الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية النجوم تحاكم القمر حنا مينه

رائد الحواري

2023 / 8 / 5
الادب والفن


رواية النجوم تحاكم القمر
حنا مينه
بداية أنوه إلى أهمية الحوار بين القراء، حيث يسهم في تقليص الوقت للوصول إلى ما هو ممتع وجديد، بالأمس قرأت حوار بين يسري الغول وزياد خداش وعلمت أهمية رواية "مشانق العتمة" ومجموعة "جون كينيدي يهذي أحيانا" وما وصولي إلى رواية "النجوم تحاكم القمر" إلا نتيجة حوار مع الشاعر عبد السلام عطاري الذي نصحني بقراءة الرواية لما فيها جديد.
الرواية تتحدث عن علاقة الكاتب بالشخصيات الروائية التي كتبها في أعماله، وحتى تلك الأعمال التي سيكتبها لاحقا، من هنا تنبع أهمية الرواية، فهي تعرف القارئ على كل ما أتجه "حنا مينه" وما سينتجه من أعمال، وقد أشار الكاتب/"عناد الزكرتاوي" إلى الكيفية التي (يخلق) بها الشخصيات وكيف أنه منحها حرية التحدث والتصرف دون أن يتدخل بها، وقد عبر عن هذه الفكرة من خلال محاكمة الشخصيات الروائية له خاصة "مريم السودا" التي كانت (بوز مدفع) موجه نحو "الزكرتاوي"
بما أن هناك محكمة ومحاكمة فهذا يستدعي وجود حوار، وقد أشار الكاتب إلى هذا الأمر، موضحا أن شكل الرواية يعتمد بشكل أساسي على الحوار وهذا يعد تغييرا وتجديدا في الرواية، ونلاحظ أن العنوان "النجوم تحاكم القمر" منسجم مع الحوار ولأحداث التي تجري في المحكمة، كما أن السارد حاول التجديد في الرواية من خلال استخدامه للهجة المحكية، خاصة تلك التي جاءت على لسان "مريم السودا" حيث كان تدخلها وصوتها متميزا عن بقية الأصوات، مما جعل المحكمة تبدو حقيقية، فالمتحدثة امرأة لم تحظى بقدر من الجمال وكانت تسير بطريقة غير سوية، مما جعلها تتصدى لمُوجدها وتطالبه بحقوقها كامرأة كاملة وجميلة كحال "كاترين" التي لاحقها الرجال يطالبوان ودها.

الروايات وشخصياتها
من العنوان نبدأ حيث تجري محاكمة "عناد الزكرتاوي" من قبل مجموعة من الشخصيات الروائية، يقدمها بهذا الشكل: "المتهم رفع حتى العاهرة إلى مستوى الكرامة الإنسانية، وهذا ثابت في كتبه: الياطر، مأساة ديمتري، الأبنوسة البيضاء، وغيرها، إن المرأة في هذه الروايات، رائعة البهاء" ص68، نلاحظ أن السارد لا يقتصر على ذكر أسماء الروايات فحسب، بل يتناول فكرة الروايات أيضا وأهمية المرأة كعنصر أساسي فيها.
من هنا نجد مجموعة من الشخصيات تعلن تمردها على "الزكرتاوي": "سيدي الرئيس! حضرات المستشارين! أبن الحمال هذا نازي قديم، كان، خلال الحرب العالمية، مؤيدا لهتلر في سورية، ودوره واضح ومحدد في رواية "الشراع والعاصفة" لذلك هو يكره الزكرتاوي والطروسي، وقد أثار، مع أبن برو، الشغب في المحكمة بقصد إحداث فتنة" ص147، إذن هناك العديد من الشخصيات تظهر للعلن مبدية امتعاضها من مُوجدها: "أنا شكوس العاقلة، من "حارة الشحادين" الرواية التي وعد الزكرتاوي بكتابتها وأخلف.
ـ أوضح اكثر!
ـ وهل هناك حاجة للإيضاح يا محكمة؟ أقول "حارة الشحادين" يعني "حارة الشحادين" ألا تعرفون اللاذقية؟: كيف تحاكمون هذا الجمع، ونصفه من اللاذقية إذن" ص235، المثير في هذا الحوار أنه ذكر عمل روائي قادم سيكتبه السارد، وأيضا يحدد مكان الأحداث، وبما أن هناك تركيز على "حارة الشحادين" فهذا يشير إلى واقعية المكان وأهميته في الرواية وفي الواقع.
