الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شرق المتوسط وحضارات مابعد الانهار؟*/(1/2)

عبدالامير الركابي

2023 / 8 / 3
مواضيع وابحاث سياسية


تنتقل منطقة الشرق المتوسطي اليوم، نحو "البدئية الثانيه"، وكانت هذه المنطقة قد عرفت التبلورات الاولى للظاهرة المجتمعية على المستوى الكوكبي، وفيها ارسيت قواعد النظر والاعقال البشري للوجود والكون، ومنها انطلق الرؤية السماوية اللاارضوية للوجود لتخترق البنى المجتمعية الاحادية التكوين، وتجعلها من يومه ازدواجية، بما ان هذه خاصية اساسيه في الوجود المجتمعي وكينونة المجتمعات، والركيزه التي اليها تعود التفاعلية الرئيسية في هذه المنطقة هي بلا شك، الجانب النهري ممثل بالانهار الثلاثة: نهري "جلة والفرات" في ارض الرافدين، و" النيل في"ارض النيل "المصرية، وهي العامل البيئي الرئيسي الذي طبع هذه المنطقة، وكان في اساس تشكلها، وتعيين طابعها ووظائفها الخاصة الذاتيه والكونية.
وما قد تقدم يخص بالذات الطور"اليدوي" المجتمعي من الانتاجية التي ارسيت عليها المجتمعات الجسدية الحاجاتيه، بما هي كما تعرف ( اجتماع + انتاج الغذاء)، مادامت الديمومة الحياتيه هي العنصر المحرك الرئيسي، قبل المجتمعات، ابان طور الصيد واللقاط، وقبله ذهابا الى الاطوار الحيوانية الابعد، باعتبار الوحدة البيئية الطبيعية البشرية، ومن قبلها الحيوانيه مع اختلالف الانعكاسات، وهو طور ليس مقروءا على حقيقته، او مع فض كافة منطوياته، وماينم عنه من حقائق اساسية، يبقى الجانب الاساسي من التعرف على الحقيقة المجتمعية غير ممكن من دونها، ونقصد مايعود لظاهرة اساسية تكوينيه وتصيّرية لزومية، تخص علاقة العقل بالظاهرة المجتمعية، ومدى قدرته على ادراكها والاحاطة بها ابتداء وحتى الساعة، حيث المتاح للعقل من قدرة على الادراك، يكون دون الحاجة والمطلوب ابتداء.
واهم مايسقط من الحساب بناء للنقيصه المنوه عنها، وهي بلا شك اهم ماقد ارسته هذه المنطقة ورسمت معالمه، هي الحقيقة الازدواجية التي اختصت بها ارض مابين النهرين، والتي هي نتاج الاختلاف الكلي بنيويا، وعلى مستوى الاشتراطات البيئية بينها وببين تلك النهرية الاحادية النيليه، فمصر هي موقع المبتدا الكيانوي "الوطني"، حيث المجتمعية متشكلة في "دولة" قائمه ضمن حدود مرسومه معزولة، وهو ماقد ولدته علاقة المجتمعية بالبيئية، ونمط ايقاعيتها التوافقية مع اليد المنتجة. فالنيل اداة ومصدر انتاجية لااختلاف ولاتصادم بينها وبين المنتجين في ارضها، والنيل يفيض بحسب الدورة الزراعيه، وبالتوافق معها بعكس الحال في ارض مابين النهرين المخالفة كليا على المستوى البنيوي للحال المصري، فدجلة والفرات نهرات عاتيان مدمران اهوجان، يخالفان فيضانا الدورة الزراعية، وهما في حال هياج غادر، والمناخ بالعموم متقلب قاس، والحدود شرقا وغربا وشمالا مفتوحة لانصبابات الاقوام والسلالات من الصحاري والجبال الجرداء الى ارض الخصب، مايحول الوجود، والعملية الانتاجية الى معركة مستمرة دائمه، تستدعى اعلى صنوف اليقظه بمواجهة الحدود وسيولها من البشر الطامحين دائما، وسيول النهرين المتدفقة المدمرة التي لايمكن احتواؤها.
