الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بائعة الكلاسين ـ1ـ

علي دريوسي

2023 / 8 / 5
الادب والفن


لم يبدأ تاريخ الكلاسين والملابس الداخلية عموماً بتصاميمها وأشكالها وألوانها وزخرفاتها ومناسباتها وأوقات ارتدائها والمواد المصنوعة منها بالبائعة المغمومة دائماً "حنان" حفيدة الألمانية "كريستين هاردت" التي سجلت أول براءة اختراع في حمالات الصدر، بل بدأ قبل ذلك بكثير، بدأ تاريخ الكلسون - على الأقل فيما يتعلق بتفسير الكتاب السماويّ للتطور البشري ـ بآدم وحواء: بعد أن أغرت الْحَيَّةُ المرأة بقضم ثمر الشجرة المحرّمة، أغرت المرأة بدورها الرجل ليتذوق ثمارها، حينئذ "انفتحت أعينهما وعلما أنهما عريانان"، بعد الخطية شعرا بالخجل، "فخاطا أوراق تين وصنعا لأنفسهما مآزر". آن سطعت الشمس جفّت أوراق التين التي سترا بها عريهما وتساقطت. فصنع الرَّب الإِله لآدم وامرأته كلاسين من جلد وألبسهما.

***

في غرفة صغيرة مرتبة تضم ما يحتاجه سجين محكوم مدى الحياة بالأحرى لعدة حيوات جلست بائعة الكلاسين حنان صامتة كالعادة مثل تمثال من الشمع وراحت تقرأ بعينيها الجميلتين في كتاب "الأجرام السماوية" للكاتبة والأكاديمية العمانية "جوخة الحارثي". كانت حنان تحلق في عالم آخر أشد حزناً من عالمها الذي تعيشه بمنتهى الرضا والقوة. حين دخل مدير سجن النساء إلى غرفتها كانت قد فرغت لتوها من قراءة ذلك المقطع الذي أثار شجونها وذكرياتها وأنبع الدمع من عينيها::
(مجرد أن فرغ محمد من التعلق بمراقبة حركة المروحة، انضغل بلعبة أخرى: فتح الباب وغلقه، تنقضي جميع ساعات النهار وهو يفتح الباب ويغلقه دون توقف، عبثاً نحاول إشغاله بشيء آخر، أو ترديد الكلمات القليلة التي يستطيع نطقها بلا رابط. في البداية كنت أخرج من البيت، يصر محمد أن تبقى أمه بجانبه وهو يفتح الباب ويغلقه، وهي لا تتكلم. أتعب من الشركة والأصدقاء والمقاهي وأعود لأجدهما على الحالة نفسها. هو يردد الكلمات غير المترابطة كالببغاء وهي بجانبه. ينهد أخيراً من التعب وينام فتذهب هي لتنام، لا تستيقظ حتى يستيقظ. ذات يوم عدت وكانت ميا تستحم في الحمّام، أخذ صوت فتح الباب وغلقه بهذه الرتابة يدمّر روحي بانتظام، وأوشكت أن ألطم رأسه بالباب أو ألكمه بقبضتي. تمنيت أن يفتح النافذة بدلاً من الباب ويطير منها. نعم أردت أن يطير محمد من النافذة كالعصافير ويسكت هذا الصوت الرتيب نهائياً.)

***

ولأن بائعة الكلاسين حنان كانت تعاني من استيقاظ ذاكرتها المرتبطة بقدرتها الهائلة على الشّمّ فقد تمنت مع مطلع كل عام جديد لو تتعطل محطة استقبال الإشارات الكيميائية الشمية في دماغها أو لو أنها تُصاب دفعة واحدة بالخَشَم مدى الحياة، ليتوقف بذلك اندلاع المزيد من الحرائق في ذاكرتها الملبّدة بالأحداث.
للروائح قدرة عجيبة على استعادة ذكريات الماضي بأحزانه الكثيرة وأفراحه القليلة.
بعض الروائح تبقى عالقة بالذاكرة وتتأجج مع كل تحريض خارجي دون أن نتمكن من تمييزها ومقاربتها وشرحها في كلمات مفهومة، كأن يقول شخص ما "اشتقت لرائحة أبي رحمه الله"، وإذا ما سألته "وكيف هي رائحة أبيك؟"، حينها قد يرتبك ويتأتئ بالكلام دون أن نفهم منه ماهية رائحة أبيه، والشيء نفسه سيحدث حتماً حين تقول إحداهن "رائحة الخبز الطازج تذكرني برائحة جدتي".
تقول حنان: في الوقت الذي يتكلم فيه جميعهم عن اشتياقه لرائحة أمه وولعه بها وقدرته على استحضارها وتمييزها، احتجت أنا إلى أربعين عاماً كي أفهم سر رائحة أمي. تشرّبت برائحتها الزكية في الرابعة من عمري حين كنت أضع رأسي في حضنها واستنشقها. بعد موتها بفترة قصيرة كانت قد علقت تلك الرائحة بذاكرتي ـ حيث دأب قرن آمون على تخزينها في تعرجاته ـ وأبت أن تغادر رأسي مدى الحياة، حتى وأنا أعيش هنا في زنزانتي راضية بقدري.
ظهيرة ذات يوم شتائي وكنت ما زلت أتصارع مع نفسي في كيفية تفسير رائحة أمي، جلست آكل البامياء التي طبختها بالثوم والبندورة ورائحة الطبخ اللذيذ تعبق في أنفي وتثير فيّ الحنين إلى أمي، بعد وجبة الطعام الشهية تلك أخذت ألملم بقايا المائدة وأنا سعيدة، ومع أول ريح خفيفة غادرت مؤخرتي الكبيرة استيقظت فيّ رائحة أمي .. رائحة البامياء المطبوخة بالبندورة والثوم .. رائحة فُساء أمي.

***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا