الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية للفتيان البديل طلال حسن

طلال حسن عبد الرحمن

2023 / 8 / 4
الادب والفن


رواية للفتيان







البديل






طلال حسن






شخصيات الرواية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ بونو الفتى

2 ـ شاروسو العم

3 ـ الكاهن

4 ـ بالي الحطاب

5 ـ كيبري ابنة الحطاب

6 ـ ايلاسو الخادم








" 1 "
ــــــــــــــــــــ

قبيل منتصف الليل ، قفل بونو عائداً إلى البيت ، يتلمس طريقه متعثراً في الظلام ، وكله أمل أن لا يرى عمه شاروسو قد انتبه إلى غيابه .
وطوال الطريق ، كان يغني عن القمر ، وجماله ، وسطوعه في السماء ، المزينة بالنجوم ، رغم أن القمر والنجوم ، كانت تغطيهما الغيوم القاتمة .
وكلما تراءت له قمره كيبري ، رفع صوته أكثر بالغناء ، ولم يسكت أو يخفض من غنائه ، حتى عندما جاءه من أحد البيوت ، صوت رجل عجوز يصيح به : كفى نهيقاً ، دعنا ننم .
وحين وصل البيت ، دفع الباب بهدوء ، حتى لا يستيقظ عمه شاروسو ، ويخضعه لاستجواب ينتهي عادة ، بكلمات منتقاة لا يحبذ سماعها قبل النوم .
وعلى العكس مما تمنى ، فوجىء بعمه شاروسو ، يقف بملابس النوم وسط الفناء ، والخادم العجوز ايلاسو يقف وراءه ، فتوقف متردداً ، وقال : طاب مساؤك ، يا عمي شاروسو .
فردّ العمّ منفعلاً : بل قل طاب صباحك .
وتجاهل بونو ردّ العم شاروسو ، وقال : الجو بارد جداً ، يا عمي ، وأخشى أن تمرض ، كان من الأفضل ، أن تبقى في فراشك الدافىء ، و ..
وقاطعه عمه شاروسو قائلاً : لكي تنطلق بحريتك كالبغل ، في هذا الليل البهيم ..
وقال الفتى : عمي ..
لكن العم شاروسو صاح : أعرف أين كنت .
وقال بونو : عمي ، لا تصدق خادمك الخرف ايلاسو ، إنه ..
وفتح العم العجوز فاه ، وقبل أن ينطق بكلمة ، قال الخادم العجوز ايلاسو : أنا لم أفتح فمي ، فما شأني إذا كنت مع ابنة الحطاب أو لم تكن .
وشهق العم شاروسو قائلاً : هييي ، ابنة الحطاب !
واقترب بونو من عمه العجوز ، وقال : عمي ، لا تصدقه ، لم أكن معها في هذا الليل البهيم ، بل كنت مع الحطاب ، نحن بحاجة إلى حطب .
وهزّ العم العجوز رأسه ، وقال : ابن أخي ، الذي ربيته وهو رضيع ، بعد أن أخذت الآلهة أمه وأباه ، يحب ابنة الحطاب .
ومال الفتى عليه ، وقال : عمي ، لقد حدثتك عنها ، أخطبها لي ، قبل أن يأتي أحمق عجوز غني ، فيخطفها مني ، إنها .. إنها قمر .
فقال العم شاروسو : أنت أعمى كأبيك الراحل ، وإلا ما تزوج تلك ..
وصمت لحظة ، ثم قال : اذهب ونم ، وغداً سأذهب إلى أبيها الحطاب اللعين .
وقال بونو بنبرة توسل : أخطبها لي ، وستأخذك الآلهة إلى دلمون .
وصاح العم شاروسو متطيراً : أيها اللعين ، مازلتُ صغيراً ، لا أريد أن أذهب منذ الآن إلى دلمون ، اذهب إلى فراشك ، ونم .
وأسرع الفتى إلى غرفته ، وهو يقول : تصبح على خير ، يا عمي .
والتفت العمّ شاروسو إلى الخادم العجوز ايلاسو ، وقال : هل حقاً توجد دلمون ؟
وردّ الخادم العجوز ايلاسو : هذا ما يقوله الكاهن ، يا سيدي .
ومضى العم شاروسو إلى غرفته ، ماراً بالخادم العجوز ايلاسو ، وهو يدمدم : إنني لا أثق بهذا الكاهن ، رغم أن لحيته تشبه لحية الإله اشور .




