الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لويس مورغان والماركسية والاثنوغرافيا المُعاصرة

مالك ابوعليا
(Malik Abu Alia)

2023 / 8 / 1
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


مؤلف المقالة: يوري ايفانوفيتش سيمينوف*

ترجمة مالك أبوعليا

ان تاريخ كُل مُجتمع، الى يومنا هذا لم يكن سوى تاريخ الصراع بين الطبقات(1). هذه الكلمات تفتتح الفصل الأول لواحدة من أهم الوثائق الماركسية الكلاسيكية، المكتوبة سنة 1847، وهو البيان الشيوعي. هل تُبرر هذه الكلمات وجهة النظر بأن ماركس وانجلز في ذلك الوقت اعتبرا المُجتمع البشري ذو طبيعة طبقية وذو طبيعة تناحرية منذ بداياته؟ لا يُمكن الاجابة على هذا السؤال سوى بالنفي. اعتبَرَ مؤسسا الماركسية في كتاباتهم المُبكرة المُلكية الخاصة وتبعاتها الحتمية، وانقسام المُجتمع الى طبقات، نِتاج فترةٍ طويلةٍ من التطور بدأت بحالةٍ انسانيةٍ تتميز بهيمنة المُلكية الجماعية للأرض ولوسائل الانتاج(2).
كان مفهومهما حول بُنية المُجتمع البدائي، في ذلك الوقت، عاماً للغاية. وهذا يُفسّره حقيقه أنه لم يكن العلم يمتلك عام 1840 بياناتٍ تجعلُ من المُمكن بناء صورة عيانية للظروف التي سبقت ظهور المُجتمع الطبقي. أدّى الافتقار الى البيانات الوقائعية، وطبيعتها المُشرذمة الى ظهور مجموعة مُتنوعة من الفرضيات الخيالية على نطاقٍ واسعٍ في كثيرٍ من الأحيان(3).
كَتَبَ انجلز، بعد 41 عاماً، في مُلاحظةٍ حول هذه الفقرة من البيان الشيوعي أنه "على الأصح القول (التاريخ المكتوب): ففي عام 1847 كان تاريخ النظام الاجتماعي الذي سَبَقَ كل تاريخ مكتوب، أي عهد ما قبل التاريخ، مجهولاً تقريباً"(4). لقد كان الافتقار الى أساس وقائعي سليم لاعادة بناء مفهوم المُجتمع ما قبل الطبقي، هو الذي دَفَعَ ماركس وانجلز الى قصر نفسيهما، في هذا العمل، على توصيف التاريخ المكتوب وحده، والذي كان جميعه تاريخاً لصراع الطبقات (بما أن ذلك كان مُناسباً للهدف الذي كانوا ينشدونه).
راجَعَ مؤسسا الماركسية مراراً وتكراراً، في مُجمل مسار عملهم النظري الى المسائل المُتعلقة بتاريخ المُجتمع البدائي، واطلعا على جميع المُساهمات ذات الأهمية في هذا المجال مهما كانت. نتيجةً لذلك،، اكتسب تصورهما حول التنظيم الداخلي للمُجتمع البدائي شكلاً واضحاً ومُتماسكاً بشكلٍ مُتزايد. أكّدَت المواد الوقائعية المُتراكمة، بدرجةٍ مُتزايدة، وجهة النظر القائلة بأن المُجتمع كان يقوم على المُلكية الجماعية لوسائل الانتاج، وأنه مُجتمع مشاعي بدائي.
اتخذت آراء ماركس وانجلز حول المُجتمع الذي سبَقَ المُجتمع الطبقي شكلاً نهائياً، عندما اطلعا على دراسة كتاب لويس هنري مورغان (المُجتمع القديم). كان من الطبيعي أن يقبَلا المبادئ الأساسية لمذهب الاثنوغرافي الأمريكي البارز، بقدر ما شكّلَت هذه المبادئ، في المقام الأول، وفي شكلٍ ملموس، نفس الأفكار التي توصّلَ اليها مؤسسا الماركسية بأنفسهم حول المُجتمع ما قبل الطبقي، عن طريق تركيب ودراسة بيانات العلم حول المُجتمع البدائي، وفي المقام الثاني، لأنها كانت قائمةً على نفس الفهم المادي التاريخي الذي استرشَد به ماركس وانجلز في أبحاثهما.
نواجهُ في كتابات انجلز تأكيداتٍ مُتعددة بأن مورغان اكتَشَفَ بشكلٍ مُستقل، ضمن حدود موضوعه، الفهم المادي للتاريخ(5)، وأن هذا يُثير، ولا يزال يُثير اعتراضات الباحثين الذين لا يتمسكون بوجهة النظر الماركسية.
لا جدال في أنه، حتى في كتاب (المُجتمع القديم)، هناك اطروحات لا يُمكن تقييمها سوى أنها مثالية. وهكذا، لا يتحدث مورغان غالباً عن تطور العشيرة والعائلة والمُلكية، بل عن طور فكرة العشيرة، وفكرة العائلة، وفكرة المُلكية، وينظر الى تطور العشيرة على انه نتيجة لتطور فكرة العشيرة، وتطور المُلكية كاشتقاق لتطور فكرة المُلكية، وما الى ذلك(6). على سبيل المثال، نقرأ في كتاب (المُجتمع القديم) أن "جميع المؤسسات الرئيسية للبشرية تطورت من عدد صغير من الأفكار الجنينية التي نشأت في القرون الأولى. بعد أن بدأت نموها في فترة الوحشية، ومن ثم اختمرت في فترة البربرية، استمرت في تطورها في فترة الحضارة. نشأ تطور هذه الأفكار الجنينية عن طريق المنطق الطبيعي الذي يُشكّل سمةً مُهمةً للدماغ... التاريخ الفكري للجنس البشري، الذي انعكَسَ في المؤسسات والاختراعات والاكتشافات، والذي يُشكّل أيضاً تاريخ هذا الجنس، والذي انتَقَل من الشخصيات الفردية وتطور من خلال التجربة"(7).
هذه الفقرة تُشير بالتأكيد الى وجهة نظر تاريخية مثالية. العقل يحكم المُجتمع، وتطوره يُحدد تقدم العمل وتطور المؤسسات الاجتماعية. لكن مورغان مثالي فقط في أكثر تصريحاته النظرية عموميةً، ولكنه يتوصل دائماً تقريباً، عملياً، دون أن يكون مُدركاً لهذا بوضوح، الى درسة مادية للظواهر الاجتماعية.
تَظهَر مادية مورغان التاريخية بوضوح عندما ننظر الى مفهومه حول تطور المُجتمع البدائي. ان فضل مورغان على العلم يتمثل في الكشف عن أساس المُجتمع ما قبل الطبقي، أي الكشف عن نواته الرئيسية. كانت هذه هي، كما أوضح مورغان، العشيرة. ان فهم المُجتمع ما قبل الطبقي باعتباره أحد البُنى العشائرية، كمُجتمع تكون فيه العشيرة هي الشكل الأساسي، وتتألف من كُلٍّ من وحدة Unit وأساس هذا النظام(8)، افتتحت حُقبةً جديدةً تماماً في تفسير مسائل التاريخ البدائي.
بعد ان اكتشَفَ أن المُجتمع ما قبل الطبقي كان في الأساس مُجتمع عشائري، فَصَلَ مورغان فصلاً حاداً بين هذا المُجتمع والمُجتمع الطبقي، أو المُجتمع السياسي، على حد تعبيره. ان المُجتمعين العشائري والطبقي، وفقاً لمورغان، نمطين مُختلفين نوعياً من التنظيمات الاجتماعية. كَتَبَ يقول: "لقد أنشأت التجربة الانسانية خطتين من الأنظمة الاجتماعية، ان وظفنا كلمة خُطة، بمعناها العلمي. لقد كانا على حدٍّ سواء تنظيمين مُحددين للمُجتمع. الأول والأقدم كان تنظيماً اجتماعياً قائماً على العشائر والقرابات والقبائل. والثاني أكثر حداثة، وهو التنظيم القائم على الأرض والمُمتلكات"(9).
ان المُجتمع العشائري، كما أظهَرَ مورغان، هو مُجتمع من النوع المشاعي البدائي. انه يتميّز بالمُلكية المُشتركة للأرض ووسائل الانتاج الأُخرى، وهو تنظيم مشاعي بدائي للاقتصاد، والمساواة بين جميع اعضائه، وغياب استغلال الانسان للانسان، وغياب الحكومة. تختلف طبيعة المُجتمع "السياسي" تماماً. انه يتجسد في حكم المُلكية الخاصة، وعدم المُساواة في المُلكية والجوانب الاجتماعية، واستغلال الانسان للانسان، ووجود الحكومة. ما إن كَشَفَ عن الطبيعة المُتناقضة تماماً لهذين النمطين من النظام الاجتماعي، فقد كَشَفَ على الفور العلاقة بينهما. وأوضَحَ بمساعدة المواد الوقائعية الغنية، كيف أن المُجتمع العشائري، يؤدي، في عملية تطوره التاريخي، الى ظهور نقيضه، أي المُجتمع السياسي.
