الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فرنسا: التكنولوجيا في خدمة الإيديولوجيا- أية ديمقراطية؟

الطاهر المعز

2023 / 8 / 3
مواضيع وابحاث سياسية


هل تتوافق تقنيات المراقبة الجماعية مع الديمقراطية؟
كان الحجْر الصحي لسنة 2020 (كوفيد -19) فرصة لاختبار أساليب التّجسّس والمراقبة الجماعية للسكان، فتم استغلال الفرصة لاستخدام المراقبة الذكية بالفيديو وتعميمها لقياس معدل ارتداء القناع في وسائل النقل العام في فرنسا وفي العديد من البلدان المُعْتَبَرَة "ديمقراطية"، كما شكّلت التّظاهرات الثقافية أو الرياضية فرصًا لإتقان وتحسين طُرُق التجسس على السكان، وجعلت الحكومة الفرنسية من دورة الألعاب الأولمبية في باريس 2024 فرصةً لتعميم استخدام تقنيات المراقبة والأمن الذي يقتصر على القَمْع، وأعدّت منذ سنة 2020، سنة وباء كوفيد، قانون ما يسمى بـ "الأمن الشامل" ، الذي أَقَرّه البرلمان ونُشِرَ بالجريدة الرسمية بتاريخ 16 آذار/مارس 2021، ينص على خوارزمية المراقبة بالفيديو للأحداث "الرياضية أو الترفيهية أو الثقافية" وغرامة قدرها 7500 يورو ضد أي شخص يبقى أو يتظاهر على منطقة المنافسة الرياضية أو أي شخص يتصرف "بشكل غير طبيعي"، يسير بعكس اتجاه الجمهور مثلاً، أو يبقى ثابتاً في نفس المكان لفترة طويلة؟
ينتهك هذا القانون الحريات العامة والفردية، بحسب منظمات الدفاع عن الحريات وحقوق الإنسان، وهو يُضْفِي الشرعية على ممارسات كانت سائدة، مثل المَسْح الشامل لوجوه المجموعات والأفراد، وتصوير أصغر ركن في الفضاء العام بطائرات بدون طيار واستباق أي حادث من خلال تحليل سلوك الحشد، وما هذه الأمثلة سوى نماذج لتقنيات الأمن المستخدمة بالفعل في أحياء شعبية أو مدن معينة، منها باريس، قبل أن يتم تعميم هذه الأساليب واستخدامها على نطاق واسع – بشكل يُجيزُهُ القانون هذه المَرّة - خلال دورة الألعاب الأولمبية في باريس سنة 2024. يحظر قانون الأمن الشامل (آذار/مارس 2021) على المواطنين تصوير مخالفات الشركة للقوانين، ويحظر تصوير عُنْف الشرطة وبث الصور للتنديد بعنف الشرطة، ويحتوي القانون على مجموعة من الإجراءات التي تهدف إلى تعزيز استخدام الجيل الجديد من المراقبة بالفيديو من قبل الشرطة، ويُسَهِّلُ استخدام الكاميرات على متن سيارات الشرطة وعلى متن الطائرات الآلية التي تم استخدامها بالفعل – قَبْلَ إقْرار القانون - أثناء المظاهرات، ولِفَرْض الامتثال للتدابير الصحية في منطقة باريس أثناء وباء الفيروس التاجي. Covid-19، ويُشَرِّعُ القانونُ وصولَ الشرطةِ إلى صور كاميرات المراقبة بالفيديو المثبتة في الأماكن الخاصة، مثل المحلات التجارية أو جدران ومداخل المباني السّكنية والإدارية، لتصبح الصور عيونًا إضافية للشرطة التي لديها برنامج لتحليل حركات الجماهير وسلوك المجموعة عن طريق الفيديو، كما يشرّع القانون ممارسات الشرطة ( أي الحكومة) التي نشرت بالفعل طائرات استطلاع بدون طيار خارج أي إطار قانوني لمراقبة المتظاهرين.
