الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية -الحياة لحظة- الفصل السادس - لا تتركني وحدي -

سلام إبراهيم
روائي

(Salam Ibrahim)

2023 / 8 / 5
الادب والفن


لا تتركني وحدي

كحاله طوال العمر ، أدرك متأخرًا.. «أنه كان يُنظَر إليه كمكان للمبيت ليس غير، في مدينة موسكو الشاسعة العسيرة ووضعها المضطرب أول التسعينيات».. أدرك ذلك بعد أكثر من خمسة أعوام، عندما أخبرته «جميلة» بالسبب الدفين لمبيتها في شقته، رغم اعتراض أخيها الكبير، الذي كان يسكن موسكو أيضًا مستأجرًا شقة.. لكنه لا يستطيع استقبالها خوفًا من زوجته المتسلطة.. هذا ما باحت به ل- «إبراهيم» وهما يسكران في شقتها، بغرفتها الوحيدة والشبيهة بشقته في موسكو، فهي الأخرى تقع في طابقٍ ثالث، يشرف على حديقة وسط البنايات.. قالت له:
- منعني عدة مرات من المبيت في شقتك حاججته: وين أبات لما أجيء إلى موسكو لمقابلة بعثة منظمة مساعدة اللاجئين وين؟!.. وأخي الديوث المقرن يصمت مكسور الرقبة.. ما يقول تعالي عندي.. كنت أختم كلامي .. بأنك أشرف منه وأكثر إحساسًا بالأخوة.. كان يصمت.. يصمت كأي جبان!.. وكأنني لست أخته.. وشرفه حسب القيم، التي يطالبني فيها بعدم المبيت في شقة تعج بالرجال.
- الحقير.. ينسى قصة حياتي.. وما عانيته من مشاق!.
- ...
كان «إبراهيم» قد اضطر في وضعه البائس إلى اللجوء إلى شقتها الضيقة في طابقٍ ثالث من بناية ضائعة وسط كوبنهاجن، غير قادرٍ على التعليق.. إذ خَبرَ مزاجها المتقلب المجنون جيدًا، فمرات عديدة ألقته صافعة الباب إلى الليل والبرد عقب حوار حاد اختلف فيه معها، فوجد نفسه ضائعًا يبحث عن مأوى.. محطة مترو.. مدخل بناية.. أي مكان مغلق يجد فيه شيئًا من الدفء.
حينما أتى بها «شيركو» أول مرة إلى شقته لم يكن قد رآها قبلا ، ولم يتسن له معرفتها عن كثب في تلك الليلة الصاخبة الحوار، لكنه كان في بعض اللحظات حينما يحلّ الصمت، يمرر عينيه على تقاطيعها مندهشًا !! وجنتان حجريتان.. شعر خشن منفوش يكسر المشط.. عينان صغيرتان ساقطتان في تجويف عميق وسط وجه كبير.. أنف ضخم مفروش بنسب تتنافر مع كتلة الوجه.. وشفتان.. العليا مثل خيط رفيع، والسفلى مكتنزة.. الجبهة واسعة ومحدبة تتقدم القسمات.. أما الذراعان فطويلتان لا تتناسبان مع قصر قامتها. لكنه لاحظ أن لها بشرة سمراء شديدة النعومة، مشدودة، ملساء، لو أن المرء عند مضاجعتها، غطى وجهها متخيلا وجهًا آخر لوجد في النوم معها متعة خالصة:
- يا لسفالة مخيلتك!.
يستنكر نفسه مشيحًا ببصره بعيدًا عنها في محاولة للاندماج من جديد في الجلسة وحوارها العنيف.. لكن ملامحها الصامتة؛ وهي تنصت مشمئزة مما يُكْشَف من أهوال جعله يحس عمق عذابها، ويستعيد كل ما سمعه عنها من لغطٍ وأقاويل وحكايات، وقتها اتخذ موقفًا مناصرًا لها دون أن يعرفها.. ف- «إبراهيم» أكثر الرجال في تجربة الجبل شُوِهَ بلغط كلامٍ يصدر من رفاقٍ فاقدي الضمير.. ليس هو فحسب، بل عندما يتأمل المرء عميقًا الشأن كله.. يجد أن الكل شُوِهَ بهذه الطريقة أو تلك.. لذا لم يلق بالًا لما سمع.. عن أصلها القروي كونها من مدينة «الثورة» بطرف بغداد الشرقي.. عائلتها نزحت من ريف العمارة بعد ثورة1958 .. وشاركت بحماس في المد اليساري.. ونشأت على تلك التقاليد. ذلك ما جعلها تقدم بشجاعة على كل ما لا تجرؤ عليه المرأة العراقية المسلمة في السبعينيات.. فأول ما أقدمت عليه (وكان ذلك وقتها يشكل خرقًا للقيم العراقية السائدة) هو إقدامها على العمل كممرضة في مشفى مدينة الثورة.. وكان ذلك الفعل خارق الجرأة في بيئة تعتبر الممرضات مجرد عاهرات .. عزم «إبراهيم»، وهو يغور في قسماتها شاردًا عن المتحاورين، على سؤالها عن كل ما سمعه عنها في أقرب فرصة.. وكان في أعماقه يجلّ جرأتها محتقرًا الرفيق الذي قال معلقًا بخبث:
- لو كانت اسمًا على مسمى حقًّا لما تطوعت كممرضة!.
نبّ آخر سوف يقتل بقصفٍ كيماوي في الأنفال، ويدفنه «إبراهيم» بيديه:
- كانت تريد تستعرض وقاحتها!.
- ...
- تركت العمل بعد أشهر!
فسأله «إبراهيم»:
- كيف عرفت هذه التفاصيل؟!.
فأجاب:
- كانت جارتنا تسكن في الشارع المجاور لشارعنا بقطاع أربعين بالثورة!.
علق رفيق كبير السن، كان ينصت بروية إلى الحوار:
- عندما تحكون عن الناس ضعوا الضمير قدام عيونكم.. أما عندما تحكون عن رفيقتكم خلوا الضمير هو اللي يحكي!
مما استدعى جارها إلى محاولة مداراة قول الشيخ بالقول:
- إنها شجاعة كمّلت دراستها في كلية الآداب.. وبالحملة على رفاقنا عام 1979 اختفت.. وظلت مختفية.. عام تمكنت 1982 من الالتحاق سرًّا بقاعدة «قرة داغ» بقاطع السليمانية.