المحكمة
فكرة المحكمة بحد ذاتها مثيرة للقارئ، وتجعله يسأل: هل يجوز أن تحاكم شخصيات روائية كاتبها؟ وهل هذه المحكمة حقيقية روائية؟ وهل هناك همزة وصل بين الواقع الروائي والفانتازيا، ولماذا جاءت هذه الرواية، وما دورها ومكانتها في أدب حنا مينه؟.
أعتقد أن الجمالية الروائية والفنية نجدها في شخصيات روائية تحاكم "عناد الزكرتاوي" وفي الحوار الدائر فيما بينها، فعندما تسأل: لماذا وجدت بهذا الشكل وليس بشكل آخر مغاير، تقنع القارئ بأن هاك شخصيات متخيلة لكنها قريبة من الحقيقة، من الواقع، لهذا هي شخصيات إنسانية نتعلم منها وتعلمنا ما يجب أن يكون.
كما أن وجود الحوار كعنصر أساسي في الرواية التي من المفترض أن تعتمد على الأحداث ووصف المكان وتصوره، يعد تجديد في الشكل الروائي، وبما أنها متعلقة بالروايات وبشخصياتها فقد كانت بمثابة تعريف القارئ بطبيعة ما كتبه "حنا مينه" الذي تحدث بصوته من خلال "الزكرتاوي" مدافعا ومظهرا موقفه من العديد من القضايا الأدبية.
تبدأ المحكمة بهذا الشكل: "أنا مظلوم! مظلوم والله! يا سيدي، هؤلاء أبنائي، أنا خلقتهم، أنا جئت بهم غلى الوجود، ألم تسمعهم ينادونني "يا أبتاه!؟ الأبن لا يقاضي والده" ص56، لكن الشخصيات تتجاوز هذا الاستعطاف وتصر على محاكمة مُوجدها، من هنا نجد "الزكرتاوي" يستسلم لهذا الواقع بقوله: "أشهد أغرب محاكمة لأعجب ادعاء، غرابة محكمة أنها عائلية، بين خالق ومخلوقاته، بين أب وأولاده، وعجيبة الادعاء أنه ادعاء بظلم وقع ولم يوقع، صادر عن كائنات رأت النور، وكائنات تنتظر دورها لتراه، والمتهم مسؤول عن الذين استولدهم من رحم الغيب، ومنحهم الحياة، وعن الذين لم يستولدهم بعد، لأن حينهم لم يحن بعد" ص60، إذن فكرة المحكمة بحد ذاتها غريبة وعجيبة، وهذا ما يستوقف المتلقي ويستثيره ليتوقف عند فكرة الرواية وما سيجري من أحداث، وبهذا يكون السارد قد استطاع جذب القارئ إلى حدث عجيب/غريب، تستحق معرفة ما فيه من تفاصيل.
منطقيا، إذا أخذنا بحقيقة المحكمة وواقعها عليها أن تحاكم "الزكرتاوي على الشخصيات التي أوجدها، أما أن يتم محاكمته على أشخاص لم يأت بهم بعد، فهذا الظلم بعينه:
"وعلى ماذا ستحاكمونني إذن؟
ـ على تشويهك لمخلوقاتك.
ـ التي في رأسي، أم التي خرجت منه!؟
ـ عليها جميعا.
ـ هذا ظلم، هذا ظلم شنيع" ص84، فكرة المحكمة بحد ذاتها تعد حافز للمتلقي ليفكر في منطقها، فالمحكمة (غير عقلية) وتزداد (جنونا) عندما أرادت أن تحاكم "الزكرتاوي" على أشخاص لم يخرجوا لحياة بعد.
النائب العام يدلي بدلوه في هذا الجانب قائلا: "لسنا لتقرير أسبقية البيضة على الدجاجة.. هذه متاهات وسفسطة! الزكرتاوي كان واضحا في قوله إن كل هؤلاء الموجودين في هذه القاعة، كانوا طيوفا في رأسه قبل أن يكونوا شخصيات في كتبه، إذن هناك طيوف صارت شخوصا، وهناك طيوف ما زالت طيوفا، والقضية هي التالية: من له حق الأسبقية في نظر دعواه، الشخوص أم الطيوف؟ النيابة العامة ترى حق الأسبقية للشخوص، لكنها لا تعترض في نظر قضية الطيوف بعد ذلك" ص116و117، نلاحظ أن هناك (منطق عقلي) في المحكمة، والنائب العام يستخدم التحليل وكأنه في محكمة حقيقية، وهذا ما يثير المتلقي الذي يرى أن هناك (جنون) في المحكمة الروائية.
