خفيّ. إنّ القدْر الكبير من الإباحية، السائدة في المجتمع التركيّ الحديث، تُحال عادةً إلى إصلاحات أتاتورك، المعروف بميله لأوروبا وتنكّره للماضي الإسلاميّ لبلده. إنما واقعُ الحال، يقولُ أنّ ذلك الماضي نفسه ـ العثمانيّ تحديداً ـ كانَ وراءَ تلك الإباحية. ففي تخت السلطنة، والمدن الأخرى، كانَ يَصُبّ سيلُ الجواري من كلّ حدبٍ وصوبٍ، وكانَ منهن أولائي المُختطفات من الممالك الأوروبية، بالأخص عن طريق القراصنة، الذين كانوا يغيرون على الجزر والسفن سواءً بسواء. حقاً إنّ شراءَ الجواري ما كانَ في مقدور العامّة، إلا أنّ وجودهن في ظهرانيهم كانَ يؤثر على عادات وتقاليد المجتمع، بل وعلى الثقافة أيضاً. بالطبع، ثمة عاملٌ آخر، يُضاف إلى ذلك المؤثّر المذكور، ألا وهوَ العنصر الشعبيّ النصرانيّ، المُهيمن على الأستانة ومعظم مدن الساحل حتى مرسين. هذا العنصر، كانَ كثير التنوّع في أصوله؛ من إغريق وأرمن وبنادقة وروم وغيرهم. لقد تُرك لهم حرية العبادة وأمكن لنسائهم التنقل سافرات في الدروب والأسواق، كذلك عُهدَ لرجالهم إدارةَ دور السّكر والمجون.
على المنقلب الآخر للعملة، يأتي وضعُ عبيد الدولة من الذكور، الذين يُقابلون جواريها من الإناث. لقد ضمنَ نظامُ " الدوشيرمة "، العثمانيّ، مدّ الباب العالي بأبناء العائلات النصرانية الأوروبية، الذين كانَ يجري إستقدامهم عن طريق الخطف غالباً. فبعد أن يُختن الواحد منهم ـ كأيّ مسلمٍ ـ كانَ يُربّى في قشلات الإنكشارية على فنون الحرب، ليُعاد إرساله إلى جبهات أوروبا كي يَسفك دمَ أهله. هذه الفئة من العبيد، نبغَ منها أشخاصٌ صاروا قادة عسكريين أو موظفين مرموقين، وبعضهم تسنّم مناصب عالية كولاة ووزراء. هؤلاء وأولئك، كانوا يُظهرون طاعةً عمياء علاوة على شراسةٍ بالغة، لكي يثبتوا ولاءهم للباب العالي. مع تعاقب الأجيال، وصولاً إلى عصر القومية، فإنّ أخلافَ تلك الفئة من العبيد قاموا بتأسيس جمعية " الإتحاد والترقي "، التي رسّخت عميقاً جذورَ النزعة التركية، المُعادية للأثنيات الأخرى. فبعد إبادة الأرمن وترحيل اليونانيين والروم والبنادقة، أضحى الكردُ في مرمى هذه الشوفينية، المُنفلتة العقال.
تنتقلُ بعضُ كلمات دارين إلى رأس آينور هانم، المُستلقي على كتفه ـ كما يفعلُ رأسُ المحارب على أثر معركة دامية عندما يستند على صخرة. وإنهما خرجا تواً من معركة شبيهة، وكانَ جسداهما في حالة شوق واحدهما للآخر عقبَ قطيعةٍ قصيرة. لقد بلغَ بها الإستهتار والتهتّك، أن تدعو عشيقها للمبيت معها في حجرة النوم بالفيلا، أينَ تقيم. تسلل دارين مساء إلى المسكن كاللص، كونه لم يضمنَ ألا يظهرَ أحدُ شقيقيّ زوجها في وجهه، كونهما يُقيمان أيضاً في حيّ ستينهاغن.
" ثمة دراسة قرأتها مؤخراً، تذكرُ أنّ ممارسةَ الدعارة تشملُ كل إمرأتين من ثلاث نساء في مدينة اسطنبول. إنك تعلّق أهمية على الناحية التاريخية، وتنسى الناحية الإجتماعية وفي مقدّمتها الفقر. من جانبٍ آخر، فأيّ إباحية تعيشها المرأة الشرقية لو عشقت رجلاً غير زوجها؟ "
" أتعنين المرأة الشرقية، التي تقيم في السويد على سبيل المثال؟ "
" بالطبع، لأنها في بلدها مُجبرة على العيش مع زوجها والإخلاص له حتى لو لم تكن تحبّه. هل تعرف لماذا؟ لأنها مُقيّدة بزوجها من الناحية المادية، وسيكون مصيرها التشرّد والجوع لو خالفته؛ بله أن تخونه "
" لنعُد إلى المرأة الشرقية هنا، في السويد، فنجد أمثلة على هذه الإباحية وقد تجسدت في تعدد العشاق؛ وكأنما هذه المرأة تستفيد من وضعها المُتفوّق، لكي تنتقم لمراهقتها المهدورة والمفقودة "
" هذه حالاتٌ نادرة، لأنّ المرأة الشرقية تخشى على سمعتها؛ كونها ما زالت مُرتبطة بالوطن الأم من خلال زيارته كلّ صيفٍ، على الأقل، عدا عمن تدعيهم من الأقارب لزيارتها "
" من تجاربي السابقة، أرى العشيقة تستمتعُ جنسياً أكثر من استمتاعها مع زوجها. لأن الزواجَ محكومٌ غالباً بالرتابة، التي تخلق المللَ والإسترخاء. فالعشيق، مهيأ دوماً للفعل الجنسيّ. في حين أن الزوج، في المقابل، قد لا يُجامع زوجته حتى مرةً في الشهر "
" وأنتَ، ستتحوّلُ أيضاً إلى ذلك الرجل الخامد جنسياً عقبَ زواجك؟ "، باغتته آينور هانم بهذا السؤال. لعله جفلَ، كونه توهّمَ أنها قالت: " زواجنا ". على ذلك، أدهشها شحوبُ وجهه المُفاجئ. لم يكن الكحولُ قد تمكّنَ منه، بعدُ. مع أنه صبّ لنفسه الكأسَ الرابع من الويسكي الفاخر، الذي سبقَ لعشيقته أن أشترته من المركب بسعرٍ مُخفّض: إنها غنيّة، وإقتصاديّة في الآن ذاته. والأمران على ارتباطٍ وثيق ـ كما حال قطبيّ الجاذبية.