" 2 "
ــــــــــــــــــ

عند الفجر ، وقبل أن ينهض الحطاب بالي ، ليذهب إلى الأحراش ، خارج مدينة ايسن ، ليحتطب كما يفعل كلّ يوم ، طرق الباب .
واعتدلت كيبري في فراشها مستغربة ، هذه ليست طرقة بونو ، ففتاها يطرق الباب بهدوء ، وبنغمات موسيقية عذبة ، وهذا الطرق ليس موسيقى .
وطرق الباب ثانية ، فرفع الحطاب بالي رأسه ، والنعاس مازال يعشي عينيه ، ونظر إلى كيبري ، وتساءل : ترى من يكون ؟
وفكرت كيبري أنه ربما يكون بونو ، وقبل أن يعتدل أبوها في فراشه ، نهضت مسرعة ، وهي تقول : لا عليك ، يا أبي ، أنا سأفتح الباب .
وفتحت كيبري الباب ، وبدل بونو رأت عمه المتصابي شاروسو ، وقد إربدّ وجهه غضباً ، لكنه ما إن رآها ، حتى لانت ملامحه ، وقال : أنت ِ .. ؟
وهزت كيبري رأسها الفتيّ ، المتوج بشعر بلون التمر ، وقالت : نعم ، أنا كيبري .
وقال العم شاروسو : ابنة الحطاب بالي !
وهزت كيبري رأسها ثانية ، وقالت : نعم .
وتمتم العم شاروسو بصوت لا يكاد يسمع : عشتار ..
ثم رفع صوته قائلاً : جئت أرى أباك .
وقبل أن تجيبه ، سمعت أباها بالي يقبل مسرعاً ، ويرحب به قائلاً : أهلاً سيدي شاروسو ، تفضل .
وتفضل العم شاروسو ، ودخل فناء البيت ، الذي تظلله نخلة فارعة ، وقال : جئت أؤكد على الحطب ، الذي أوصاك عليه ابن أخي بونو .
ونظر الحطاب بالي متسائلاً إلى ابنته كيبري ، فتابع العم شاروسو قائلاً : نحن بأمس الحاجة إليه اليوم .
وقالت كيبري محرجة : آه ، يا لذاكرتي ، نسيت ، جاء بونو البارحة ، ولم تكن في البيت ، وأوصاني أن أخبرك ، بأنهم يريدون ..
وصمتت كيبري ، فقال الحطاب بالي : على الرحب والسعة ، سيأتيكم الحطب اليوم ، يا سيدي .
وحدق العم شاروسو في كيبري ، ثم قال : سأنتظرك اليوم ، بعد منتصف النهار ، في البيت ، لا تتأخر ، نحن بحاجة إلى الحطب .
فقال الحطاب بالي : اطمئن ، يا سيدي ، لن أتأخر ، سآتيك بالحطب ، عند منتصف النهار .
وقبل أن يستدير العم شاروسو ، ويمضي مبتعداً ، حدق في كيبري ملياً ، ثم قال : استودعكم الآلهة .
وهتف الحطاب بالي : رافقتك السلامة ، يا سيدي .
وأغلقت كيبري الباب حائرة ، موزعة بين الفرح والقلق ، هل جاء ليراها ، ويخطبها لفتاها بونو أم .. أم ماذا ؟ آه يا للحيرة .
والتفت الحطاب بالي إلى ابنته كيبري ، وقال : السيد شاروسو هو أغنى تاجر أقمشة في ايسن .
وأسرع يتهيأ للخروج ، وهو يقول : أعدي الحمار ، ريثما أبدل ملابسي ، وأجيء بالحبل والفأس ، سأذهب فوراً إلى الأحراش .
فقالت كيبري : أفطر أولاً ، يا أبي .
واتجه الحطاب إلى الغرفة مسرعاً ، وهو يقول : سآخذ معي بعض الخبز والتمر ، هيا أعدي الحمار .









" 3 "
ــــــــــــــــــ

أفاق بونو ، عند شروق الشمس ، وعلى غير العادة ، لم يجد عمه شاروسو على الفطور ، فنظر إلى الخادم العجوز ايلاسو ، وقال : عجباً ، يبدو أن عمي ذهب إلى المتجر مبكراً .
ووضع الخادم العجوز ايلاسو أمامه طعام الفطور ، وقال : سيدي لم شاروسو يذهب إلى المتجر .
ووضع بونو لقمة طعام في فمه ، وهو ينظر إليه متسائلاً ، فقال : قال لي ، أن تفتح المتجر أنت اليوم ، وتنتظره هناك حتى يأتي .
وتساءل بونو مندهشاً : أين مضى ؟
فردّ الخادم العجوز ايلاسو : لم يخبرني بوجهته .
ونهض بونو ، بعد أن أكمل تناول طعام فطوره ، واقترب من الخادم العجوز ايلاسو ، وقال بنبرة مصالحة : البارحة ..
وصمت بونو ، فربت الخادم العجوز ايلاسو على كتفه ، وقال : أنت تعرف أنني أحبك ،يا بونو ، كما كنت أحب أباك ، الذي رحل قبل الأوان .
وابتسم بونو ، وقال : هذا ظني فيك .
فقال الخادم العجوز ايلاسو : اذهب وافتح المتجر .
ومضى بونو ، وهو يقول : استودعك الآلهة .
فردّ الخادم العجوز ايلاسو مبتسماً ، وبنبرة أبوية : رافقتك السلامة .
وبدل أن يذهب بونو إلى السوق ، ويفتح المتجر ، أسرع إلى بيت الحطاب بالي ، وطرق الباب طرقاته الموسيقية الخاصة ، وعلى الفور ، فتحت كيبري الباب ، وقالت بصوت فرح : بونو ، عمك شاروسو ، كان هنا ، صباح اليوم .
وفغر بونو فاه متسائلاً : عمي !
وكركرت كيبري ضاحكة ، وهي تقول : تصور جاء يؤكد على الحطب ، الذي طلبته يوم أمس .
وبدت الدهشة على أسارير بونو ، وقال : لكني لم أطلب حطباً من أبيك يوم أمس .
فقالت كيبري : هذا ما قاله عمك لأبي ..
وقاطعها بونو قائلاً : آه تذكرت ، قال عمي إنه سيأتي إلى أبيك ، و ..
وقالت كيبري : وهذا ما أوقعني في حرج .
ولاذ بونو بالصمت لحظة ، ثم قال : هناك أمر ما يدور في رأس عمي شاروسو ، آه .
واستدار ليمضي مبتعداً ، وهو يقول : الأفضل أن أذهب الآن إلى السوق ، وأفتح المتجر ، كم أخشى أن يكون عمي قد سبقني ، آه هذا العجوز المتصابي .
وأسرع بونو مبتعداً ، فهتفت به كيبري : متى نلتقي ، يا بونو ؟
فردّ بونو ، دون أن يتوقف : الليلة ، في نفس الوقت ، وفي نفس المكان .
وما خشيه بونو حدث ، فقد وجد عمه يقف شاروسو بباب المتجر ، وعلى العكس مما توقعه ، لم يؤنبه عمه ، وإنما قال بصوت هادىء : لقد تأخرت قليلاً ، يبدو أن الخادم اللعين لم يوقظك في الوقت المناسب .
ولاذ بونو بالصمت حائراً ، فقال العم شاروسو : أشعر بشيء من التعب ، سأذهب إلى البيت ، ابقَ أنت في المتجر حتى غروب الشمس .