"الطروسي" بطل رواية "الشراع والعاصفة" يوجه هذا الكلام إلى "الزكرتاوي: "ثم الحق عليك، لماذا خلقتنا، في كتبك، على هذه الصورة؟ أو لماذا خلقتنا أصلا؟ نحن في عالم غريب، عجيب، فاسد كما ترى، فلماذا خلقتنا!؟
ـ خلقتكم لأنني خالق، أم كنت تريدني أن أبقى عاطلا عن العمل؟ سعيت إلى الخير وها أنا ألقى الشر؟ أهذا جزائي؟ إن الخالق الأدبي يرسم بالكلمات، وها هو بالكلمات يحاكم، فهل هناك ظلم أبشع من هذا!؟
ـ هذا جزاء كل من .. أمثالك.. من يزرع الريح يحصد العاصفة.
ـ لكنني أنا الذي أنقذتك من العاصفة!
ـ كان هذا في الماضي، ونحن أولاد الحاضر
ـ عقوق! هذا زمن العقوق! هل يحاكم الأبن أباه؟ أين الضمائر؟
أصوات:
ـ خفنا عليها من الفساد فوضعناها في الثلاجة!
ـ والفساد كله في الثلاجة؟
ـ الحق إذن على الثلاجة
ـ حاكموا الثلاجة
ـ العالم كله ثلاجة
ـ لنحاكم العالم إذن" ص95و96، بهذه الفانتازيا أوصل السارد فكرته عن الواقع، عن العالم، وما يعانيه الناس من فساد وموت للأخلاق والضمائر، إذن هناك تناول لمشاكل الواقع من خلال المحكمة الروائية، فهي ليست مجرد محكمة (أدبية) بل محكمة للواقع أيضا، وهذا ما أوضحه المتحدثون في المحكمة.
اللافت في المحكمة صوت "مريم السودا" التي لم يسلم أحدا من لسانها ولا من هجومها، فهي تهاجم الكل حتى زوجها "نايف الفحل": "ـ سيدي الرئيس! الادعاء يلتمس إلقاء هذا الوغد، نايف الفحل، على المزبلة، إنه فحل في الاسم لا في الفعل، أنا زوجته وأعرف، هذا الخرقة المبللة خائب في كل شيء، إلا في الشغب، وليس للمشاغبين مكان هنا.
ـ كفي يا مريم، عن الردح، وكف، يا نايف، عن القشورة، أنا أبو فارس قبل أن أكون رئيس محكمة، وأنا أعرفكما جيدا، أنتما تنقلان نكد البيت إلى المحكمة" ص74، نلاحظ أن شكل المحكمة وطريقتها أقرب إلى لجان الصلح التي تفصل بين المتنازعين، حيث تتناول أكثر من شخص/قضية/حدث في الوقت ذاته.
تتداخل مجموعة شخصيات روائية معا فنجدها مجتمعة في هذا المشهد:
"ـ لا تصدقوها! مريم السودا زوجتي وأعرف بذاءاتها، قصوا لسانها!
ـ أنت يا نايف ، يا رخو، تطالب قص لساني؟ ومن يقص لساني!؟
الطروسي
ـ أنا يا مريم
ـ الذي يقص لساني لم يخلق بعد.. لا تقترب مني يا طروسي المساس بالمرأة مساس بالعرض!
ـ وهل أنت امرأة يا هرقولة!؟ أنا الطروسي، أنا من يمس عرضك وطولك معا، أحملها يا مفيد الوحش إلى قفص الإتهمام" ص123، مفيد الوحش بطل رواية نهاية رجل شجاع يجتمع مع الطروسي بطل الشراع والعاصفة مع مريم السودا إحدى شخصيات المصابيح الزرق، فهذا الجمع الفانتازي يثير القارئ ويأخذه إلى عالم روائي متخيل غير واقعي، وأيضا يحفزه على التعرف على تلك الروايات مباشرة من خلال قراءتها ومعرفة تفاصيلها وطبيعة شخصياتها، وبهذا يكون السارد قد قدم مجموعة فوائد أدبية ومعرفية للقارئ.