غبّ إستبطاء جواب عشيقها، عادت آينور هانم لتقول: " خلّو يخونني بدَوره، وهوَ يعلمُ أنني أعلمُ بذلك. إنه لم يكن يكتفي بمضاجعة العاملات في مطاعمه، وغالبيتهن سويديات، بل كانَ يُسافر دورياً إلى ألمانيا وهولندا كي يغشى المواخير. وأظنه يفعل الآنَ الأمرَ نفسه، ثمة في تركيا. قد تظنّ، أنني أبررُ خيانتي الزوجية؟ "، أنهت كلامها بهذا السؤال. بقيَ دارين صامتاً، ينتظرُ أن تُجيبَ بنفسها على السؤال. لكنها أشعلت سيجارة، وراحت تراقبُ أنفاسها وهيَ تتقلّبُ في الفراغ. ألتفتت إليه فجأة، لتقول: " حالما تقضي وطرك، تُضحي شخصاً مُضجراً خالٍ من الشعور والإهتمام "
" أنتِ مُخطئة، فأنا مُهتمٌ بالحديث وقد بدأته أساساً "، دافع دارين عن نفسه بجملةٍ كسولة. لقد ثقلَ رأسَهُ رويداً، وفي الأثناء تعاظم إنتعاظه عندما سمعَ كلامها عن مضاجعة السويديات: لقد استعاد عندئذٍ ذكرى سليلة الفيكينغ، مونيكا، التي شقّ عليه ألا يهنأ في التمتع بردفيها العارمين سوى مرةً واحدة، وذلك بسبب حساباته الفكريّة، التي ربما لم تعدُ عن كونها وساوسَ سخيفة.
ثم أستطرد دارين، كأنه يُجيب على سؤالها الأول: " إننا كفنانين، سواءً بالكلمة أو الرسمة، نبقى محتفظين بالجدّة في علاقتنا العاطفية بشريكنا، وبضمن ذلك المعاشرة الجنسية بالطبع. لأنّ الحب والجنس، يغتذيان بالفكر أكثر مما تفعله الأشياء الأخرى. مع ذلك، فإنّ الزواجَ مؤسسة مبنية أساساً على سيطرة الرجل وتسلّطه. الغرب، عقبَ تخلّصه من ربقة الكنيسة، أبتدع أشكالاً أخرى كبديلٍ عن مؤسسة الزواج، تؤجج العاطفة، وفي الوقت نفسه، تحفظ الأسرة "
" بحسب فهمي لكلامك، فإنك لن تتزوج من إمرأة شرقية. لأن العيشَ تحت سقفٍ واحد دونَ عقد زواج، مقبولٌ فقط عند المرأة الأوروبية "
" وأنتِ، أتعدّين نفسك إمرأة شرقية أو أوروبية؟ "
" بل إمرأة أوروبية، أبتليت بالعيش مع رجلٍ شرقيّ "، قالتها آينور هانم فيما فكرها راحَ يسرحُ في الماضي.

2
بمثل رتابة ليالي الشمال، المبثوثة فيها نجومٌ لم يعُد أحدٌ بحاجةٍ إلى أضوائها، جلسَ الزوجُ في حجرة النوم، ينتظرُ أن تنهي إمرأته حمّامها السريع. إنه لا يتذكّر آخر مرة، جلسا معاً في حوض الحمّام وقد أنبعثَ بريقُ النظافة والجدّة من كل الأشياء حولهما؛ بما في ذلك كأسيّ الكريستال، المُترعين بالشمبانيا، المَنذورة لمناسباتٍ سعيدة مُشابهة. لعل الذكرى الأخرى، المُتواشجة مع الحمّام، المُستعادة الآنَ في رأسه المُرهق بالفكر، حينما طلبت منه آينور المساعدة في غسل طفلتهما ذات الأشهر الستة أو السبعة. ربما تعمّدت إمرأته عندئذ خلعَ جميع ملابسها، فيما قرفصت أمام الحوض البلاستيكيّ الصغير، أين وضعت الطفلة. أبدى لها في حينه ملاحظةً، عن نمو زغب عانتها. قالت له بجفاء: " الشكرُ لله، أنكَ تذكّرتَ وجودَ هذا الموضع! ". فهمَ، ولا شك، أنها تشكو من ندرة اجتماعهما معاً في الفراش، بسبب عمله في مدينة أخرى وكذلك سفراته العديدة إلى الخارج.
غبَّ الانتهاء من تحميم الطفلة، عَهدت بها الأمُ إلى أبيها فيما أغلقت بابَ الحمام عليها. بعد نحو ساعة، ظهرَ رأسُها خِلَل الباب الموارب، لتنادي باسمه. حينما دخلَ الحمّام، كانت تقبضُ في يدها عصارةَ المادة اللزجة، المُستعملة في إزالة الشعر: " تحسّس فَرْجي بيدك، لكي تشعر كم أصبحَ ناعماً "، قالت له وهي تُريه قاربَ اللذة المُلطخ بعدُ بأثر تلك المادة.