لكنه عندما استدار رفيقهم كبير السن، همس جارها في إذن «إبراهيم»:
- ما قعدت راحة.. لعوب.. شدّت الكل!.
تذكر «إبراهيم» كل ذلك، وهو يتملى قسماتها الصخرية المصغية في جلستها المتوترة عبر المنضدة.. فانتابته رغبة جارفة في الضحك وتجسدت ملامح ذلك الرفيق الجادة أمامه وسط الجلسة، وهو يرنو إليه منتظرًا ما سوف يعلق به حول ما قاله عن لعبها.. وعبثها بقلوب الرفاق.
لم يفهم سرّ تحامل ذاك الرفيق المسكين، الذي دفنه على عجل بحفرة موضع دوشكا فصيل الإسناد القديم، إلا عندما أفضت «جميلة» له في ليلة صادف فيها مبيتهما وحدهما في الشقة قصة حياتها العنيفة.. فعقب تلك الجلسة العاصفة والتي اكتشف فيها الجميع فداحة ما اقترف في شعاب الجبال من فظائع بحق الإنسان.. وسؤال «إبراهيم» الذي أسقطهم في الصمت والنوم:
- هذا في صفوفنا ونحن نعتبر أنفسنا أكثر إنسانية، فماذا يجري إذن في صفوف الحزبين الكبيرين؟!.
كان يقصد«البرزاني» و«الطالباني».
- ..
- وإذا حسبنا مذابح «صدام»، فمن الخاسر إذن؟!
- ...!.
- لمَ تسكتوا.. العراقي.. أليس كذلك؟!
- ...
صرخ عندها «إبراهيم»:
- طز بيكم وبالسلطة وأحزاب المعارضة وكفاحكم المسلح..طززززززززززز!.
وانتهي الحوار بعفطة عظيمة انطلقت من فم «إبراهيم»!.
لم يأتِ أحدٌ في الأيام التالية، فسقط «إبراهيم» من جديد في دوامة السكر والتسكع، ومتعة التملي في المترو والمقاهي والمتاحف والأسواق بالأشياء، وأشكال الصبايا بعيونهن الضاحكة المقبلة بيسر إلى لعبة المضاجعة من بعيد، والدوران بين الساحات العامة؛ حيث كان يقف طويلًا يتابع العمال الروس، وهم يسقطون نصب «لينين»، وبقية رموز الثورة الشيوعية، مستعملين المطارق اليدوية للمنحوتات الصغيرة، والرافعات الضخمة للكبيرة..
كان يتلفت حواليه، فلا يجد ثمة من يكترث لضجيج المطارق وأجزاء الجسد الصخري المتهاوي على عشب الحدائق وأسفلت الساحات. الغريب في الأمر أنه لم يعد يفكر في زوجته وطفليه، وكأنه فارقهم إلى الأبد، تأمل هذا الإحساس فوجده غير دقيق، ليصل إلى إحساس أغرب.. كأنهم لم يوجدوا ألبتة.. فكان يبتسم بغبطة ويتوجه إلى أقرب كشك للبيرة.. يقف تحت شجرة متلفعًا معطفه الثقيل يرتشف وينظر بلا مبالاة نحو السماء الملبدة بغيوم الثلج البيضاء قبل أن يؤوب إلى الشقة ليواصل الشرب مبحرًا في أخيلته.. يحاورها.. يشتم أحيانًا.. يصرخ.. يشرب.. ويشرب إلى حد الانطفاء.
كان يترك مصباح بئر السلم مضيئًا؛ كي يستطيع رؤية الطارق من ثقب الباب.. صحيح أنه لا يستطيع رؤية الوجه.. لكنه يستطيع رؤية الواقف حد الصدر. فالمتشردة الروسية السكيرة قرعت الباب لليلتين متعاقبتين، وفي المرتين تَجَنبت الكلام عله يفتح، ولكنه عرفها من معطفها الأسود الطويل فلم يفتح الباب، سامعًا صوت شتائمها يختلط بوقع خطاها الصاعدة على درجات السلم إلى حيث ترقد.. قدر أنها كانت تأتي في الأيام السابقة.. لكنها تعود حينما تسمع الضجة والصراخ بلغة غريبة عليها.. في ذلك المساء المثلج عاد مبكرًا إلى الشقة، وفيما كان يعد لوجبة العشاء سمع قرعًا شديدًا على الباب.. جمد مطفئًا الطباخ.. عاد القرع بعد ثوانٍ. سار على أطراف أصابعه مقتربًا من الباب، انحنى نحو الثقب.. لم تكن المتشردة، ولكنه سكن منتظرًا إلى أن سمعها تقول:
- أي وين صرت؟!.
عندها فتح الباب، فقفزت إلى الخلف مذعورة:
- خوفتني!.
تعانقا، سألته وهي تحدق عبر كتفه إلى المدخل:
- اليوم وحدك!.
أجاب:
- وحدي من يوم النقاش اللي كنت حضرتيِه!.
عَلَقَت وهي تنضو عنها معطفها:
- حبيت صراحتك.. الكل يعرف .. والكل يغمض عينه ويسد أذنه!.
عاد إلى المطبخ فتبعته.. وجلست إلى الكرسي جوار النافذة. اتكأت وراحت تتابعه بعينيها، وهو يقلي شرائح من اللحم ويقطع الخضر ليعد السلاطة. كان «إبراهيم» لا يكف عن سرد النكت والمواقف الطريفة عن عالم رجال العصابات الضيق والخطر، متطرقًا إلى مخيلتهم الجامحة.. حدثها عن «بيوتش» القرية الحدودية، التي كانت مقرًّا وما فعلت بهم الصبية الكردية «سورين»:
- كنا نحلم بها جميعا ليل نهار. وصار اليوم بلا معنى دونها!.
- ...
- كنا نتخاصم ونغار من بعضنا البعض!.
ضحكت بصخب، أضاف:
- ويوم انتقلنا لغير مقر ذاك اليوم صار عزاء!.
قامت ورتبت المنضدة معه، فتح قنينة الفودكا قائلا:
- أتشربين؟!
- صب لي.. هو اللي يعيش بموسكو ست سنوات ما يصير سكير!.
أدرك «إبراهيم» من جملتها أنه مقبلٌ على دراما جديدة، لم تتضح ملامحها إلى تلك اللحظة، ولكنه أحس بها دانية تلوح خلف قسماتها التي أعتمت حال فراغها من جملتها. علق بنبرة جهد؛ كي تبدو شديدة البراءة:
- موسكو سيئة إلى هذا الحد!.