تُبَرِّرُ الحكومة ومجلس بلدية باريس استخدام هذه التقنيات باسم رَفْع التحدي المتمثل في مراقبة أكثر من 15 مليون زائر متوقع وضمان سلامة 17 أَلْف رياضي، لأن هذه الألعاب الأولمبية ستكون أكبر حدث يتم تنظيمه في فرنسا، "ما قَدْ يُغْرِي والذي الإرهابيين أو الأعداء المحتملين – وما أكْثَرَهُم - لإفساد هذا الحدث الاستثنائي"، وفق أحد أعضاء الحكومة التي حَوّلت هذا الحدث الرياضي إلى فرصة أُخْرى لمنح إعانات ( من المال العام) للشركات الخاصة لمساعدتها على تنفيذ "الابتكارات التكنولوجية لتحسين سلامة الرياضيين والزوار والمواطنين ولتطوير نظام تحديد مبتكر منخفض التكلفة " بحسب إذاعة France-Inter العامة (استطلاع بُث في أيلول/سبتمبر 2020)، وسيتم التسجيل المسبق لوجوه جميع الرياضيين والمنظمين الرسميين والصحفيين والموظفين والمتطوعين الذين يدخلون الملاعب الأولمبية، وسوف يتسلمون بعد ذلك شارة يتم مسحها ضوئيًا في كل نقطة وصول إلى المرافق الرياضية، ليتم يتم فحص التشابه أو الإختلاف بين وجههم والصورة المسجلة، كما سيتم تصوير حميع المتفرجين وسيتم تحليل الصور بواسطة برمجيات تقنية تمكن من تسجيل ملايين الوجوه في قاعدة بيانات، لمراقبة الجمهور الرياضي في البداية. لكن بعد ذلك، لن يتم الإستغناء عن هذه "الإبتكارات"، بل سوف يتم توسيع استخدامها لتسجيل بيانات كافة المُقيمين في البلاد ومراقبتهم في كل حين وفي كل مكان...
قدرت الميزانية الأمنية للألعاب الأولمبية بـ 300 مليون يورو سنة 2020 وارتفعت الميزانية الأمنية المُتوقعة إلى أكثر من مليار يورو سنة 2023، منها خمسين مليون يورو لتثبيت كامرات إضافية بباريس. تُشكل مناسبة الألعاب الأولمبية فرصة لشركات الأمن لاستغلال هذا المجال المُرْبِح، بدعم علني من قبل معظم نواب البرلمان وأعضاء الحكومة وطُباط الأمن، فضلاً عن التّحالف القائم بين الرأسماليين الصناعيين والحكومة ( التي تمثل مصالحهم ضد مصالح العاملين والفقراء) ومسؤولين سياسيين منتخبين من اتجاهات سياسية مختلفة، واتفق جميعهم على رفض زيادة الميزانيات الاجتماعية، وحَوّلوا وجهة المال العام لإنفاقه بسخاء في خدمة الشركات الأمنية الخاصة، دون تقييم فعالية التقنيات التي تصنعها أو تُسوقها، فقد تم اختبار جهاز التعرف على الوجه في ظروف حقيقية في مهرجان ( Notting Hill Carnival )، وقد أرسل الجهاز حوالي أربعين تنبيهًا، اتضح أن جميعها خاطئة.
تعد الألعاب الأولمبية معرضًا إعلانيًا رئيسيًا للشركات الفرنسية للحصول على حصة في سوق الأمن الدولي، وفقًا لمجلة Sécurité et Défense Magazine (تشرين الثاني/نوفمبر 2020) التي تتوقع أن تكون الألعاب الأولمبية مناسبة لاختبار واسع النطاق لتقنيات المراقبة الجديدة في الحياة اليومية للمواطنين، في الميادين الرياضية ثم في الأماكن العامة، ويعد التعرف على الوجه في الحين في الأماكن العامة بمثابة فحص دائم وشامل لهوية جميع المواطنين، دون علمهم، وهو ما لا يتوافق مع "القيم الديمقراطية"، فقد بدأ استخدام تقنية التعرف على الوجه خلال المظاهرات للتعرف على بعض المناضلين واعتقالهم وقائياً لمنعهم من التظاهر، واكتملت حقبة المراقبة غير القانونية باستخدام الطائرات بدون طيار - التي لديها القدرة على التسلل بحذر - لتفتح أيضًا حقبة جديدة، إذْ لا يمكن رؤيتها، ولذلك فهي تُمَكّن الدّولة وأجهزتها، كما تُمكّن الشركات الخاصة، من المراقبة الدائمة وغير المرئية، وتُشكل فصول قانون آذار/مارس 2021، بخصوص الأحكام المتعلقة بالطائرات بدون طيار والوصول الموسع إلى الصور من الكاميرات المتعددة المثبتة في كل مكان، "هجومًا غير متناسب على الحق في الخصوصية" وفق منظمة العفو الدّولية، فعندما تصبح تقنيات المراقبة معقدة ومؤتمتة، يصعب التحقق من استخدام البيانات التي تم جمعها، مثل الوجوه التي تم تصويرها وتحليلها