الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ظاهرة الموالين الغاضبين

راتب شعبو

2023 / 8 / 1
مواضيع وابحاث سياسية


تحت ضغط شروط الحياة المتزايدة الصعوبة في سورية الرسمية (مناطق سيطرة نظام الأسد) تخرج من حين إلى آخر أصوات احتجاج ساخطة تتوقف غالبا عند نقد الحكومة، دون أن تصل إلى نقد "النظام"، أي دون أن تصل إلى نقد السلطة أو "القيادة". ما يعني أن أسباب الفشل محصورة في الحكومة أي في سوء الإدارة، أو في فساد الإدارة، دون أن يضع القيادة (التي غالباً ما يجسدها شخص الرئيس) موضع الشك، لا في الحكمة ولا في النزاهة ولا في الوطنية. كانت تلك هي المساحة التي يسمح للسوريين أن يعبروا عن غضبهم فيها، وكان هؤلاء يدركون ذلك ويلتزمون به في أحاديثهم العلنية. كان على غضب السوريين، والحال كذلك، أن لا يتجاوز الحد، وأن يبقى تحت السيطرة الذاتية.
في الفترة الأخيرة تردى كثيراً الحال المعاشي للسوريين، مع انسداد في الآفاق ومع ازدهار مرافق في ظاهرة التشبيح وفرض الأتاوات وتشليح الناس على الحواجز ... الخ. وبدأت تخرج أصوات احتجاج بلا سقف هذه المرة. أصوات لا توفر القيادة التي طالما بقيت موفورة الحصانة. تخرج هذه الأصوات، في الغالب، من أفراد معروفين بالولاء، ومن أوساط اجتماعية غير بعيدة عن مراكز السلطة.
هذا الواقع يمكن أن يشكل منطلقاً للاستنتاج بأنها أصوات في مسرحية معدة مسبقاً هدفها التنفيس. عدم البطش بالمحتجين يدعم مثل هذا الاستنتاج، في نظر أصحابه. التسجيل الصوتي الذي انتشر عن محاولة اعتقال فاشلة لسيدة نشرت فيديو احتجاجي من عيار ثقيل من بيتها في دمشق (يشاع أنها زوجة عنصر مخابرات سابق)، بعد تدخل ابنتها وابنها ومطالبتهم دورية المخابرات بمذكرة توقيف، عزز لدى أصحاب هذا الراي قناعتهم بأنها مجرد مسرحية، فمتى كانت دورية المخابرات تتراجع عن اعتقال من تشاء احتراماً للقانون أو لأي قيمة إنسانية؟! وقد تضامن كثيرون مع السيدة المذكورة، من بينهم رجل كان قد سبقها بزمن في نشر الفيديوهات الاحتجاجية المرتفعة السقف والتي تصل إلى رأس النظام نفسه. وفي تضامنه، يوحي الرجل بأنه مسنود بسلطة تمكنه من أن يتحدى أجهزة الأمن ويقول إن من يعتقل تلك السيدة ستكسر يده. كل هذا يدفع الكثيرين للاعتقاد بأن ما يجري لا يعدو كونه ترتيباً داخلياً من سلطة مأزومة تتوق إلى التحكم بكل شيء، بما في ذلك الصوت المعارض لها.
لا يمكن دحض مثل هذه القناعة، كما لا يمكن إثباتها. والحق أن الاثبات أو الدحض قليل القيمة، ويقع في دائرة نقاش لا جدوى منه. المهم هو أن هذه الأصوات، حتى لو كانت مسرحية، هي مؤشر على انكماش قدرة النظام على السيطرة وعلى حماية خطوطه الحمر. فمع تزايد الفاقة الاقتصادية، تخرج إلى الفقر شرائح متزايدة كانت من قبل في دائرة محظيي النظام، ما يولد لديها السخط والشعور بالخذلان. هذا ما يفسر أن الأصوات العالية تخرج من الفئات الأكثر ولاء. وهذا ما يجعل من الراجح أن ما يثير هذه الأصوات هو وجع خاص يتستر بوجع عام بات فاقعاً وباهظاً. المثال البارز عن هذه الآلية (عناصر من النظام ترفع الصوت ضد النظام حين تُهمش) هو رامي مخلوف، وإن كان تهميشه قد جاء في سياق عملية إعادة صياغة النواة الصلبة للنظام، وليس في سياق الاختناق الاقتصادي للنظام وخروج الكثير من محظييه إلى الهامش.
من جهة أخرى، يمكن القول إن كون الأصوات المحتجة معروفة بالولاء وبقربها من الأوساط الاجتماعية القريبة من دوائر السلطة، هو ما يشجع هذه الأصوات على الجهر بالوجع، مسنودين إلى ما لديهم من تاريخ وعلاقات يمكن أن تحميهم.
نقطة ضعف هذه الاحتجاجات الفردية تكمن في أنها قابلة للاحتواء بمعالجة فردية، عن طريق الاعتقال أو التهديد أو إعادة بعض الامتيازات المفقودة، وربما هذا هو ما يطمح إليه أصحابها أصلاً. أما نقطة قوتها فتكمن في علوها وانتشارها بسبب تعطش الناس لها، وما يكشف هذا من حقائق تتعلق بالحياة اليومية للناس من أتاوات وحواجز وتشبيح. لا يمكن لأحد، بمن فيهم أصحاب المسرحية إذا كان ثمة مسرحية، أن يستبعد أن تشكل هذه الأصوات صاعق تفجير لاحتجاجات أوسع ينهض بها الضحايا المزمنين للممارسات المذكورة.
مهما يكن الأمر، من المفيد انتشار هذه الأصوات الاحتجاجية وشيوع المطالب والأفكار التي تتضمنها. من المفيد مثلاً أن تصبح المطالبة بمذكرة توقيف فكرة عامة ومطلباً عاماً بين الناس. صحيح أن استجلاب مذكرة توقيف ليس بالأمر العسير على الأجهزة، ولكن له قيمة مع ذلك، ولو من حيث الشكل، لأن هذا الشكل يقيد نسبياً الاعتقال التعسفي الذي يطلق يد الأجهزة الأمنية المتعددة (واليوم باتت أكثر تعدداً وأقل التزاماً بالمركز فيما يبدو) ويسمح لها بالاعتقال في أي لحظة وبحسب تقدير أو حتى مزاج رئيس الفرع. سوف يكون خطوة مهمة في تاريخ مجتمعنا إذا استطاع الناس أن يفرضوا على المخابرات إبراز مذكرة توقيف، وأن يكف التوقيف عن كونه ممارسة اعتباطية متحررة من أي غطاء قانوني مهما يكن، ويكف الناس عن الاستسلام "البديهي" للاعتقال. ليس من الصعب أن يتحقق ذلك في ظروف ضعف النظام وصعود أصوات الاحتجاج التي لا يشكل ما نسمعه منها سوى رأس جبل الجليد.
لغضب الموالين، المعلن منه والمستور، حدود سياسية ينبغي ملاحظتها كي لا نبالغ في التوقعات. الأصوات الغاضبة والمرتفعة السقف هي، بحدود علمنا، من العلويين حصراً، وغالباً من موالين أشداء للأسد حين كان الأسد يبطش بسوريين آخرين. هذا يقول إنه ليس لهذا الغضب، الذي يبقى "ودياً" أو "أهلياً" مهما علا صوته، أفق سياسي يُنتظر. الأفق الممكن هو مقدار من عقلنة العلاقة بين السلطة والمجتمع، في أحسن النتائج. وهو شيء غير قليل على كل حال.
أما من جهة النظام، فلا نعتقد أنه سيستسهل الدخول في صراع مكشوف مع ركيزته الاجتماعية. لأنه بذلك إنما يقطع الغصن الذي يستند إليه. هذا ما يدفعه إلى اختيار سبيل المعالجة الهادئة ومحاولة ضبط علاقته بالمجتمع. لكن يبقى موضع تساؤل إن كان بمقدور النظام، في ظروفه السياسية والاقتصادية المتردية، أن يعقلن، شيئاً ما، علاقته بالمجتمع. وهل لهذه العقلنة، إن حصلت، أن تفتح باباً لاحتجاجات أوسع قد يصعب رده.
أما إذا اختار النظام البطش سبيلاً لقمع الاحتجاجات المتصاعدة، فلن يطول الوقت قبل أن ينفتح الباب على فوضى تهدد بتفكيك المجتمع وما بقي من جهاز الدولة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الألعاب الأولمبية باريس 2024: إشكالية مراقبة الجماهير عن طر


.. عواصف في فرنسا : ما هي ظاهرة -سوبرسيل- التي أغلقت مطارات و أ




.. غزة: هل بدأت احتجاجات الطلاب بالجامعات الأمريكية تخرج عن مسا


.. الفيضانات تدمر طرقا وجسورا وتقتل ما لا يقل عن 188 شخصا في كي




.. الجيش الإسرائيلي يواصل قصف قطاع غزة ويوقع المزيد من القتلى و