شخصت نحوه بعينين مهتاجتين وتناولت كأسها.. دلقتها مرة واحدة في جوفها.. مسحت طرفي فمها.. لم تتناول شيئًا يخفف من قوة الفودكا، بل بَلّتْ طرف سبابتها بلسانها، ووضعته في صحن الملح ومصته، ثم تناولت شريحة خبز أسود وشمته معلقةً:
- هكذا تُشْرَبُ الفودكا!.
هتف في نفسه:
- أصيلة.. سكيرة أصيلة يا عيني!.
أضافت:
- جرب هذه الطريقة!
وجد في الفودكا مع الملح والخبز طعمًا مختلفًا، وكأنه يدخل الروح الروسية التي ابتكرت هذا الطقس.. بعد عدة كؤوس توهجت ملامحها، وقالت:
- يبين الليلة ما راح يجيء أحد!.
حدق في ساعته اليدوية.. كانت قد تجاوزت الواحدة بعد منتصف الليل، قال:
- ما أعتقد.. المترو أقفل!.
قامت من كرسيها المظاهر لخزانة المطبخ قائلة:
- لننتقل إلى الغرفة!.
أرخت رأسها إلى مسند الأريكة القديمة، وحدقت في النافذة المقابلة عبر مكان جلوسه.. لم يلق بالًا أول الأمر.. كان منشغلا في ترتيب الصحون والكؤوس على الطاولة، ولكنه عندما فرغ وجدها لم تزل تحملق بشرود في النافذة. التفت نحو النقطة التي ترنو إليها فرأى ندف الثلج تتساقط ببطء، هابطة من العتمة الكائنة فوق قبعة مصباح الشارع المتدلي.. عاود التحديق نحوها، فأحس أن قسماتها تكتنز ألمًا مبرحًا بدأ بالفوران.
- «جميلة» ماذا بك؟!.
وكأنها بركان انفجر صرخت بوحشية:
- كل شيء في حياتي غلط.. كل شيْ!.
- ...
صمت «إبراهيم» منتظرًا كي تفضي بما في نفسها من آلام.
غادرت بنصفها الأعلى مسند الأريكة قائلة:
- يعني العراقية اللي تناضل يكون هذا جزاءها!.
لم يعلق «إبراهيم»، فكل شيء غامض بالنسبة له!.
- تصبح مهجورة في بلدة بعيدة بروسيا.. وحيدة حتى إخوانها ما يسألون عنها!.
وجد «إبراهيم» فرصة للسؤال:
- لماذا هذا الشعور بالوحدة؟!.
- لماذا.. لماذا.. أنت ما تعرف قصتي.. ما تعرفها..
صمتتْ قليلا لتقول:
- صب لي كأسا!.
تناولتها من يده.. عبّتْ كل ما فيها، ووضعتها على الطاولة قائلة:
- بعد ذلك الحوار تمنيت من كل قلبي أن أنفرد بك لأحكي لك كل شيء.. فلم أجد إنسانًا رجلًا أو امرأة من الرفاق أو المعارف يستأهل سماع عذابي.. وكنت أخاف.. أو أنا متأكدة من راح يسخرون مني، إذا حكيت اليهم ما مدفون بنفسي!.
- ...!.
لم يعلق.. لكنه هتف في نفسه بغبطة:
- .. لو كانت زوجتك وأولادك معك لما عرفت شيئًا! فأي عالم سري سينفتح لك يا «إبراهيم»؟!.
- اسمع أنتم الرجال من أقسى الكائنات في الطبيعة!
- يا ستار!
علق ضاحكًا وقرر في نفسه السكوت، والإنصات فقط.
- بتشجيع من إخوتي الشيوعيين، قدمت على إعدادية التمريض حالما أكملت المتوسطة.. فقامت قيامة المدينة وصار «قطاع أربعين» جحيمًا، وكأنني حينما أعود من المستشفى قادمة من الماخور.. وهنالك اكتشفت أن الممرضات اللواتي غالبيتهن من المسيحيات كائنات ملائكية، يتحملن قسوة الرجال سواء من يأتي كمراجع أو من الموظفين وحتى الأطباء..
قررت أن أستمر، لكن يبدو أن العائلة لم تتحمل ضغط الناس، فحاصرتني فتوقفت.. بعد ذلك قلت لنفسي سوف أستقر قريبًا، عندما تعلق بي شاب من أهل المحلة وخطبني.. لكن ما أن أخبرته بأنني فقدت غشاء البكارة في علاقة عابرة، عندما كنت مراهقة، حتى انقلب كل شيء.. تصنع أول الأمر لاعبًا دور التقدمي والجنتلمان.. لكنه تحول شيئًا فشيئًا إذ أحسست أن مشاعره تبرد إزائي.. كف عن تقبيلي، بل أصبح يتحرج من اللقاء بي.. فقلت له: مع السلامة.. وأكملت دراستي في كلية الآداب..
وفي تلك الأيام أواسط 1979 بدأت الحملة فاعتقلوني.. وفي أقبية الأمن العامة ببغداد أرونا الويل.. وتعرضنا جميعنا إلى الاغتصاب..
في الحال، خطر على «إبراهيم» سؤالها عن ذلك السر الذي شغله منذُ عام 1980، حينما حلّ هو الآخر نزيل زنزانات ذلك المكان مشتبهًا به، خُطِفَ من بارٍ في شارع أبي نواس.. فقد كان يسمع كل ليلة أصوات نساء ناعمة تنادي الحارس وتبادله الهمس والضحكات، حتى شك بأن ثمة علاقة حميمة قامت بين السجينة والجلاد، قاطعها متسائلًا عن سرّ مثل هذه العلاقة وكيف تنشأ، فقالت:
- أليست المرأة بشرًا؟!..
- بلى!
- إذن فعدد من المعتقلات يستسهلن الأمر بعد الاغتصاب، وإسقاطهن سياسيًّا فيجدن بتلك العلاقات متعة وهنّ المكبوتات طوال حياتهن، مضاف إلى عناية السجان بهن بشكل خاص.. كنا نلومهن بحذر خوف أن يَشين بنا.. فكانت الواحدة منهن تجيب: أنتن ما تدرين أش لون شبان حلوين ضباط الأمن!.