بواسطة الخوارزميات، كما يُمثل ذلك تحديًا للشفافية وشكوكًا بشأن التحكم في هذه التقنيات، وسبق أن استخدمت الشركات التي نشرت كاميرات للتحقق من ارتداء القناع هذه الصور لجمع البيانات البيومترية، دون أي رقابة خارجية أو شفافية، وخالفت وزارة الدّاخلية الفرنسية قوانين البلاد عندما استخدمت الطائرات الآلية (بدون طيار ) لمراقبة المتظاهرين في باريس، قبل إقرار القانون، لذلك فإن الجدل الحقيقي يدور بين تعارض مصالح أغلبية السكان مع مصالح القائمين على أجهزة الدولة التي وجدت في الألعاب الأولمبية فرصة لمراقبة الجميع في كل مكان وطوال الوقت وفرصة لنشر تقنيات المراقبة على نطاق واسع في فرنسا، فقانون الأمن الشامل (2021) هو إطار قانوني يسمح بتحقيق السيطرة الدائمة على جميع السكان، دون أي تساؤل أو استشارة عن توافق أو عدم توافق هذه التقنيات مع الديمقراطية ... يعزز هذا القانون أيضًا المليشيات الخاصة التي تُديرها شركات الأمن التي تُشغّل نحو 170 ألف شخص، سنة 2020، ويسمح قانون "الأمن الشالمل" لعناصر شركات الأمن الخاصة بحمل السلاح، وتتمثل الوظيفة الرسمية لهذه "الشرطة" الخاصة في تنفيذ مهام المراقبة البسيطة، دون التحقيق في الجُنَح والجرائم، الذي يبقى من اختصاص الشرطة الحكومية، لكن عناصر شركات الأمن يحملون الأسلحة ولهم مركبات ووسائل نقل وأجهزة مراقبة، ما يُمكّنهم من حيازة بيانات هامة عن المواطنين، وتُشكل الألعاب الأولمبية مناسبة لتعزيز دَوْر هذه المليشيات، والحصول على حصة من مئات الملايين من اليورو التي تم إقرارها للإنفاق على المراقبة الجماعية والكاميرات والطائرات بدون طيار والشرطة لمراقبة باريس وضواحيها، وهي إجراءات استثنائية سوف تستمر، بل سوف يتم تعزيزها، لفترة طويلة بعد انتهاء المنافسات الرياضية...
ينتشر عشرات الآلاف من رجال الشرطة والدرك ورجال الأمن الخاص في شوارع باريس (وبعض المدن الكبرى) ومحطات القطار ومحطات المترو، منذ تفجيرات 1995، وارتفع عدد الطائرات الآلية في السماء وعدد كاميرات المراقبة على واجهات المباني العامة أو الخاصة، والتقاط عشرات الآلاف من الصور، على مدار السّاعة، يتم تحليلها مباشرة بواسطة الذكاء الاصطناعي "للكشف عن أي سلوك مشبوه"، وادّعت الحكومة (كما غيرها من الحكومات في فرنسا وغيرها) إن هذه الإجراءات استثنائية، لكن توسيع مدى نظام المراقبة أمر مقلق، وخطير على أمن الناس، وقد علمتنا التجارب أن الإجراءات الاستثنائية تُصبح دائمة إذا لم تتم مُعارضتها باستمرار.
تخطط الحكومة الفرنسية لاجتياح الفضاء العام بآلاف من رجال الشرطة والدرك وتركيب 900 كاميرا جديدة في باريس وإنشاء مراكز شرطة جديدة ومركز مراقبة بالفيديو جديد (في واحدة من أفقر المقاطعات في فرنسا) يمكنه تسجيل ما يصل إلى 500 جريمة في اليوم، وسيتم حشد 30 ألف من رجال الشرطة والدرك يوميًا، بدعم من 15 ألف من عناصر الأمن الخاص ومضاعفة عدد الدوريات في وسائل النقل العام، "لضمان أمن هذه الدورة الثالثة والثلاثين من الألعاب الأولمبية"، وفق موقع وزارة الدّاخلية الفرنسية، وبذلك سوف تكون الألعاب الأولمبية فُرْصة لِعَسْكَرَةِ الفضاء العام، كما حدث في لندن عام 2012، حيث قامت الحكومة بتركيب بطاريات صواريخ على أسطح المباني...
