الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


زكريا محمد..بالموت اكتمل

أسامة عرابي
(Osama Shehata Orabi Mahmoud)

2023 / 8 / 3
الادب والفن


زكريا محمد.. بالموت اكتمل

لماذا شغلتْكَ الأسئلة بعد أن قرأتَ نصَّ سعد الله ونوس "رحلة في مجاهل موت عابر"، ورحتَ تخاطب نفسك": هل ثمَّ علاقة ما بين النص والموت؟
هل ثَمَّ زواج سريٌّ ملعون بينهما؟
وكيف يمكن للنص أن ينفتح في الموت كما تتفتَّتح زهرة لوتس في المياه؟
كنتَ ترى أن "الإنسان لا يعود. الإنسان يذهب. يذهب فقط".حتى إن ضابط المخابرات الإسرائيلية قال لك بعد أن أنهى التحقيق معك:إلى أين ستذهب؟ قلتَ:إلى أمي.قال:لا أستطيع أن أضمن لك ذلك.
كنتَ تشعر طَوالَ الوقت بأنك سجين على الرغم من أن روحك طليقة تنطلق في كل اتجاه غير عابئة بأي حواجز وضعتها إسرائيل لتحدَّ من حرية حركتكم، غيرأنك كنتَ تُحسّ بالخجل في أعماقك لأن "بطاقتك بطاقة عائدين، أي بطاقة سلطة كما يُقال عنها؛ فقد كان هذا النمط جديدًا على الناس بعدُ.وكان لونها الأخضر قريبًا من لون بطاقة السجناء".وشعرتَ بالأسى لأنك لا تمتلك الشجاعة لتعترف بذلك:"خجلتُ أن أقول إنني لن أُضرب.لكنني في جانبٍ من نفسي، وددتُ لو أُضرب كما يُضرب سجينٌ خارجٌ لتوه من السجن.فقد شعرتُ أن بطاقتي الخضراء تفصلني عن الجميع وتعزلني عنهم.وكنتُ قد عدتُ كي لا أعزل أو أنفصل".لكن"منذ أن صار تشابه بطاقة العائد الخضراء من المنفى مثلي مع بطاقة السجين الذي خرج من المعتقل، رمزًا، وصاروا يُضربون على كل حاجز، فلون بطاقاتهم يعني: اضربوهم.ففي كل يوم نشعر أننا سجناء.وبدا لنا أن الأمل في حلٍّ ما، حلٍّ بحد أدنى من المهانة، ليس مطروحًا".

وعدتَ تؤكِّد لنا:"لقد فشلوا في وضعنا في قفص في أثناء غزو بيروت عام 1982، وها هم ينجحون الآن. نحن في قفص كبير"، وذلك بعد قيام سلطة أوسلو وتنسيقها الأمني مع عدونا الصهيوني.

وبِتَ تردِّد:"هأنذا أعود وأُجرح؛ تُجرح ذاكرتي، يُجرح ماضيَّ، يُجرح حاضري".

غير أنك الشاعر النابض بالحياة طَوالَ الوقت؛ لم يُغادرْكَ الإحساس بأنك كسبتَ شيئًا واحدًا لا شكَّ فيه"وقد كسبته فور عبوري الجسر؛ فقد أصبحت منذ لحظة دخولي، إنسانًا واحدًا، بسيطًا كما ولدتني، مرَّة، أمي.أنا الآن زكريا محمد لا غير.أنا حيوان وحيد الخلية، في المنفى لم أكن كذلك.في أحسن الأحوال كنتُ"زكريا محمد الفلسطيني"، وفي أسوئها كنتُ"الفلسطيني زكريا محمد".ثم يستدرك قائلًا:"لا، بل كان هناك ما هو أسوأ؛ ففي بعض اللحظات لم أكن أدري إن كنتُ فلسطينيًّا أم أردنيًّا؛ فأنا لحظة هذا، وفي الثانية ذاك، دون علمي، ودون أن يكون لي رأي".
وبذلك عاد زكريا محمد إلى نفسه وإلينا، صائحًا بفرح طفولي:"أنا الآن زكريا محمد فقط.. في المنفى كنتُ أضيع في هُويَّاتي، كانت الهُوية قبلي وفوقي، وكنتُ أنا تابعها، إن أصررتُ عليها حدثت مشكلة، وإن رميتُها حدثت أخرى."