رجعت إلى قصتها قائلة:
- أيدت الاعتراف وتعهدت بعدم العمل السياسي، لكنني لم أكف. اتصلت بأخوتي المختفين، وكنت أساعدهم بالسر أوفر مكان يباتون فيه أو وثائق، يستطيعون التحرك بواسطتها إلى أن انكشف الأمر عندما اعتقل رفيق وانهار، فاختفيت وأش لون أيام تلك.. شفت الضيم.. واكتشفت حقارة الرجال.. فالعديد ممن اختفيت ببيوتهم من الرفاق والأصدقاء تحرشوا بي ليلًا متسللين من جوار زوجاتهم فتصور!..
قال «إبراهيم»:
- إنهم كلاب لو انهم فعلوا معك ذلك!.
راحت تقسم أغلظ الإيمان، وهو يقول في ذات نفسه:
- وبلا ذوق أيضًا.. فلو كنت المرأة الوحيدة المتبقية على الأرض بعد طوفان ثانٍ فسوف أفضل العادة السرية عليك!.
واستدرك مؤنبًا نفسه:
- لا تكن حقيرًا إلى هذه الدرجة!
وعاود الانتباه إلى ما كانت تقول:
- عندما وصلت إلى كردستان سرًّا.. تخيلت أنني وصلت إلى بر الأمان.. وأنا أستيقظ في الأيام على صوت الرفاق وضحكاتهم.. ونكاتهم.. ونشاطهم. قلت مع نفسي: سأجدكِ هنا.. وتنقلت بين عدة قواعد «قره داغ»، بيتوش ثم ناوزك- لأستقر في بشتاشان. وفي يوم وقع نظري على «قاسم» أحببته.. كان حنونًا.. وجدت به تعويضًا عن كل خسارات عمري.. وعزمنا على الارتباط.
سمع «إبراهيم» لغطًا عن رفيقة قبيحة الشكل انتقت أجمل رفيق.. .. لكنه لم يعرف بقية القصة أو أن ساردها تركها مبتورة فلم يتابع مصائر شخوصها.. بل يتذكر فقط ما خلص إليه الرفيق ذاك «كان الحرمان مركبًا في الجبل حيث تستحيل رائحة الأنثى وصوتها أيًّا يكن شكلها مصدرًا للأخيلة والعذاب»
- أتكون هي؟!
صمتت ومدت يدها إلى كأسها المملوءة.. وشربتها بنفس الطقس، رشفة واحدة مع قليل من الملح والخبز المشموم، قال «إبراهيم» في نفسه:
- كم تشرب هذه المجنونة؟.. ستتسمم!..
وضعت الكأس بذراعها المرتجفة.. وراحت تلعن الحزب والكفاح المسلح وكردستان وأباها وأمها وأخوتها والدنيا وكل شيء.. شتمت.. وعندما ذهب غضبها انفجرت في عويل وراحت تلطم على جبهتها بكفها اليمنى المفتوحة.. فقام إليها وأمسك كفها واضعًا رأسها على صدره.. مرددًا:
- اهدئي.. اهدئي.. لا شيء يستأهل هذه اللوعة.. لا شيء!.
تحول النحيب قليلا.. قليلا إلى بكاءٍ خافت، تلاشى بعد قليل، كان «إبراهيم» تواقًا لمعرفة بقية القصة.. أيكون النذل تركها ما أن تمكنا من التسلل إلى الأراضي السورية، بعد أن قضى وطره منها في تلك الظروف الصعبة كما حدث لبعض من الرفيقات؟!.. قال:
- ماذا جرى بعد ذلك؟!.
مسحت عينيها بمنديلها الأبيض، وقالت:
- في أيار 1983حوصرنا في موقع منعزل ببشتاشان. كنا ثلاثة رفاق ورفيقتين.. قررنا عدم المقاومة.. فالمعركة بالأساس لم نكن مؤمنين بها.. فجماعة فـ «أوك» هم إخوتنا في النضال.. فأسرونا.. وضعونا في الغرفة نفسها ووقف أربعة في حراستنا. وفي الصباح التالي تحركوا بنا باتجاه مقراتهم.. كنا نسير في الوسط يتقدمنا رفاقنا بوجوههم المكسورة الحزينة أمامنا وخلفنا يسير المسلحون.. تسلقنا قمة عالية مغطاة بالثلج.. وفي فسحتها العريضة وعلى الطريق الضيق المؤدي إلى الوادي التالي سمعت أحد المسلحين السائرين خلفنا ينادي على المسلحين، اللذين في المقدمة فما كان منهما سوى الابتعاد يسارًا عن رفاقنا الثلاثة عشر خطوات. وسحبنا أحدهم بعنف إلى الخلف. وبشكلٍ مباغت، أطلق الأربعة النار باتجاه الرفاق الثلاثة.. وأمام عيوننا سقطوا الواحد بعد الآخر.. جن جنوننا فرحنا نصرخ بفزع، وركضنا صوب أجساد الرفاق المبعثرة على الثلج.. رميت نفسي على «قاسم» كان يشخر نازفًا من صدره.. أخذته إلى صدري فنقع قميصي بنزفه.. لحد الآن أشعر بدمه الساخن يجرى على صدري.. بقيت أصرخ.. وأصرخ إلى أن فقدت الوعي!. وعندما استيقظت وجدت نفسي في غرفة دافئة إلى جوار رفيقتي.
يحملق «إبراهيم» في قسماتها الصخرية، وهي تلين عند سردها.. مفكرًا بقوتها الروحية الهائلة التي تحملت ذلك المشهد الدموي وهي ترى فتاها المنتظر يُقتل أمام عينيها، ظلت تردد مثل مجنونة:

- على صدري..على صدري
- ...
- دمه جرى على صدري.. بين ثديي.. غرقني.. أش لون أنسى؟!
وانفجرت مرة أخرى صارخةً منتحبةً وعاودت اللطم هذه المرة على نهديها البارزين لطمًا قاسيًا، فأسرع ليمسك بذراعيها ويحضنها مهدئًا إلى أن غادرها النحيب فراحت تبكي بصوت خافت.. أدرك «إبراهيم» وهو يحضنها أنها عندما خسرت ذاك الرفيق الجميل، لم تجد بديلًا، لاسيما أنهم بعثوا بها عقب فك أسرها مباشرة إلى سوريا ثم موسكو في بعثة دراسية.. لتكتشف في الأقسام الداخلية للطلبة الأجانب القادمين من كل العالم، وبأعمار بين الثامنة عشرة والعشرين، أنها لم تكن تلك الجميلة التي كانت تظن، وسط ذاك الجمال القادم من مغارب الأرض ومشارقها.. من جنوبها وشمالها.. وتلك العلاقات المفتوحة؛ وخصوصا للقادمين من بيئات مغلقة.. «إبراهيم» نفسه زار أحد الرفاق الساكنين في أحد هذه الأقسام، فأصابه الذهول تلك الليلة، وهو يرى ما يجري في تلك الغرف المفتوحة.. جعل يهمس بأذنها:
- كفى بكاءً.. كفى.. فالحياة فقاعة سرعان ما تنفجر!.