أقر مجلس النواب الفرنسي قانونًا حديدًا - نُشر في الجريدة الرسمية بتاريخ 20 أيار/مايو 2023 - ينص على خوارزمية المراقبة بالفيديو للأحداث "الرياضية أو الترفيهية أو الثقافية" ويُقر غرامة قدرها 7500 يورو ضد أي شخص يبقى أو يتظاهر على منطقة المنافسة الرياضية أو أي شخص "يعتبر تصرفه غير طبيعي" ويبقى تقدير عبارة "غير الطبيعي" من صلاحيات الشرطة أو المليشيات الخاصة أو الخوارزميات. فيما اعتبرت منظمة العفو الدولية أن تقنية التحكم هذه تشكل انتهاكًا للحقوق الأساسية: انتهاك الخصوصية "حيث سيتم تحليل البيانات السلوكية والجسدية بواسطة خوارزميات" وانتهاكًا لحرية التعبير وحرية التجمع السلمي، وقد يكون لهذه المراقبة المستمرة تأثير رادع للغاية على ممارسة الحقوق الأساسية، لأننا لا نتصرف بنفس الطريقة عندما نعلم أو نعتقد أننا مراقبين. إن هذه المراقبة تمنع المواطنين من الانضمام إلى تجمع أو التحدث علانية وبحرية، وأثبتت التجربة أن المراقبة الآلية لم تثبت أبدًا فعاليتها ضد الجريمة والإرهاب، بينما تم إثبات عواقبها السلبيةعلى الحريات الأساسية، وثبت استخدام هذه التقنيات دائمًا ضد نفس الأشخاص، كالمناضلين النقابيين والسياسيين المناهضين للنظام الرأسمالي وساكني الأحياء الشعبية والمهاجرين، ولا يُؤدّي نَشْر المزيد من الطائرات بدون طيار والكاميرات الخوارزمية والمراقبة سوى المزيد من القوة القسرية للدولة، وبناءً على التجربة فإن النظام الأمني المطبق خلال الألعاب الأولمبية سوف يستمر ولن يتم تفكيكه بعد انتهاء الألعاب الأولمبية، فقد ظلت القوانين التي تم وضعها لحماية الألعاب الأولمبية سارية المفعول بعد نهايتها، وفقًا للرياضي والأكاديمي السابق جول بويكوف، مؤلف كتاب" ألعاب القوى: تاريخ سياسي للأولمبياد "(Verso Editions ، 2016 ، غير مترجم).
في أستراليا ، تم وضع تشريع لتأمين ألعاب سيدني الصيفية لسنة 2000 منها تحديد الحريات المدنية، لا سيما من خلال منح الشرطة الحق في البحث أو إجلاء الأفراد الذين يعتبرون مصدر إزعاج من أماكن معينة، وبقيت تلك القوانين سارية بعد سنة 2000، وساهمت دورة ألعاب لندن سنة 2012 في توسيع المراقبة بالفيديو في الشوارع، وتمت الموافقة على استخدام برنامج التعرف على الوجه في روسيا بمناسبة كأس العالم لكرة القدم سنة 2018، وبعد خمس سنوات، لا يزال البرنامج يُستخدم للتعرف على المعارضين واعتقالهم في المنزل، وفقًا لمنظمة العفو الدولية، ولا يزال قانون "مكافحة المؤامرة" الذي تم تبنيه في اليابان بمناسبة أولمبياد طوكيو سنة 2020 والذي انتقدته منظمات حقوق الإنسان وحتى من قبل الأمم المتحدة، بسبب سلطات المراقبة الواسعة التي منحتها للدولة، ساري المفعول، ويُشكل تعميم وتطوير أنظمة المراقبة بالفيديو الخوارزمية استثمارًا ماليًا كبيرًا وسوقًا ضَخْمًا للشركات التي تستغل هذه الفرصة لزيادة أرباحها، لكن تعميم المراقبة في كل مكان وفي كل حين يشكل خطرًا على الحريات الأساسية، ولذا يجب تكثيف الكفاح ضد النظام الأمني الذي يستخدم خوارزمية المراقبة المُعَمَّمَة بالفيديو والطائرات الآلية وتشكل خطورة كبيرة على حقوق الإنسان.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. القمة العربية تدعو لنشر قوات دولية في -الأراضي الفلسطينية ال


.. محكمة العدل الدولية تستمع لدفوع من جنوب إفريقيا ضد إسرائيل




.. مراسل الجزيرة: غارات إسرائيلية مستمرة تستهدف مناطق عدة في قط


.. ما رؤية الولايات المتحدة الأمريكية لوقف إطلاق النار في قطاع




.. الجيش الاسرائيلي يعلن عن مقتل ضابط برتبة رائد احتياط في غلاف