الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
وهج الذّاكرة ولوعة التّذكّر
الطايع الهراغي
2023 / 8 / 4الادب والفن
"إنّ أصعب شيء على الإطلاق هو مواجهة الذّاكرة بواقع مناقض لها".
(أحلام مستغانم)
"عرجاء حتّى الذّاكرة والذّكريات"
( نجيب سرور)
"مصفوفة حقائبي على رفوف الذّاكرة
والسّفر الطّويل يبدأ دون أن تسير القاطرة"
(أمل دنقل)
ويخطر لك على غير سابق تفكير وبسبب لا يبدو لك وجيها إطلاقا وبدون موجب أصلا أن تطلق العنان للذاكرة .أن تحفر في رفوفها وثناياها،أن تنبش في ما استطاعت أن تقتلعه من براثن النّسيان .يتدفّق شلاّل التّذكّر وينساب.عليك فقط أن ترقب انفلات اللّحظة،أن تساير شرودها حينا وتلجمه بكثير من الحذر أحيانا.وعليك أن يخاتل النّقيض ونقيضه. كيف؟؟ ليكنْ. ذاك هو المهمّ .
عندما كنت صبيّا يافعا(والمسألة-ما لم تدخّل قوى غيبيّة في تشكيل تفاصيلها-ليست محلّ ظنّ ولن تكون)كان كلّ همّك أن تتحالم. وكثيرا ما يحلو لك أن تعرك الحلم، تطارده، تتمنّى لو كان بالإمكان أن تعجنه على هواك كما تريد،أن تختلي به السّاعة تلو السّاعة،أن تجرّب كيفيّة التّدرّب عليه وتعيشه على أنّه هو الحقيقة لتغرق في لجّ هواه، وإذا رحلتَ فوجهتك البعيد البعيد.
عندما حكمت عليك ملابسات شتّى،بعضها لا زال إلى الآن قائما،ولن يكون من اللاّئق الكشف عنها ولا عن سرّ تداخلها لا بالتّصريح ولا بالتّلميح .فالأمر على غاية من الخطورة، أكثر من تلك التي عليها يتوقّف أمن البلاد وحياة العباد ومنعة الدّولة وولع الصّبايا بالعربدة،حكمت عليك بأن تهجر طفولتك وتحتال عليها وتراوغها لتلتهم الجزء النّاصع منها لتكون شابّا -وقبل الأوان- كان لا بدّ للحلم لكي يكبر أن يختزل المسافات، يعتصرها ويتحايل عليها بكثير من العناء.ومع ذلك، وربّما لذلك تحديدا، صرت مزهوّا أنّك للحلم تهفو،وبه تهيم،وعلى أنغامه تتراقص وتتهادى.وباتت أمنيّة أمانيك أن يكون لكلّ الإغفاءات التي تداهمك بداية، ولك معها حكايا،على أن لا يكون لها أبدا حدّ أو نهاية.
لمّا هجمت عليك الكهولة دون مشورة أو استئذان في أكبر مؤامرة اعتداء على جنون الطّفولة وصخب الشّباب شردت منك طفولتك . فكان محمولا على الحلم ما ليس منه بدّ: أن يعود بك إلى أيّام الصّبا.
في سباق المسافات الطّويلة، في منعرجاتها المضنيّة، تطرح الذّاكرة أمامك تفاصيل سجلّ أيّامك،ما تزاحم فيها من انكسارات، وتفّطّنك إلى ما هو منها في الطّريق آت.
تسجّل عليك أنّ بعضا من الخيبات ضروريّة لكي لا يسكنك الاطمئنان إلى أنّ الجميع كان وسيبقى لك سندا.
التّذكّر إذا قلّبته على بعض من وجوهه قد يكون مكابرة ولكنّها مكابرة جميلة،تعنّت الذاكرة وإصرارها على الإفلات من قبضة كمّاشة الزّمن.مراوغة جبريّة قوانينه وصلفها.إيهام،إن لم يكن توهّما، بمقاومة جبروت النّسيان (بما هو غلبة) بنعمة التّناسي (بما هو مغالبة).دليل مرير على أنّ بعضا من الجروح تدميها الأيّام وتعمّق ندوبها، وفي الظّنّ أنّها ترتقها.
