الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة نقدية في قصيدة (لاء) للشاعر واثق الجلبي

واثق الجلبي

2023 / 8 / 1
الادب والفن


أ / د مصطفى لطيف عارف

تضطلع الشخصيات الدينية بدورٍ مهمٍ في تشكيل بنية النَّص الشِّعري الحديث ؛ وذلك لارتباطها بأحداثٍ معينة تُثرِي مضمونَ النَّص , وتفسح المجالَ لكشف اللثام عن معانٍ كثيرةٍ يصعب البوح بها والتعبير عنها بطريقةٍ مباشرةٍ وتوظيف تلك الرموز بأبعاد إيحائيةٍ تُعبِّر بدورِها عن الرؤية الشعرية المعاصرة , وتجسيد ذلك من خلال إسقاط معاناة الشاعر الخاصة على معطيات التراث لتصبح معطيات شعرية معاصرة
إذ اِستهلَّ الشَّاعرُ (واثق الجلبي ) قصيدتَهُ (لاء) في ذكرى الإمام الحسين ( ع ) بالتهليل , والفخر , والغِبطة بالضدّ ممَّا تُوحي إليه فاجعة كربلاء الأليمة , وهذا بالتأكيد ليس من باب المفارقة , فالحزن الذي صاحَبَ مأساةَ كربلاء يتجرَّع ألمَهُ الشاعرُ , وجعله يحسُّ بحرارة الفاقدين متى ما طرقَ ذكر الإمام الحسين ( ع ) مسامعه , فهو يغبط المثال الذي استحضرهُ بأنِ اجتباه الله بالتضحية والفداء , فقد لمحَ فيه الشاعرُ عزيمةً على محاربة رموز الفسق والفساد وانتصاراً لمبادئ الخير والصلاح التي انعدمت بتأثيرٍ من السُّلطة الحاكمة آنذاك , مع الحاجة إلى مثل هذا المثال العظيم في الوقت الحاضر وهو ما يُدركُهُ الشاعر , ويُفضِي به إلى أن يضعَهُ ضمن حدود العدميَّة ؛ لأنَّ ذلك من اختصاص الله سبحانه وتعالى , فضلاً عن ذلك أنَّ ثمَّةَ أمور قُدِّرت لهذه الشخصيَّة الفذَّة ، منها أنَّها تسير إلى المنيَّة بوازعٍ ديني وغيبي وفق تقدير إلهي , ونجاحها بإتمام رسالتِها الموسومة التي اقتصتَّها نهضتها الإصلاحية.
هنا يُوغِل الشاعر في الماضي ليستشرفَ الحاضر , فيغدو البكاء خيرَ مَن يُواسي الشاعر , ويُخفِّف من وطأة المصيبة , ولذلك فإنَّ الشَّاعر (واثق الجلبي) كغيرِهِ من الشعراء يجِدُ متنفَّسهُ في مصيبة الحسين بن علي خاصة , وآل البيت عامة , فإذا بدواوين الشعراء عامرة بهذا الأدب الحزين المليء بالآلام والأحزان والدموع , فذاتُ الشاعر تتصاغر أمام عَظَمة شخصيَّة الإمام الحسين ( ع ) لتحرِّك فيه الدافعَ المعنوي الذي لا يتحقَّق بالمناحة والبكاء بل باستلهام العِبَر والمضي قُدماً إلى بلوغ الأهداف المنشودة ، ولذلك يسرد لنا الشَّاعر حواريتَهُ في المقطع اللاحق بشكل يجعل القارئَ يعيش جوَّ القصيدة فنراه يقول:
إن الحسين قصيدة عصماء فيها من الرفضِ العظيم سماءُ
لاءٌ بألف كتيبةٍ أمويةٍ فاللامُ في حرمِ الحسين إباءُ
صوتٌ يشقُ رماحهم وسيوفهم وكأنه في جمعهم أرزاءُ
من فتيةٍ قاموا بنشرِ جسومهم وعيونهم من بأسهم حمراءُ
إذ يوفضون إلى العلاء دماءهم والمُطعمونَ بروحهم أمراءُ

إذ نستدل من خلال هذه الحوارية القائمة بين ذات المتكلِّم والآخَر الرمز ، أنَّ صوت الإمام الحسين ( ع ) يتداخل مع صوت الشاعر وفق دينامية تصدُر من أعماق وجدان الشاعر ، وتحثُّه على عدم الاستكانة ومحاباة أهل الباطل , هذا طبعاً إنْ أرادَ الإنسان الخلاص من وطأة الظلم وقمع السلطة.ولذلك فهو يسعى من خلال هذه الحوارية إلى أن ينتقل من القيمة الماديَّة المحسوسة إلى القيمة المعنويَّة التي تتمثَّل بالخلود والإباء ومن ثَمَّ الولوج إلى القيمة العليا المُكمِّلة للإباء المعنوي وهي التضحية , فالإمام الحسين ( ع ) المثل الفذّ لصاحب القضية النبيلة , الذي يعرف سلفاً أنَّ معركته مع قوى الباطل خاسرة ولكنَّ ذلك لا يمنعه من أن يبذل دمَهُ الطهور في سبيلها , مُوقِناً أنَّ هذا الدم سيحقَّق لقضيتِهِ الانتصارَ والخلودَ , وأنَّ في استشهادهِ انتصاراً له ولقضيَّته ويعود مرة أخرى ليُحاكي الماضي بصداه الدِّيني .
وهنا يتضح إيغال الأمة في الغَيِّ والفساد والتنكُّر لقيم السَّماء , لتقعَ على الشاعر مَهمَّة استنهاض الضمائر التي أماتَها الحقد والضغينة , متناسيةً بذلك أنَّ الإمام الحسين ( ع ) هو حفيد رسول الله ( ص ) وهو امتداد للسلالة النبوية الطَّاهرة , فضلاً عن ذلك فإنَّ ثورة الإمام الحسين ( ع ) قد مثَّلت تراجيديا البطولة في سعيها إلى إحداث التغيير المطلوب ، وقُوبلت بالرفض والتنكيل مع وضوح أهدافها ونُبلها ممثِّلةً بشخصيَّة قائدها الإمام الحسين ( ع ) إلَّا أنَّها أوسعَ من أن تتلاءم مع واقعٍ مزيَّفٍ نجدُهُ انَّ شخصيَّة الإمام الحسين ( ع ) تحتلُّ مكانةً كبيرةً في قلوب المسلمين من مختلف مشاربهم , ولهذا فهو يُشكِّل تجسيداً شعرياً للثورة والتضحية بكل عناصرها السامية , كما أنَّ إثارة النَّص الشِّعري لهذه المشكلات من التراث , يُعَدُّ محاولةً لإعادة إنتاجٍ جديدٍ لعلاقة الذات بالآخر السلطوي في بُعدِها التراثي , وإعادة صياغتها في الوقت الراهن ؛ للتعبير عن أزمة العلاقة بين الذات والسلطة , الذات الشاعرة التي تتطلع إلى الحرية عبر رؤيتها الخاصة للواقع والمحيط , ومواجهة أدوات القمع السُّلطوية وكبت توجهُّها , وتحويل بوحِها إلى مسكوتٍ عنه.
وفي نصِّهِ " لاء " يُوجِّه عتابَهُ إلى نفسِه وإلى الآخرين ؛ لأنَّهم جانبوا الصواب , ورأوا في ثورة الإمام الحسين ( ع ) رمزاً للبكاء وليس منهجاً يرسم لهم رؤى الإصلاح ويبتعث لهم الماضي ؛ ليستعينوا به على تجاوز خيبات الحاضر وتقلُّباته , فنراه يقول :
المهطعون إلى الحسين بجُلهم الباذلون بموتهم أحياءُ
إيهٍ بني الموت العظام كأنهم سُفنُ الإله وكلهم سفراءُ
عرجوا يقودُهم النداء وانهم من كل فجٍ روحهم أنحاءُ
عباسُ يقدمهم ويحملُ راية للدين بشراهم بها شهداءُ
يلوي عنان الريح قبضة مؤمنٍ ومدافعٍ كُتبتْ به الآلاءُ
عباسهُ سيفٌ ودرعُ ملمةٍ في مقلتيه اللهُ والإسراءُ
إذ يستبطُنُ عتاباً ضمنياً إلى نفسه والآخرين ؛ لعدم امتثالهم للصوت الهادر الذي كان سبباً في تأنيب ضمائرهم , فقد اختصَّ هو ومن يصدر خطابَهُ إليهم بأنَّهم لم يستوعبوا النهضةَ الحسينيَّةَ مضموناً وليس شكلاً , وأحياناً يكون التركيز على الإلمام بجوانب شخصيَّة معينة , تعني أنَّهُ وجَدَ روحَه الخاصة فيه,وهنا نلحظ اِستهجان الذات حال الواقع المرير , إلَّا أنَّها ومن خلال إرتدادها إلى الماضي فإنَّها تعيد بناءَهُ وفق رؤيا إنسانية معاصرة تكشف عن هموم الإنسان ومعاناته , وهذا يعني أنَّ الماضي يرتبط مع الحاضر بعلاقة جدلية تعتمد على التأثير والتأثُّر, وتجعل النَّص الشعريَّ ذا قيمة توثيقية , يكتسب بحضورِها دليلاً محكَماً وبرهاناً مفحِماً على كبرياء الأمة وحاضرها , أو حالات انكسارها الحضاري ومدى انعكاسِهِ على الواقع المعاصر ، بمعنى آخر إنَّ ذات الشاعر تستلهم أوجه التشابه بين أحداث الماضي ووقائع العصر وظروفه سلباً أو إيجاباً , وهو في ذلك يكشف عن صدى صوت الجماعة وصدى ذاتِهِ في إطار الحقيقة التاريخية العامة التي يبحث عنها ,وهذا يعني أنَّ الذات لا تنأى بنفسها عن واقعها المُثقَل بالجراح ,ولا تملك بيدها صورة الحل الناجع تسردُ الَّذات جزءاً من واقعٍ اِعتدنا عليه , وخبرنا دقائقَهُ وتفاصيلَهُ , فمعطياتُ الواقع المزيَّف ورضوخُ العربي للحاكم الظالم , كان من نتائجهِ التفكُّك والاضطراب الذي أصيبت به الأمة وعدم التبصُّر بحقيقة الأمور , ومجاملة أيِّ أحدٍ صالح أو طالح ممَّن يتقلَّدون المناصب إلى أن يُستبان على حقيقتِهِ , كل هذا قد استشعرته الذات , ليكوِّنَ الدور الذي تلعبهُ أمام معطيات التراث المعاصر , فنراه يقول :
يبقى الحسين وتذهب الأسماءُ وكأنه للعالمين دماءُ
وكأنما كل العوالمِ قفرة ودمُ ابن بنت رسولنا أمواءُ
لم يشتكي عطشا ولم يفتك به أحدٌ ولكن ساعة وقضاءُ

إذن ثَمَّةَ أبعاد إنسانية جمَّة تدفع بالذات إلى أن تتعامل مع الدلالات والرموز الدِّينية , منها رغبتها في تعظيم الآخَر الديني والتَّواصُل معَهُ , بما يُحقِّق للنص الشعري عنصري الدَّيمومة والثَّبات من خلال ارتباطهِ بالآخَر الديني , وفي الوقت نفسه فإنَّ هذا الخزين الثقافي يُوثِّق صلةَ الذات بمذهبِها وعقيدتِها , ويُجلي رغبتَها في تمثُّل إيحاءاته , من خلال التوظيف الدقيق له والمحافظة على جوهرِهِ الديني , وعدم التجاوز عليه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