لقد حَدّدَ بوضوح الشكلين الأساسيين للتنظيم العشائري: العشائر الأُمومية والعشائر الأبوية، وكشف عن علاقتهما الحقيقية ببعضهما البعض. لقد أظهَرَ بشكلٍ مُقنع أن الشكل الأمومي هو الأقدم والأكثر أصالةً، في حين أن الشكل الأبوي هو الأحدث. هذا الانتقال من الأمومي الى الأبوي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بانحلال المُلكية الجماعية وتطور المُلكية الخاصة، وبالتالي، فإن ظهور العشيرة الأبوية هو خُطوة على طول الطريق من العشيرة الى "المُجتمع السياسي"(10).
لقد عُثِرَ على العشيرة الأبوية في شكلها المُتأخر، كما نعلم، بين عددٍ من الشعوب في مرحلة المُجتمع الطبقي، عند الاغريق والرومان القُدامى على وجه التحديد. وجَدَ مورغان، بعد أن أثبَتَ أن العشيرة الأبوية نشأت من تلك الأمومية نتيجة ظهور وتطور المُلكية الخاصة، نقول، وَجَدَ صلة الوصل بين الشعوب المُتحضرة والشعوب "غير المُتحضرة"، وقارَنَ تاريخ البشرية المكتوب مع تاريخها غير المكتوب، أي ما كان يُطلَقُ عليه سابقاً "ما قبل التاريخ". أصبَحَ من الواضح، في ضوء اكتشافه، أن وجود الشعوب "غير المُتحضرة" كان مرحلةً ضروريةً تسبق وتُهيئ ظهور الشعوب المُتحضرة، وبالتالي فإن تاريخ هذا الأخير، هو استمرار طبيعي لتاريخ الأول.
ان مذهب التاريخ البدائي الذي طوّرَهُ مورغان، يدحض النظرية الأبوية تماماً، وهي نظرية سائدة في الاثنوغرافيا، والتي تقول بأن الوحدة الرئيسية للمُجتمع طوال وجوده هي العائلة الأُحادية الزواج، أو العائلة الأبوية. إن ظهور العائلة الأُحادية الزواج، كما أوضَحَ مورغان بشكلٍ مُقنع، كان ناتجاً عن نفس العوامل التي أدت الى تحوّل العشيرة الأمومية الى العائلة الأبوية: ظُهُور المُلكية الخاصة واللامُساواة في مُلكية المُمتلكات. وبسبب أنها نشأت في حُقبة انحلال المُجتمع العشائري، فقد ترسّخَت في زمن التحوّل الى المُجتمع الطبقي(11).
مع الكشف عن الطبيعة الحقيقية للعائلة الأُحادية، واجَهَ مورغان مُشكلة أشكال العلاقات العائلية والزواجية التي سبقتها. لقد وجد الأشكال المُباشرة التي سَبَقَت العائلة الأُحادية، بين الشعوب التي كانت في مرحلة العشيرة. لقد اكتَشَفَ العائلة الثُنائية(أ) وكَشَفَ كيف اختَلَفَت نوعياً عن الزواج الأول.
حَاوَلَ مورغان اعادة بناء مراحل التطور التي سَبَقَت العائلة الثنائية من خلال تحليل أنظمة القرابة التي سبقت الأُسرة الثنائية من خلال تحليل "عائلة قُربى الدم" consanguine family و"العائلة البونالوانية" The Punaluan Family، باستخدام البيانات المُجزأة، والتي صار معروفاً لاحقاً أنها بيانات غير موثوقة، التي كانت تحت تصرفه فيما يتعلق بالعلاقات الأُسَرية والزوجية بين بعض الشعوب التي اعتبرها الأكثر بدائيةً. أخيراً، افتَرَضَ وجود العلاقات الجنسية غير المُنظمة promiscuity كنُقطة انطلاق في تطور العلاقات الجنسية البشرية. هذه هي الطريقة التي وُضِعَ في اطارها نموذج تطور الزواج والعائلة: العلاقات الجنسية غير المُنظمة- عائلة قُربى الدم- العائلة البونالوانية- العائلة الثنائية- العائلة الأُحادية.
كان مورغان ينظر الى ظهور عائلة قُربى الدم وتحوّلها الى البونالوانية، واستبدالها بالعائلة الثنائية، على أنها عملية تُحددها العوامل الطبيعية وليس العوامل الاجتماعية. كما سَبَقَ أن أشرنا، انه يربط تحوّل العائلة الثنائية الى زواجٍ أُحادي بنشوء المُلكية الخاصة وتراكم الثروة، أي أنه يعتبر هذا جُزءاً من عملية تحول العشيرة الى مُجتمعٍ طبقي.
كما يتضح مما سبق، ارتَبَطَ تحوّل نمط بُنية اجتماعية، المُجتمع العشائري، الى مُجتمع "سياسي" آخر، عند مورغان، في المقام الأول، بالتغير في علاقات المُلكية، اي استبدال المُلكية الجماعية لوسائل الانتاج بالمُلكية الخاصة لها في المقام الأول. اعتَبَرَ علاقات الانتاج، في كُل ثنايا عمله، أنها الأساس الذي تقوم عليه جميع العلاقات الاجتماعية الأُخرى، ورأى أساس التغيير في المُجتمع، في المُقابل، في التغيرات التي تحصل في علاقات المُلكية.
ان المُلكية الجماعية للأرض ووسائل الانتاج الأُخرى هي أساس مشاعية الحياة المنزلية، وهي سمة المُجتمع العشائري والمُساواة بين جميع أعضاءه. أدّى ظهور المُلكية الخاصة حتماً الى ظهور اللامُساواة في المُلكية، والعبودية والاستبداد وما الى ذلك. كَتَبَ مورغان: "من المُستحيل المُبالغة في تأثير المُلكية الخاصة في تاريخ الحضارة الانسانية. لقد كانت هي القوّة التي نَقَلَت الأُمم الآرية والسامية من البربرية الى الحضارة. تطورت فكرة المُلكية الخاصة في بداية الأمر بشكلٍ ضعيفٍ في العقل البشري، ولكنها، تحوّلَت في التحليل الأخير، الى شَغَفٍ مُهيمن. نشأت الحكومات والقوانين من أجل اقامتها وحمايتها والاستفادة منها، وكانت السبب في استحضار العبودية كوسيلة لتكوين الثروة، وهي نفسها، وبعد تجربة عدّة آلاف من السنين، دعت أيضاً الى الغاء العبودية عندما وُجِدَ أن العمل الحُر هو أفضل آلة لإنتاج الثروة"(12). شدّدَ مورغان على نُقطةٍ أُخرى. كان هُناك، "الى جانب المُلكية" تطوراً تدريجياً لمبدأ الأرستقراطية، سعياً الى خلق طبقات ذات امتيازات. صار عُنصر المُلكية، الذي أصبَحَ في فترةٍ وجيزةٍ نسبياً من تاريخ الحضارة، هو المُهيمن الى حدٍّ بعيد في المُجتمع، وهو الذي ولّدَ الاستبداد والقيصرية والمُلكية والطبقات ذات الامتيازات وأخيراً الديمقراطية التمثيلية. هذا المبدأ جَعَلَ من الاستحواذ على المُمتلكات المهمة الأساسية للأُمم المُتحضرة(13).
على الرغم من استخدامه المُتكرر لـ"فكرة المُلكية" بدلاً من "المُلكية"، لم يسعَ مورغان، الى البحث في عقول البشر ووعيهم عن وجود أشكال مُعيّنة من المُلكية خلال حُقبة مُعينة. اعتَبَرَ أن العامل الذي يُحدد نمط المُلكية هو مُستوى تطور وسائل "البقاء". وبالتالي، اعتَبَرَ تحسّن نمط تحصيل "وسائل البقاء" كأساس لتطور المُلكية، وسبباً لاستبدال نمط من المُلكية بنمطٍ آخر.
كَتَبَ مورغان "تتكشَّف الحقيقة المُهمة في أن الجنس البشري بدأ تطوّره عند أدنى مُستوى ثم ارتقى بنفسه، تتكشّف بوضوح في الأشكال المُتعاقبة لوسائل البقاء. ان السؤال حول ما اذا كانت البشرية ستحكم الأرض، يعتمد كلياً على قُدراتها في هذا المجال. الانسان هو الكائن الوحيد الذي يُمكن أن يُقال أنه اكتَسَبَ سُلطةً مُطلقةً على انتاج الغذاء، وهي مسألة لم يكن، في البداية، مُتفوقاً فيها على الحيوانات الأُخرى"(14). "ارتبطت الأفكار الأُولى للمُلكية" كما نقرأ في كتاب (المُجتمع القديم) "ارتباطاً وثيقاً بتحصيل وسائل البقاء، والتي كانت حاجةً أساسيةً للانسان. زادَ عدد الأشياء المُحتَفَظ بها كمُلكية خاصة بشكلٍ طبيعي في كُل فترة اثنية مُتتالية مع زيادة عدد المِهَن التي يُعتَمَد عليها في انتاج وسائل البقاء. وهكذا، يتماشى تطور المُلكية الخاصة مع تقدّم المُخترعات والمُكتشفات. تكشف كُل حُقبة اثنية عن تقدّمٍ ملحوظ بالمُقارنة مع الحُقبة السابقة لها، ليس من حيث عدد المُخترعات، بل فيما يتعلق أيضاً بتنوع و المُمتلكات والسيطرة عليها، والتي تُشكّل نتاجاً لتلك الاختراعات"(15).
لذلك، على الرغم من أنه لم يكن هو نفسه مُدرِكاً لهذا الأمر بوضوح، الا ان مورغان اتخذَ من الناحية العملية نُقطة انطلاقه مفهوم أن المعيار الرئيسي الذي يُميّز الانسان عن الحيوان هو الانتاج، وأن تطوير اسلوب "تحصيل وسائل الوجود" يُنتِجُ تغييراً في علاقات المُلكية لا محالة، وهذا بدوره يؤدي بالضرورة الى تحويل جميع العلاقات الأُخرى بين البشر، في الكُلية الاجتماعية. بعبارةٍ أُخرى، استرشَدَ مورغان نفسه أساساً بالمبادئ الأساسية للفهم المادي للتاريخ.
تمكّنَ مورغان، بتفريقه علاقات المُلكية عن بقية العلاقات الاجتماعية المُتنوعة على أساس مبدأ أن العلاقات الأُولى أساسية، وتنشأ بشكلٍ مُستقل عن ارادة البشر ووعيهم وتُحدد جميع الروابط الأُخرى بينهم، نقول، تمكّنَ من التغلّب الى حدٍّ كبيرعلى مفهوم المُجتمع الذي أثقَلَ كاهل جميع السوسيولوجيين والفلاسفة المثاليين. بعد أن ميّزَ مورغان بين نمطين مُختلفين نوعياً من مُلكية وسائل الانتاج: الجماعية والخاصة، فرَزَ أيضاً شكلين تاريخيين ملموسين ومُتميزين نوعياً لوجود المُجتمع البشري: المشاعية البدائية والمُجتمع الطبقي. هذين الشكلين هما في نفس الوقت مرحلتين في التطور التاريخي للانسان، يتبع أحدهما الآخر نتيجةً لتطور الانتاج. وهكذا اقترَبَ مورغان من النظرة الماركسية للتاريخ كعملية طبيعية لتعاقب الأنظمة الاجتماعية-الاقتصادية. ساعَدهُ الفهم المادي للتاريخ على فهم الطبيعة المؤقتة للمُجتمع الطبقي وحتمية أن يعقبه مُجتمع شيوعي غير طبقي(16).
يُتيح لنا قراءة ما سبق، أن نفهم تماماً التقدير العالي الذي قدماه مؤسسو الماركسية لعمل مورغان. كَتَبَ انجلز عام 1884: "ان ثمة كتاباً موثوقاً عن شروط المُجتمع البدائي، موثوقاً بقدر داروين في علم البيولوجيا. وبالطبع، فإن ماركس مرةً أُخرى هو الذي اكتشفه: مورغان، المُجتمع القديم 1877... ان مورغان قد اكتشفَ التصور المادي الماركسي للتاريخ بصورةٍ مُستقلة ضمن الحدود التي يفرضها موضوعه، وهو يَخلُص بخصوص المُجتمع الراهن الى مطالب شيوعية بصورةٍ مُباشرة. ان العشيرة الرومانية والاغريقية تُفسّر للمرة الأولى بعشيرة المُتوحشين، وبخاصة الهنود الحُمر الأمريكيين، وبذلك يكون قد أُرسِيَ أساس ثابت من أجل تاريخ الأزمنة البدائية"(17).
عزا ماركس أهميةً كبيرةً لاكتشافات مورغان، بحيث انه اعتَزَم أن يعرض نتائج هذا الأخير في عملٍ خاص، بالاقتران مع الاستنتاجات التي توصّلَ اليها هو نفسه في أبحاثة التاريخية، هذا المشروع الذي أوقفه الموت من القيام به، نفّذَهُ صديقه ورفيقه المُخلص.
في كتابه المعروف (أصل العائلة والمُلكية الخاصة والدولة)، استخدَمَ انجلز بيانات واستنتاجات كتاب (المُجتمع القديم) على نطاقٍ واسع. ولكن سيكون من الخطأ تماماً اعتبار عمل انجلز هذا مُجرّد اعادة صياغة لنتائج أبحاث مورغان. ان كتاب مورغان هو دراسة أصيلة ومُستقلة. كَتَبَ انجلز نفسه: "لن يكون للأمر كُلّه معنى على الاطلاق اذا أردت أن أُقدّم تقريراً (موضوعياً) عن مورغان دون مُعالجته نقدياً، ودون استخدام النتائج الحاصة مُؤخراً، ودون عرضها في ارتباطها بآرائنا وبالنتائج الحاصلة مُسبقاً"(18).
كان من الضروري للغاية اخضاع نتائج مورغان للنقد، لأنه في حين كان ينطلق من الفهم المادي للتاريخ، والذي طبّقَ عليه المنطق الموضوعي للحقائق التي اكتشفها، الا أن هذا الفهم نفسه كان عنده عفوياً، ولذلك كان طابعه محدوداً. ثبُتَ أن مورغان لم يكن قادراً على تفسير وصياغة المبادئ المنهجية الأساسية التي التزمَ بها عفوياً في تطوير مفهومه حول التاريخ القديم، أو أن يُطبقها بالكامل على مراحل التاريخ اللاحقة.
لم يكن لدى مورغان فكرةً دقيقةً على الاطلاق حول قُوى المُجتمع المُنتِجة. وبدلاً من مفهوم "تطور القُوى المُنتجة" استخدَمَ مفهوم "تقدّم الاختراعات والمُكتشفات" الغامض وغير الدقيق، وما شابهه. حتى أنه كان لديه فهماً غير دقيقاً لعلاقات الانتاج. لقد اختزلها في علاقات المُلكية فقط، والتي لم يعتبرها في كثيرٍ من الأحيان علاقاتٍ بين الناس تتمظهر في الأشياء. ولا هو استطاعَ أن يُقدّم أي تفريقٍ واضحٍ بين علاقات وسائل الانتاج وعلاقات المُلكية الأُخرى. لم يأخذ في الاعتبار تعقيدات العلاقات الاقتصادية التي ميّزت فترة انحلال المُجتمع العشائري وظهور المُجتمع الطبقي.
ونتيجةً لذلك، لم يستطع أن يلتقط العلاقة بين المُلكية الخاصة واستغلال الانسان للانسان، بين المُلكية الخاصة وانقسام المُجتمع الى طبقات، سوى في الشكل الأكثر عموميةً. لقد لاحَظَ هذه العلاقة، ولكنه لم يكن قادراً على تحليلها بعُمق. لم يستطع مورغان، لدن دراسته البُنية الاقتصادية للمُجتمع الطبقي في بداياته فور نشوئه، أن يفهم طبيعة الطبقات الاجتماعية ومكانها ودورها في المُجتمع. وقد منعه ذلك من فضح سر "المُجتمع السياسي" بالكامل ومن ادراك أنه لا يقوم على المُلكية الخاصة وحدها، بل على استغلال الانسان للانسان، وانه مُجتمع تناحري قبل كُل شيء.
ونتيجةً لذلك، لم يكن قادراً على أن يفهم حقيقة وجود عدة أنواع مُتميزة نوعياً من علاقات الانتاج التناحرية، وأنه لا يوجد ما يُسمّى "المُجتمع السياسي" بشكلٍ عام، كما يقول، بل هُناك أشكال تاريخية مُتمايزة نوعياً من المُجتمعات، والتي تُعَدّ، في نفس الوقت، مراحل من تطوره، أي سلسلة من الأنظمة الاجتماعية-الاقتصادية المُتناحرة.
ان الفشل في فهم انقسام المُجتمع الى طبقات، ودور الصراع الطبقي في تاريخ "المُجتمع السياسي" جَعَلَ مورغان غير قادرٍ على الكشف عن جوهر الدولة. نتيجةً لهذا، لم يتم حل مسألة ظهور المُلكية الخاصة، ولا سيما الطبقات والدولة في كتابه (المُجتمع القديم). يُمكن العثور على اجابة هذه المسألة فقط في كتاب (أصل العائلة والمُلكية الخاصة والدولة).
في حين كانت فصول كتاب انجلز من 1-4 المُكرّسة لبحث أُصول وتطور العشيرة والزواج والعائلة، مُعتمدةً على مواد مورغان في المقام الأول، ان لم يكن حصراً، فإن الفصول من 5-9 المُكرّسة لظهور المُلكية الخاصة والطبقات والدولة، هي نتيجة بحث مُستقل تماماً. هذه المسائل طوّرها انجلز مُستنداً، بطريقةٍ جديدةٍ تماماً، على بيانات ليس مورغان فحسب، بل وبيانات عُلماءٍ آخرين أيضاً.
وفي حين قدّرَ مؤسسا الماركسية اسهام مورغان تقديراً عالياً، لم يشكّا في وجوب اعادة دراسة العديد من مبادئ كتابه في ضوء البيانات الجديدة أثناء عملية تطور العلم. كَتَبَ انجلز في مُقدمة الطبعة الرابعة من كُتيبه (الاشتراكية الطوباوية والاشتراكية العلمية) أن "السنوات الأربع عشرة التي تصرمت منذ صدور عمل مورغان الرئيسي قد أغنَت كثيراً ما لدينا من موادٍ في تاريخ المُجتمعات البشرية البدائية... وهذا ما أدى الى زعزعة بعض فرضيات مورغان وحتى الى دحضها. ولكن المادة المجموعة حديثاً لم تؤد في أي مكان الى ضرورة الاستعاضة عن موضوعاته الجوهرية بموضوعاتٍ ما أُخرى"(19).