كحصيلة ينتجها هذا الاختلاف التاسيسي، ترسم هنا ملامح الكينونه المجتمعية الشائعة والعامة المنتشر على انها "الكيانيه الوطنية"، تلك الافرادية المعتبرة قاعدة واساس ونمط وحيد لاغيره(1) بغض النظر عن اختلاف الديناميات كما الحال مع الكيانوية الاوربية المنشطرة طبقيا، ومن ثم الاعلى ديناميات ضمن صنفها، بمقابل تدني الديناميات المصرية النهرية واقتصارها على الدورة الواحدة التكرارية الاجترارية التاريخيه على مستوى التشكل المجتمعي، هذا مع الصنف غير الملاحظ المهمل، صنف احادية اللادولة الجزيري الاحترابي الشديد الفعالية عند الضرورة، والمرتكز لاقتصاد الغزو، عدا الصنفية الرابعة الشامية، حيث اللاتبلور الكياني، وهو مايعم ويشمل الكرة الارضية ومجتمعاتها، وعموم انماطها المعروفة ابان الطور التاريخي الاطول اليدوي.
وليست القصورة الادراكية لهذه الجهه ظاهرة عادية، او يمكن المرور عليها كما هو حاصل على مر القرون السالفة، ماكان قد اورث اسوأ ظاهرة تدن للوعي تخص الذاتيه والتعرف عليها، مع اطراح الملامح الاساسية، وحقيقة المنجز التاريخي ونوعه، والاليات التي تقف وراءه، فالقصور دون التعرف على المجتمعية "اللاارضوية" المعاكسة كينونة لتلك الارضوية الكيانوية، والتي تقوم فيها العملية الانتاجو /مجتمعية كنزوع ذاهب خارج الارض، محكوم بمغادرتها، بما يحول اجمالي العملية المجتمعية، ويحكم طابعها الرئيس بالسماوية كتعبيرية، كما كنوع تنظيم، وهو مايجعل المجتمعية ابتداء واصلا، ليست ارضوية حصرية كما يظل شائعا بل ازدواجية "سماوية" غرضا ومالا، وان ظلت الغلبة ل"ارضوية" ابتداء وما دامت الانتاجية اليدوية، والوحدة البشرية البيئية قائمه.
وبالاتفاق فان هذا الجانب من النكوص يذهب لتغييب جوانب اساسية اخرى، منها واهمها الازدواج المجتمعي وعلاقته بالاليات المجتمعية، فاللاارضوية مجتمعية مابين النهرين السومرية، لاتكتمل تشكلا الا بهبوط المجتمعية العليا الارضوية من "عراق الجزيرة "، المقابل ل "عراق السواد"، تحت طائلة الرغبة بالسيطرة والالحاق المستحيلان، ومايورثه وينتج عنه بالتجربة والاختبار، بما يجعل الدول والسلطات العليا، تذهب الى اقامه "المدينه الامبراطورية" المعزوله داخل اشد الاسوار مناعة كما حال بابل وبغداد كنموذج، تمارس حلب الريع ان تستى لها، بالغزو الداخلي المكلف للغاية، لاحترابيه ونوع مجتمعية اللاارضوية، وشكل تنظيمها بصفتها كيانيه اخرى حريتها تساوي وجودها، هذا غير ميلها الى الانكفاء لاستحالة بسط السلطة جنوبا الى الخلف، بحثا عما يؤمن استمراها امبراطوريا، الامر الذي يحكم هذا الصنف المجتمعي الى اللاتحققية "الكيانوية الوطنيه"، لنتعرف بدلا عنها الى التعبيرية الكيانية اللاكيانيه، الكونية الامبراطورية ابتداء، ومنذ النشاة الاولى على يد سرجون الاكدي اول امبراطور في التاريخ البشري، عدا الكونية اللاارضوية السماوية المقابله.
هذا ويغيب عن الاعتبار والادراك مع ماتقدم، جانب اساس اخر هو قانون "الدورات" و " الانقطاعات الحاكم لهذا الصنف المجتمعي الازدواجي الاصطراعي، ونوع دينامياته المختلفه عن تلك الموقوفه على الدورة الواحدة المصرية، او الدورتين الناظمتين للكيانيه الاوربية المحكومه للازدواج "الطبقي"،مقابل الدورات السومرية البابلية الابراهيمه الاولى، والعباسية القرمطية الانتظارية الثانيه، والثالثة النطقية الراهنه، المستمرة من القرن السادس عشر، مع الانقطاعين اللذين تخللاهم.
ليس تاريخ هذا الجزء من الكوكب الارضي "احادي" كما يجري التركيز على عموم التعبيرية المجتمعية، بطرد المجتمعية الاخرى اللاارضوية لخانه "الدين" جهلا بها، وبمصدرها المجتمعي ونوعه، فالشرق المتوسطي هو مجال الازدواج المجتمعي، وتعبيريته الاحادية من ناحية بصيغتها الكلاسيكية النيلية، واللاارضوية الابراهيمه بصيغتها الاولى النبوية الالهاميه، ومايذكر هو تعبير عن البنية والكينونة البيئية الانتاجية، ونوعها كمبتدا ومنطلق مجتمعي، ومحطة سائرة تصيّرا الى مابعدها؟؟؟
فاذا عبرنا الطور اليدوي من التاريخ المجتمعي الى الالي، فان المجتمعات عموما تكون قد بلغت وقتها لحظة انقلابيه حاسمه، كان من البديهي ان تلقي باثرها على موضع التاسيس المجتمعي بحسب البنية الاصلية، وبناء لحدود الادراكية المتاحة المتوفرة، فالكيانيه النيلية كانت مهياة بناء عليه، للالتحاق التوهمي بالمنقلب الاوربي كما صورته اوربا، وكان ماحصل مع الاله، هو انتقال من اليدوية الى الالية المصنعية، وبمصر التحق ساحل الشام، في حين عرفت الجزيرة العربية وارض مابين النهرين متغيرا اساسيا، برز من خارج البنية والتوازن المجتمعي، تمثل في "الريع النفطي" كاثر فعال تكويني، ناتج عن حضور الغرب وحداثته. وتختلف بالطبع ردة فعل وطريقة تفاعل ارض مابين النهرين، على المتغير المشار اليه، بحكم الاختلاف البنيوي والطور التاريخي، فارض الازدواج يظل لها اشتراك اخر على مستوى الفعالية البنيوية، وممكناتها ضمن الانقلابيه الاليه الابتدائية الاوربية وهي الاهم ، تلك هي خاصية غياب الانهار، وحلول زمن عراق مابعد النهرين، ومصر مابعد النيل.
ومع كل ماكا ن عرف من اشكال التفاعلية مع الحدث الانقلابي الالي الاوربي الحديث، فان ماقد مر على هذا الصعيد لم يتعد نطاق التوهمية الاتباعية المتماهية مع الظاهرة الغربية، بغض النظر حتى عن انطباق اشكالها التعبيرية المعروفة الى الوقت الحاضر، عما هي منطوية عليه، ومهياة لان تبلغه، ذلك في الوقت الذي استمرت فيه المرتكزات التكوينه الاساسية التاريخيه، خارج البحث، وبعيدة عن الاعتبار، بالذات مع ماتقتضية وتتطلبة من اعادة قراءة بديهية، مع افتراض التغير الحاسم في وسيلة الانتاج، فلم ينظر في هذه، وفي احتمالية تاقلمها بناء لطبيعتها مع الحدث التاريخي الفاصل ومقتضياته، الامر الذي يمكن وضعه في خانه اشتراطات الطور الحداثي الاوربي الاول، الابتدائي الحالي الانتقالي، وانعكاساته التوهمية عاليما. بانتظار مرور مايلزم من متغيرات ناتجه عن الانقلاب المشار اليه ومايقتضية من عملية ادراك لاحقة، ماكانت ممكنه لا في اوربا ولا خارجها، في لحظة او بعيد انبجاس الالة، وما واكبها من وعي طفولي آني ساذج، مستحيل تصور تحققه كما ينبغي قبل المرور بما يلزم من اختبار وتجربة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
• سنتوقف مؤقتا عن نشر سلسلة "العميل الصدامي الوحيد والمخابرات الامريكيه" اضطرارا متلازما، هذه المرة مع استحالة توضيح بعض الجوانب الرئيسية الواجبة، الجاي التوقف عندها هنا والتي هي بالاحرى لازمه متصله عضويا بالسلسلة المقصودة.
(1) يعتبر المصريون النوع المجتمعي الكيانوي، هو اعلى اشكال التجلي المجتمعي كما يذهب الجغرافي المصري الكبير "جمال حمدان"، على شاكله ما يعتقدة المصريون عموما عن نموذجهم المجتمعي، مع مايكرسه لهذه الجهه الاوربيون بالذات فيما يعرف العصر الحديث، لاستمرار انتفاء القدرة الشاملة البشرية، عن اكتشاف النمطية الاخرى الازدواجية اللاارضوية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نتنياهو بين إرضاء حلفائه في الحكومة وقبول -صفقة الهدنة-؟| ال


.. فورين أفارز: لهذه الأسباب، على إسرائيل إعلان وقف إطلاق النار




.. حزب الله يرفض المبادرة الفرنسية و-فصل المسارات- بين غزة ولبن


.. السعودية.. المدينة المنورة تشهد أمطارا غير مسبوقة




.. وزير الخارجية الفرنسي في القاهرة، مقاربة مشتركة حول غزة