صحا من نشوة الذكرى، لما خرجت إمرأته من الحمّام وهيَ ملفوفة بالبينوار، الورديّ اللون، فيما رأسها جُمع بدَوره بفوطة من نفس اللون. كانت تتحركُ بخفّة وبساطة، أشبه بكائنٍ قطبيّ، لا يُدرك ما لفرائه من قيمةٍ ثمينة بحسابات الصيادين. لكنها كانت على إدراكٍ مُسبق، مَشفوعاً بحَسرة التجربة، بأنّ الصيّاد الماثل أمامها قد غدا غير ما كانَ عليه في أوان زمن المُعاشرة الأولى. فوق ذلك، كانت مُتوجّسة منذ زمن قريب أنه بدأ يرتابُ في إخلاصها له. ربما عززَ ريبتَه، بما فاضَ على وجهها من شعور الهناء والرغد والوداعة ـ كأنها مُرتوية جنسياً، ومُشبعة عاطفياً. هذا، بالرغم من أنّ الحقيقة، هيَ في مكانٍ آخر لو تعلّق الأمرُ بطبيعة علاقتهما الزوجية. لقد كانَ من الصعب عليه ترك عمله، الكائن في مدينة أخرى، لكي يتفرّغ لمراقبتها. إنها أيضاً تعلمُ ذلك، فلا تحسبُ حساباً لهذه الناحية. علاوةً على حقيقةٍ أخرى، أكثر أهمية: سيكونُ هوَ الخاسرُ، ولا ريب، لو أنّ شكوكه كانَ لها ما يُبررها وحصل الطلاقُ. فإنه بهذه الحالة لن يفقدَ، حَسْب، نصفَ أملاكه. إذ كانَ واضحاً مدى تعلق إبنتهما الوحيدة بالأم. خصوصاً وأن خجي نشأت إلى حدّ كبير بعيداً عن رعاية الأب، وذلك لنفس الأسباب آنفة الذكر.
كانَ إذاً وحيداً مع أفكاره، والابنة الحبيبة قد أوت مُبكراً إلى الفراش في حجرتها، حينما أفاقَ على نفسه مع خروج إمرأته من الحمّام. ما عتمَ أن نضت عنها ذلك الفراء الورديّ، لتخطو بعريها إلى خزانة الملابس. ألقت نظرةً سريعة على محتوى الخزانة ثم خرجت يدها بثوب نوم، أرتدته بذات العجلة. تقدّمت بعدئذٍ إلى مجلسه فوق الأريكة، لتقعد على ركبتيه وتعانقه: " أهذا وقتُ إشغال الفكر، ونحن بالكاد نخلو إلى الفراش معاً في يوم العطلة؟ "، قالتها بشيءٍ من التدلّه. إذا به يرفعُ طرفَ الثوب عن سروالها الداخليّ، ليقول بعد لحظة تأمّل: " وفي مثل هذه الخلوة الحميمة، تظهرين بهكذا هيئة ؟ "
" لأول مرةٍ ربما، أسمعُ فيها منكَ هكذا شكوى "
" عندما كنتِ في الحمّام، ألقيتُ نظرةً على خزين ملابسكِ الداخلية، وكانت من الوفرة أنها تكفي عشرَ نساء "
" وماذا وراء تلك النظرة؟ "
" فوقَ وفرة ملابسك الداخلية، فإنها كانت من النوع الصارخ الإثارة "
" نعم؟ "
" بودّي أن أعرف، لأجل مَن أشتريتِ هذه الملابس؟ "، تساءلَ في نبرةٍ مُبيّتة. حدّقت فيه بدهشة، كونها لم تتوقّع قط أن يستجوبها بهذه الطريقة الفجّة. نهضت من حضنه، لكي تشعل سيجارة. خرجت بعدئذٍ إلى الشرفة، وكانت الليلة ما تفتأ مُتأثرّة من حرّ النهار الصيفيّ. ما لبثَ خلّو أن تبعها، فوقف عند مدخل الشرفة مُمسكاً بطرف الستارة: " أنا آسفٌ، لو كانَ سؤالي قد جرحَ شعوركِ "
" إنني حريصةٌ على شعوركَ، ولذلك لم أعلّق حالاً على ما قلتَهُ. ولكنني، مع ذلك، سأجيبُ عن سؤالك: المرأة حينَ تبقى ساعةً أمام مرآة الزينة كي تستكمل مكياجها، قبل خروجها من البيت، إنما تفعلُ ذلك من أجل الجمال بحدّ ذاته وليسَ لأجل أحد كائناً من كان. هذا القولُ، يَنطبق على ملابسي إن كانت داخلية أو خارجية؛ ولو كانت مُثيرة، فإنني أكونُ حينئذٍ راضيةً عن نفسي "
" إنكِ إشتريتِ أيضاً بدلةَ رقص شرقي، جديدة؟ "
" سألبسها كي أرقصُ أمام زملائي الطلبة، في أول حفلةٍ يُقيمها المعهد "، قاطعته بنبرةٍ فيها ما فيها من تحدٍّ وحنق. فإنها بلمحةٍ واحدة، أستعادت غيرتها من الراقصة الشرقية حينَ كانت مع زوجها في أحد ملاهي مدينة أسطنبول، ولما عادا إلى شقتهما بادرت إلى إرتداء بدلة الرقص الشرقيّ وفتح المسجّل على إحدى المقطوعات الموسيقية العربية. لقد مضت عدة أعوام على تلك الحادثة، ولم ترقص له من بعدها قط في أيّ مناسبة. فإنّ زمن المناسبات السعيدة قد ولّى، وغدا كلّ منهما يسافرُ دونَ الآخر غالباً.
بيدَ أنّ آينور هانم، لسببٍ لا يتعلّقُ بمشاعر الزوج، لم تشأ تنفيذ تحدّيها. كانت قد حضرت حفلةَ الديسكو في المعهد برفقة خلّو وعائلته، يحدوها الأملُ أن تكون بأجمل صورة وهيئة في نظر من سَعَت أمداً لكي يكون عشيقها.