ولم يقتصر الأمر عند "نايف الفحل" بل طال أيضا "كاترين" التي تكن لها "مريم السودا" عداء مطلق، فنجد مجموعة من الأصوات الموجودة في المحكمة تطالب بمحاكمتها على أفعالها: "النيابة العامة على باطل، كاترين الحلوة على باطل، أخلعوها، أخلعوها، هذه المجرمة التي قتلت أفضل رياس بحرنا، وعلقت رؤوسهم، إمعانا في الانتقام، فوق عتبة بابها، نحن نعرفها، هذه المنتهكة التي خانت الأب مع أبنه، وزنت حتى ضج منها الزنى، فجاء المتهم، عناد الزكرتاوي، وقدمها في فجورها، وإغراء به، حتى بتنا نخشى منها على نسائنا" ص90، التعريف ب"كاترين" ودورها يحفز القارئ على التعرف عليها اكثر من خلال معرفة التفاصيل التي جاءت في رواية "المرفأ البعيد" كما أن طريقة تدخل الجمهور في المحكمة يعطي القارئ إشارة ـ بطريقة غير مباشرة ـ إلى ضرورة رفض ما هو غير صحيح، حتى لو كان للمكان هيبة، فالسارد يعلمنا التمرد على ما هو سائد وعدم القبول بما هو مطروح، ما دام يتناقض مع الحقائق والأخلاق.
وتحضر شخصية "زكريا المرسنلي" ليدعي على "الزكرتاوي" تحت هذا البند: "قضيتي يا سيدي القاضي، لا تحتاج إلى صد ورد، كلمة من الزكرتاوي وأستريح، اسأله فقط متى يكتب الجزء الثاني من "الياطر" وبعد ذلك أتحول من ذئب إلى نعجة!ّ
رئيس المحكمة
ـ متى تكتب الجزء الثاني من "الياطر" يا زكرتاوي؟
ـ حين يصير لدي الوقت!
ـ أنت تضحك عليّ يا ابن القحبة! 18 سنة لم يصر لديك وقت، بينما أنا أنتظر وأتعذب؟ سأخنقك بيدي هاتين (يفتح) بيديه الغوريليتين ويهجم على قفص الاتهام وأمام الجميع
الطروسي
ـ قف يا زكريا ، يا مجنون (يركض ويمنعه من الوصول إلى الزكرتاوي نحن في محكمة لا في سيرك أنت سألت وهو أجابك فماذا تريد بعد؟
ـ أريد إكمال قصتي!! 18 سنة يا هو! يا ناس! وأنا أنتظر (يبكي) وهذا المخروط الذي اسمه الزكرتاوي يؤجل ويؤجل، بينما حبل المشنقة يتدلي فوق رأسي، فهل هذا يجوز أن أبقى فارا من وجه العدالة، عائشا في الغابة، بينما هو يتسلى بكتابة قصص عاهرات البلغار؟" ص138، المشهد يبدو وكأنه محكمة حقيقية، حيث نجد ثورة المرسنلي على الظلم الواقع عليه وكيف أنه يسعى لتخلص من هروبه في الغابات بعد أن طال زمن إبقاءه مهملا من قبل "الزكرتاوي"

أدبية المحكمة
المحكمة تتناول جوانب فنية الرواية وكيف يجب أن تكون، تتحدث "كاترين" عن "الزكرتاوي" قائلة: "لأنك كنت منصفا معي، لعبت الدور الذي رسمته لي بحرية، دون تدخل مباشر منك، لم أكن قدسية ولا إبليسة، كنت أنا ذاتي، كاترين التي فتنت الرياس الذين أحبوها، لم تأخذني بجريرة أعمالي، لم تصدر عليّ حكما، بالبراءة أو الإدانة، أكثر من ذلك، أحببتني أنت أيضا، حب الرجل للمرأة، لكنك كتمت حبك، باعتبارك الخالق الأدبي العادل، الذي هو فوق الحب والكره، ومهمته الرسم بالكلمات فقط، كنت، حقا، رائعا" ص106، اللافت في هذا القول أنه يعطي القارئ والكاتب الأدبي فكرة عن طبيعية العمل الأدبي وكيف يجب أن يتم صياغته، فهناك مساحة تفصل الكاتب عن السارد، وهي من تعطي الشخصيات الحرية للتحدث وتفعل كما تريد هي لا كما يريد مُوجدها، من هنا هذه الفنية ضرورة أساسية في أي عمل أديبي، وعلى القارئ أن ينتبه إلى لغة الشخصيات وأفعالها ومقارنة ذلك مع طبيعتها، وإلا أصبح الرواية (خلط بلط) وتفقد جماليتها ومتعتها.