بعد 80 عاماً منذ ظهور كتابات مورغان وانجلز هذه، تركمت الدراسات ونُظمِنَت واستُخلِصَت استنتاجات كثيرة من كميةٍ هائلةٍ من موادٍ لم تكن معروفةً ولم يكن من المُمكن أن تكون معروفةً لهما. ولكن، المبادئ الأساسية لعملهما لم تظل ثابتةً وحسب، بل وجدت تأكيداً لها في البيانات الجديدة أيضاً. ان المُكتشفات الجديدة تُحتّم اعادة النظر في العديد من الاستنتاجات التي توصّل اليها مورغان ووافق عليها فريدريك انجلز، بما في ذلك بعض الاستنتاجات التي لعبت دوراً مُهماً في كتابيهما.
قامت الدراسات السوفييتية، على وجه الخصوص، باعادة النظر بالتحقيب التاريخي للانسان البدائي في كتاب (المُجتمع القديم). في تطويره لهذا النموذج، الذي كان أول نموذج علمي لتحقيبٍ تاريخ المُجتمع البدائي، اتخذَ مورغان الفهم المادي للتاريخ نُقطة انطلاقٍ له. مُعتبراً تطور طُرُق "الحصول على وسائل العيش" كسبب لجميع التغيرات الاجتماعية، اعتَبَرَ بطبيعة الحال أن "المُخترعات" التي قام بها البشر في مجال انتاج المواد، كأساس للتمييز بين حُقَب تطور المُجتمع.
عندما ننظر الى التحقيب الذي وضعه مورغان، لا يسعنا سوى أن نُدهَش من المهارة التي تمكّنَ من خلالها تحديد المراحل الرئيسية في تطور قوى الانتاج للمُجتمع العشائري، على الرغم من نُدرة المواد الوقائعية التي كانت تحت تصرفه. ان تطور الزراعة والرعي، الذي يقرن مورغان به الانتقال من مرحلته الأساسية الأولى في التاريخ البدائي، أي الوحشية، الى المرحلة الثانية وهي البربرية، تُعتَبَر اليوم، من قِبَل جميع العلماء، نُقطة تحول ذات أهمية كُبرى في تطور الانتاج المادي في المُجتمع ما قبل الطبقي، مما أدى الى تغيّرات كبيرة في التطور الاجتماعي. يُطلِق العديد من الباحثين الأجانب على هذا الحدث اسم "ثورة" العصر الحجري الحديث(20)(ب).
ومع ذلك، فإلى جانب بعض مزاياه التي لا يُمكن انكارها، يعتور تحقيب مورغان أوجه قصورٍ أصبحت أكثر وضوحاً في سياق تطور العلم. ولا يقتصر الأمر على أنه وُجِدَ عدد من المجموعات الاثنية التي تقع في مستوىً مُرتفعٍ نسبياً من التطور الاجتماعي تفتَقِرُ الى "الاختراعات والاكتشافات"، التي كانت في رأي مورغان، تُميّز الحُقبة أو المرحلة التي يمرون فيها، وحتى أنها تُميّز مرحلة أقل من ذلك. لا يوجد تحقيب قادر على ضم التنوع الكُلّي لتطور الشعوب التاريخي، وأن يكون قادراً على استيعاب جميع حالات الركود والتعرج والتراجع والتسارع في التطور والتفاعلات كُلها.. يجب عليه أن يشمل المنطق الموضوعي للتطور. والمنطقي، كما يقول انجلز "ليس سوى المنهج التاريخي، مُتجرداً من الشكل التاريخي ومُحيّداً الأحداث الصدفية. يجب أن تكون النقطة التي يبدأ فيها هذا التاريخ، هي نقطة بداية الفكر، وسيكون تقدّمه اللاحق انعكاساً، بشكل تجريدي ومُتسق نظرياً، لمسيرة التاريخ الواقعي. وان كان يجب تصحيح الانعكاس، فيجب تصحيحه وفقاً لقوانين التاريخ الفعلي، حيث يُمكن دراسة كُل عامل في مرحلة التطور حين يصل الى مرحلة النُضج الكامل، أي الى شكله الكلاسيكي"(21).
يكمن وجه القصور الرئيسي في تحقيب مورغان في حقيقة أنه لم يكن تحقيباً لتاريخ المُجتمع نفسه. ان تطور القُوى المُنتجة هو بالتأكيد أساس تطور المُجتمع، ولكنها (اي القُوى المُنتجة) هي ليست المُجتمع نفسه. حتى نقاط التحول الرئيسية في تطور القُوى المُنتجة لا تؤدي تلقائياً أو دفعةً واحدةً الى تغييرٍ في علاقات الانتاج، ومن ثم الى تغييرٍ في جميع العلاقات الاجتماعية الأُخرى. أما بالنسبة للتغيرات الأقل أهميةً، فقد تؤدي، بتراكمها، الى تغيّر العلاقات الاجتماعية في المجال الاقتصادي أولاً، ومن ثُم في المجال الايديولوجي. لذلك من المُستحيل انشاء تحقيب حقيقي للمُجتمع اذا اتخذنا معياراً لبداية مرحلة جديدة في تطورها تغيّر ما، حتى لو كان تغيّراً رئيسياً في القُوى المُنتجة. بالاضافة الى ذلك، كلما زادت درجة أخذ التغيرات الطفيفة في تطور النشاط الانتاجي كأساس لذلك التحقيقب، كلما تأخّرَ أكثر خلفَ تحقيب تاريخ المُجتمع نفسه.
إن اعادة التنظيم الاقتصادية لعلاقات الانتاج، والتي تُشكّل في مُجملها أساس المُجتمع، هي التي تُشكّل معيار انطلاق مرحلة جديدة في تطور المُجتمع، وليس التغيّر في القُوى المُنتجة، اذا نظرنا اليه كمعيارٍ مُنفرد. يُحدث التغيير في العلاقات المادية بين الناس، وأهمها علاقاتهم بوسائل الانتاج، تغيّراً في جميع العلاقات الأُخرى، والتي تنهض كبناءٍ فوقيٍّ على الأولى، أي تُحدِثُ تحولاً في المُجتمع.
كما سَبَقَ أن أشرنا، كان مورغان مادياً في نظراته حول التاريخ. لكنه كان مادياً عفوياً وليس واعياً. لم يُميّز بين قُوى الانتاج وعلاقات الانتاج، وكان من الطبيعي أن يكون غير قادرٍ على فهم دياليكتيك التفاعل بينهما. ولكن، ليس هذا هو السبب الوحيد أو حتى الرئيسي الذي وضَعَ على إثرِهِ تحقيبه هذا للمُجتمع البدائي، وليس تحقيباً آخر. ان كُل تحقيب علمي، بمعنىً ما، هو نتاج للبحث في مجالٍ مُعيّن. لم يكن هناك أي إمكانية لوضع أي تحقيب مُتطور للمُجتمع البدائي في عصر مورغان. كَتَبَ انجلز، في تقييمه لتحقيب مورغان للمُجتمع البدائي: "كان مورغان، أول من حاوَلَ، عن علمٍ ومعرفةٍ بالأمر، أن يُدخِلَ على ما قبل تاريخ البشرية نظاماً مُعيناً. وما دام اتساع المادة الكبير لا يُجبر على ادخال تعديلات، فإن التقسيم المرحلي (التحقيب) الذي اقترحه سيبقى، بلا ريب، ساري المفهول"(22).
اليوم، صار "اتساع المادة الكبير" ان استخدمنا كلمات انجلز، سبباً لإمكانية وضرورة حلول تحقيبٍ جديد للتاريخ البدائي محل تحقيب مورغان. وعلى عكس مورغان، فإن التحقيب الجديد سيكون تحقيباً لتاريخ المُجتمع. من المُهم أن نُلاحظ أن مُحاولة مورغان لطرح تحقيب حقيقي للمُجتمع البدائي، قد وضعَت أساساً لتحقيبٍ علميٍّ للمُجتمع انطلاقاً من نظرته العلمية المُتعلقة بالمُجتمع البدائي.
لاحَظَ مورغان، باكتشافه الوحدة الأساسية للمُجتمع ما قبل الطبقي المُتمثلة بالعشيرة (أي المُجتمع العشيري)، نقول لاحَظَ بشكلٍ صحيحٍ تماماً أن أصل العشيرة ليس هو نفسه ظهور الانسان، وأن ظهور المُجتمع العشائري حَصَلَ في مرحلةٍ مُتأخرةٍ نسبياً من التطور. وهكذا، فإن تاريخ الانسانية بأكمله قبل ظهور الطبقات ينقسم بطبيعة الحال الى فترتين رئيسيتين: الفترة ما قبل العشائرية، والفترة العشائرية.
لم تسمَح حالة العلم في ذلك الزمن بالاجابة سواءً على المسألة المُتعلقة بزمن تطور التنظيم العشائري أو مسألة الفترة السابقة لها. وعلى ذلك، كان كل ما كَتَبه مورغان حول ظهور العشيرة وعن الأشكال السابقة لتنظيم المجموعات البشرية (الجماعات التي تعيش المشاعية الجنسية promiscuity(جـ)، عائلة الأقارب، العائلة البونالوانية) ذو طبيعةٍ افتراضيةٍ صرف.
مع تقدّم العلم، توضّحَت أكثر فأكثر مسألة وضع البشرية قبل عصر العشائرية. كان رأي لينين، المُعبّر عنها في رسالته الى مكسيم غوركي في كانون الأول عام 1913 ذو أهميةٍ كبيرةٍ لتطوير تحقيب أصيل للتاريخ البدائي. كَتَبَ لينين، في كشفه عن مفهوم غوركي لـ"الله" كمجموعة من الأفكار التي تعمل على ايقاظ المشاعر الاجتماعية وتنظيمها، وهي الأفكار التي تهدُف الى ربط الفرد بالمُجتمع وربطها بانضباط الفرد الحيواني: "لماذا هذا رجعي؟ لأنها تُجمّل الفكرة الكهنوتية والاقطاعية حول الحيوان "المُروّض". في الواقع، الفردانية الحيوانية، كانت مُروّضة ليست من قِبَل فكرة الله، بل من خلال القطيع البدائي والمشاعة البدائية"(23). يتضح من مُراجعة لينين لكتاب بوغدانوف (السياق المُختَصَر لعلم الاقتصاد)(24) ومن كتابه (الدولة والثورة)(25)، أنه فَهِمَ أن المشاعية البدائية هي نفسها المشاعية العشائرية، أي العشائر. يتضح من السياق أن لينين استخدَمَ مُصطلح "القطيع البدائي" للاشارة الى الشكل الأول للروابط البشرية، أي أول تجمّع بشري، والذي نشأ مُباشرةً من قطيع الحيوانات الذي كان موجوداً مُسبقاً حتى تحوّل الى مشاعةٍ بدائية.
اختلَفَت هذه الجماعة البشرية البدائية، بكُل معنى الكلمة، كما أشارَ لينين، عن قطيع الحيوانات. لقد رأى هذا الاختلاف في حقيقة أن قطيع البشر البدائي، لم يكن رابطةٍ بيولوجيةٍ صرف، كما كانت الحيوانات من الأنواع الأُخرى. لو كان قطيع البشر البدائي هو هذا النوع من الرابطة، فلن يكون من المنطقي على الاطلاق أن يتحدّث حول "الفردانية الحيوانية المُروّضة". لا يُمكن تقييد وترويض البيولوجي سوى من خلال نقيضه، أي من خلال الاجتماعي. لا يُمكن لعملية ضبط الفَرَدَانية الحيوانية سوى أن تكون صراعاً بين الاجتماعي والبيولوجي. كان القطيع البدائي عبارةً عن رابطةٍ تم فيها تشذيب الأنا الحيوانية وترويضها. لذلك، لا يُمكن بأي حال أن يطلَقَ عليها رابطةً حيوانيةً صرف. وللسبب نفسه، لا يُمكن وصفها بأنها جماعة بشرية فعلية. كان القطيع البدائي يحد من الأنانية الحيوانية، ولكنه لم يستطع قمعها تماماً. الجماعة العشائرية البدائية فقط هي التي قيّدَت الفَرَدانية الحيوانية تماماً، وكان ظهورها هو الذي استَكمَلَ عملية تقييم الفَرَدانية الحيوانية، وهي عملية صراع بين الاجتماعي والبيولوجي والتي شَغِلَت كامل العصر الذي كان فيه القطيع البدائي موجوداً. كانت المشاعة البدئية العشائرية اذاً، هي الشكل الأول للروابط البشرية التي تم فيها قمع الأنانية الحيوانية بالكامل، وكانت هي أول عضوية اجتماعية صرف، وهي الشكل الأول لوجود مُجتمع بشري حقيقي. كانت حُقبة القطيع البدائي، التي سبقت ظهور المشاعة البدائية العشارية، حُقبة تحوّل قطيعٍ من الحيوانات الى مُجتمعٍ بشري، وفترة إقامة المُجتمع البشري. القطيع البدائي هو شكل انتقالي بين الروابط البيولوجية الصرف والاجتماعية الصرف.
في تصريح لينين الذي استشهدنا به، هُناك تطوير للفكرة التي طرحها انجلز في كُتيّبه (دور العمل في تحول القرد الى انسان)، بأنه كانت هُناك فترة خاصة، تحوّلَ فيها قطيع الحيوانات الى مُجتمعٍ بشري، وهي فترة كانت في نفس الوقت، تحوّلاً من الحيوان الى الانسان(26). لم يكشف لينين فقط عن جوهر هذه الفترة وطَرَحَ مُصطلحاً واضحاً يُشير اليه، ولكنه أجابَ أيضاً على السؤال المُتعلق بالشكل الذي ظَهَرَ فيه المُجتمع البشري الحقيقي. لقد ظَهَرَ المُجتمع البشري الحقيقي مع حلول العشائر في شكل المُجتمع العشائري محل القطيع البدائي. وهكذا، كان المُجتمع العشائري أول شكل مُحدد تاريخياً لوجود مُجتمع بشري في شكلٍ مُكتملٍ ومُتطوّر، وهو المرحلة التاريخية الأُولى من تطوره. تأكّدَت مبادئ انجلز ولينين هذه بالكامل في سياق التطور اللاحق للانثروبولوجيا والأركيولوجيا.
أسّسَ علماء الانثروبولوجيا السوفييت، على أساس تعمييم كميةٍ هائلةٍ من المواد الوقائعية، نظرية القفزتين في النشوء الانساني anthropogenesis (27). وفقاً لهذه النظرية، تتحدد نُقطتي تحوّل رئيسيتين عند تطور الانسان. أولها وأهمها هو الانتقال من المرحلة الحيوانية ما قبل الانسانية، عن طريق بداية صُنع الأدوات، الى مرحلة بداية تشكّل الانسان، المُتجسّد في البيثيكانثروبوس Pithecanthropi (والأشكال الأُخرى المُشابهة) والنياندرتال. نُقطة التحوّل الثانية هو حلول النيوانثروبوس Neoanthropus، وهو الانسان المُعاصر محل النياندرتال. أولها تُمثّل ظهور القوانين الاجتماعية، وتُمثل الثانية النُقطة التي تسود فيها هذه القوانين كُلياً بشكلٍ حاسمٍ في حياة الانسان. لم يتشكّل المُجتمع البشري الحقيقي الا مع ظهور الانسان المًعاصر.
باكتشافهم نُقطتي التحوّل، أو القفزتين في نشوء البشر، أثبَتَ علماء الانثروبولوجيا السوفييت وجود فترة قيام المُجتمع، والتي تزامنت مع فترة تشكّل الانسان المُعاصر، وثبّتوا حدودها. لقد أظهروا أن تلك الفترة انطلقت بظهور البشر الأوائل (البيثيكانثروبوس)، وانتهت بظهور الهومو سابيان، أي أنها تزامنت مع العصر الحجري القديم المُبكّر، والذي شَمِلَ الفترة الابيفيليانية Abbevillian والأكيوليانية Acheulian والموستيرية Mousterian. وأشاروا بالتالي الى أن الخط الفاصل بين العصر الحجري القديم المُبكّر والعصر الحجري الأعلى هو الحد الذي يفصل مُجتمع عملية تشكّل الانسان عن المُجتمع الانساني القائم، على هذا النحو. وهكذا، فإن مذهب انجلز القائل بأن فترة تشكّل الانسان هي نفس الفترة التي يُصبح خلالها الانسان انساناً، وأن المُجتمع يظهر فقط عندما "يكتمل" الانسان، صحيح وملموس تماماً.
اقتَرَح الأركيولوجيين السوفييت بيتر بيتروفيتش ايفيمينكو Petr Petrovich Efimenko(28) وبافل يوسيفوفيتش بوريسكوفسكي Pavel Iosifovich Boriskovsky(29) الفرضية التي تم تأكيدها في سياق التطور اللاحق للأركيولوجيا، أن العشيرة قد ظَهَرَت في العصر الحجري القديم الأعلى Paleolithic، وان الانتقال من بداية العصر الحجري القديم الى العصر الحجري القديم الأعلى مثّلَ بداية تاريخ المُجتمع العشائري. وهكذا، فإن الجُهود المُشتركة لعلماء الانثروبولوجيا والأركيولوجيا أكدت وأثبتت مذهب لينين بأن فترة تشكّل المُجتمع البشري قد اكتملك بظهور المشاعة العشائرية.
يُقرّ جميع العُلماء السوفييت اليوم بوجود فترة القطيع البشري البدائي، ويعتبرونها الفترة التي نشأ فيها الانسان وتشكّل المُجتمع البشري(30). تتطابق الخصائص التي ينسبونها الى القطيع البشري في عددٍ من السمات مع تلك التي قال مورغان، أنها، كانت في رأيه، الشكل الأولي للروابط البشرية، "أي القطيع الذي يعيش في مشاعة جنسية". يعتقد جميع العلماء السوفييت أن العلاقات الجنسية في القطيع البدائي كانت عشوائية وغير مُنظمة.