" 4 "
ــــــــــــــــــ

فوجىء الخادم العجوز ايلاسو ، بعودة العم شاروسو إلى البيت ، قبيل منتصف النهار ، فتوقف مبهوتاً أمامه ، وقال : عفواً سيدي ، لم أعرف أنك ستأتي في هذا الوقت ، إنني لم أعد طعام الغداء بعد .
فنحاه العم شاروسو عن طريقه قليلاً ، وقال : إنني متعب ، وقد عدت مبكراً ، أريد أن أختلي بنفسي ، لعلي أرتاح بعض الشيء .
وحدق الخادم العجوز ايلاسو فيه مستغرباً ، فقال العم شاروسو : ابتعد عني ، لا تنظر إليّ هكذا كالأبله .
ثم مدّ يديه نحوه ، وأمسك به ، ودفعه نحو الباب الخارجي ، وقال : اذهب إلى المعبد ، وصلّ لعل الآلهة ترحمك ، هيا اذهب .
وتوقف الخادم العجوز ايلاسو ، وقال : سيدي ، أنت تعرف أنني لم أدخل المعبد منذ سنين .
ودفعه العم شاروسو حتى الباب ، وهو يقول : ادخله اليوم ، وادعُ لي عند الإله ، لدي صفقة ، صفقة فتية وجميلة ، وأريد أن أوفق فيها .
وتلكأ الخادم العجوز ايلاسو قائلاً : سيدي ..
لكن العم شاروسو فتح الباب ، ودفعه إلى الخارج ، وقال : اذهب ولا تعد إلا بعد العصر .
وأغلق العم شاروسو الباب ، بعد أن دفع الخادم العجوز ايلاسو إلى المعبد ، وبقي وحده في فناء البيت ، ينتظر الحطاب بالي ، على أحرّ من الجمر .
وتلكأ الخادم العجوز ايلاسو في سيره ، دون أن يفكر في الذهاب إلى المعبد ، فهناك سر يخبئه العم شاروسو ، وهذا ما يريد أن يعرفه .
وتوقف مفكراً ، حين رأى الحطاب بالي ، يقترب بحماره المحمل بالحطب من بيت العم شاروسو ، ثم يطرق الباب .
وتأكد له أنّ هناك سراً ، حين فتح العم شاروسو الباب على سعته ، وأدخل الحطاب وحماره المحمل بالحطب ، ثم تلفت حوله ، وأغلق الباب .
وتوقف الحطاب مندهشاً ، حين أقبل عليه العم شاروسو مرحباً بحرارة : أهلاً بالحطاب ، أهلاً بأبي الفاتنة كيبري ، جئت على الموعد .
ونظر الحطاب إليه مندهشاً ، وقال : سيدي ، جئتك بالحطب ، أين تريدني أن أضعه ؟
واقترب العم شاروسو منه ، وقال : دع ِ الحطب الآن ، أصغ ِ إليّ ..
وتمتم الحطاب قائلاً : سيدي .
وتابع العم شاروسو يُمنيه قائلاً : لن تحتطب بعد اليوم من الأحراش ، ولن تسوق حماراً يحمل حطباً ، سأغنيك .. سأغنيك .. سأغنيك .
وفغر الحطاب فاه ، فقال العم شاروسو : سأتزوج ابنتك الفاتنة .. كيبري .
وبدون ارادة منه ، قال الحطاب : لكن ابنتي ..
وقاطعه العم شاروسو قائلاً : سيكون لك بيت جديد .. وزوجة جديدة .. وحياة جديدة ..وداعاً لحياة الحمير .. فتاجر الأقمشة الكبير شاروسو سيكون زوج ابنتك الفاتنة .. كيبري .










" 5 "
ـــــــــــــــــــ

شهقت كيبري : ماذا !
ثم صرخت : كلا .
وقبل " كلا " هذه ، كادت عينا كيبري الفتيتان ، الجميلتان ، أن تزغردا فرحاً ، عندما قال لها أبوها : التاجر شاروسو يخطبكِ ..
لكن بعد أن أضاف : يريدكِ زوجة له .
شهقت ، ثم صاحت : كلا .
وقال الحطاب بالي : أيتها الحمقاء ، فكري .
ومن بين دموعها ، قالت كيبري : ظننتُ أنه جاء ليخطبني لابن أخيه بونو .
وقال الحطاب بالي محاولاً إقناعها : الغني هو تاجر الأقمشة شاروسو ، وليس بونو .
لكن كيبري ، أسرعت تلوذ بغرفتها ، وهي تقول : لا أريد شاروسو ، لا أريده ، لا أريده .
وصاح الحطاب بالي : إذا كانت مشيئة الآلهة أن تتزوجيه ، فستتزوجيه رغماً عنك .
وتلك الليلة ، لم تستطع كيبري أن تخرج من البيت ، وتذهب إلى موعدها مع بونو ، فقد ظل أبوها الحطاب بالي مستيقظاً ، على غير عادته ، وربما متعمداً ، لغرض في نفسه .
وكلما حاولت النهوض ، والتسلل إلى الخارج ، يقول أبوها الحطاب بالي ، حتى دون أن يرفع رأسه : ابقي في فراشك ، وحاولي أن تنامي .
وحضر بونو ، في الموعد المحدد ، وانتظر ، انتظر طويلاً ، لكن كيبري لم تأتِ ، وهذا ما أقلقه ، وجعله يتسلل في الظلام ، إلى بيت الحطاب بالي .
وعلى عادته ، طرق الباب بهدوء طرقات خافتة منغّمة ، ووقف ينتظر ، وبدل كيبري فتح أبوها الحطاب بالي الباب ، وقال بشيء من الحدة : نعم .
وتأتأ بونو قائلاً : ال .. الحطب ..
وقال الحطاب ، وهو يغلق الباب : الحطب نائم ، اذهب ونم أنت الآخر .
وكما لم تنم كيبري ، حتى ساعة متأخرة من الليل ، كذلك بونو ، فإنه لم ينم ، وظل يتقلب حائراً قلقاً في فراشه ، وعقله القلق يعمل ، ويتساءل ، دون جدوى ، حتى غلبه النوم .
وأفاق على عمه شاروسو ، يقول له : أيها الكسول ، انهض وتناول طعام الإفطار ، لقد أشرقت الشمس ، ولم نفتح المتجر بعد .
وفتح بونو عينيه الناعستين ، ورأى عمه شاروسو ، يطل عليه بوجهه الشائخ ، فقال : أرجوك عمي ، إنني متعب ، دعني أرتح اليوم .
وفكر العم شاروسو ، أن هذا اللعين ربما يريد أن يذهب إلى ابنة الحطاب كيبري ، وهذا ما فكر فيه بونو فعلاً ، لعله يعرف سبب تغيبها ، فقال له : انهض ، يا بونو ، وافطر ، معاً سنذهب إلى المتجر ، وستبقى فيه حتى تغرب الشمس .














