الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شرق المتوسط وحضارات مابعد الانهار؟(2/2)

عبدالامير الركابي

2023 / 8 / 6
مواضيع وابحاث سياسية


استعجل الاوربيون كثيرا يوم قرروا ان الانتقال الالي ممكن ادراك حقيقته ومنطوياته المجتمعية، بمجرد وقوعه، وكان العقل اسشترافي بالطبيعة، يرى الاشياء قبل وقوعها ومن دون اتخاذها صيغتها او هيئتها النهائية، وهو مالم تكن الالة عند انبثاقها تتوفر عليه، بانتظار مرحلة لازمه من التفاعل والاصطراعية المجتمعية الالية، قد تتغير الاله بموجبها كما تتغير المجتمعات، ماكان يفترض، بل يتطلب من الاوربيين التمهل والحذر دون اطلاق الرؤى والاحكام النهائية في حينه، الامر الذي لايجد تزكيته في ماضي علاقة العقل بالظاهرة المجتمعية على مدى عشرة الاف عام، انتهت اليوم وماتزال مستمرة وهي ممهورة بالتفارقية التاريخيه، المانعه للعقل من ادراك منطويات الحقيقة المجتمعية، بالاخص لجهة ازدواجيتها، العامل والمظهر الاساس.
التسرع المنوه عنه اثمر حالات من التصورية القطعية، مؤسسه على ايهام اقرب للصبياني، مثل ذلك الذي اتصل بظاهرة الطبقية و"الصراع الطبقي" ومترتباته المفترضة تاريخيا ومستقبلا، هذا ويمكن القول بدون تحفظ، بان كل ماصدر عن الغرب من اعتقاد بخصوص التحولية الاليه، خاطيء وايهامي، ليس له اساس، فالانقلاب الالي الابتدائي هو عتبه بدئية، ليست انتقالية كما يقول الغرب، من الانتاج اليدوي الى الالي، بل من الانتاجية الجسدوية البيئية، الى الانتاجية العقلية، يتغير معها نوع وشكل الاله كما نعرفها، فلا تكتمل هذه الا عندما تبلغ لحظة التحول الى "التكنولوجيا العليا".
وهكذا ينقلب بناء عليه، كل مايعود الى السردية الغربية غير المترابطة اصلا، ولا المحكمه الصياغه، بالذات بما يخص النتائج والمالات، فالغرب بالاحرى لم يصنع الاله، وان انبجست بين ظهرانيه باعتبارها ضرورة ومقتضى تصيري تاريخي، وحصيلة تفاعلية مجتمعية تاريخية شاملة، وهو اساسا لايستطيع صناعه عنصر كهذا، هو مادة من خارج التوازن المجتمعي، لايشبه تلك اليدوية انتاجا، الموكولة الى الوحدة البيئية البشرية ومن داخلها، وكل هذا من شانه وضعنا امام فترة مميزة، هي المرحلة الاوربية من الانقلاب الالي، وهي بلا شك عالمية، ولها مفاعيل واثار هامه على بقية العالم، الا انها ليست الانتقالية الالية بخلاصتها والمتوقع المنتظر منها، وهو مالايمكن ان يتحقق الاضمن اطار اوسع من اوربا، وبعد ان يدخل العالم ككل رحاب الانقلاب الالي.
هكذا يكون التحول الالي بالاحرى ظاهرة انقلابية تاريخيه عالمية، بدايتها اوربا، مثلما كانت المجتمعات ابتداء قد تبلورت ضمن بؤر بعينها، فيها عرفت اشكال من تاسيسها كظاهرة مستجدة، لم يكن الغرب الاوربي من بينها، مع فارق كون الظاهرة الحالية تتمتع بالامكانات التي تحتاجها لكي تكرس ذاتها وتعمم نموذجها باعتبارها البؤرة المجتمعية الكونية، ليس بذاتها وان هي عمدت لتكريس ذلك بقوة، بل بحكم قوة مفعول الاله على الديناميات المجتمعية، وهو مايخالف كليا بالمقارنه، السياقات التاريخيه وقوانين التفا علية المجتمعية في حال اعتمدنا المفعول الموحد لوسيلة الانتاج، بالاخص حين يتعلق الامر بموضع من نوع الشرق متوسطي الابراهيمي، المخترق نوعا مجتمعيا لكافة المجتمعات الا النادر منها، وفي مقدمها الانصبابية الاوربية الرومانيه، ناهيك عن الانصبابية الاحادية الاخرى المقابلة الشرقية الفارسية، التي ماتلبث ان تكتسب خاصيات مختلفه عن تلك التي تمتاز بها، وتمثل تكوينها الاول، وذاتيتها الاحادية العبودية قبل التحاقها بالدوائر الابراهيمه، من هنا تسقط المقارنه الراهنه باعتبارها زيفا مطلقا، بين مجتمعية آلية مستجدة، ومجتمعية بدئية تاريخيه فائقة الفعالية تاريخيا، ماتزال "يدوية"،لم تعرف الالة وانعكاسها، ولا اثرها على دينامياتها المجتمعية بعد.
والاهم من هذا كله والاخطر منه، ناحية قد تبدو مخالفة كليا لكل مامتعارف عليه ومامتداول وشائع خطا عن التحول الالي ومآلاته، تلك التي تقول فصلا وبلا اي تردد، بان "التحول الالي هو في نهاية المطاف وفي الحصيلة، ظاهرة لاارضوية شرق متوسطية"، وانها تاتي بصفتها المناسبة الفاصلة التي تتهيا في غمرتها الاسباب المطلوبة لتجاوز القصور العقلي المهيمن على الادراك البشري، بما يخص المسالة المجتمعية، وصولا الى اكتشاف الازدواجية : اللاارضوية/ الارضوية. حيث يصير واردا لحظتها، حضور اسس السردية التاريخيه التصيرية الفعلية، تلك التي تقول بان المجتمعية كظاهرة، سائرة الى تحقق اللاارضوية الذاهبة الى مافوق ارضوية، والى انتهاء دور الكوكب الارضي في استقبال واستضافة الظاهرة الحية، وان التاريخ المجتمعي يظل خلال الطور الانتاجي اليدوي بطوله، محفوفا بالجهل بالازدواج من ناحية، وبالقصورية في الوسائل المادية الضرورية للانتقال اللاارضوي، غير الممكن يدويا، بانتظار الثورة الالية وتطورها، من محطتها الاولى المصنعية، الى شكلها الارفع "التكنولوجيا العليا"، عبر التكنولوجيالا الانتاجية الحالية، يوم تسود وسيلة الانتاج العقلية، ويغادر الكائن البشري عندها ومعها فقط ونهائيا، الانتاجية اليدوية.
وكما سبقت الاشارة، فان الحدث الالي لن يعطي ماهو منطو عليه فعليا ابان الابتداء الاوربي، وان الانقلاب المذكور محكوم بداهة بالانتشار، وبالانتقال من النطاق الاوربي الى العالمي الشامل وان بصيغ واشكال مختلفة، مامن شانه تبديل كل مايخص الظاهرة المستجده، وينزع عنها صفتها وطابعها الاوربي الحصري الابتدائي، وهو ماتبدأ ملامحه اولا مع الانتقال الالي الروسي، حيث البرجوازية الاقل تطورا، والحضور الشرقي الاستبدادي، ومن ثم الصين من خارج اوربا، وصولا الى "الكيانيه المفقسة خارج الرحم التاريخي" في القارة الجديدة الامريكية/ مركز "التكنولوجيا الانتاجية" مابعد المصنعية الاوربية الكلاسيكيه، وهكذا تتبدل تباعا وبالتوالي، طبيعة الحدث الالي، وموقعه ودلالته، قياسا لحالته المنطلق، الامر الذي يستمر تباعا كنتيجه للحضور الغربي الاوربي الافتتاح، وماينتج عنه من تفاعلية وردود فعل، منها وعلى راسها جانب هام ونوعي غير ملحوظ كالعادة، يظل منظورا له بحسب قياسات اسقاطية برانيه وجاهزه، هو ماقد عرفه الشرق المتوسطي بناء على الظاهرة الاوربية من متغيرات، وانطوى عليه من احتمالية مستجدة ونتائج، من شانها قلب كل المروية الحداثوية، راسا على عقب.
فالمنطقة مدار البحث تدخل بعكس الشائع، بالتتابع، اولا بانبعاث اللاارضوية في ارضها التاريخيه ارض مابين النهرين، في دورة ثالثة، في نفس ارض سومر التاريخيه، مع القرن السادس عشر، قبل انبثاق الاله وتحولها لواقع بقرابة القرن، يعقب ذلك وبعد قرابة القرنين، حالتين من الانبعاثية المقرونه بالصعود الغربي: "استعادية" نبوية مستحيله في الجزيرة العربية، والتحاقية "وطنية" في بلد الكيانوية الارضوية وادي النيل، تنحو للاسقاط البراني، متماشية نقليا ومسعى مع النموذجية الغربيه، وبينما تتهاوى الاستعادية النبوية في غير اوانها، تحل ظاهرة الريعيه لتصبح مرتكزا للدولة في الموقع الاستعادي المهزوم، في حين تعرف ارض الرافدين المظهرين معا بصفتها موقع الازدواج التاريخي، "الوطنية" الكيانيه المسقطة المفبركة، و "الريعية" النفطية، مازجة بحكم ازدواجيتها، الظاهرتين، الى ان تطرا اخيرا حالة فقدان النهرين، ويصير عراق مابين النهرين "عراق مابعد النهرين"، ضمن سياقات نهاية الدولة من اعلى، وانتفائها المفهومي من اسفل، يواكبها على المنقلب النيلي تغير دور النهر في صياغة الكينونه المجتمعية، بسبب تعدي عدد السكان لطاقته كصانع للبنية المجتمعية "مصر هبة النيل"، عدا عن المتغيرات المتولدة عن علاقات دول المنبع والمرور الافريقي.
يبدو المنظور المعينة ملامحه الاساسيه اعلاه بلا شك، صعب الاحاطة والتوليف مع مايقتضية من تحرر اعقالي من وطاة ثوابت المنظور الغربي ونمذجته، وبالدرجة الاولى وبالاساس، التفريق بين الرؤية الارضوية للحدث الالي، والرؤية اللاارضوية، مع الفارق الشاسع، ولنتخيل الحاصل في حال اعتمدت المروية الشرق متوسطية المعروضة ملامحها الاساسية هنا، محل المروية الاوربيه باعتبار الشرق متوسطية هي المروية المطابقه فعلا للانقلابية الاليه، بما تنطوي عليه من الحقيقة التحولية الانقلابية العقلية، مع الفرق بين بدايتها الالية الاوربية الانتقالية، ومالها، وماتنتهي اليه، وهنا لابد من التذكّير بمتوالية الحدث /الرؤية، فالمتغيرات والحدثان الكبرى لاتصير واقعا، الا اذا جرى اعقالها، والمنطقة الشرق متوسطية العربية، ماتزال الى اليوم خارج الاعقالية المطلوبة المنوه عنها، بعيدة عن التحسس الذاتي المبرأ من وطاة الاعقالية البدائية الاولى الاوربية، تنتظر نشوب معركة ونتائجها التي ستكون هي الفاصلة، مع تبدل الوعي والنظر قبل الانتقال الى الفعل المواكب، اي الانتقال من الانتباه للاخر ونهوضه، الى اليقظة المرتكزة لادراك الذات التاريخيه.
اوربا ليست مؤهله تكوينا وبنية، وغير قادرة على الاحاطة بالظاهرة الانقلابيه الاليه، لانها ارضوية برغم انشطاريتها الازدواجية الطبقية، فهي مجتمعية جسدوية حاجاتيه، تظل وهي تتعامل مع الانقلاب اللاارضوي العقلي، قاصرة محدودة بحدودها، بينما تذهب الاله الى مابعدها متجاوزة نطاقها والحدود التي هي مهياة لبلوغها اعقالا وتخيلا، لحين تحضر اللاارضوية المضمرة المؤجلة، الباقية خارج الطاقة الاعقالية، وهو مايقارب ويتوافق مع الانتقال الالي الى "التكنولوجيا العليا"، حيث تكون توفرت ساعتها الاسباب المادية للانتقال العقلي المجتمعي، بينما المجتمعية الارضوية في حال بداية انفصال وتفارق بينها وبين وسيلة الانتاج المستجدة بصيغتها الاخيرة الاعلى، فالمجتمعات الارضوية لها زمن صلاحية، وامد استمرار ينتهي مع بدء حلول وسيلة الانتاج العقلية المطابقة للمجتمعية بصيغتها اللاارضوية، بعدما ظلت الوسائل الانتاجية متلائمه مع المجتمعية الجسدية الحاجاتيه الارضوية.
مابعد الانهار ليست ظاهرة عارضة، وان ظل البعض ينظر لها محاولا معالجتها بمنظار الارضوية، فهي دالة البدئية الثانيه، معها تتكامل انعكاسات الاليه الابتدائية الاوربية، لتنتقل ارض الازدواج الرافديني الى الطور الثاني من "العيش على حافة الفناء"، المستمر من بداية الحرب الايرانيه العراقية عام 1980 حروبا متواصلة وحصارات هي الاعنف المضروبة على مجتمع في التاريخ، وحروبا داخلية، مع انهيار الكيانيه، والدخول في طور "فك الازدواج" قبل حلول زمن التجسد اللاارضوي الكتابي ( الكيانات المجتمعية بعكس الشائع الارضوي صنفان، احدهما جغرافي مكاني مجتمعي يتجلى بالهوية الوطنيه، والاخر اللاارضوي " كتابي" متعد للكيانوية المحلوية) مع "قران العراق"، وانبثاق الانقلابية الكونية الثانيه السماوية، "العليّة" السببية، بعد تلك النبوية الحدسية المنتهية مع القرن السابع.
ـ يتبع ـ ملحق/ التحول الالي والتحول المجتمعي؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صاروخ باليستي روسي يستهدف ميناء أوديسا


.. ما فاعلية سلاح الصواريخ والهاون التي تستخدمه القسام في قصف م




.. مراسل الجزيرة يرصد آثار القصف الإسرائيلي على منزل في حي الشي


.. خفر السواحل الصيني يطارد سفينة فلبينية في منطقة بحرية متنازع




.. كيف استغل ترمب الاحتجاجات الجامعية الأميركية؟