نطقها بطريقة ساخرة جعلها تنتقل فورًا إلى قهقهة، بدت كأنها تصدر من مجنون لتقول:
- منين جبت هذا المثل.. عيده..
أعاده وحدثها بتفصيل عن المصور الزنجي «شاكر م» واللافتة، التي خط عليها العبارة والمعلقة فوق باب الدكان، وتعلقه بكل صبي جميل يمرق من أمام محله.. أبهجتها الحكاية، لكنها كانت ترغب في مواصلة سردها عما جرى لها بعد الأسر في كردستان فواصلت، ولكن بتماسك هذه المرة:
- لم يصدق الرفاق عودتنا، لكن بعد أيام بدأت مصيبة من نوع آخر.. فما أن علم بعض الرفاق بمقتله؛ حتى تقربوا ملمحين في الكلام تارة والإشارة في أخرى برغبتهم في علاقة.. وقتها كان «قاسم» مالئ كياني كله.. كنت أشمه بالهواء وطعم كل شيء فعلناه في الخفاء في الكهوف والغابات طريًا يبكيني.. فكنت أبكي طوال النهار ونزفه الساخن، ما زلت أحسه على صدري وصدى شخيره قبل أن يغمى عليّ أسمعه إلى الآن كلما بقيت وحيدة..
قال «إبراهيم» في نفسه:
- هاهي سوف تقودني إلى دورة جديدة من النحيب واللطم!.
وفجأة ذكرت أسم «أبو الوسن» قائلة بلهجة مشوبة بالاحتقار:
- حتى أن هذا المخربط «أبو الوسن» عرض عليَّ الزواج.. تصور!.
علق «إبراهيم»:
- يبدو أنك تعرفينه!.
- أش لون ما أعرفه جارنا بقطاع أربعين بالثورة، وكان شرطي مطوع!
عندها أتضح أمامه كل شيء.. فوجد فرصةً كي يغير مجرى حديثها المؤدي إلى النحيب واللطم، فسارع قبل أن تواصل سردها بقول أثار فضولها:
- إذن فأنت من كان يلومها عندما وقع بتلك المصيبة!
- أي لوم.. وما هذه القصة؟!.
سألته بفضول وملأت كأسها.. وجد «إبراهيم» الفرصة سانحة كي يقضي على رغبتها في الندب وسرد المأساة، التي يجد فيها العراقي ملهاته، وكأنها العاشر من عاشوراء، مكررًا إلى الأبد قائلًا:
- اسمعي هذي القصة يا «جميلة».. اسمعي.. كنا معا في الفصيل وكان مثار سخرية الكل.. وأنتِ تعرفين في الوجبات أن كل ثلاثة يتشاركون في صحنٍ واحد. فقالت زوجتي: لماذا لا يشاركنا «أبو الوسن»، فالمسكين لا يجد أحدًا، وذلك يجعله أكثر عرضة للسخرية في وقوفه والصحن بيده متلفتًا باحثًا عن أحدٍ وسط قهقهات الرفاق..
ناديت عليه، ومن ذلك اليوم.. أصبح يتناول وجبته معنا.. منحه ذلك توازنًا معقولًا.. فقد كنا في الفصيل جديين.. متهمين بالتطرف.. وشدة التعلق بالمثل، لم يقل أحدٌ ذلك بصراحة، لكن كانوا يسمعوننا كلامًا من هذا القبيل..
لكن في صباح ما زلت أتذكره إلى هذه اللحظة.. كان مشمسًا والسماء صافية الزرقة .. رأيته مقبلًا عبر الوادي الضيق من ناحية غرف الضيوف الثلاث.. كان مسئولا عن ترتيب مبيت الضيوف العابرين مرتديًا نظارة سوداء عريضة العدسات، لم أكثرت بالأمر ظننت أنها إحدى طرقه لجذب الأنظار.. فلم أنتبه لوجهه الوارم كنت مشغولًا كليًّا، فبعد الفطور يجب أن أخرج بمفرزة إلى الفوج الثالث مع محقق القاطع بعدما قام مندس بتفجير مخازن العتاد.. عندما ذهب لملء قدح الشاي، همست زوجتي:
- ضاربيه.. ضاربيه!
لم أصدق فالعنف نادرًا ما يحدث بين الثوار.. لكنه حينما عاد بالأقداح لاحظت، ثمة كدمات طرية على وجهه.. ناولنا القدحين شاتمًا أحدهم وهذه عادته، فكلما سخروا منه يروح يشتم دون أن يحدد أحدًا وبصوت خافت يُسمِع من لم يسخر منه مثلنا، لم يكن لدي وقت حتى للتفكير.. وخرجت مع المفرزة لأعود بعد ذلك بأيام.. وجدت أن قسماته مجرحة مسحوقة حد التشوه.. قلت لزوجتي:
- بأي قسوة ضربوه!
الكل يلزم الصمت مبتسمًا، وثمة من يصرخ بأعلى صوته بين الحين والحين:
- يمة «الدوخين».. أش عمل بيه!.
و «الدوخين» هو حبل بمقام الحزام يشد السروال الكردي العريض.. والمسكين عندما يسمع تلك الصرخة التي يضج بعدها الجميع بالضحك، يزداد وجهه تشوهًا.. لم يطل الأمر فعرفته مفصلًا من صاحبي المحقق، الذي حقق في الموضوع، قال لي ضاحكا:
- تحرش برفيق شاب من السرية الخامسة!.
انخرطت جميلة بضحكة عاصفة صارخة:
- تحكي جد!