لذا كان يُذكِّرنا دومًا بمصدر قوته إنسانًا وشاعرًا؛ كونه فلسطينيًّا يمتلك إرادة الحياة والمقاومة، وسرد علينا قصة زوجته التي عادت إلى الوطن بتصريح زيارة:"عادت ورأت، وأنا سألتُها عن أشياء كثيرة، وكان من بين الأشياء التي هزَّتني وصفها لشعورها وهي تركب الحافلة على الجسر، قالت:"كان الكل فلسطينيين.كانوا يتحدثون اللهجة الفلسطينية.وشعرت بهدوء وفرح لم أشعر بهما من قبل."

لكنه في الوطن المُزَنَّر بالموت من كل الجهات؛ نظام الفصل العنصري الاستيطاني من جهة، وسلطة الحكم الذاتي الإداري المنقوص بقمعها وتواطؤاتها المشبوهة من جهة أخرى، راحَ يحاور أبا العلاء المعري في بيته:
كم بالمدينة من غريب ٍ نازلٍ لا ضابئ منهم ولا قيار
وهو البيت الذي حاور فيه أبو العلاء ضابئ بن الحارث البرجمي في بيته:
فمن يكُ أمسى في المدينة رَحْلَهُ فإني وقيارًا بها لغريبُ

كنتَ تقول إن أبا العلاء لم يكن يُبصر ضابئًا ولا قيَّارًا، لكنك كنتَ تمضي معه معايشًا رحلته مع ثقل اليومي ورتابته:"كنتُ أطوِّر وحشتي.كنتُ أنا وجملي.كنا غريبيْن.كنتُ على فرشتي أمضي معه وأقرأ".

الأمر الذي دفعك دفعًا إلى أن"تُتمَّ روايتك الأولى خالقًا شياطينها المرعبة"، مؤكِّدًا:"كنتُ أكتب وأعيد، وأزيد ملامح شياطينها قسوة وضراوة.كانت الشياطين والكائنات الخرافية دوائي المُرَّ لقتل الخيبة والغربة.وكنتُ أداوي نفسي في روايتي."

وأخذت تناور وتداور الموت الذي دهمك بالمرض اللعين تارة، وبالمواضعات السياسية والاجتماعية الرديئة تارة أخرى، منقِّلًا الخطو بين القصيدة والرواية؛ لتُشدِّدَ على أن سعد الله ونوس لم يخنْه التوفيق حين وسمَ نصَّه بـ"رحلة في مجاهل موت عابر"،" فما معنى موت عابر لرجل يقول بكل وضوح:"من الظلام جئتُ، ومن الظلام أعود"؟ إذ إن كلمة"موت عابر"كانت تصلح لموت له ما بعده، كانت تصلح لرجل مثل أيوب؛ حيث يكون الموت فاصلة بين حياتيْن، والثانية أوسع من الأولى".
لكنك أدركتَ لاحقًا أن سعد الله ونوس"كان يقصد عنوانه، ولم يكن مخطئًا"، بل"خوَّضَ في مجاهل الموت، وأنه موت عابر، انتصر عليه سعد الله في جبهتيْن: جبهة النصّ وجبهة العقل.أما النصّ فقد خرج صُلبًا حيًّا قويًّا سوف يعيش أكثر مما عاش وسيعيش سعد الله بكثير.أما الانتصار على جبهة العقل فتجلى في رفض سعد الله أن يسير في الطريق الذي سار فيه أيوب رحمة بنصِّه "نصِّنا"وعقله "عقلِنا."

وأنتَ يا صديقي وتوأم روحي زكريا محمد ستعيش أكثر مما عشنا بنصوصك الحيَّة.الباقية الشاهدة على محاولاتك الجسور لإعادة بناء صورة العالم على نحوٍ غير مألوف.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مش هتصدق كمية الأفلام اللي عملتها لبلبة.. مش كلام على النت ص


.. مكنتش عايزة أمثل الفيلم ده.. اعرف من لبلبة




.. صُناع الفيلم الفلسطيني «شكرًا لأنك تحلم معانا» يكشفون كواليس


.. ليلى عباس مخرجة الفيلم الفلسطيني في مهرجان الجونة: صورنا قبل




.. بـ«حلق» يرمز للمقاومة.. متضامنون مع القضية الفلسطينية في مهر