ومع ذلك، على عكس مورغان، الذي اعتَبَرَ أن قطيع المشاعة الجنسية تحوّلَ الى عائلة قُربى، والتي بدورها تحوّلَت الى عائلة بونالوانية، وأخيراً، أن هذه العائلة الأخيرة هي فقط التي أدت الى ظهور العشيرة. يعتقد العُلماء السوفييت أنه لم تكن هناك مراحل وسيطة بين القطيع البدائي والمشاعة العشيرية، وبأن القطيع البدائي قد تحوّلَ مُباشرةً الى عشيرة. واليوم، لا يتفق مُعظم الباحثين السوفييت مع فرضية مورغان حول عائلة القُربى والعائلة البونالوانية. ينطلق الباحثون السوفييت من فرضية أن ظهور الشكل الأول للزواج تزامن مع ظهور الزواج الخارجي exogamy والعشيرة. نشأت العلاقات الزواجية كعلاقات لا بين الأفراد، بل بين العشائر والجماعات. كان الشكل الذي وُجِدَت به هذه العلاقات هو التنظيم العشائري الثُنائي. كان الزواج في البداية ذو طبيعةٍ جماعية، من عشيرةٍ الى عشيرة، وأنه لم يكن زواجاً محلياً برأي عدد من العُلماء السوفييت، أي أن الشركاء الجنسيين كانوا ينتمون الى مجموعات اقتصادية مُختلفة(31). نتيجةً للزواج غير المحلّي، لم يكن بالامكان للعشائر البدائية سوى أن تكون أُموميةً فقط(32). ان الرأي القائل بأن العشيرة البدائية كانت أُمومية هو رأيٌ يلتزمُ به جميع العلماء السوفييت، بصرف النظر عن آرائهم حول مسألة محلية الزواج البدائي.
كما يتضح مما سَبَق، لم يكن تحقيب مورغان للتاريخ البدائي هو الذي أعاد العلم السوفييتي النظر فيه، بل وكذلك نموذجه الذي وضعه في تطور العلاقات العائلية والزوجية. ومع ذلك، في حين يتجاهل الاثنوغرافيين السوفييت فرضية مورغان فيما يتعلق بعائلة القرابة والعائلة البونالوانية كمراحل تسبق العشيرة، فإنهم في نفس الوقت يقبلون تماماً الفهم الكامن وراء نموذجه، أي أن تطور العلاقات العائلية والزواجية نَبَعَ من المشاعية الجنسية، من خلال الزواج الجماعي مروراً بالزواج الثنائي، وصولاً الى الزواج الأُحادي. في حين أخطأ في التفاصيل، الا أن مورغان كان صحيحاً في ما هو أساسي.
ولكن، تجدُر الاشارة، الى أن مورغان لم يكن قادراً على التفريق بين هذا العامل الأساسي والعامل الثانوي. بالنسبة له، التخلّي عن عائلة القرابة والعائلة البونالوانية مُساوياً للتخلي عن نظرية الزواج الجماعي. اتخَذَ انجلز موقفاً آخر. في حين وافَقَ انجلز في الطبعة الأولى من كتابه (أصل العائلة والمُلكية الخاصة والدولة) على آراء مورغان حول عائلة القُربى، الا أنه في الطُبعة الرابعة من هذا الكتاب قام بتعديل رأيه بعد أن اطلعَ على دراسات لوريمير فايسون Lorimer Fison والفريد ويليام هويت Alfred William Howitt. بعد أن لَفَتَ الانتباه ص53، الى أن نظام الطبقتين (الكروكي والكوميت) عند سكان استراليا بالشكل الذي نعرفه به، لا يُشكّل عقبةً أمام العلاقات الزواجية بين الأشخاص من مُختلف الأجيال، أشارَ انجلز الى امكانية أن ينشأ مثل هذا النظام من الزواج الجماعي. يقول "اذاً، إما أن هذا التنظيم قد نشأ في حُقبةٍ لم يرَ فيها بعد الناس أي أمرٍ رهيب بخاصة في العلاقات الجنسية بين الآباء والأولاد، رغم كُل سعيهم الغامض الى الحد من سِفاح القُربى،-وفي هذه الحال، ظَهرَ نظام الطبقات مُباشرةً من حالة العلاقات الجنسية غير المُنظمة (المشاعة الجنسية)، وإما أن العلاقات الجنسية بين الآباء والأولاد كانت ممنوعةً بحُكم العُرف والعادة عن نشوء الطبقات الزواجية، وفي هذه الحال، يعود الوضع الحالي الى وجود عائلة قُربى الدم قبل ذلك، ويُشكّل أول خطوةً للخروج منها. ان الافتراض الأخير أكثر احتمالاً، ولا يذكرون حسبما أعلم، أمثلةً عن علاقات زواج بين الآباء والأولاد في أوستراليا"(33). يعترف انجلز، في هذه الفقرة الصغيرة، بفرضيتين مُتساويتين في الاحتمال: تُنكر احداهما وجود عائلة قُربى الدم، وتفترض الأُخرى أنها كانت موجودةً في الماضي. وهو يقبل فرضية عائلة القُربى قبولاً مشروطاً، بقدر ما أن ليس لديه علم بأي وقائع تتعارض معها. وهكذا، بالنسبة الى انجلز، كانت مسألة وجود عائلة قُربى الدم أو عدم وجودها مسألةً غير أساسية. انها مسألة حقائق.
كانت لدى انجلز أيضاً شكوكٌ جدّية بشأن الاُسرة البونالوانية. في حين التزَمَ بنظرة مورغان عن العائلة البونالوانية كمرحلةٍ عالميةٍ في تطور العلاقات العائلية والزواجية، فقد ابتَعَدَ بعد ذلك عن وجهة النظر هذه. شدّدَ انجلز عدة مرات، في الطُبعة الرابعة من كتابه على أن العائلة البونالوانية هي شكل واحد فقط من أشكال العائلة القائمة على الزواج الجماعي، وأن جوهر الأمر لا يكمن في العائلة البونالوانية، بل في الزواج الجماعي(34). وعند اعداده للطبعة الرابعة من كتابه، استبدَلَ مُصطلح "العائلة البونالوانية" بعبارة "الزواج الجماعي" حيثما أمكَنَ ذلك.
كانت شكوك انجلز، كما رأينا أعلاه، مُبررة. في الواقع، أثبتت عائلة قُربى الدم والعائلة البونالوانية أنها أضعف النقاط في نموذج مورغان لتطور العلاقات العائلية والزواجية. لم تكن العشيرة مسبوقةً سواءً من العائلة البونالوانية أو عائلة قُربى الدم. تطوّرَت العشيرة مُباشرةً من القطيع البشري البدائي.
بعد أن تم فرز حُقبة القطيع البدائي كمرحلةٍ خاصةٍ في التاريخ البدائي، تظل هُناك حُقبة زمنية تحتضن ظهور العشيرة الى ظهور المُجتمع الطبقي. حدّدَ العُلماء السوفييت في ذلك، بدورهم، مرحلتين رئيسيتين: عصر المُجتمع العشائري، والمرحلة التي كان المُجتمع يتحول خلالها الى مُجتمعٍ طبقي(35). يظهر فرز هاتين الحُقبتين في كتاب مورغان (المُجتمع القديم)، حيث نجد وجود مُصطلح خاص "الديمقراطية العسكرية" للدلالة على المرحلة الثانية. استَخدَم انجلز هذا المُصطلح أيضاً في كتابه، والذي يُقدّم فيه، كما نعلم، تحليلاً عميقاً لعملية نشوء المُلكية الخاصة والطبقات والدولة.
كما أشرنا سابقاً، يوافق العُلماء السوفييت على فرضية مورغان وانجلز التي تتحدث حول أن العشيرة كانت أُمومية وأن تحوّلها الى عشيرة أبوية أدى الى تفكك المشاعة العشائرية. تم اثبات هذه الفرضية في العديد من الكتابات(37) لكن في نفس الوقت يأخذون في الاعتبار حقيقة أن انحلال المُلكية الجماعية وظهور المُلكية الخاصة الذي يؤدي بالضرورة الى الميل الى حلول الخط الأبوي محل الخط الأُمومي، مشروط بظروفٍ تاريخيةٍ مُعيّنة. قد يحدث في بعض الحالات حلول الخط الأبوي محل الخط الأُمومي في وقتٍ مُبكرٍ الى حدٍّ ما، وقد يحدث في حالاتٍ أُخرى، في وقتٍ مُتأخر، وقد لا يحدث في بعض الأحيان الا عند الوصول الى المُجتمع الطبقي المُبكّر.
لذلك، في حين يُشير وجود الخط الأبوي في مُجتمعٍ مُعيّن على أنه بدأ في السير في عمليات الانحلال الى حدٍّ ما، الا أن وجود الخط الأُمومي وحتى العشيرة الأُمومية في مُجتمعٍ ما، لا يدلنا بحد ذاته الى أي مرحلةٍ وصلَ في تطوره. قد يكون مُجتمعاً عشائرياً في أي مرحلةٍ من مراحل تطوره، أو مُجتمعاً طبقياً في طور النشوء، أو حتى شكلاً مُبكراً من المُجتمع الطبقي. نتيجةً لذلك، لا يجوز أن يعتمد تحقيب المُجتمع البدائي على تحول شكل من البُنوّة محل شكلٍ آخر، بل على التغيرات العميقة التي يقوم عليها هذا الحلول، وعلى التغيرات في علاقات الانتاج، وفي علاقات المُلكية قبل كُل شيء.
وهكذا، فإن تحقيب التاريخ البدائي، الذي وضعه العُلماء السوفييت على أساس تعميم المواد الوقائعية الجديدة، بالرغم من أنه يختلف عن ذلك المطروح في كتابي (المُجتمع القديم) و(أصل العائلة والمُلكية الخاصة والدولة)، الا أنه يتأسس، رغم ذلك، على المُقدمات المبدأية التي طرحها مورغان ووافَقَ انجلز عليها.
على الرغم من أن المسار الكامل لتطور الاثنوغرافيا والانثروبولوجيا والأركيولوجيا، يُلزمنا بإعادة النظر في بعض الاستنتاجات الفردية المُختلفة التي توصّل اليها مورغان وانجلز، الا أن نفس هذا المسار يؤكد صحة افتراضاتهما الأساسية في كُل خُطوةٍ وبدرجةٍ مُتزايدة. تُوضح لنا التجربة أن الاسترشاد بتلك المبادئ الأساسية هي التي يُمكننا من خلالها فقط فهم الكم الهائل من المواد التي نتوفّر عليها من خلال البحث، وأن نُنشئ صورةً للمُجتمع البدائي تتفق مع الواقع بشكلٍ مُتزايد. لا يُمكن بلوغ الحقيقة الموضوعية الا بالسير على الطريق الذي وضعه لنا مورغان وانجلز، وأن أي طريق آخر سيقودنا بعيداً عن تأسيس نظرية مُتكاملة وصحيحة حول المُجتمع البدائي.

* يوري ايفانوفيتش سيمينوف 1929-2023 مؤرخ ماركسي وفيلسوف واثنوغرافي ومُتخصص في فلسفة التاريخ وتاريخ المُجتمع البدائي ونظرية المعرفة. تخرج من كلية التاريخ في معهد كراسنويارسك التربوي، وقسم الفلسفة من معهد مُعلمي العلوم الاجتماعية في جامعة الأورال. قام بتدريس الفلسفة في جامعات ذاتها. دافَعَ عام 1963 عن اطروحته في الدكتوراة في معهد الاثنوغرافيا، وأصبحَ في عام 1967 أُستاذاً في قسم الفلسفة في معهد موسكو للفيزياء والتكنولوجيا، حيث عَمِلَ لمدة نصف قرن هناك. كما عَمِلَ بدوامٍ جُزئي لفترةٍ طويلة في معهد تاريخ العالم التابع لأكاديمية العلوم السوفييتية. كان يعمل في الأبحاث المُتعلقة بمسألة المُجتمعات الطبقية الأولى التي سبقت العبودية. في الخمسينات اصبَحَ سيمينوف مُهتماً بمسائل نظرية المعرفة ونمط الانتاج الآسيوي. قدّمَ عام 1956 اطروحة درجة مُرشح العلوم الفلسفية بعنوان (بعض مسائل التفكير الانساني لما قبل التاريخ). نَشَرَ عام 1957 أعمالاً تتعلق بالمُجتمعات الطبقية الأولى، وجادَلَ فيها بأن التشكيل الاجتماعي الاقتصادي للطبقة الأولى لم يكونوا مُلّاكاً للعبيد، بل كان يعتمد على نمط الانتاج الآسيوي.
نَشَرَ دراسةً حول نشأة المُجتمع الطبقي عام 1962، وقدّمها الى معهد الاثنوغرافيا وحصل على درجة الدكتوراة في العلوم التاريخية.
كان سيميونوف في العام 1967 استاذاً في قسم الفلسفة في معهد موسكو للفيزياء والتكنولوجيا حتى انهيار الاتحاد السوفييتي، وصار منذ 1980-1984 رئيساً لهذا القسم.
من كُتبه: (نشوء المُجتمعات البشرية) 1962، (كيف نشأت البشرية) 1966، (أصل الزواج والعائلة) 1974، (تطور التشكيلات الاجتماعية الاقتصادية والمنطق الموضوعي لتطور الدين-مسائل الالحاد العلمي) 1976، (من فجر تاريخ الانسانية) 1989

1- مُختارات ماركس وانجلز في أربعة مُجلّدات-المُجلّد الأول، دار التقدم 1975، ص49
2- Ibid 9 Vol. 3, pp. 18-32, 49, 63
3- For further detail on this question see M. O. Kosven,”Istoriia braka i sem’i v istorii nauki do serediny XM veka,” SE, 1931, Nos. 1-2 same author, “Problemadoklassovogo obshchestva v epokhu Marksa i Engel’sa,” SE, 1933, No. 2 same author, Matriarkhat. Istoriia problemy, Moscow and Leningrad, 1948
4- مُلاحظة كتبها فريدريك انجلز عام 1888: مُختارات ماركس وانجلز في أربعة مُجلّدات-المُجلّد الأول، دار التقدم 1975، ص49
5- مُراسلات ماركس وانجلز، ترجمة فؤاد أيّوب، دار دمشق 1981، ص440-441.
Engels letters to Sorge, 7 March 1884 and to Borgius (Starkenburg), 25 March 1894
6- L. H. Morgan, Ancient Society (Russ. ed.),Leningrad, 1934, pp. 3,4,7,216,315, etc
7- Ibid., p. 37
8- Ibid p. 134
9- Ibid, P38
10- Ibid 9 pp. 38, 41, 197, 201, etc
11 -Ibid., pp. 41, 199, 219, 276-277, 281, 303, etc
أ- العائلة الثُنائية، كما يقول انجلز، هي "العائلة التي يَسهُل على كُلٍّ من الطرفين المعنيين حلّهُ". تكون "ذُرية هذين الزوجين معروفةً ومُعتَرف بها من الجميع". انه "شكل مُعيّن من التجامع بين شخصين لمدة قد تطول أو تَقصُر، كان موجوداً في ظروف الزواج الجماعي أو حتى قبل ذلك. فقد كانت للرجل زوجة رئيسية (ويكاد يكون من غير المُمكن القول أنها الزوجة المُفضلة) في عِداد زوجات كثيرات، وكان بالنسبة لها الزوج الرئيسي في عداد أزواج كثيرين". ففي طور الزواج الثنائي "يعيش الرجل مع امرأةٍ واحدة، ولكن تعدد الزوجات والخيانة الزوجية بين الفينة والفينة لا يزالان من حق الرجل، رُغم أن تعدد الزوجات نادر الوقوع بحُكم الأسباب الاقتصادية أيضاً، بيد أن المرأة مُطالبة في أغلبية الأحوال بأدق الأمانة طيلة مُدة المُساكنة، وتُعاقَب على خيانتها عقاباً قاسياً. ولكنه من السهل على كُلٍّ من الطرفين أن يحل الرابطة الزوجية، فيعود الأولاد الى الأُم فقط، كما من قبل".
أصل العائلة والمُلكية الخاصة والدولة، فريدريك انجلز، دار التقدم، ص32، 57
12- Ibid pp. 303-304
13- Ibid P195
14- Ibid p. 14
15- Ibid , p. 315
16- Ibid , p. 329
17- مُراسلات ماركس وانجلز، ترجمة فؤاد أيّوب، دار دمشق 1981، ص435-436
18- نفس المصدر، ص440
19- أصل العائلة والمُلكية الخاصة والدولة، فريدريك انجلز، دار التقدم، ص22-23
20- V. G. Childe, Social Evolution, London, 1951 M. S. Herskovits, Cultural Anthropology, New York, 1955 R. S. Braidwood, ”The Agricultural Revolution, ” Scientific American, Vol. 205, 1960, No, 3
ب- يبدو أن كاتب المقالة ليس مُرتاحاً لاستخدام مُصطلح "ثورة" في هذا المجال. سأورد مرةً أُخرى رأي عالم الأنثروبولوجيا السوفييتي فاديم ميخايلوفتيش ماسون، والذي أتفقُ معه فيه، حول مسألة استخدام هذا المُصطلح لوصف التغيرات التي حصلت:
" بطبيعة الحال، فان الشكوك القائمة على اعتبارات تكنولوجية محضة، يصعب الدفاع عنها. نحن نعلم أن ماركس استخدم على وجه التحديد مُصطلح الثورة الصناعية. ترَسّخَت في السنوات الأخيرة فكرة أن ثورةً علمية تكنولوجية ذات جذور عميقة تحدث حالياً في المصطلحات العلمية والاجتماعية والسياسية، ويستخدمها المؤرخون الماركسيون على نطاقٍ واسع. يبدو لي أن البيانات الأركيولوجية الحديثة ستجعل من المُمكن تحديد سمات التغيرات الأساسية التي حدثت في الاقتصاد في فجر التاريخ بدقة. الاعتراض الرئيسي ضد مصطلح "ثورة العصر الحجري الحديث" في الأدبيات الأركيولوجية الأوروبية الغربية والأمريكية الحالية، هو أن البيانات الجديدة تُشير كما يُزعَم، الى تغير تدريجي (من جانب الانسان) في مصادر الغذاء والأشكال الاقتصادية الجديدة. والأمر، بالنسبة للعلماء الذين تُضللهم الفترات الزمنية الطويلة للغاية التي تنطوي عليها هذه العملية، هو تطور تدريجي Evolution وليس ثورة .
ان الحقيقة هي أن هذا التغيّر، بناءاً على البيانات المُتاحة، تطلّبَ ما بين ثلاثة أو أربعة آلاف سنة في الحالات التي لم يتم تحفيزه بتأثيرات خارجية مُكثّفة. ومع ذلك، من الضروري تجنب سحب المواقف المُتجّذرة في وضعنا اليوم عندما نتعامل مع مسألة مُعدلات التطور التاريخي. ان ما يبدو طويلاً وبطيئاً من وجهة نظر الحاضر قد يحتاج تقييماً مُختلفاً تماماً ان تمت دراسة نفس الظاهرة من منظور آلاف السنين من تاريخ العصر الحجري القديم والذي استمر لما يَقرُب من مليوني عام، وخصوصاً في ضوء أحدَث الأبحاث.