- اسمعي .. المسكين لم يستطع النوم والشاب الجميل يغفو على الفراش المجاور بوجهه الأبيض الغض المشع،.. لم يستطع.. وبنص الليل، وسوس له الشيطان فلم يشعر إلا وبيده تدب في الظلمة تحت البطانية وتعثر على عقدة «الدوخين» وتحلها. أنتظر قليلا فلم يصدر من النائم حركة.. زحزح الخيط والظاهر أن الرفيق الشاب فزّ لكنه ظل ساكنًا لكي يتبين الأمر، ففسره صاحبنا قبولًا، فحاول خرط السروال، وما أن أمسك بحافته بقوة حتى أطبقت كف الشاب القوية على المعصم المتسلل دافرًا الفراش، توسل «أبو الوسن» بصوت هامس كي لا يفضحه. وبصمت شدّ سرواله وطلب منه الخروج إلى الوادي.. تبعه بصمت في الممر الوسطي الضيق بين أجساد الضيوف النائمين.. سار به إلى عمق الوادي، وهنالك انهال عليه ضربًا.. كان المسكين يعتذر ويتوسل قائلًا:
- أضرب.. أضرب بعد بس لا تشتكي للحزب!
وعندما تكل قبضة الشاب.. يعتقد أنه أشفى غليله، فيعود به إلى القاعة، لكنه يفور بعد فترة وجيزة، يوقظه من جديد طالبًا منه أن يتبعه.. فيخطو خلفه بصمت إلى عمق الوادي متحملا دورة ثانية من اللكم والنطح والشتم.. كان يكرر متوسلًا كي لا يفضحه، ويرجعان إلى القاعة.
تكرر الأمر طوال الليل أكثر من أربع مرات.. وتحمل قبضة ذاك الشاب القوي دون أن يتأوه طمعًا بكتمان ما فعله، لكن الشاب ومع خيوط الفجر الأولى أبلغ الرفاق. فما كان منهم إلا حجزه في غرفة فارغة متروكة بفصيل الضيافة، بعد ساعات من خروجي في المفرزة.. هذه التفاصيل الدقيقة سردها الطرفان للمحقق، الذي علق ضاحكًا:
- المسكين أول ما واجهته لطم على جبهته المتورمة، وصاح «يا بوية راحت القاعدية» وهي درجة حزبية في الترتيب التنظيمي للحزب الشيوعي!
أطلقت «جميلة» ضحكة مجلجلة معلقة:
- أش لون حمار هذا!.
هدأت وقالت بوجه منتشٍ:
- لكن أش لون ذكرني.. واعتبرني سببًا من أسباب مصيبته!.
قال «إبراهيم»:
- أغرقتنا السماء بثلاثة أيام متتالية لم يتوقف المطر فيها هي الأيام التي حُبس فيها في غرفة الضيافة.. لا تدرين كم شعرت بالحزن. ذهبت لزيارته في الغرفة القديمة، وجدته مستلقيا على بطنه دافنًا رأسه بالوسادة وكأنه يودّ الغور فيها. كنت متعاطفًا معه بشدة، غافرًا فعلته.. كلمته بهذا المعنى.. وقلت له سأكلم رفيقنا المحقق كي يطلق سراحك.. وفعلا ذهبت إليه وتحاورنا، فهو الآخر كان نزيل سجن الحلة من 1963-1967 مع صديق شاعر من أبناء حينا أسرّ لي عن خفايا عالم السجن الغريب.. فذكرته بما كان يجري في سجن الحلة من تحرش جنسي بين الرفاق قائلًا:
- ظروفنا تشبه ظروف السجن في بعدها الاجتماعي.. حرمان وبيئة مغلقة!
وافقني، فطلبت منه أن يطلق سراح المسكين.. وفعلًا كتب لي ورقة إلى الحرس، أخذتها فورًا فأطلق سراحه. في الصباح نفسه، التحق بالفصيل.. كنا نحاول ردم الحفر المحيطة بقاعة الفصيل والمطبخ، والتي تجمعت فيها مياه الأمطار بحمل الحصى والتراب من مجرى الوادي. فصاحبني في حمل كيس جنفاص مفتوح نحمله من الجانبين مسافة أكثر من خمسة وعشرين مترًا. في تلك المسافة بين مجرى الوادي وقاعة الفصيل، كان لا يستطيع أن يبادلني الحديث، وكان يشعر بالذنب وبفداحة ما أقدم عليه، فراح يحاور نفسه بصوت مسموع، وكأنه يؤدي دورًا على خشبة مسرح.. فكنت أحيانًا أكاد أبكي على ما يفضي به، وأحيانًا أكاد أنفجر ضاحكًا.
صمت قليلا ليأخذ نفسًا ورشفة من كأسه، صاحت به:
- شو سكتت.. كمل بروح جدك.. كمل!.
قالت مسرورة.. وأشعلت سيجارة. لاحظ «إبراهيم» تلاشى علامات الحزن من قسماتها ليحل تضرج جعلها تبدو طرية. أسرّهُ تبدل حالها، لكنه توجس من طريقة نظراتها العميقة، والتي تكاد تلتهمه أثناء الحديث، حثته قائلةً:
- كمل.. حبيبي كمل!.
- ما جعله ينفجر مكلمًا نفسه هو صمتي، كان يتوقع أن أكيل اللوم له.. كان يحتاج مني بالذات اللوم والتقريع، فقد كنت من القلة الذين لم يسخروا منه طوال ثلاث سنوات قضيناها معا في تلك القاعدة. كنت أحمل طرفي الكيس بصمت، وأحدق به جانبيًّا.. كان أقصر مني بكثير. وكانت وجنتاه مزرقتين مليئتين بالخدوش وبقع الدم المتخثرة.. تمكنت من رؤية هالة زرقاء كبيرة تحيط بعينه اليسرى المرئية من جهتي، والتي يخفيها تحت نظارة سوداء عريضة. بعد وجبتي تراب وحصى نقلناهما، وفيما كنا نضع الكيس على أرض المجرى، صرخ شاتمًا نفسه، وكأنه يشتم شخصًا آخر مجسدًا يقف أمامه:
- كلب ابن الكلب.. ولك ما تستحي عمرك أربعين سنة، وتمد أيدك على «دوخين» رفيقك!.
كدت أنفجر ضاحكًا.. فاختنقت محدقًا إلى جهتي شاردًا بعيني إلى السفح الأخضر البعيد، وهو يستمر بكيل اللوم:
- ولك ما تستحي بكبر ابنك.. ما تستحي!.
كان لا يحدق ناحيتي أبدًا، بل يرمي بصره أمامه في طريقنا إلى قاعة الفصيل:
- ابن الحذاء أنت أش گلت لنفسك لما مدت أيدك بالظلمة.. أش گلت؟!
- ...
كان لا ينتظر مني شيئًا.. ويصمت كلما وصلنا قرب الرفاق المنهمكين في ردم الحفر في المطبخ والساحة.. لكنه يعاود الحوار ما أن نبتعد إلى المسافة التي لا يسمعه فيها سواي:
- سجنوك.. الله يطيّح حظك.. سجنوك.. مثل أي مندس لو عميل... تستأهل.. حمار.. تستأهل!
نفض الكيس الفارغ قبل فرشه على الأرض، ثم واصل:
- لا.. لا.. والله ما تستأهل.. كل ظروفك عكس وكلها سببها الرفاق.. خربوا حياتك!
صمت ونحن نعبئ الكيس بالتراب والحصى.. التفتُّ إليه هذه المرة بشغف.. صرت شديد الفضول لمعرفة كيف خربوا حياته. وجدته صامتًا يتموج الألم تحت بشرته المتورمة، مثل موجة تصعد حتى الشعر وتنزل لتختفي تحت الحنك تمامًا.. أحسسته حاقدًا على الوجود برمته.. عزمت على سؤاله عن ذلك، لكني تراجعت قائلًا لنفسي:
- لا.. لا.. سأخرب كل شيء!.
فرحت ألقى بالتراب والحجر على الكيس المفروش، وكأن أمره لا يعنيني.. فواصل:
- أي نعم هم اللي حطموا حياتك وَوَصّلوك لهذا الحضيض.. ثلاثة أيام.. سجنوك الرفاق ثلاثة أيام.. أخ كانت أش طولها.. عمر.. شيبتك .. وأنت تكتشف أش لون خربوا حياتك.. ظلوا كلما تريد تستقر وتتزوج يوقفون بوجهك.. بالثمانية وسبعين تعرفت على وحدة بسفرة حزبية، وما بقى غير تودي الخطابة. وصارت الحملة قالوا: لازم تختفي رفيق.. قلت لهم: وخطيبتي قالوا: أوامر حزب.. كنت أظن يوم.. يومين.. شهر.. شهرين.. طولت القصة وقالوا: لازم تطلع للخارج..
بألف يا «علي» دبرت جواز ووصلت بيروت، وبها تعرفت على شابة فلسطينية تشتغل بأرشيف مجلة الجبهة الديمقراطية الفلسطينية «الحرية» ، وردت تتزوج، قالوا: لا رفيق لازم تسافر لليمن.. ليش.. ليش؟!.. قالوا: ضرورات تنظيمية.. سافرت.. وراحت عليك.. وباليمن.. اشتغلت معلم رياضة بمدينة «أبين»، وهناك تعرفت على معلمة يمنية بالمدرسة اللي تشتغل بها.. وقلت مع نفسك: هذي المرة انحلت عقدتي.. وصارحتها فطارت من الفرح.. ولما خبرتهم قالوا: يا زواج رفيق يا زواج.. عدنا كفاح مسلح بكردستان.. حَضّرْ نفسك بعد شهر تسافر لسوريا حتى من هناك تتسلل إلى أرض الوطن وتكمل الطريق..
ما عاندت يا حمار.. ما عاندت مثل ما سووا بعض الرفاق.. بقوا هناك باليمن صار عندهم أطفال وعائلة.. صحيح طردوهم أول مرة من الحزب، لكن بعدين مشت أمورهم ورجعوهم للتنظيم.. لكن أنت حمار.. حمار.. حمار.. تنفذ كل ما يقولون.. دون عناد.. ولا نقاش.. حيل تستأهل.. كل ما يصير وياك.. وهنا بكردستان..
خربوا عليك أخر فرصة.. الرفيقة اللي التحقت من الداخل.. كانت تضحك وياك وتمزح.. وتنكت.. يعني صارت صديقة.. وقلت بعد ما استشهد زوجها راح أسِدّ مكانه وأخفف عليها الوحشة.. وهي جارتنا ومن عائلة فقيرة.. يعني من ثوبي.. لكنهم الرفاق الخبثاء وسوسوا بأذنها.. الخبثاء.. فرفضتني.. رفضتني!
وعند هذا الموضع، أضمر «إبراهيم» عنها ما علق به المرحوم الذي توقف صامتا.. طلب منه إنزال الكيس المعبأ بالتراب والتفت نحوه للمرة الأولى والأخيرة طوال حواره الطويل قائلا:
- «لو أتشوفه» يقصد «جميلة» ما تگدر تباوع بوجهه
- ...
- القرد أحلى منها.. ورفضتني!.
قطع «إبراهيم» القصة ضاحكًا بخبث وسألها:
- لماذا رفضت ذاك المسكين!.
وحملق في ملامحها التي أبرقت وأضاءت، قال مع نفسه:
- انفعال المرأة نفسه كلما أصبحت أنوثتها موضع الحديث!.. النشوة مكررة في وجه زوجتي وأختي والرفيقة والزميلة وحتى عمتي وخالتي وأمي، عند مزاحي حول علاقة حبهن بالزوج.. ويوم الزواج!
أطلقت ضحكة عاصفة وتوردت وجنتاها مترققة بشكلٍ أذهله، وقالت مع غنج في صوتها الذي صار ناعمًا بغتة:
- حمار.. يفكر أتزوجه بعد الشهيد.. حمار!.
أزعجته بردها فتذكر كيف عثر عليه ليلة قصف المقر في فجر اليوم التالي واقفًا على رأسه، المحشور في دغل شجرة كثيف وسط السفح. واقفًا بشكل مستقيم بحيث ظنَّ أول الأمر بأن سروالًا معلقا بشكل مقلوب.. نزل عدة أمتار ليتأكد، فصرخ بالآخرين كي يأتوا ليساعدوه..
- .. ليش سكتت؟
قالت له بصوتها الغنج، وتفاصيل قسماته المطعونة المتورمة المزرقة النابتة وسط الدغل، تحرز صرخة فزع لا توصف باقية رغم تشوهها، تتجسد قريبة من عينيه ضخمة.. صارخة إلى الأبد وهو يسحب الرأس المحشور بأناة من بين حشد السيقان المحيط به، بينما الرفيقان الآخران يمسكان بالجسد من الساقين والبطن.. فاء إلى «جميلة»، وهي تسأله:
- وين صار جاري الحمار.. هنا بموسكو لو وصل للسويد؟!.
أجابها ساخرًا:
- لا هذا.. ولا ذاك.. صعد إلى السماء
- ماذا تقصد؟!.
صمت برهة وجيزة، وشخص نحو النافذة.. الثلج ما زال يتساقط بغزارة.. والليل صار لونه باهتًا.. عاد إلى التحديق نحوها. كانت تنتظر الجواب مترقبة حركة شفتيه، وكان حائرًا، فلو أخبرها بمصيره ستعود إلى الولولة والندب، وإذا لم يخبرها سيظل نادمًا لعدم الرد على تطاولها بهذه الكيفية الساخرة على ميت محروم، كان يردد دومًا.. خاف أستشهد وأصير مثل « جبر من .... أمه للقبر». حزم أمره فسرد عليها تفاصيل مقتله، وقبل أن تشرع في البكاء والندب.. وضع كاسيت فلامنكو إسباني.. وقام يرقص وسط الغرفة محركًا جسده على إيقاع أصوات المغنين الناعبة والتصفيق وكعوب الأقدام الضاربة الأرضية الخشبية بنسق فريد.. جعلت تصرخ مذهولة:
- يا الله.. يا الله.. أش لون ترقص حلو!.
وقامت ترقص إلى جواره حتى تعبا.. جلست قائلة:
- عندك شرب!.
كانت القناني والكؤوس فارغة. لم يجد في أدراج المطبخ شيئًا، ارتدى معطفه قائلا:
- عشرة دقائق فقط وعدنا شرب!.
- يا محل مفتح بهذه الساعة!.. سأجيء معك!.
كانت تلبس معطفها.. وعلى السلالم شبكت ذراعها في ذراعه. وظلت تضع رأسها على كتفه طوال الطريق إلى البناية، التي تبعد خمسين مترًا عن بنايتهم حيث العجوز، التي تبيع الفودكا بشقتها بسعر السوق السوداء وعلى مدار الساعة.. كانت تشكو من الرفاق الذين يدرسون في موسكو متهمة إياهم بترك رفيقاتهم، والتعلق بالشابات الروسيات العاهرات حسب تعبيرها:
- من العاهرة الروسية يقبلون كل شيء.. لكن من رفيقتهم بنت بلدهم يحسبون عليها حركاتها وسكناتها!.. ويشردون منها!
كان يقول لها:
- أنسي كل شيء.. الحياة فقاعة..
فكانت تكمل صارخة تحت الثلج:
- خلِّي نصورها قبل ما تنفجر!.
انتبه إلى التحوير في المثل، فأراد جس النبض فقال:
- متى؟!.
- الليلة.. الليلة.. وين كنت مضموم!
أصرّتْ على الصعود معه إلى شقة العجوز الكائنة في الطابق الأول.. وكانت تزيد من التصاقها به. وفي طريق عودتهما، أحس برغبة شديدة في الهرب مما سيجري بعد ساعة في الشقة.. رغبة خَبَرَها جيدًا حينما صحبته المتشردة الروسية إلى محل بيع الخمور وتركها هاربًا، وهي تتشاجر مع صف الروس المنتظرين دورهم للشراء.. هنا مع «جميلة» ليس دافعها الشعور بالخجل والترفع، بل دوافعها مركبة.. فقد لا يستطع تخيل نفسه في الفراش معها، ليس كونه شريفًا.. عفيفًا.. فهو اكتشف نفسه سافلًا مركبًا بالسليقة في تجربتيه السابقتين، يضاف إلى أنه تحرر تمامًا من الشعور بالذنب لخيانته، لأنه تحرر أصلًا من هاجس العائلة، لا بل وكأنه لم يتزوج أصلا.. يريد تصوير الحياة قبل أن تنفجر.. لكن ليس مع هذا الشكل.. فما كان يأسره بالمرأة ليس أعضاؤها الجنسية المجردة، بل ما كان يمور في وجهها من انفعال، يضفي على القسمات الجميلة سحرًا، يتجلى في اللحظات السابقة للذروة.. كان يردد دائمًا:
- المضاجعة.. هي مضاجعة وجوه لا فروج!.
فكيف المهرب.. وإلى أين؟!. كان يسأل نفسه وهما يصعدان سلالم الطابق الثاني. وفي الفسحة المؤدية إلى باب الشقة انفصل عنها.. وأدخل المفتاح بالثقب وأداره.. كانت تحتك به من الخلف ضاحكة، فتنتابه قشعريرة ورعدة ينكمش لها جلده.. تهالك على الأريكة منهكًا.. صامتًا بينما راحت تغني:
- ربيتك زغيرون «حسن».. ليش أنكرتني
عيني حسن!
وتنحني نحوه لتقرص وجنتيه المتصلبتين، قبل أن تستدير نحو المطبخ قائلة أنها ستجلب الثلج والليمون والحمص المسلوق. ما أن غيبتها الثنية، حتى ملأ كأسًا حتى الحافة ودلقها دفعة واحدة في جوفه.. عبّ الثانية قبل أن تعود.. وبعد دقائق بدأ يحس بالخدر يسري من رأسه حتى قدميه.. كانت مستمرة في الغناء في المطبخ بصوتها المرح.. ثقل رأسه وصوت خطاها المقتربة يرن وكأنه قادم من زمن آخر.. تبسم في وجهها وسمعها تصرخ في دهشة قائلة:
- «أش بيك يا معزه طَيرِت نص البُطِل بلحظة!».
وجلست جواره منهمرة بحديث ما.. ورويدًا..رويدًا راح يتأرجح على حافة النوم فاتحًا عينيه بعناء.. متصنعًا الإنصات إلى ما تقوله، دون أن يفهم شيئًا إلى أن لم يعد باستطاعته فتح عينيه.. فأطبق أجفانه.. اقتربت منه وراحت تمسح جبهته برقة، وتناديه بحنان:
- أگعد يخايب.. أگعد.. أرجوك لا تتركني وحدي!
كان يهبط إلى قاع النوم على وقع بكائها المكتوم.
استيقظ مع الفجر.. حملق حواليه.. على الطاولة القنينة فارغة، وإلى جواره على طرف الأريكة وجدها مكورة، تغفو وقسماتها تنضح ألما.. صرخ في صمت:
- حقيييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييرر!.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي


.. تسجيل سابق للأمير الشاعر بدر بن عبد المحسن يلقي فيه أبيات من




.. الفنانة غادة عبد الرازق العيدية وكحك العيد وحشونى وبحن لذكري


.. خلال مشهد من -نيللى وشريهان-.. ظهور خاص للفنانة هند صبرى واب




.. حزن على مواقع التواصل بعد رحيل الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحس