الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جدتي وأحلام الموتى.....

احمد الحمد المندلاوي

2023 / 8 / 6
الادب والفن


# وصلني هذا السرد الجميل من الاستاذ المشرف رستم البندنيجي حيث يقول:
حين كنا صغارًا نزور جدتي في بيتها وكنا نلتف حولها مساءً ليرتع خيالنا الطفولي بصوتها الواهن الحنون...,,,,.حين سألتها ذات مرة عن جدي الذي بالكاد أتذكر ملامح وحهه الشاحب وظهره المقوس من عوادي الزمن ,,ولكن لاأنسى النقود التي يعطيها لي بيده المرتعشة وهي عبارة عن فلسين أو عانة (العانة ,,عملة معدنية في عهد النظام الملكي وتعادل 4 فلوس ), في حينها مبلغ ليس باليسير بانسبة لطفل وكيف أني أركض مسرورا لشراء الحامض حلو من الدكان القريب من بيتنا ,,رحم الله الرجل الطيب أبو خليل (غلام ) صاحب الدكان كيف أنه يضع الحامض حلو في قارورة زجاجية لحمايتها من الفئران التي تغزو دكانه الطيني المتهالك ,ولا ننسى أن أبو خليل هذا يعمل أيضا حارسا ليليا في محلتنا المسماة قلعة مير حاج وأتذكر صوت صفارته المميزة في منتصف الليل خصوصا في ليالي الصيف حيث الناس يفترشون أسطح المنازل من غير حياطين ساترة مع جيرانهم .
,,,,سألتها وهل تفتقده؟... لم استطع أن أميّز وقتها هل كانت جادة فيما روته لي عن جدي أم أنها كانت تلاعب عقلي الصغير وتعبث معه.. لكنه بقي عالقًا في ذهني حتي اليوم أن جدي يحلم بها في قبره كلما زارها هو في أحلامها !! كنت طفلًا لا أعي ماهية الموت ولم اتوقف طويلًا حينها لأتساءل: هل يرى الموتى أحلامًا كالتي يراها الأحياء؟ وكانت تؤكد لنا أن الأموات تراودهم الكوابيس أيضًا، إن كانوا أشرار ....لم أرَ الأمر كله بعد ذلك على ضوءٍ آخر سوى أساطير الجدات وحكاياهم..... ولكنني لا أستطيع أن أنسى ذلك اليوم.....
كنا أطفال العائلة نحب اللهو كثيرًا بالقرب من شجرة التوت في الحديقة الخلفية للبيت...... وكان وقت لهونا المفضل هو بعد العصر... حين يغفو الكبار بعد طعام الغداء أو ينشغلون باامور تهم الكبار... ننسلّ نحن صوب حديقة جدتي نعدو حتى يصل أولنا إلى شجرة التوت في وسط الحديقة فنعلنه الفائز....
لم ولن أنسى تلك المشاهد الضبابية التي ترقد في ركن بعيد من أركان ذكريات الطفولة... حين هرولت مسرعًا فسبقت كل أقراني إلى شجرة التوت العتيقة ورحت انتظرهم حتى أختال عليهم بأنني الأسرع... وحين قررت تسلق الشجرة لأهز أغصانها فأمطر عليهم من ثمار التوت على عباءة جدئي الصوفيةالتي استصحبتها معي خلسة - كانت أشهى ثمار توت ذقتها مذ ذاك الحين والشمس تفرد شعاعها الأصفر الحاني الذي لم يعد بنفس قسوته وقت الظهيرة، وتتناثر أشعتها الذهبية كخيوط خلال أوراق الشجر..مغلفة المشهد كله بأجواء الرؤى... سمعت أنينًا يأتي من خلف أحد الأبواب المغلقة بقفل صديء ثقيل وأنا أتعلق بذلك الغصن الغليظ... ظننته في باديء الأمر صوت حشرات أو زواحف الحقول التي نسمع صفيرها ولا نراها قط... حين لمحت من الأعلى رفاقي يقتربون سمعت الأنين يتكرر وكأن أحدهم يعاني وطأة كابوس لا يستطيع الهروب منه بالاستيقاظ....
وعندما وجدت رفاقي يتسمرون في أماكنهم وتتسع أعينهم ادركت ان هذا الصوت ليس وهمًا من خيالي الطفولي وأنه ليس لحشرة أو لحيوان.
عدنا يومها جميعًا واجمين صامتين لم نهرول او نتقافز او نتحاور حتى فيما سمعناه وكأننا نتناساه من فرط الرعب، ولكنني لم استطع كتمان الأمر عن جدتي ... أتذكر ابتسامتها العذبة وهي تمشط ضفائرها الفضية بينما أجلس جوارها فوق سريرها المصنوع بأتقان شديد من خشب التوت... وكأن ابتسامتها كانت تخبرني أنني استحق لحظات الرعب تلك لأنني لم أصدقها ولأنني خالفت امرها واتخذت من شجرة التوت ملعبًا لي.... فقط اذكر أنها دست في يدي بعض اقراص النعناع وهي تقول في ثقة العارفين: أما شجرة التوت، فمذاقها حلو لأنها تتغذى من لحم موتى كانوا في حياتهم أبرارًا... وأما الأنين فذاك كابوس يراه أحد الموتى في قبره يُعذب به لأنه كان شريرًا حين كان حيًا....
بعد كل تلك الأعوام، حين أمر على المقابر وأعرج على قبر جدتي لألقي عليها تحياتي ودعواتي، اناجيها في كل مرة وهي في رقدتها الطويلة... وأتمنى لها أحلامًا طيبة تؤنسها بقدر ما ملأت خيالنا الطفولي بهجةً ودفئًا... وأسألها: لماذا تحيطني الكوابيس وانا مازلت على قيد الحياة يا جدتي؟
لماذا لم تنتظرني حتى أرقد في قبري لتنفرد بي كما أكدتِ لي؟ ... يبدو أن الكوابيس يا جدتي لم تعد تراعي قواعد الأساطير... أو أنني شرير جدًا فقررت معاجلتي الان ... اصبحت أتجاهل متعمدا ذلك الأنين الطويل الذي يطرق اذني آتيًا من ذات الشجرة التي ارعبتني حين اجتازها، وأمنع خيالي من تصوّر فك الجمجمة المتحلل وهو ينفصل عنها، لتطلق ذلك الأنين الممزق.... ربما لأنني صرت مشغولً بكوابيسي الحيّة...وامتلأت أذناي بأنيني المتصاعد من بين ضلوعي .....








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أحمد حلمى من مهرجان روتردام للفيلم العربي: سعيد جدا بتكريمي


.. مقابلة فنية | الممثل والمخرج عصام بوخالد: غزة ستقلب العالم |




.. احمد حلمي على العجلة في شوارع روتردام بهولندا قبل تكريمه بمه


.. مراسل الجزيرة هاني الشاعر يرصد التطورات الميدانية في قطاع غز




.. -أنا مع تعدد الزوجات... والقصة مش قصة شرع-... هذا ما قاله ال