" 6 "
ــــــــــــــــــــ

عند الضحى ، ورغم ازدحام السوق ، لمح بونو فتاته كيبري ، تمرّ من أمام المتجر ، وتشير له خفية أن يلحق بها .
وتحيّن بونو فرصة انشغال عمه شاروسو ، بزبونة غنية معها لمّة من النساء ، فتسلل خلسة من المتجر ، وأسرع يشق طريقه بين الناس ، في أثر كيبري .
وتباطأت كيبري في سيرها ، حتى حاذاها بونو ، فقالت دون أن تلتفت إليه : مررت أكثر من مرة أمام المتجر ، فلم تنتبه إليّ .
وسار بونو بمحاذاتها ، وهو يقول : كنت مشغولاً بك ، لم تأتي البارحة في الموعد .
وردت كيبري ، دون أن تتوقف : لقد جئتَ ليلة البارحة ، ورأيت أبي ..
وقال بونو : نعم ، رأيته ، لم يكن على طبيعته .
وقالت كيبري : لقد ظل مستيقظاً ، ومنعني من الخروج ، حتى إلى فناء البيت .
وتساءل بونو : ما الأمر ؟
وتوقفت كيبري ، وقالت : إنه عمك شاروسو .
وهمس بونو لها : لا تتوقفي ، هيا امشي .
ومشت كيبري ، ومشى بونو إلى جانبها ، وتساءل ثانية : ما شأن عمي شاروسو ؟
وتوقفت كيبري ثانية ، وقالت بصوت خافت منفعل : يريد أن يتزوجني .
وتوقف بونو هو الآخر ، وقال بصوت منفعل : ماذا ؟ يتزوجك !
وتلفت بعض المارة نحو بونو وكيبري ، لكن بونو لم يأبه للأمر ، وقال : لقد جن عمي .
وقالت كيبري : لم يأتِ البارحة ، ليشتري حطباً من أبي ، وإنما ليشتريني .
ولاذ بونو بالصمت ، ووقف حائراً لا يدري ماذا يفعل ، ثم نظر إلى كيبري ، وقال : اسمعي ، لا فائدة من الحديث هنا ، لنلتقِ الليلة في نفس الموعد ، لابد أن نفعل شيئاً وإلا ..
وصمت بونو ، متلفتاً حوله ، ثم قال : اذهبي أنت إلى البيت ، وسأعود أنا إلى المتجر .
وتلفتت كيبري بحذر حولها ، ثم قالت هامسة : سأنتظرك ، لا تتأخر .
وردّ بونو : اذهبي الآن ، رافقتك السلامة .
وذهبت كيبري ، تشق طريقها في الزحام ، وهي تتمتم وكأنها تصلي : عشتار .. عشتار .. عشتار .
وعاد بونو إلى المتجر ، فحملق عمه شاروسو فيه بريبة ، وقال : أين اختفيت ؟
فردّ بونو قائلاً : عطشت ، فذهب لأشرب قليلاً من الماء البارد .
وقال العم شاروسو : الجرة مليئة بالماء ، وهي في متناول يدك .
ورمق بونو عمه بنظرة سريعة ، وقال : هذا ماء شائخ ، أعني قديم ، ولم يعد صالحاً للشرب .
وهمهم العم شاروسو مفكراً ، ثم قال : مهما يكن ، كان عليك أن تخبرني بوجهتك ، قبل أن تختفي .
ولاذ بونو بالصمت ، فتابع العم شاروسو قائلاً : إنني متعب ، سأذهب وأرتاح في البيت ، ابقَ أنت هنا ، حتى غروب الشمس .
لم ينبس بونو بكلمة ، وخرج العم شاروسو من المتجر ، وسار في الزحام مبتعداً ، وتابعه بونو بنظراته حتى غاب ، وفكر أن عمه شاروسو هذا ، لن يذهب إلى البيت ، وإنما سيذهب إلى الحطاب بالي ، ويكمل معه الصفقة ، لكن .. هيهات .. ومهما كان الثمن .





" 7 "
ـــــــــــــــــــ

رغم كرهه للكاهن ، فإن العم شاروسو كان في أعماقه يخشى الآلهة ، ويصغي إلى وصاياها ، وخاصة تلك التي تفيد تجارته .
إلا أنه هذه الليلة ، غضب وثار ، وأعماه غضبه ، فلم يصغ ِ إلى الإله أدد ، عندما أنذره ببروقه ورعوده ، بأن المطر سينهمر مدرارا ، وعليه أن يلزم بيته ، ولا يغادره ، مهما كان السبب .
لكن شكوكه في بونو ، ونواياه تجاه ابنة الحطاب كيبري ، جعلته يذهب إلى غرفته ، ويطرق الباب ، ليتأكد بأنه في فراشه ، وأنه لم يذهب لملاقاة كيبري .
ولما لم يأته ردّ ، من داخل غرفة بونو ، طرق الباب ثانية ، ثم صاح : بونو .
وبدل بونو ، أطل الخادم العجوز ايلاسو من باب غرفته ، وقال : بونو ليس في غرفته .
والتفت العم شاروسو إليه ، وتساءل غاضباً : أين هذا اللعين إذن ؟
واقترب الخادم العجوز ايلاسو منه ، وردّ قائلاً : لقد خرج منذ قليل ، لا أدري إلى أين .
وحدق العم شاروسو فيه ، وقال : أنا أعرف .
واتجه مسرعاً نحو الباب الخارجي ، فلحق الخادم العجوز ايلاسو به ، وقال : سيدي ، توقف ، الجو كما ترى ، ينذر بمطر شديد جداً .
ولمع البرق ، وقرقع الرعد بشدة ، لكن العم شاروسو لم يتوقف ، بل فتح الباب ، ومضى متعثراً في الظلام ، وهو يقول وكأنه يهذي في نومه : الحطب لي .. وليس لأحد غيري .. أنا الذهب .
وتوقف الخادم العجوز ايلاسو عند الباب مفكراً ، إن العم شاروسو قد جنّ ، وإلا ما معنى الحطب ، وما علاقته بالذهب ؟
ولمع البرق ثانية ، وانفجر رعد هزّ الدنيا ، وانهمر المطر مدراراً ، فأغلق الخادم العجوز الباب ، وأسرع يلوذ بغرفته ، وهو يقول : هذا طوفان اوتونابشتم ثانية ، سيغرق سيدي شاروسو .
وحث العم شاروسو خطاه ، متعثراً في الظلام ، والمطر ينهمر فوقه ، كما تنهمر المياه من القرب ، حتى وصل بيت الحطاب ، فطرق الباب بشدة ، وهو يصيح : أيها الحطاب بالي ، افتح الباب ، أنا شاروسو .
وفتح الحطاب بالي الباب ، ووقف مذهولاً ، وهو يرى العم شاروسو ، يقف في الظلام ، والمطر الشديد ينهمر فوقه ، فصاح : سيدي .. شاروسو !
وترنح العم شاروسو ، وهو يواجه العاصفة والأمطار ، وتمتم : كيبري ..
وصمت مترنحاً ، فقال الحطاب : كيبري نائمة في غرفتها ، والماء يقطر منها .
وتراجع العم شاروسو ، تحت العاصفة والمطر ، ثم استدار ، ومضى في الظلام ، متمتماً كالمحموم : في فراشها .. والماء يقطر منها .. آه .
وصاح الحطاب : سيدي ، تعال وادخل بيتي ، ريثما يتوقف المطر .
لكن العم شاروسو لم يتوقف ، ومضى تحت العاصفة والظلام والمطر ، حتى وصل البيت ، وما إن دخل الفناء ، حتى أسرع الخادم العجوز ، وتلقاه بين ذراعيه ، فتساءل العم شاروسو : بونو ؟
فردّ الخادم العجوز : في غرفته ، والماء يقطر منه مثلك تماماً ، يا سيدي شاروسو .
ومال العم شاروسو برأسه على صدر الخادم العجوز ، وهو يقول : إنني متعب ، خذني إلى غرفتي .





" 8 "
ــــــــــــــــــــ

طول الليل ، لم ينم العم شاروسو ، إلا نوماً متقطعاً ، قلقاً ، فقد كان يسعل سعالاً حاداً ، إلا أنه استيقظ في وقت مبكر ، وصاح بصوت مبحوح : بونو .
وأسرع إليه الخادم العجوز ايلاسو ، وقال : ابقَ في فراشك ، يا سيدي ، أنت مريض .
لكن العم شاروسو لم يلتفت إليه ، وقال وهو يغالب سعاله : ناد ِ بونو ، ناد ِه .
فمال الخادم العجوز عليه ، وقال : الوقت مازال مبكراً ، إنه نائم الآن .
فصاح العم شاروسو من بين سعاله : أيقظه ، ليذهب إلى السوق ، ويفتح المتجر ، لسنا في عيد .
وقال الخادم العجوز ايلاسو : دعه يفطر أولاً ، يا سيدي ، دعه يفطر .
ونظر العم شاروسو إليه شزراً ، وقال : اذهب ، وأفطره ، ثم أرسله إلى المتجر .
ومضى الخادم العجوز ايلاسو إلى الخارج ، وهو يقول : حسن ، فقط اهدأ ، أنت مريض جداً .
ورفع العم شاروسو يده المرتعشة ، وراح يتحسس جبهته ووجنتيه ، ثم قال : نعم ، أنا مريض ، مريض جداً ، إنها أمطار الإله ادد وعواصفه .
ورفع عينيه المنطفئتين إلى أعلى ، وقال بصوت مضطرب غاضب : ادد ، أيها الإله ، أهذا عقاب تعاقبني به ؟ كان بامكانك أن تؤجل عواصفك وأمطارك ، ريثما أرى كيبري ، وأطمئن إلى أنها لم تذهب للقاء ابن أخي اللعين .. بونو .
ومضى الخادم العجوز ايلاسو ، إلى غرفة بونو ، وعلى العكس مما توقع ، رآه مستيقظاً في فراشه ، فقال محيياً إياه : طاب صباحك ، يا بنيّ .
وابتسم الخادم العجوز ايلاسو ، حين سعل بونو مرتين ، قبل أن يردّ : صباح النور ، يبدو أنني مريض .
واقترب الخادم العجوز ايلاسو منه ، وقال مبتسماً : لم تسمعا إلى الإله ادد ، لا أنت ولا عمك شاروسو .
ووضع يده على جبهة بونو ، ثم قال : يبدو أن الإله ادد ، لم يعاقب سوى العم شاروسو ، أنت بخير ، انهض ، لقد أعددت لك الفطور .
ونهض بونو ، وقال : لم أرَ في حياتي مطلقاً ، مطراً كمطر ليلة أمس .
ونظر عبر النافذة الصغيرة ، وتراءت له كيبري ، وهي تكركر ضاحكة ، والمطر ينهمر عليها ، ويغرقها بمياهه الغزيرة من رأسها حتى أخمص قدميها ، فقال : أظن أنّ الإله ادد إله عادل .
ويبدو أنّ ظن بونو ، كان في محله ، فأن كيبري ، التي تعرضت مثله لنزوات الإله ادد ، لم تتعرض لنزلة برد ، وظلت معافاة .
وتهيأ أبوها ، الحطاب بالي ، في صباح اليوم التالي ، ليذهب إلى الأحراش ويحتطب ، وقبل أن يخرج بحماره من البيت ، قال لها : ليلة أمس ، رأيتك تقطرين ماء ، يا كيبري .
ونظرت كيبري إليه محرجة متلجلجة ، ثم قالت : العاصف الممطرة كانت شديدة ليلة البارحة ، فخرجتُ لأطمئن على الحمار .
وهمهم الحطاب بالي ، وبدا أنه لم يقتنع بكلامها ، لكنه قال : مهما يكن ، لا تخرجي من غرفتك ثانية ، عندما يكون الإله ادد غاضباً .








" 9 "
ـــــــــــــــــــ

عند منتصف النهار ، أقبل الخادم العجوز ايلاسو مسرعاً على بونو ، وقال له بصوت يشي بالخطورة : بونو ، أغلق المتجر .
ونظر بونو إليه متسائلاً ، وقد انقبض قلبه ، وقال متسائلاً : لماذا ؟ ماذا جرى ؟
فردّ الخادم العجوز ايلاسو : عمك شاروسو مريض ، هيا أغلق المتجر ، وتعال معي .
وأغلق بونو المتجر على عجل ، ومضى مع الخادم العجوز ايلاسو إلى البيت ، وفي الطريق قال بونو : يبدو أن أمطار البارحة وعواصفها ، قد أصابته بنزلة برد شديدة .
فهز الخادم العجوز ايلاسو رأسه ، وقال : أخشى أن تكون هذه نهايته ، فهو يهذي منذ البارحة ، ويتحدث عن زوجته الراحلة ، وكأنها ماثلة أمامه .
وصمت الخادم العجوز ايلاسو برهة ، ثم قال : ربما سنحتاج اليوم إلى الكاهن .
وحثّ بونو خطاه إلى جانب الخادم العجوز ايلاسو، وهو يقول : تعال نرَ عمي أولاً ، وأرجو أن تجنب الآلهة ، عمي شاروسو الكاهن ، فهو لا يحبه .
ودخل بونو ، ومن ورائه الخادم العجوز ايلاسو ، غرفة العم شاروسو ، واقترب من عمه ، المضطجع في فراشه كالجثة الهامدة ، ومال عليه قليلاً ، ثم قال : عمي ، عمي شاروسو .
وفتح العم شاروسو عينيه المنطفئتين ، وحدق في بونو ، ثم قال بصوت لا يكاد يسمع : زوجتي .. أنا عطشان .. لا .. لا .. أريد ماء .. من الجرة .. وليس من .. نهر من أنهار .. دلمون .
فاعتدل بونو ، وقال : اطمئن ، يا عمي ، أنا سآتيك بالماء الذي تريده .
وتمتم العم شاروسو بصوت أكثر خفوتاً : لا .. لا أريد الماء .. من دلمون .. بل من .. بيت بالي .
ثم أغلق عينيه ، وبدا وكأن أنفاسه تتلاشى ، كما يتلاشى ضوء شمعة تنطفىء ، فالتفت بونو إلى الخادم العجوز ايلاسو ، وقال : عمي مريض جداً .
وتراجع الخادم العجوز ايلاسو إلى خارج الغرفة ، وأشار لبونو أن يتبعه ، وتبعه بونو إلى الفناء ، فقال الخادم العجوز : العم شاروسو بحاجة الآن إلى الكاهن فعلاً .
والتفت بونو إلى الغرفة ، ونظر إلى عمه شاروسو عبر الباب ، وقال : هذا ما كنت أخشاه .
وقال الخادم العجوز ايلاسو : علينا أن لا ننتظر ، فقد تسوء حالته ليلاً ، إنه رجل عجوز ، من رأيي أن تذهب إلى الكاهن حالاً ، وتأتي به .
ونظر بونو إلى الخادم العجوز ايلاسو ، وقال : يا للآلهة ، عمي شاروسو لا يحب هذا الكاهن .
فقال الخادم العجوز ايلاسو : أنا أيضاً لا أحبه ، لكنه شرّ لابد منه ، فليأتِ ويعالجه ، لعله يشفيه .
وقبل أن يخرج بونو ، ويمضي مسرعاً إلى المعبد ، قال : حسن ، سأذهب إلى الكاهن ، وآتي به .














" 10 "
ـــــــــــــــــــــ

بدا الكاهن ، بلحيته الشبيهة بلحية الإله آشور ، مندهشاً بعض الشيء ، عندما رأى بونو يدخل عليه المعبد ، فنظر إليه ملياً ، دون أن يتكلم .
واقترب بونو منه متردداً ، وقال بصوت مضطرب : طاب صباحك ، يا سيدي .
وحدق الكاهن فيه ، وقال : بونو ؟
فردّ بونو قائلاً : نعم ، يا سيدي ، بونو .
فقال الكاهن بنبرة جافة : قلما أراك أنت أو عمك ، وحتى خادمكم العجوز ، في هذا المعبد ، إلا عند الحاجة القصوى .
ورمقه بونو بنظرة سريعة مذنبة ، وقال : عفواً ، يا سيدي ، عمي شاروسو مريض جداً .
وهمهم الكاهن ، ثم قال : أرأيت ؟ هذا ما قلته .
وقال بونو بنبرة رجاء : ليتك تتفضل إلى البيت وتراه ، إنه بأمس الحاجة إليك .
وأشاح الكاهن عنه بوجهه ، وقال :إنني مشغول الآن ، اذهب أنت ، وسأزوه عند المساء .
وقال بونو : لكنه ، يا سيدي ..
فقاطعه الكاهن قائلاً : اذهب ، لن آتي الآن .
وذهب بونو ، عائداً إلى البيت ، وأسرع إليه الخادم العجوز ايلاسو في الفناء ، وقال : أين الكاهن ؟
فردّ بونو : لن يأتي قبل المساء .
وهزّ الخادم العجوز ايلاسو رأسه ، وقال : أخشى أن عمك شاروسو ، لن يصمد ، حتى مجيء الكاهن .
فأطرق بونو رأسه ، وقال : لا حيلة لنا ، ما علينا إلا أن ننتظر ، الكاهن كما ترى عنيد .
وعند المساء ، أقبل الكاهن ، بلحيته الشبيهة بلحية الإله آشور ، وأسرع بونو والخادم العجوز لاستقباله ، فحياه بونو مرحباً : أهلاً ومرحباً .
وقال الخادم العجوز : طاب مساؤك ، يا سيدي .
لكن الكاهن لم يردّ على تحيتهما ، وإنما قال بصوت جاف : بونو ، خذني إلى المريض .
وتقدمه بونو إلى غرفة العم شاروسو ، وهو يقول : تفضل معي ، يا سيدي ، إنه يرقد هنا .
ودخل الكاهن الغرفة ، يتقدمه بونو ، واقترب من العم شاروسو ، ومال عليه يتأمله ملياً ، ثم اعتدل وقال : العفريت يتلبسه تماماً .
ونظر بونو إليه ، وقال : لكنه مرض بسبب تعرضه البارحة للعاصفة والأمطار .
وحدق الكاهن فيه مؤنباً ، ثم قال : للعاصفة والأمطار عفريت ، تلبسه منذ البارحة ، وقد يأخذه الليلة إلى العالم الأسفل ، إلا أذا ..
وهتف بونو وكأنه يستنجد به : سيدي ..
وقال الخادم العجوز ايلاسو : ساعده ، يا سيدي .
وتجاهل الكاهن الخادم العجوز ايلاسو ، ونظر إلى بونو ، وقال : أريد جدياً صغيراً .
وتمتم بونو : جدياً !
فقال الكاهن بحزم : الآن .
وصمت لحظة ، ثم استطرد قائلاً : سيكون هذا الجدي بديل عمك شاروسو ، وسنوهم الفريت ، بطقوس خاصة ، بأن هذا الجدي الصغير هو عمك شاروسو .
ورمق بونو الخادم العجوز بنظرة خاطفة ، دون أن يتفوه بكلمة ، فقال الكاهن : على كل حال ، هذه أمور لن تفهمها ، اذهب أنت الآن فوراً ، وأتني بالجدي الصغير ، وإلا فإن العفريت لن يغادر جسد عمك شاروسو ، وسيأخذه الليلة إلى العالم الأسفل .
ووقف بونو متحيراً ، فنظر الخادم العجوز إليه ، وقال : ابقَ أنت مع سيدي الكاهن ، وسأذهب أنا بسرعة ، وآتي بالجدي الصغير .



" 11 "
ــــــــــــــــــــــ

جاء الخادم العجوز ايلاسو بالجدي الصغير ، فأخذه الكاهن بين يديه ، وربط أقدامه جيداً ، وعند غروب الشمس ، مدده إلى جانب العم شاروسو .
وعندئذ التفت إلى بونو ، وقال : ليبقّ شاروسو هكذا ، حتى شروق الشمس .
ونظر بونو إلى الكاهن مستفسراً ، وقال : سيدي ..
وقاطعه الكاهن قائلاً : سأبقى إلى جانبه ، في هذه الغرفة ، طول الليل .
ومال الخادم العجوز على الكاهن ، وقال : سيدي ، سأعد لك وجبة من الطعام .
ودون أن ينظر إليه ، قال الكاهن : تكفيني دجاجة واحدة ، ولتكن فتية .
وخرج الخادم العجوز من الغرفة ، ليمضي إلى المطبخ ، بعد أن قال بصوت خافت : أمر سيدي .
والتفت الكاهن إلى بونو ، وقال : اذهب أنت إلى غرفتك ، وسأناديك إذا احتجت إليك .
وقال بونو : كما تشاء ، يا سيدي .
ثم استدار ، وخرج من الغرفة ، ومضى إلى المطبخ ، فنظر إليه الخادم العجوز ايلاسو ، وكان ينظف الدجاجة ، التي سيعدها للكاهن ، وقال : يريد دجاجة واحدة فقط ، ويفضلها فتية .
فقال بونو : المهم أن يشفى العم شاروسو .
وقال الخادم العجوز ايلاسو : أنت متعب ، اذهب وارتح في غرفتك ، وأترك الأمر للكاهن .
وردّ بونو ، وهو يتجه إلى غرفته : إنني متعب فعلاً ، سأغفو قليلاً في فراشي .
لكن بونو ، لم يغفُ قليلاً ، بل استغرق في نوم عميق ، وأفاق على الخادم العجوز يهزه برفق قائلاً : بونو ، أفق ، الكاهن يريدك .
واعتدل بونو ، وتلفت قلقاً مذهولاً ، وقال : أخشى أنني نمتُ ..
وقاطعه الخادم العجوز قائلاً : انهض ، يا بنيّ ، لقد نمت الليل بطوله .
ونهض بونو ، ومضى مسرعاً إلى غرفة العم شاروسو ، وإذا الكاهن يقف قرب الجدي الصغير ، وفي يده خنجر من الخشب ، فحياه قائلاً : طاب صباحك ، يا سيدي الكاهن .
وقال الكاهن ، دون أن يردّ على تحيته : الآن سنذبح عمك شاروسو .
وشهق بونو : ماذا !
فلكزه الخادم العجوز ايلاسو خفية ، وقال بصوت خافت : سيمثل ذبحه بالخنجر الخشبي .
وتابع الكاهن قائلاً : ثم نأخذ الجدي الصغير إلى الخارج ، ونذبحه حقيقة .
وانحنى الكاهن على العم شاروسو ، ومرر الخنجر الخشبي على عنقه متمتماً بصوت خافت : أيها العفريت ، ها هو العم شاروسو يموت ، هيا غادر جسده ، أخرج ، أخرج ، أخرج .
ثم التفت إلى بونو ، وقال : والآن سنأخذ الجدي الصغير إلى الخارج ، ونذبحه قرب الشجرة ، وبعدها نلبسه ملابس العم شاروسو ، وكذلك حذاءه ، ونضع الكحل في عينيه ، ونصب الزيت على رأسه ، ونضع غطاء رأس العم شاروسو على رأسه ، وندفنه ، ونعلن أمام الناس جميعاً ، بأن العم شاروسو قد مات .
ولاذ بونو بالصمت ، فانحنى الكاهن ، وحمل الجدي الصغير ، ومضى به إلى الخارج ، والخادم العجوز ايلاسو يمضي في أثره .





" 12 "
ـــــــــــــــــــــ

لم يفق العم شاروسو ، ولم يرف له جفن ، حتى بعد أن انتهى الكاهن من طقوسه ، وأخذ الجدي الصغير المذبوح معه ، إلى المعبد .
وعند الضحى ، جاء الحطاب بالي حزيناً ، ومعه ابنته كيبري ، واستقبلهما بونو عند الباب ، وقد علا وجهه الحزن ، وقال : أهلاً ومرحباً بكما .
ونظر الحطاب بالي إليه وقال : علمت اليوم للأسف ، بأن سيدي العم شاروسو مريض ، فجئت مع ابنتي كيبري ، لنطمئن على صحته .
فقال بونو : شكراً لكما ، تفضلا .
وسار بونو بهما نحو غرفة العم شاروسو ، فقالت كيبري : أرجو أن يكون العم شاروسو بخير .
فالتفت بونو إليها ، وقال : الحقيقة إنه لم يفق من غيبوبته بعد .
وقال الحطاب بالي : لتشفهِ الآلهة ، إنه إنسان طيب ، لا يستحق إلا كلّ الخير .
ودخل بونو الغرفة ، وخلفه دخل الحطاب وابنته كيبري ، ووقف الخادم العجوز ، ورحب بهما بصوت خافت قائلاً : مرحباً بكما .
وتوقف الحطاب بالي ، وابنته كيبري متأثرين ، أمام العم شاروسو ، المتمدد كالجثة الهامدة على فراشه ، وأشار بونو إلى مكان قريب من العم شاروسو ، وقال لهما : تفضلا بالجلوس هنا .
وجلس الحطاب بالي وابنته كيبري صامتين ، حيث أشار بونو ، وجلس الخادم العجوز على مقربة منهما ، أما بونو فقد جلس على حشية قرب العم شاروسو ، وقد ران فوقهم صمت شامل حزين .
وقبيل منتصف النهار ، رفّ جفنا العم شاروسو ، ويبدو أن الجميع قد لمحو تلك الرفة ، فشهق الخادم العجوز متمتماً : المجد للآلهة .
وقال بونو مذهولاً : عمي شاروسو حيّ .
وتمتم الحطاب : نعم ، إنه حيّ .
وفتح العم شاروسو عينيه ، ولمع فيهما ضوء خافت ، ثم تمتم : بونو .
ومال بونو عليه ، وقال : عمي شاروسو ، إنني هنا ، إلى جانبك .
ودارت عينا العم شاروسو ، ثم توقفتا عند بونو ، وقال : لست وحدك هنا ، يا بونو .
وقبل أن يردّ بونو بكلمة ، مال الخادم العجوز ايلاسو عليه ، وقال : أنا هنا أيضاً ، أنا ايلاسو خادمك .
وهمهم العم شاروسو ، ثم قال : ايلاسو ، أنت إنسان طيب ، ووفي ، لكني لن أعتقك ، فأنا أريدك إلى جانبي ، حتى النهاية .
فقال الخادم العجوز ايلاسو : وهذا ما أريده أنا أيضاً ، يا سيدي شاروسو .
ودار العم شاروسو بعينيه ثانية ، فمال الحطاب عليه ، وقال : أنا الحطاب بالي ، يا سيدي ، وقد جئت لأسلم عليك ، وأطمئن على صحتك .
وهمهم العم شاروشو ، وتمتم : الحطاب ..
وأطرقت كيبري رأسها ، ولم تنطق بكلمة ، فمال بونو على العم شاروسو ، وقال : عمي ، جاءت كيبري أيضاً ، لتطمئن عليك .
وتمتم العم شاروسو : كيبري .. كيبري .
وجمدت كيبري ، لا تدري ماذا تفعل ، فتطلع العم شاروسو إليها ملياً ، ثم قال : بونو ..
وردّ بونو متخوفاً : نعم ، يا عمي .
وتابع العم شاروسو قائلاً : أكثر من مرة ، خلال هذه الليلة ، زارتني زوجتي ، إنها لا تريد الآن ، أن ألحق بها إلى دلمون ، وإنما تريدني أن أبقى في هذا العالم وأفرح ، فأنا في رأيها لم أشخ تماماً بعد .
وصمت العم شاروسو لحظة ، ثم قال : بونو ..
وقال بونو مترددا وخائفاً : نعم ، يا عمي .
واستطرد العم شاروسو قائلاً : أنت تعرف أن زوجتي تحبك ، وأنها بمثابة أماً لك ..
وتمتم بونو : نعم .. نعم .
وقال العم شاروسو : ولهذا قالت لي ، يا شاروسو ، افرح وأفرحني ، أنا هنا في دلمون ، أريد وبأسرع وقت ، أن تزوج بونو وكيبري .
وشهقت كيبري فرحاً ، وألقت نفسها فوق العم شاروسو ، وهي تصيح : ألف شكر .. يا عمي شاروسو .. ألف شكر .. ألف شكر .
وصرخ العم شاروسو مستنجداً : بونو .. ارفع مجنونتك كيبري عني .. إنها تقتلني .. ارفعها .. قبل أن أموت .. وألحق بزوجتي إلى دلمون .
وعلى الفور ، رفع بونو كيبري عن عمه ، الذي صاح لاهثاً : يا للآلهة .. بونو .. غداً .. وليس بعده .. سنذهب إلى المعبد .. و .. وأفرح زوجتي .. في دلمون .


22 / 5 / 2013








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفلسطينيين بيستعملوا المياه خمس مرات ! فيلم حقيقي -إعادة تد


.. تفتح الشباك ترجع 100 سنة لورا?? فيلم قرابين من مشروع رشيد مش




.. 22 فيلم من داخل غزة?? بالفن رشيد مشهراوي وصل الصوت??


.. فيلم كارتون لأطفال غزة معجزة صنعت تحت القصف??




.. فنانة تشكيلية فلسطينية قصفولها المرسم??