من هذا المُنطلَق، فان الانتقال الى حراثة التربة وتربية المواشي، والذي كان الجوهر التاريخي لثورة العصر الحجري الحديث وحدد أهميته التاريخية، يقع في فئة التغيرات النوعية العميقة والتحولات الحادة والسريعة نسبياً من حالة نوعية الى أُخرى. كانت هذه عملية طويلة ومُعقدة في الحياة العملية للبشر وتسلسل الأجيال، وقد تضمنت، كما لاحَظَ تشايلد نفسه بحق، عدداً من المراحل المُتعاقبة. وفي هذا الصدد، ليس من قبيل المُصادفة أن المؤرخين في العصر الحديث قد حددوا عدداً من المراحل في تطور الثورة الصناعية .
استناداً الى حقيقة أن تقنيات جديدة مُعينة دخلت حيز الاستخدام في الصيد وصيد الأسماك خلال العصر الحجري الحديث، ظَهَرَ اتجاه يُفسّر ثورة العصر الحجري الحديث على نطاق واسع، ساحبين هذا المُصطلح على جميع المُجتمعات التي أطلَقَ عليها الأركيولوجيين اسم العصر الحجري الحديث بغض النظر عن أساسها الاقتصادي. ينبع هذا النوع من مُعالجة المسألة من السعي الطبيعي لاطفاء طابع تاريخي على التحقيب الأركيولوجي التقليدي المُريح. ولكن، من الواضح تماماً أن المُحتوى التاريخي للفترات التي يُطلَق عليها بشكلٍ تعسفي العصر الحجري الحديث، يختلف تماماً في الشرق الأدنى والحزام الشجري في أوروبا الشرقية. لا يوجد هناك مُبررات لتطبيق مُصطلح "ثورة العصر الحجري الحديث" على المُجتمعات التي استمرت في التطور من مُجتمعات قائمة على اقتصاد الجمع والصيد وصيد الأسماك. لا تؤدي أيٌ من التغيرات التي تحدث فيها بأي شكلٍ من الأشكال الى تحولاتٍ نوعية حادة في الاقتصاد ككل. يبدو لنا أنه يجب على "ثورة العصر الحجري الحديث"أن تُفهَم على أنها تعني التغيرات الأساسية في مجال الاقتصاد المُعبّر عنها في التحول الى حراثة التربة وتربية المواشي باعتبارها الطريقة الرئيسية لانتاج الغذاء سواءاً كانت مجموعة من الأشكال المُتعددة لهذه الأنماط الاقتصادية، أو أحدها. ان مُصطلح "ثورة العصر الحجري الحديث" هو الى حدٍ كبير مُصطلح اتفاقي، وحتى تشايلد يضعه دائماً بين شارتي اقتباس عند الحديث عن ثورة أو اقتصاد عصر حجري حديث . يُفضّل بعض المؤرخين الأجانب الحديث عن "ثورة انتاج الغذاء" ، كما طُرِحَ مُصطلح "الثورة الزراعية"، الذي يُضيّق طابع التغيرات الاقتصادية في مُجتمعات العالم القديم. برأينا، فان مُصطلح تشايلد القديم لا يزال هو الأكثر مُلائمةً، شريطة أن يكون مُحتوى المُصطلح مُحدد بوضوح. وليس من قبيل المُصادفة أنه حصلَ على أوسع انتشار في الأدبيات العلمية".
من مقالة (حول مُشكلة ثورة العصر الحجري الحديث في ضوء البيانات الأركيولوجية الجديدة)
من كتاب (مجموعة مقالات ماركسية سوفييتية-الجُزء الثالث، ترجمة مالك أبوعليا، منشور الكتروني، ص258-260
21- Marx and Engels, Soch., Vol. 13, p. 497
22- أصل العائلة والمُلكية الخاصة والدولة، فريدريك انجلز، دار التقدم، ص24
جـ- تترجم دار التقدّم مُصطلح المشاعية الجنسية، في كتاب (أصل العائلة والمُلكية الخاصة والدولة) بمُصطلح "العلاقات الجنسية غير المُنظّمة".
23- V. .I. Lenin, Soch 4th ed., Vol. 35, p. 93
24- V. I. Lenin, Poln. sobr. soch., Vol. 4, p. 36
25- Ibid Vol. 33, p. 10
26- دياليكتيك الطبيعة، فريدريك انجلز، ترجمة توفيق سلّوم، دار الفارابي 1988، ص163-165
27- 27) See I a Ia. Roginskii, “K voprosu o periodizatsii protsessa chelovecheskoi evoliutsii,” -Ant rop. zhurnal, 1936, No. 3 same author,Nekotorye problemy pozdneishego etapa evoliutsii cheloveka v sovremennoi antropologii, TIE, new series, Vol. 11, Moscow and Leningrad, 7 1947 same author, uOsnovnye antropologicheskie voprosy v probleme proiskhozhdeniia sovremennogo cheloveka,,” in Proiskhozhdenie cheloveka i rasselenie drevnego chelovechestva, -TIE, new series, Vol. XVI, Moscow, 1951 A. N. Iuzefovich, “Pereryvy nepreryvnosti v evoliutsii cheloveka,” Priroda, 1939, No. 11 G. F. Debets, “0 sistematike i nomenklature iskopaemykh form cheloveka,” Kratkie soobshcheniia IIMX, 1948, No. 23 G. F. Debets, “The Social Life of Early Paleolithic Man as Seen Through the Work of the Soviet Anthropologist,” in Social Life of Early Man, New York, 1961 V. P. Iakimov, Rannie stadii antropogeneza, TIE, new series, Vol. XVI, and many others.
28- P. P. Efimenko, “Znachenie zhenshchiny v orin’iakskuiu epokhu,” Izv. GAIMK, Vol. 11, 1931, NOS. 3-4.
29- P. I. Boriskovskii, “K voprosu o stadid’- nosti v razvitii verkhnego paleolita,” Izv. GAIMK, Vol. 14, 1932, No. 4.
30- See S. P. Tolstov, “K voprosu o periodizatsii istorii pervobytnogo obshchestva,” SE, 1946, No. 1 M. 0. Kosven, “0 periodizatsir pervobytnoi istorii,” SE, 1953, No. 3 same author, Ocherki istorrpervobytnoi kul’tury, Moscow, 1957 P. P. Efimenko, Pervobytnoe obshchestvo, Kiev, 1953 P. I. Boriskovskii, Drevneishee proshloe chelovechestva, Moscow and Leningrad, 1957 A. I. Pershits, “Razvitie form sobstvennosti v pervobytnom obshchestve kak osnova Deriodizatsii eg- o istorii.” in Problemy istarii pervobytnogo obshchestva, TIE, new series, Vol. LIV, Moscow and LeninFad, 1960, and others. On the evolution of the primitive human herd and its appearance prior to transformation into the gentile commune, see the detailed treatment in a monograph by the present author: Iu. I. Semenov, Vozniknovenie chelovecheskogo obshchestva, Krasnoiarsk, 1962. 31) See S. P. Tolstov, “Perezhitki toteinizma i dual’noi organizatsii u turkmen,” Problemy istorii dokapitalisticheskikh obshchestv, 193 5, Nos. 9-10 A. M. Zolotarev, Ocherk istorii rodovogo stroia, MS. in research archives of Institute of Ethnography of USSR Acad, Sci. M. 0. Kosven, “Avunkulat,” SE, 1948, No. 1 same author, Ocherki istoriipervobytnoi kul’tury, Moscow, 1957 Iu. I. Semenov, “K voprosu o prichine matrilineinosti pervonachal’ - nogo roda,” Uch. zap. Krasnoiarskogo gos. ped. 9 - in-ta Vol. 13, 1958, No, 2 same author, -Vozniknovenie chelovecheskogo obshchestva, Krasnoiarsk, 1962
32- See Iu. I. Semenov, opi. cit
33- أصل العائلة والمُلكية الخاصة والدولة، فريدريك انجلز، دار التقدم، ص53
34- نفس المصدر، ص52
35- See S. P. Tolstov, “Voennaia demokratiia i problema ‘geneticheskoi revoliutsii,’” -Problemy istorii dokapitalisticheskikh obshchestv, 1935, Nos. 7-8 same author, ‘K voprosu o periodizatsii istorii pervobytnogo obshchestva, ” SE, 1946, No. 1 M. 0. Kosven, “K voprosu o voennoi demokratii,” -TIE, new series, Vol, LIV, Moscow and Leningrad, 1960: A. I. Pershits, ‘Razvitie form sobstvennosti v pervobytnom obshchestve kak osnova periodizatsii ego istorii,” -ibid., and others.
36- L. H. Morgan, op. cit., pp. 87, 125, 144, 161
37- See bibliography on this question in cited work by M. O. Kosven, Matriarkhat. Istoriia problemy

ترجمة لمقالة:
Iu. I. Semenov (1965) The Doctrine of Morgan, Marxism and Contemporary Ethnography, Soviet Anthropology and Archeology, 4:2, 3-15








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اندلاع اشتباكات عنيفة بين الشرطة الإسرائيلية ومتظاهرين في تل


.. مراسلة الجزيرة: مواجهات وقعت بين الشرطة الإسرائيلية ومتظاهري




.. الاتحاد السوفييتي وتأسيس الدولة السعودية


.. غزة اليوم (26 إبريل 2024): 80% من مشافي غزة خارج الخدمة وتأج




.. اعتقال عشرات الطلاب المتظاهرين المطالبين بوقف حرب غزة في جام