ويتحدث "ديمتري" محتجا على وضعه الصعب، لكن "الزكرتاوي" يبدي تحفظه على الاتهام قائلا: "أما نا لم أضع أحدا في أي موقف، هم، كل هؤلاء الذين يحاكمونني، وضعوا أنفسهم في المواقف التي مانوا فيها، وجاءوا الآن يتهمونني، أليس في هذا ما يدعو إلى الغرابة، وحتى الضحك!؟
كريم المجاهدي
ـ أتنكر أنك الذي خلقتهم أدبيا!؟
ـ لا أنكر، ولكنني لست محرك دمى، بخيوط مربوطة في أصابعي.. أنا كاتب ولست ممثل عرائس!
ـ النائب العام
ـ هل يريد الزكرتاوي أن يقنعنا أن هؤلاء الموجودين في هذه القاعة تخلقوا على النحو الذي أرادوا؟ وفي هذه الحال ما دوره هو.
ـ دوري هو رسم هؤلاء الموجودين وفق أقدارهم، بكلمة أخرى: وفق نمو الحدث والشخصيات نموا طبيعيا، دون قسر أو افتعال. لا مجال في الإبداع، لغير الفهم والصدق.
ـ تريد أن تقول انك بريء من مأساة ديمتريو!؟
ـ ديمتريو هو الذي صنع مأساته، لماذا أراد مخالفة الطبيعة كما قال الدفاع" ص263ز264، هذا الحوار يأخذنا إلى دور السارد في تقديم شخصيات عمله الأدبي، فما تقوم به الشخصية ناتج عن طبيعتها ودورها هي، فهناك مفاصل أدبية فنية يجب تؤخذ بعين الاعتبار عند كتابة أي عمل أدبي، وذلك لكي يكون العمل مقنع للقارئ، وهذه الفنية ما تجعل العمل ممتع ومشوق وسهل التناول، فالأدب يحتاج إلى تقنية خاصة، تجذب المتلقي للعمل، وأعتقد أن شكل رواية "النجوم تحاكم القمر" والطريقة التي قدمت فيها تعطي نموذج للإبداع والأدبي وكيف أن الكاتب عندما يحسن صياغة عمله يكون جاذبا للقارئ.
وعن طبيعة الشخصيات وكيف جاءت في الروايات، يتحاور كل من "مريم السودا والزكرتاوي" عن هذا الأمر: "ـ لكنه ليس كذلك مع هذه العاهرة التي اسمها كاترين الحلوة، خلقتها جميلة وخلقتني شوهاء، أين العدل في هذا؟
ـ أنه القدر يا مريم
ـ أنت القدر والمقدور
ـ هذه قدرة لا أدعيها، كل امرأة لها ظرف، وأنا راعيت الظرف، لم أتعمد شيئا، لم أحشر نفسي في شيء، البغي كانت بنت مجتمعها، والفاضلة بنت مجتمعها أيضا، أنا شاهد على ما كان، لا مزور له، كل منكم عاش كما اقتضى منطق محيطه أن يعيش، فأي شأن لي في هذا؟ الزيف ليس مهنتي" ص109، السارد يريد القول إنه ينقل الواقع المتخيل كما هو وليس كما يريده، لهذا كانت الشخصيات السلبية والإيجابية وليدة الواقع، المكان/البيئة التي وجدت فيها، وبما أنه ناقل للحقيقة، فقدمها لنا كما هي، وليس كما نريد نحن القراء، أو كما تريد تلك الشخصيات أن تكون.