حتّى ما كنت شبه متيقّن –مع أنّه لا شيء يحول دون أن تكون على يقين تامّ- من أنّ بعضا منه ليس إلاّ أضغاث أوهام كنت منتشيّا به طالما كانت دول القبيلة- وما أكثرها- منهمكة في ما يرسي دعائم شوكتها ويحرس أسوار خيمتها ويضمن -يقينا لا تخمينا- ديمومتها علّها تفلح في مقاومة من يخرج على نواميسها من الصّعاليك والشّطّار والعيّارين:افتراض ما يلزم من التّهم بكثير من التّأنّي والتّدبّر، مراكمتها وفرزها على مهل. بعضها جاهز استباقا تحسّبا منها لما ظلّت تجزم دوما أنّه دسائس ومؤامرات تحاك في الخفاء ضدّها، يكفي فقط بذل ما لا يُعدّ مجهودا في إعادة استنساخها، محاصرة الفكرة واعتقالها وهي بعدُ تحبو قبل أن تنضج معالمها لكي لا يكون لها متّسع من الوقت بما يسمح لها بأن تورق،وأد النّوايا قبل أن تتناسل فتكتسب أجنحة بها تطير فيفتتن بها أصحابها، كبح جماح اللّغة وتنطّعها وخنق تطلّعها إلى التّسامي حتى لا يفيض المعنى على صنوه من المعنى ويعانق المغنى .
الدّولة العاهرة(عقاب من التّاريخ في كلّ مصر وعصر لمن يجفل من كلّ موعد مع التّاريخ)،لأمر ما - يحسن عدم البوح به حفاظا على السّلم الأهليّ وتجنّبا لما يجرّه التّنابز بالألقاب من فتن- تحكم على نفسها بأن تظلّ دوما منشغلة بضبط حدود التّماس والتّباعد، الائتلاف والتّنافر، التّواصل والتّقاطع بين ما هو جزمًا مجرّد رؤيا وما هو يقينًا في عداد الرّؤية.
الابتسامة،أيّا كانت براءتها،حتى تلك التي تكون شاحبة باهتة يظلّلها بعض حزن ملائكيّ جميل،هي في عرف دولتك التي تعاني صقيع اللّيالي وويلات النّهار علّها في غفلة من قوانين الطّبيعة تصير صورة من دولة، الابتسامة هذه لا يمكن إلاّ أن تكون سخريّة من أمر ما ومقصودة،والسّخريّة كما هو مثبت في مجلّدات الأوّلين من السّلف الصّالح إصداع بموقف صارم من وضع ما. أمّا الحزن فتلك خطيئة الخطايا،رجس من عمل من نجح الشّيطان في إغوائهم. أكثر فظاعة من التّطاول على هيبة الدّولة ونواميس الدّولة ومؤسّساتها، خاصّة تلك التي يأخذ منها الخجل مأخذا فيعسر عليها أن تظهر للعيان.
إذا غزتك ضروب من الأفكار،مهما كان لونها وحجم أحزانها وتمرّغها بين حدّ اليقين وحدّ الشّكّ،أيّا كان وضوحها الفاضح وغموضها المربك، مهما كانت درجة شحوبها، إذا بدت لك وهي تنساب قلقة مشوّشة مرتابة كأقصى ما يكون الاضطراب فمن باب الرّأفة بها أن تتركها وشأنها، أن لا تبحث لها عن أيّ انتظام، أن لا تفسد عليها شرود لحظة القداسة وهي في قمّة فوضاها. لا تغتمّ من عدم قدرتك على تدبّر أمر ترتيبها.ودعك ممّا يجترّه المتحذلقون عن موجبات النّظام وضرورات الصّرامة والجدّ. يوما ما قد تمتدّ إليها أياد ناعمة تعيد بناءها فتؤثّث من فوضاها عالما من الانسجام.
احذرْ أن يكون افتتاحك لجلسة المنادمة قبل النّصف الثّاني من الهزيع الأخير من اللّيل.دقّق جيّدا في حكاية التّوقيت هذه، فعليها يتوقّف كثير من المعضلات. وليكن نديمك على الأقلّ من باب رفع المعنويّات،خبيرا في مراودة الاحتمالات ومغازلة النّوايا قبل تأويلها حتّى تبوح بما ليس منها وفيها، وليكنْ على دراية بما قد يستجدّ بين اللّحظة واللّحظة من إمكانيّة تسرّب الجراد الآدميّ من حيث لم تتوقّع إلى حيث لا تتوقّع،علّه بذلك يدلّك على ما يتوجّب من احتياطات.لا تنس أن توصد الباب وبكلّ ما يتوجّب من إحكام. احترسْ جيّدا، فبين القوارير الخضر قد يتسلّل مخبر محترف، بأمور الوشاية عليم، وفي شؤون التّبليغ ضليع. رهانه أن يقبض على الحلم وهو بعدُ فكرة ضبابيّة ملتبسة، لازالت في طور التّشكّل. وإذا خاب مسعاه ولم يظفر بما يصلح مادّة دسمة لوشاية رائعة لا يأتيها الباطل لا من أمام ولا من خلف وينطلي صدقها على الجميع فلن يعدم القدرة على تخيّل ما يشكّل مدخلا مثاليّا لإدانة من شاء من بني جلدته بارتكاب أرذل الأفعال الموحشة. التّهمة دوما جاهزة: التّفكير في ما هو مثبت من أوّل الدّهر في كلّ لوح محفوظ على أنّه من شؤون الخاصّة. وأمام ثقب الباب ينتصب موظّفون هم بالضّرورة عاطلون عن العمل، متعدّدو الاختصاصات طبقا لما يكشفه ما هو مثبت على جباههم من فرط السّجود. من مشمولاتهم مثلا ومثلا فقط الانتصاب لفائدة الدّولة أو من تخيّل نفسه دولة، والاعتقاد في ما يُنسب إليه من عجيب الإعجاز.مهمّتهم ملاحقة ما قد ينفلت من أفراح، تأميم ما يشرد من النّوايا،التّسلّي بتسجيل السّكنات قبل الحركات. وعليك أن تبتلع الحلم قبل أن يصادره مخبرو الدّولة وعسسها وكلاب حراستها.
البلد الذي وجدّت نفسك مجبرا مرارا على أن تبذل مجهودات مضنيّة، وكان لزاما عليك أن تستعين بجملة من الوساطات فقط ليتكرّموا عليك بإدراج اسمك ضمن قائمات طالبي اللّجوء منه إليه. كلّ الخيارات معدومة .لم يكن أمامك غير أن تهجره اضطرارا إلى غير وجهة . هذا البلد حملته في حقيبة سفرك تتوسّدها كلّما هزّك إليه الحنين وجعلت من اسمه تميمة، إيّاك أن تأخذك عنه غفلة.
البلد الذي كفرت بكرامات أوليائه الصّالحين كم مرّة، ولعنت نساءه- الجميلات تحديدا- بدون موجب، وأكلك النّدم أنّك فيه ولدت وأحببت وكرهت وطاردت جنون الطّفولة وسابقته وعذّبك دلع حسناواته، راقبت نجومه في اللّيالي المقمرة حتّى مللت وغازلت ظلمته أيّام القرّ ورحلت منه بحثا عن أمكانيّة ولادة جديدة، لمّا صادف أن سألك عنه أحد الأغراب وجدت نفسك تردّد في ما هو إلى الابتهال أقرب. قلت في ما قلت: الشّمس هناك في بلادي قرص ذهب تغازل عاشقيها دوما ولا تغيب إلاّ وهم على أشعّتها يرقصون وبوهجها مبتهجون. تنير الوجوه وتشفق عليها فتلامسها ولا تلفحها.بردها حنون يناجيك ولا يلدغك. الأشجان في بلادي أجمل بكثير من كلّ الأحلام مجتمعة .
ذات شهر من الأشهر الحرم،كان الأسى على مدار ساعات اللّيل والنّهار يخيّم على الشّوارع،والوجوم يلبس أزقّة المدينة وساحاتها، والبهتة تعفّر وجوه المارّة. والحزن غيمة من مكان إلى مكان تتسلّل. في أخبار بداية اللّيل(تقتضي الأمانة الإقرار بأنّها لا تتأخّر أبدا عن موعدها) أطلّت قارئة الأخبار تعلن وهي توزّع ابتسامة صفراء كسلى متثاقلة:عالميّا هناك في الغرب كما في الشّرق الأزمة خانقة. الانحباس الحراريّ أوقع العلماء في ورطة عدم توقّعه.الحرب بين المعسكرين على أشدّها، يجمع كبار قادة العالم على أنّها تنذر بالويل. وقد تُحوِّل العالم إلى مخيّم. أمّا ههنا، في برّنا تحديدا،في بلد الأمن والأمان فالأمن مستتبّ تمام الاستتباب. وجاليتنا هناك على خلاف غيرها بكلّ خير. بدا لك الأمر عاديّا ولم تتفاجأ إطلاقا. وفيم العجب؟؟وأيّ موجب للتّعجّب أصلا؟؟.لقد تعوّدت منذ ابتُليت بآفة الرّغبة في الفهم بتقليب الأمور على كلّ وجوهها على أنّ الخبر كلّما كان مجافيّا للواقع كان أكثر أسرا للقلوب وشدّا للانتباه وسيطرة على العقول.أليست ميزة الخبر في فرادته وافترائه على الحقيقة ومخالفته لما اتّفِق على أنّه أعراف؟؟ الخبر كالشّعر. فإذا كان الشّعر أعذبه أكذبه فإن الخبر أصدقه أكثره غرابة وفرادة. جمال الخبر في قبحه ولامعقوليّته. استحضرت ما كان يعيده على مسامعك أحد أصدقائك ممّن لا تربطه رابطة برجال التّعليم ولا بجماعة الثقافة والتّنجيم ولا بمجاميع البتّ في الفروق بين حرّيّة التّعبير وحرّيّة التّفكير. كان مرارا وتكرارا، وكلّما سنحت لكما الفرصة بالتّجالس يصرّ على أن يرسّخ في ذهنك الفروق بين الاّدعاء من حيث هو قمّة السّذاجة والتّفاهة واستنساخ المألوف والخبر من حيث هو الوقاحة وقد بلغت أرقى تجلّياتها واللاّمعقول وقد تجلّى في أبهى صوره. كان يعجبه أن يضرب لك في ذلك أمثلة. كان يقول: الادّعاء يا صاحبي قولك عضّ كلب رجلا.قبِض على تشي غيفارا بوشاية ممن قضى حياته يدافع عنهم.حقّق السّبّاح الفلاني رقما قياسيّا في سباق الألف متر. أمّا الخبر يا كبدي فتأكيدك على أنّك رأيت بأم عينيك رجلا يعضّ كلبا.وحضرت احتفال شعب من الشّعوب بمشهد إدخال خرطوم الفيل في ثقب الإبرة. وكنت شاهدا على فوز أهزل أتان بأسرع سباق للخيل. لا عليك. سيريحك أولاد الحلال من عذابات المقارنة فتهنأ إلى الأبد.سيكون الكذب يوما ما هو الحقيقة الوحيدة الباقية.
لعلّة ما سافرت بك الذّاكرة إلى حدث ظلّ وسيظلّ مطبوعا في مخيّلتك. في يوم شتويّ ممطر وجدت نفسك تلج مقهي كلّ الدّلائل تحيل إلى أن لاشيء فيه مختلف عن باقي المحلاّت. لا شيء يجلب الانتباه غير الاسم:مقهى اللّحظة. في ركن من أركانه استأثرت امرأة بطاولة. فاض جمالها واحتلّ المكان وما ضاق بها المكان.اشرأبّت إليها الأعناق ورحلت إلى عالمها العيون. تداعى الثّناء بدون مكابح: إن لم تكوني فتنة فأنت إطلالة الرّبّ على عالمه/ لو أبصرك عيسى روح الله لنطق في المهد.حسام لحظك أمضى من السّيوف القواطع....
هل شدّ انتباهها سيل الإطراء وامتزاج التّغزّل بآيات الإعجاب والتّأوّه؟؟.أغلب الظنّ أن لا .هذه المرأة طينة أخرى من النّساء. على خلاف غيرها من بنات حوّاء لم يهزّها ما يهزّ بنات جنسها من الثّناء.
قفز إلى ذهنك ما حدّثتك به عجوز ذات مرّة. أفهمتك بأنّ الطّريق إلى قلب المرأة جدّ يسير.كلمة وهمسة .لحظة تنال منها مقتلا. المألوف من معسول الكلام قد يستفزّها ولا يغريها. تجفل ممّن يتغزّل بها بفجاجة وترغب في من يقتحمها.يثير فضولها من يفضح ما لا تريد أن تفصح عنه.التّجاهل يخدش كبرياءها فتسكنها الشّكوك.
ليس لك إلاّ أن تقتحم عليها عالمها وليكن ما يكن.تهالكتَ على الكرسيّ قبالتها.قلت:أيّتها المرأة الوردة لا شيء فيك مميّز.عاديّة أنت.فقط شرودك مذهل محيّر وغيمة الحزن التي زرعتها آسرة أخّاذة ومريع صمتك ومخيف. لي معك موعد .تأخّرتُ وتأخّرتِ وما تأخّر الموعد.سأسمّيك ريم التي في عينيها يلتمع العالم.يا ريم تحيّة وسلاما.وانتصبتَ واقفا. رمقتك بنظرة حقد دفين وهذت بكلام أقرب إلى الهمس: أيّها الضّيف اللّعين،في مقهى اللّحظة كانت لي معك لحظة.سأسمّيك إبليس.فعليك اللّعنة.أنت طِلبتي. في هذا الرّكن غدا صباحا نلتقي،وإذا كان في الإمكان سأرتمي في حضنك وأواصل رحلة الشّرود.
ويمضي التّذكّر يغازل الذّاكرة . ينسج وإيّاها ما يكبح شرود الذّاكرة.
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. شاهد .. حفل توزيع جوائز مهرجان الإسكندرية السينمائي
.. ليه أم كلثوم ماعملتش أغنية بعد نصر أكتوبر؟..المؤرخ الفني/ مح
.. اتكلم عربي.. إزاي أحفز ابنى لتعلم اللغة العربية لو في مدرسة
.. الفنان أحمد شاكر: كنت مديرا للمسرح القومى فكانت النتيجة .. إ
.. حب الفنان الفلسطيني كامل الباشا للسينما المصرية.. ورأيه في أ