3
كأنما كانت آينور هانم على كرسيّ الإعتراف، والقس هوَ عشيقها. إلا أنّ هذا الأخير، لم يكن واسطة مع الله وإنما مع الشيطان. كانت تنتظرُ من دارين أن يتعاطفَ معها، وأن تلك التفاصيل الحميمة ستجعله في أوج الإنتعاظ تمهيداً لليلة الحمراء.
لكن العشيقَ ما لبثَ أن أثارها، بكلمته الساخرة: " تظنين أنّ خداعكِ لزوجك، مأثرةٌ جديرة بالفخر. مع أنّ أيّ شخصٍ في وسعه الكذب، ولا يحتاج الأمرُ لعقلٍ مُبدع ". أغضبها كلامه؛ ليسَ لأنها رأته مُجانباً الحقيقة، بل لأنّ صاحبَهُ أعطى الحق لنفسه في إتهامها بالكذب مع أنه شريكٌ في الخيانة. وعليها كانَ أن تشعرَ بالندم، من ناحية أخرى، لسردها أشياءَ حسّاسة من حياتها الخصوصية على مسامع شخصٍ تُخطط كي يكونَ شريكَ حياتها. فإنه قد يستخدم هذه الأشياء ضدها فيما بعد، أو تعتوره نفسُ الشكوك، وذلك بالإحالة إلى ما علمه عن علاقتها المُلتبَسة مع خلّو.
قالت له، مُحاولةً كظمَ غيظها: " إذا كنتُ أداري رَجُلي، بالكذب والخداع، أليسَ ذلك من أجل أن تستمر علاقتي بك دونما فضائح وأقاويل؟ "
" في حقيقة الحال، أنا أشفقُ على الرجل "
" إنك جديرٌ بالشفقة، أيضاً "
" أتعدّين لي نفسَ المصير؟ "
" إنك متهوّرٌ في الكلام، لأنّ السّكرَ نالَ منك "، قالتها مومئةً إلى زجاجة الويسكي. نظرَ إلى الزجاجة بدَوره، ولوّح يدَه كإشارةٍ عن عبث المناقشة: " عندما يُعجزنا الجدالُ وتنقصنا الحجّة، نَصِمُ الآخرَ بأنه يُجدّفُ لأنه مخمورٌ "
" هل نطقتَ جملةً واحدة، مُفيدة، كي تدّعي مُجادلتي بما لا يعلمه إلا الشيطان؟ "
" إن ما يغيظكِ، حقاً، أنكِ لا تستطيعين مُعاقبتي كما تفعلين بزوجك "
" بماذا أعاقبُ زوجي؟ "
" بخيانته، بالطبع! "
" أتظنّ أنه من الصعب عليّ أن أهجرك من أجل رجلٍ آخر؟ "
" ستعودين إلى المضاجعة مع ذلك الرجل، الأرمنيّ؟ "، تساءلَ بنبرةٍ مُتفكّهة. وإذا هيَ تخرجُ عن طورها، فتوقعُ لطمة على وجهه، صارخةً : " أيّها المخبول، القذر! ". كانَ قد رفعَ يدَهُ كي يتفادى اللطمة، فبقيت في الهواء؛ كونه في غاية الذهول. هذه الحركة، لم تجرّدها من الغضب، حَسْب، بل وأيضاً أثارت شجنها. رنت إليه من موقفها فوقَ رأسه، وما عتمَ أن داعبت وجنتَه المُلتهبة بأصابعها الرقيقة، المُحلّاة بالخواتم: " آه، أنا آسفة جداً "
" لا عليكِ، أنا أستحقها "، قالها ثم أنفجرَ بالضحك. أبتسمت عندئذٍ، ولكن لم يُزايل الحزنُ ملامحها. كانَ جلياً أنها حزينة من أجل نفسها، قبل كل شيء، ونادمة أيضاً: لقد جاءت به إلى بيت الزوجية، بهدف إبهاره بحياتها الرغدة. أرادته أن يَعي على الطبيعة، بأنّ هذه الحياة ستكون من نصيبه لو عاشا معاً تحت سقف الفيلا.
لكنها أختارت أن تقول له شيئاً آخر: " ذِكري لبدلة الرقص الشرقيّ الجديدة، التي أثارت هواجس رَجُلي، كانَ له داعٍ آخر غير وضعكَ في صورة حياتي العائلية. فإنني كنت آملُ أن أحثّك على المبادرة، فتطلب مني أن أرتدي البدلة، كوني أشتريتها خصيصاً لك ". دونما تفكير، وفرحاً كطفلٍ وُعِدَ بهديّة، هتفَ فيما كانَ يتلقفُ جسَدَها بيديه: " إنني بالفعل، مخبول! هيا أرِني هذه البدلة على جسدكِ الجميل، كي أتمتع أيضاً بمنظر رقصكِ "
" دقيقة وسأعودُ حالاً "، قالتها فيما كانت تتجه إلى ناحية حجرة النوم وهيَ في غاية البهجة. عقبَ ذهابها، آبت الأفكار الغائمة تمطرُ على رأسه: " ستكونُ مخبولاً حقيقةً، إن هيَ حملتك على أن تفقد الحريّة بجرّك إلى الزواج. ستغدو أيضاً مثارَ سخرية الآخرين، وأنت ترتبط بإمرأة مع طفلةٍ عٌمرها سبع سنين ". إلا أنه عادَ وأستدرك: " لن أقعَ في فخٍ كهذا، ولن تزِد علاقتي بها عن العشق الحر؛ تماماً، كما كان حالُ علاقتي بإمرأة البحار ". لقد كان سيرُ يومياته مع آينور هانم، يكاد يتوافق مع بعض تفاصيل روايته الجديدة، التي علمنا أنها بدَورها صدىً لسيرته الذاتية في أحد منعطفاتها العاطفية. وقد أدهشه بنفسه ذلكَ التماثل بين الشخصيتين النسائيتين، حدّ التوافق أحياناً، ومن ثم عزاهُ إلى مبدأ الخيانة الزوجية في كلتا الحالتين. إلا أنه، لسببٍ يتعلق بالمكان بالدرجة الأولى، لم يجعل إمرأةَ البحار الشخصية النسائية الرئيسية في عمله: فإنّ أحداثَ الرواية، كانَ من المُفترض أن تجري بصورة أساسية في دمشق وليسَ في اللاذقية.
حالما عادت آينور هانم، مدّت يدَها إلى جهاز التسجيل، وما لبث اللحنُ أن أنبعث منه. وكانَ من عادة الراقصات الشرقيات، التركيات، وضع موسيقى مصرية عند أدائهن للوصلة المطلوبة. وعلى الأرجح، أنه تقليدٌ قديم، عائدٌ إلى أوج إزدهار السلطنة العثمانية. فإن مصر، كانت أغنى ولاية في السلطنة؛ وكانَ البابُ العالي يعتمد بشكلٍ كبير على خِراجها. لم يكن بلا مغزى، أنّ ثاني أكبر سوق في أسطنبول، حملَ إسمَ " البازار المصريّ ".
وإذاً، تجلّت عشيقة دارين في بدلة الرقص الشرقيّ، المُكوّنة من قطعة واحدة ذات قماشٍ رهيف، يختفي في جانب كبير عند الصدر والبطن والفخذين. راحت الراقصة تتمايلُ على اللحن، فيما تهزّ ردفيها وثدييها مع تصاعد النغمة. ليتماهى العُري مع الحركات المثيرة مع الموسيقى، فتتشكّلُ لوحةٌ إيروتيكية، مُتقنة وفاتنة. فكم أشبهت هذه الراقصة بسلفتها؛ الجارية، المجلوبة إلى بلاط الباب العالي من إحدى الممالك الأوروبية.. لتغدو إحداهن من أولائي الجواري، اللواتي لعبنَ دوراً حاسماً في تاريخ السلطنة العثمانية سواءً في طور قوتها أو ضعفها. الغريب، أنّ المبدأ الآخر المُترسّخ في السلطنة ـ علاوة على مبدأ قتل الأخوة ـ هوَ زواجُ السلطان من جاريةٍ نصرانية، تحديداً، وليسَ من إمرأةٍ مسلمة حرّة. كون السلطان يُعاشر كلّ يوم إحداهن، فإنّ أول جارية تحملُ منه ستكون هيَ أم وليّ العهد؛ ومن ثمّ تتولى شئونَ حريم القصر بهذه الصفة.

4
" هيا ننتقلُ إلى الترّاس، لأنني أشعرُ بالإختناق هنا في الصالون "، قالت له عشيقته. كانَ الشتاءُ قد ولّى منذ ما يزيد عن الشهر، والزوجُ المخدوع أخذ إجازة الربيع وسافرَ إلى أقاربه في ألمانيا ولن يعودَ قبلَ أسبوعين. من ناحية العاشقين، فإنهما أنهيا الدراسة في المعهد، وشاركا من ثمّ برحلةٍ نهرية من قصر " فيك " إلى أحد القصور المُترفَة، المُترامية في جزر العاصمة، والمُختزنة تواريخ السلالات الحاكمة؛ وآخرها آل " برنادوت "، الذين جاء جدّهم الأول من باريس في زمن نابليون، ليُضحي والٍ أكثر منه ملكاً.
لقد سُمحَ لأقارب الطلبة بركوب السفينة ذاتَ الطابقين، وكان بينهم تيمور وخيري وديلان وداريا. هذه الأخيرة، كانَ دارين يلتقيها لأول مرة مذ إنتهاء علاقتهما. إلا أنه سبقَ ورآها في السوق بمركز المدينة، وكانت برفقة شاب سويديّ، ما جعله يتنهّدُ بشيءٍ من الارتياح.
في مساء ذلك اليوم، الشاهد على الرحلة النهرية، أجتمعَ الطلبةُ في إحدى مقصورات ملهى " فلوستريت ". ثمة، طلبته للرقص أكثر من مرة، معلّمتُهُ الجميلة، آينو. قالت لدارين، وهيَ تشدّه إلى وسطها: " سأوصلكَ بسيارتي إلى مسكنك ". كانت تكبره بنحو عقدٍ من الأعوام، مُحتفظةً بعدُ برشاقتها وملامحها الفاتنة. لقد دعت طلبتها ذاتَ مرةٍ إلى شقتها، الكائنة على طرف ساحة فكسالا، وكانت تعيش فيها وحيدةً مع طفلة صغيرة سمراء، كانَ قد جرى أخذها من والدتها في إحدى البلدان الآسيوية ليُصار إلى تبنّيها. لكنّ دارين تملّصَ من دعوة معلّمته في تلك الليلة، كونه على موعدٍ مع فراشٍ آخر في مساء اليوم التالي: لقد أمتنعت آينور هانم عن الحضور إلى الملهى، كي تمثّل على أخوة زوجها شخصيّةَ المرأة المُخلصة.
ترّاسُ فيلا آينور هانم، كانَ قد شُيّدَ بين زاويةٍ من الحديقة والمطبخ، وكانَ من الإتساع أن جُعلَ في مركزه بحرةٌ صغيرة، دائرية الشكل، تنبثق منها نافورةٌ مُذهّبة على شكل حوريّة تحمل جرّة ماء. كانَ البدرُ في تمامه، ينشرُ ظلالَ الأشجار المثمرة على الألواح الزجاجية للترّاس، المُضاء بدزينةٍ من المصابيح الصغيرة ذات الألوان المتعددة. في السقف والجدران، تم تثبيت أجهزة تدفئة على شكل " النيون "، ضافرت عند تشغيلها الجوّ المُفعم بالإثارة والرغبة. ففي هذه المساء الربيعيّ، شاءت حوريّةٌ من لحم ودم، ثملةٌ بعض الشيء، أن تخرجَ إلى التراس ببدلة الرقص الشرقيّ كي تواصل هناك هزّ الأطرافَ العارية على ألحان عزفٍ مصريّ، مُنبعثٍ من جهاز التسجيل، لآلة أوكرديون ذات أنغام رقيقة مع إيقاعٍ، صاخبٍ ورتيب في آنٍ واحد.
يتعيّن القولُ، أنّ دارين حفظَ العديدَ من المفردات والتعابير التركيّة، وذلك من خلال متابعته مع عشيقته لأفلام موطنها، المُسجّلة على شرائط فيديو. كانَ معظمُ أعمال الفن السابع هذه، تعود إلى حقبة السبعينيات، التي كانت من الوفرة أن جعلت تركيا البلدَ الثالث في الإنتاج السينمائيّ بعد هوليوود والهند. أغلبُ تلك الأفلام كانت تجارية، بُذِلَ فيها الكثيرُ من الإثارة الرخيصة إن كانَ لناحية العُري أو المشاهد الساخنة، يتخللها الأغاني والرقصُ الشرقيّ. غبّ إنتهاء آينور هانم من وصلتها، أقترحت على دارين مشاهدةَ أحد تلك الأفلام. في أثناء العرض، تبادلا الحديثَ عن السينما التركية. قال دارين، مومئاً إلى أحد المشاهد: " يتمّ التركيزُ على السروال الداخليّ للمرأة، ولكنه لا يظهرُ غالباً سوى من تحت التنّورة "
" نعم، لأنه لو ظهرَ مُجرّداً، كالبيكيني، فإنه لم يُحدث الإثارةَ المطلوبة "
" في الأفلام المصرية، يُعدّ سروالُ المرأة الداخليّ من المُحرّمات. في حين أنّ المَشاهدَ الأخرى تذخرُ بالفتيات، المُكتسيات بالبيكيني ذي القطعتين، سواء على البحر أو في المسبح. إنها مُفارقة مُلفتة، أليسَ صحيحاً؟ "
" السروالُ الداخليّ، يرمزُ إلى حجرة نوم الزوجين. بينما البيكيني، يُعتبر من مظاهر الحياة المألوفة والطبيعية، طالما أن المرأة ترتديه بمكانٍ عام "
" السينما السورية، على خلاف المصرية، لم تتشدّد في هذا الموضوع "
" أجدكَ تُركّز دوماً على السينما المصرية، مع كونك سورياً؟ "
" لأنّ السينما المصرية، هيَ بمثابة هوليوود العالم الناطق بالعربية. إنّ العديدَ من روّاد هذه السينما، إن كانوا مخرجين أو منتجين أو ممثلين، هم من أصول سورية. آنذاك كانَ المسرحُ مُزدهراً في مصر، بتشجيعٍ من الإدارة البريطانية، وكانَ لا بد لصناعة الفيلم أيضاً أن تظهرَ سريعاً. في حين أن سورية كانت على خلاف ذلك، بسبب الإدارة العثمانية، المُتّسمة بالرجعيّة والجمود "
" وماذا عن سينما بلدك، على أيّة حال؟ "
" لم تتطوّر السينما السورية، إلا أنها كانت أكثر جرأة من مثيلتها المصرية في تقديم مشاهد الجنس وأيضاً في عرض المسائل المَحظورة ضمنَ مجتمعٍ إسلاميّ مُحافظ "، ردّ دارين. عندما رفع زجاجة الويسكي كي يصبّ كأساً، وجدها فارغة تقريباً. قالت له عشيقته، وهيَ تنهضُ من مكانها: " سأجلبُ زجاجةَ أخرى ". ثم أضافت ضاحكةً، قبل أن تمضي: " عليكَ مَنعي من الشّرب بالقوّة، وإلا فإنك ستُضاجعني وأنا مُستغرقة بالنوم ".
بعد دقيقة أو نحو ذلك، فوجئت آينور هانم بعشيقها يدخلُ ملهوجاً إلى الصالون. ظلّت جامدة وزجاجة الخمرة بيدها، تتأملُ القادمَ بمزيدٍ من الدهشة. بالرغم من الإضاءة الخافتة، لحظت إمتقاعَ وجه دارين وكذلك إرتعاش أطرافه. استفهمت منه عما دهاه، فلم يزِد عن التهالك على الأريكة. أخذ رأسَهُ بكلتا يديه، وطفقَ واجماً ـ كأنه يؤدّي في نفسِهِ، صلاةَ الهنود.
قال أخيراً في بطءٍ، بنبرة تسليم: " لقد أفتضِحَ أمرُنا، يا عزيزتي. أبصرتُ تيمور خِلَل زجاج الترّاس، وكانَ واقفاً عند سور الفيلا "
" يا إلهي! ولكن، لعله شخصٌ آخر..؟ "
" لم يكن وحيداً، لقد كانَ مع زوجته كريستين "، قاطعها بيقينٍ لا يَرقى إليه الشكُ.

5
وإذاً لقد أذنت نهايةُ هذا الغرام المجنون، الذي مَحَضته آينور هانم لدارين، وكانَ مبتدأه في النادي حينَ جاءت مع ابنتها في مستهل الصيف المنصرم كي تأخذَ هذه دروسَ الرسم، المُخصصة لأطفال في مثل عُمرها. كانَ غرامُ العقل وليسَ، حَسْب، غرام الجسد. إنهما تذوّقا مع رحيق شفاه بعضهما البعض، مُتعةَ المُجادلات الفكرية والأدبية والفنية. كانا نداً لندّ، وقد تسلّح كلّ منهما بخبرته سواءً الذهنية أو الجنسية. ما آلمَ دارين بشكلٍ خاص، أنّ نهاية هذا الغرام كانت عنيفة وعاصفة، على عكس البداية، المَشهودة بالهدوء والدِعَة. إلى حقيقةٍ إضافية، تمثّلت في بوح آينور هانم لعشيقها، بكونها ضغطت طوال أشهر علاقتهما على جرح كرامتها عندما أُجبرت المرة تلو المرة على تقبّل الوجع عوضاً عن اللذة: " لا أدري كيفَ كانَ في وسعي تحمّلُ أنانيتك، لولا أملي بأنّ حياةً مُشتركة ستكونُ كفيلةً بوضع الأمر في نصابه الصحيح؟ ". الغريب، أنها غدت في نهاية المطاف بغاية الغلمة، لاهثة كوحشٍ شهوانيّ، فلم تنهض من تحت عشيقها كي تغتسل إلا بعدما أفرغ فيها ثلاثَ دفقاتٍ من الماء السريّ.
ولكن، كيفَ دارت آينور هانم الفضيحة، بعدما ضُبط عشيقها في ترّاس مَسكنها على رؤوس الأشهاد؟ إنها في هذا الموقف أيضاً، أثبتت كم هيَ قوية الشكيمة وشديدة المِراس. بلى، لقد سَلَت من فورها ما دَهَمها من ذعر حينَ أخبرها دارين بوجود تيمور وإمرأته عند سور الفيلا. وإذا هيَ في لمحةٍ تكتسي بمعطفٍ طويل، فوق بدلة الرقص، ومن ثم تندفع إلى تلك الجهة. دقائق أخرى على الأثر، وآبت إلى الصالون برفقتهما. وكانت تسبقها ضحكتُها المألوفة، المُختلط فيها المرحُ مع التهكّم. توجّهت إلى عشيقها بالقول، المُترافق مع غمزةٍ مُوارَبة: " لقد جاءَ تيمور بهدف الإنتقام لشرف شقيقه، فالويلُ لك! ". بالرغم من تكهّنه بمكر عشيقته، إلا أنه لاقى الضيفين بوجهٍ مُتضرّج وملامحٍ ذابلة. مع ذلك، كانَ أذكى من أن ينبسَ ببنت شفة قبل أن توضّح المُضيفة مبررَ وجوده في الفيلا في هذا الوقت من المساء. في حقيقة الحال، أنّ الشمسَ كانت قد غربت منذ نحو ساعة بحَسَب طبيعة الطقس الربيعيّ الشماليّ. وهيَ ذي آينور هانم، تستطردُ ببساطة: " لنذهب إلى الترّاس، لأننا كنا نتابعُ فيلماً تركياً بعدما أنتهى دارين من دراسة فكرة الرسم ".
قال تيمور لدارين، فيما يتأبطُ ساعدَهُ في الطريق من الصالون إلى المطبخ: " أخبرتنا آينور قبل قليل، أنك جئتَ كي تضع تصميمَ لوحةٍ كبيرة، ستزيّنُ سقفَ الترّاس "
" لقد خطرت لي الفكرة قبل يوم أمس، حينما كنا في ذلك القصر بستوكهولم! "
" نعم، إن أسقفَ القصور الملكية، هيَ عبارةٌ عن لوحاتٍ فنيّة نادرة "، قالها تيمور وقد لاحَ أنّ الحيلة أنطلت عليه كالمأمول. لحُسن الحظ، أنّ هذا الأخير وزوجته لم يلحقا شهودَ آينور هانم وهيَ في بدلة الرقص الشرقيّ، تتمايلُ على أنغام الموسيقى. في واقع الأمر، إنها لم تكن مُستهترة بهكذا إحتمال. إذ أعلمت عشيقها، سلفاً، أنّ شقيقَ زوجها وإمرأته مدعوان على الغداء عند ديلان، وعادةً ما تستبقيهما إلى نهاية السهرة. أما خيري، فإنه كانَ سيعملُ طوالَ الليل كسائقٍ لحافلة عمومية. بعد زهاء ساعة، أستأذنَ دارين في الإنصراف، فما كانَ من تيمور إلى النهوض كي يوصله إلى مسكنه بالسيارة.
" لنفترضَ أنهما لمحاني وأنا أرقصُ لكَ، فماذا كانَ سيحدث؟ "، قالت له آينور هانم وقد تصلّبت عضلات وجهها. ابتداءً من هذا السؤال، تدهورت علاقتهما بسرعةٍ دراماتيكية. كانت قد أنّبته أولاً، كونه إنقطعَ عن زيارتها لأكثر من أسبوع. أوشك أن يُبرر لها ذلك، لما حذّرته بإصبعها من الكذب: " إنك لم تكن تردّ حتى على الهاتف ".
جواباً على سؤالها، قال دارين غبّ وهلة تفكير: " لا شكّ أنه كانَ سيحدث الأسوء ". رنت إليه بنظرةٍ مُحمّلة بالسخرية، قبل أن تسأله مجدداً: " وما هوَ ذلك الشيء، الأسوء؟ أن تأخذ أنتَ على عاتقك، مثلاً، عبءَ الفضيحة بشكلٍ من الأشكال؟ ". كادت سحنة دارين أن يفرّ منها الدم، وقد تخيّلَ أخوة رَجُلها يواجهونه بحقيقة خيانته لثقتهم وصداقتهم: " وماذا لو تبرّعت داريا، فوقَ ذلك، بالقول أنني غررتُ بها؟ ". كأنما كانت عشيقته تلتذ بتعذيبه، فإنها عادت وقالت مع تعبيرٍ قاسٍ كسا سحنتها: " إنك لا تدري ما كانَ سيحدث، لأنك لم تشغل بالك به قط من قبل. إن ما كانَ يهمّك أن ثمة عشيقة، تفتح لك رجليها أنّى رغبتَ. والأمتع بالنسبة لك أن تستلقي على بطنها، لتركبها مثلما يُشاهد المرءُ في برامج عالم الحيوان! "
" وكانَ هذا يرضيكِ، كما أذكر؟ "، قال لها بصوتٍ واهن تأثّراً. وكانَ ردّها، أن ضربت أرضَ الصالة بقدمها: " لا، لم يكن يُرضيني ولا كان يُمتّعني. لقد كنتَ كاللص، تختلسُ اللذة لنفسك ولا ترغب بمُقاسمتها مع شريكك. وأنا تحمّلتُ كل ذلك، وكانَ لديّ أملٌ أن أقوّم إعوجاجك عندما نعيشُ تحت سقفٍ واحد كرجل وإمرأة "
" ما هذه التعابير الغريبة، التي تفوهين بها لأول مرة: إختلاس وإعوجاج وزواج؟ "، تساءل بنرة شكوى كيف يُخفف من غلوائها. لكنّ ذلك أثار غيظها، بالأخص أنها لم تصرّح بمفردة " زواج "؛ وإنما قالتها بشكلٍ مُداور. عندئذٍ، قررت أن تُريّش السهمَ إلى الهدف مباشرةً: " ليسَ جديداً الكلامُ عن إمكانية عيشنا تحت سقفٍ واحد، لأنني لمّحتُ لك مراراً عن الموضوع في خلال الأشهر الماضية. هذا، لو لم تفقد ذاكرتك كما آملُ "، قالتها بألم وكأنما تستشعرُ الإهانة من إستجداء ما تعدّه حقاً مشروعاً. من ناحيته، كانَ دارين يشعرُ بما تُكابده حبيبته وكانَ يؤلمه بدَوره أنه غير قادر على مجاراتها في مشروعها. وإذا هوَ ينقخُ في قنوط، قائلاً: " الزواج، مؤسسةٌ فاشلة، مبنية على التسلّط والإكراه لا على التفاهم والحب. كانَ عليكِ من تجربتكِ، أن تخرجي بهذه النتيجة المنطقية والواقعية ". برقت عيناها عند ذلك، وبدا أنها أقتنصت فرصةَ ما لإقناع عشيقها. مالت أولاً على طاولة الصالون، فأمسكت زجاجة الويسكي وصبّت منها في كأسه ثم قدّمته له. قالت ببطء، فيما تحني رأسها وتنظر بعينيه في حركةٍ مرحة: " أيها الطائرُ الحر، الذي يكره القفصَ الذهبيّ! مَن قال لك، أنني أتمسّك بشرط الزواج؟ بل إنني لم يجرِ على لساني، قط، كلمة زواج! ألا تعلم أننا نعيش في أوروبا، وأنّ ثمة أشكالاً أخرى للعيش المشترك؟ ".
هذه المحاولة الأخيرة، كانت عقيمة أيضاً. فلما عاينت تردده، فإنها فقدت فيه الثقة مرةً واحدة أبداً. قبل ذلك، حزرت ما يُفكر به من هاجس، فقالت له محملقة فيه كأنما تسبرُ غورَهُ: " إنها الطفلة، مَن تجدها حاجزاً بيننا. أليسَ كذلك؟ لا تنظر إليّ في إنكار، فإنني واثقة من حَدَسي. وأقولُ لك مُجدداً، أنني لا أعطي ظفرَ خجي بكل رجال العالم ".
لكنها كانت من رهافة الذوق، والطيبة بالطبع، أنها أوصلته بسيارتها إلى مسكنه. ثمة، في عتمة الليل وتحت أشجارٍ كانت فيما مضى جزءاً من غابة مُغتالة، ودّعته بقبلة نهمة ومديدة: " سأذهبُ الآنَ. لقد أنتهى كلّ شيءٍ بيننا "، قالتها فيما يُشبه الأنين.
ظلّ في مكانه على طرف الطريق الفرعيّ، يتتبعُ بعينين نديتين سيارةَ آينور هانم، التي سارت هنيهة تحت الأضواء الفضية للشارع، ومن ثم دارت إلى ناحية الطريق الرئيس، الموصل إلى مركز المدينة.. إلى قلب أوبسالا، الشبيه بجسد حبيبته، المُترع بالشهوة والرغبة والشبق والغلمة. كانت ليلة منقّطة بالنجوم، كالليالي الربيعية الشمالية. وكانَ قلبُ دارين بدَوره، مُفعماً بأحاسيس شتى؛ ولكنه حزينٌ، حزناً لا يُرام. كانَ الألمُ ينهشُ أعماقه، لما سببه من أسى ويأس وإحباط لِمَن كانت تعدّه أعز الناس وأقربهم إلى نفسها: " في عينيك الفاتنتين، تنعكسُ صورتي وأراني أجمل. وبين يديك، أشعرُ بحقيقة العالم وأنه لا شيء بدون حبنا. وعندما كنتُ أقبّل زوجي، فإنني كنتُ لا أشعر سوى بشفتيك ".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. دينا الشربيني: السينما دلوقتي مش بتكتب للنساء.. بيكون عندنا


.. كلمة أخيرة - سلمى أبو ضيف ومنى زكي.. شوف دينا الشربيني بتحب




.. طنجة المغربية تحتضن اليوم العالمي لموسيقى الجاز


.. فرح يوسف مهرجان الإسكندرية للفيلم القصير خرج بشكل عالمى وقدم




.. أول حكم ضد ترمب بقضية الممثلة الإباحية بالمحكمة الجنائية في