عالم الكتابة
للكتابة حالة خاصة بها، فإذا كان الكاتب يشعر بأنه حر فيما يكتبه وأنه لن يكون مطاردا أو مطلوبا سيكون عمله متألقا، يحدثنا الدفاع عن دور الرقابة في قتل الإبداع بقوله: "وكذلك الرقابة الداخلية، نحن المجبرين على أن نراقب أنفسنا بأنفسنا، نشدد في رقابتنا خوفا! الخوف إذن، هو العدو، هو سيد الموقف، هو التابع والظل، هو رباط الفم واليد والقدم، ...ونحن جميعا نتآمر عليه، لا لكي نربط قلمه فقط، بل لكي نكسره أيضا، ... لقد منعناهم حتى من الحلم، ...وأني لأسأل: كيف لهم أن يخلقوها كما تريد، إذا كانوا هم، خالقوها محرومين من حرية الخلق" ص76و77، بهذا يكون السارد قد طرح أهم مشكلة تواجه المبدع والمتمثلة في منع حرية الكتابة وجود رقابة داخلية وخارجية، تجعله أسير لطرح معين، بحيث لا تعطي قلمه العنان ليفيض بما يريد كتبته، فأتي الأحداث والشخصيات ضعيفة أسير لما هو مفروض عليها من الرقابة، وهذا ما يجعل الأدب كائن ممسوخ أكثر منه كائن حر متلألأ في الفضاء، فالكاتب المبدع هو الذي يكتب دون أية قيود تعيق كتابته، أو تحد من أنطلاقته، وما قاله الزكرتاوي: " الحرية أثمن من الخبرة" ص149، يؤكد أهمية الحرية في التألق الأدبي.
المحكمة بين الواقع والخيال والرمز
لأي عمل أدبي مهمة يسعى لتحقيقها، أو فكرة يسعى لطرحها، بالتأكيد رواية "النجوم تحاكم القمر" لها بعد جمالي أدبي، يستفيد منه القارئ ويستمع بما يقدم من خيال وفانتازيا، لكن من يعرف "حنا مينه" فهو كاتب سعة من خلال أعماله إلى دعم الحق والحقيقة وإظهار الباطل وتعرية الظالم، فالمحكمة التي نجدها في عنوان الرواية وفي متنها، أرد بها السارد هذا الأمر: "قيل هنا، إننا نحاكم العالم من خلال محاكمة الزكرتاوي، وهذا صحيح، لأن العالم الذي بناه الزكرتاوي بالكلمات، هو صورة عن العالم الذي بناه، وبيبنه، في بقاع الأرض كلها" ص149، إذن هناك بعد واقعي/حقيقي/موضوعي في الرواية، رغم أنها جاءت بصورة فانتازيا، وهذا التعدد في أشكال الرواية يحسب للسارد الذي زواج بين أكثر من مدرسة أدبية في عمل واحد.
ويقول رئيس المحكمة في مقطع آخر عن طبيعة الرواية والشخصيات التي فيها: "ـ أسمع يا ديمترو، أنت وأنا وجميع الموجودين هنا، لسنا أحياء ولسنا أموتا، ليس هذا افتراضا، بل هو حقيقة.
ديمتروا
ـ أعرف هذا، فقد كنت في القاعة، في أقصى القاعة، ولكنني كنت أنصت، وقد سمعت وفهمت أننا لسنا أحياء ولسلنا أمواتا، فمن نكون إذن!ّ؟" ص254، إذن السارد يتعمد جعل نصه الروائي (محيرا) فمرة يقدمه على أنه فانتازيا، ومرة على أنه تخيل روائي، ومرة على أنه واقعي.
وفي موضع آخر يقدمها على أنها رمزية: "ـ أطمئن المحكمة، أكثر الناس، في اكثر البلاد العربية، صاروا من أصحاب الخط الجميل في زمننا هذا؟
الأدعاء
هذه نورية!
الزكرتاوي
ـ نعم نورية، ومحكمتكم هذه هي التورية الكبرى! ( بصوت مرتفع) خلصوني! (وزاعقا) خلصوني لا خلصكم الله يا أولاد الإبرة" ص127، بهذا الشكل استطاه السارد أن يجمع اكثر من شكل روائي في عمله، وأستطاع أن يثير القارئ ويجعله يتوقف متفكرا ومتأملا في الفواصل بين لحقيقة والخيال، وبين الفانتازيا والواقع، وبين الواقع والرمز، وهذا ما جعل الرواية زئبق لا يمكن أن نضعها في قالب أدبي واحد.
الكاتب والسارد
قلنا أن الكاتب يتقمص، يقدم نفسه من خلال الزكرتاوي من خلال محاكمته، من هنا نجد الكاتب في أكثر من موضع في الرواية، منها: "لقد كرس حياته لأجل العدالة الاجتماعية، ...لقد سجن خمس مرات لنضاله ضد الانتداب الفرنسي، وسجن أربع مرات لكفاحه ضد الإقطاع، وعاش في المنفى، بسبب ظروف قاهرة، عشر سنوات، وكل ذلك، بالإضافة إلى كل ما كتبه على مدى خمسين عاما من حياته، ويهدف إلى تحقيق العدالة الاجتماعية" ص50، هذا المطقع متعلق بالكاتب نفسه، فالدافع يتحدث عن "حنا مينه" وليس عن شخصية روائية متخيلة.
ويتحدث "حنا مينه" بصوت الزكرتاوي قائلا: "كنت أقرأ ما يكتب عني بجدية، ولشدة ما ابتسمت أمام الافتراءات، إشفاقا على المغترين، ثم تناسيتهم، أنا لا أدافع عن كتبي، رواياتي هي التي تدافع عن نفسها، فإذا لم تستطع، فهي رديئة، لا ينفع فيها أي دفاع عنها" ص70، هذا الطرح طرح الكاتب، وهو ككاتب يتحدث بموضعيه عن أدبه، فالأدب هو من يجب أن يوصل فكرة الكاتب للناس، وليس الكاتب هو من يوصل ويفسر ويوضح الفكرة، وعندما أشار إلى رداءة الأدب الذي لا يستطيع أن يوصل الفكرة، أكد أن الأدب الجيد هو الذي يستطيع أن يقدم للقارئ ما هو جديد وممتع ومفيد.
وعن دور الكاتب وكيف يجب أن يكون يقول "حنا مينه": "على الكتاب أن يستأنفوا ضد الواقع، أن يرفضوا هذا الواقع، أو يضعوا أقلامهم في أحذية السلطة التي تصبح عندئذ محابرهم" ص77، هذه الفكرة هي التي تميز الكاتب المنتمي لشعبه/لأمته من ذاك الذي يسعى للشهرة وكسب المال، فالكاتب معارض بطبيتعه، وإذا لبس ثوب القبول والرضى فقد أهم صفة تميزه كأديب.
الحكم
أعتقد أن السارد كونه كاتبا وأديبا وضع خلاصة تجربته في هذه الرواية، فهناك العديد الحكم، منها هذا الحكمة: "المعبد لن يكون ذاته، والطريق إلى إعادة بنائه لن تكون ذاتها" ص111، فكرة رائعة وتبين عقم العقل العربي الذي يسعى لاستنساخ الماضي بعين الأدوات والطريقة التي حصلت، متجاهلا تغييرات الزمن وتطور العصر وما فيه من مستجدات.
"المس بالكرامة يكون حين تكون هناك كرامة" ص146، إشارة إلى أن من يشعر بتعرض كرامته للإهانة هو من عنده إحساس وشعور إنساني نبيل، أما ذلك (الواقعي) صاحب مثل (بوس الكلب من فمه حتى توخذ حاجتك منه) فلا كرامه له، لأنه ليس عنده كرامه أصلا.
"الكفاح لحقيقي يولد الفرح الحقيقي" ص149، أجزم أن هذه الفكرة تنطبق تماما على المواطن العربي الذي يسعى للفرح من خلال فوز فريق كرة قدم، بينما يتجاهل فرح العيش بكرامة وعزة في عالم يضطهد كل ضعيف، فالفرح الحقيقي يكون عندما نتقدم من كرامتنا كأمة، ونحقق الانتصار على عدونا ونفرض أرادتنا عليه.
"كل ما هو صادق هو أخلاقي" ص153، الكلام الصادق هو الأخلاق بعينها، حتى لو كان المتكلم خاطئ، فهو بصدقه يؤكد أنه صاحب أخلاق، لهذا (يعترف) بخطئه.
"القتل يكون أحيانا بالنسيان... أنت قتلته نسيانا" ص170، الأشخاص/ الأحداث يجب أن تبقى في الذاكرة، خاصة لأولئك الذين قدموا لنا وضحوا من أجلنا.
الرواية من منشورات دار الآداب للنشر والتوزيع، لبنان، بيروت، الطبعة الثالثة 204،








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بعد فوز فيلمها بمهرجان مالمو المخرجة شيرين مجدي دياب صعوبة ع


.. كلمة أخيرة - لقاء خاص مع الفنانة دينا الشربيني وحوار عن مشو




.. كلمة أخيرة - كواليس مشهد رقص دينا الشربيني في مسلسل كامل الع


.. دينا الشربيني: السينما دلوقتي مش بتكتب للنساء.. بيكون عندنا




.. كلمة أخيرة - سلمى أبو ضيف ومنى زكي.. شوف دينا الشربيني بتحب