الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مغامرات اللغة أو الماوراء الشعري  قراءة في بعض قصائد الشاعرة سنيا الفرجاني (3

محمد العرجوني
كاتب

(Mohammed El Arjouni)

2023 / 8 / 7
الادب والفن


الحلقة الثالثة :


أكتب قبل نهاية العام:
......................
خذلتني أيها العام القديم.
مازال بحارة الميناء يسعلون في الليل
أمام البواخر،
والقوارير الملقاة في البحر،
وعلب السردين الفارغة.
مازال جارنا المنسيّ،
لا يملك مرحاضا،
وينام أطفاله
في الهشيم اللغويّ،
حين يشتهي أمهم
ولا يعرف طريقا
لزينتها الغائمة.
خذلتني أيها العام
القديم.
فالباعة المتجولون،
مازالوا يتجولون،
ومازالت بيوتهم غاية في الاصفرار
ونساؤهم أيضا،
خذلتني
أيها العام القديم، وخذلتَ تقويمك الهشّ.
(قصيدة بحارة رأس السنة من ديوان امراة بني باندو الصادر عن برسبكتيف 2016)


أين يتجلى الإبداع وأين تنبثق المفاجأة بين بنيان النص؟
هكذا اقترب من كتابات الشاعرة سونيا بشكل عام، وبشكل خاص من هذا النص وأنا مسلح بهذين التساؤلين كمفتاحين بهما افتح أبوابه، وأنا متيقن أن قراءها يطرحون على أنفسهم تساؤلات من نفس الاهتمام...
في هذا النص الذي يتشكل حول تيمة : الخذلان. خذلان العام القديم. حيث نجده بدون انزياح: خذل الشاعرة في البحارة الذين يسعلون، وفي الجار الذي لا يملك مرحاضا، وفي الباعة المتجولين.
لكن إذا كان الانزياح غائبا في حديثها عن خذلان العام القديم، فإن التقاط التفاصيل تؤدي دورا أكثر شعرية من تلك الانزياحات المعتادة الناتجة عن تقنيات البلاغة المعروفة. فهذه التفاصيل التي تشمل سعال البحارة أمام البواخر والقوارير وعلب السردين الفارغة، تستمد شعريتها مما يصطلح عليه في الفن التشكيلي بالواقعية المفرطة، التي تبهر المتلقي وتثير انتباهه، لأنه غالبا ما لا ينتبه لتلك الأشياء الصغيرة في انشغاله بالروتيني اليومي العام. ولا ينتبه أيضا لأطفال الجار، فينامون في الهشيم اللغوي، ما يمكن تأويله بالوعود الفارغة، مادامت هذه الوعود تقال لغويا، واللغة في هذه الحالة تكون هشة وضعيفة لا تنفع في أي شيء. ولا ينتبه أيضا لبيوت المتجولين التي يشوبها اصفرار كما يشوب نساءهم.
وفي الأخير، تدهشنا الشاعرة حينما تفضح العام القديم بخذلانه لتقويمه الهش. عام لا ينفع مادام يكرر نفس التقويم الهش والضعيف الذي لا ينفع الإنسان المحتاج. عام ينتهي من غير أن تتحسن أوضاع البحارة والأطفال والباعة المتجولين.
أتوقف هنا، وفي اعتقادي أنني قدمت طبقا دسما بفضل بهارات الشاعرة اللغوية، لأترك "لآكلي المعنى" المجال للتأويلات المتعددة… 

في تلك الساعة التي لم تُطبع على السّاعات،
ولم تدقّ عقاربها في الساحات،
في الوقت الذي طار فيه الغراب
وحطّت الآلهة بأكلها على الطاولة
لتوزّع نصيبنا منه.
في الزمن الذي ضاق فيه صدر نبيّ
برسالة ناقصة
صرخت ،قلت لك:تنفس
كل ما هنا يحتاجك أن تتنفّس،
ريش البلابل،
زجاج النوافذ الهشّ،
حيطان الليل الأبيضِ،كجحر قديم،
حجر في الطريق،
تراب يشتهي لو كان ماء،
بحر يصغي لجوفه و يعوي.
تنفّس، كل ُّهذه المسمّيات،
مريضة
تريدك أن تتنفّس.
لم يعد في اللانهائيّ وعود كافية،
التنانين حكاية تشغل علماء الجيولوجيا
والنارُ أيضا.
الجنّة ما يحدث بين نفسي في فمك ونفسك في فمي.
تحت تفّاحة الموت
قلت لك:توسّد صدري
واترك وسادتك لكواكبهم
لا تبذل جهدا يصف حبك
وإيمانك بالغيب.
لا تخفي كرسيّ أبيك المكسور
كان يجلس عليه ليعلّمك الكلام .
دعه مكانه
سأجلس عليه مثقلة
برزنامة الخسوف والكسوف،
وبتاريخ الهجرة والفتوحات ،
قد أحمل أيضا،جناحي براق هزيل
عاد سريعا من رحلته
فعثّر رحلتي.
لعلّه القلق، جاثم على ركبتيه
الآن أمامنا،
يقرأ الساعة الناقصة
كأنها مكيدة
أو يدْعك بين كفّيه ثوابا
ذابلا،لا يؤكل نيئا.
الحب يؤكل نيئا
وطازجا
ومسوّسا.
الحب ليس خطأ
إنه العشبة الوحيدة التي أكلها الخروف
قبل أن يركب السفينة الجيفة.
بعد الطوفان
طفى الصّواب على الساعة
لم يعرف الباعة عملة يقايضون بها
رقمي ووزني،
كانوا صفرا
وكنت صفرة اليدين
كان قلبي صريحا وذبيحا وطريحا ،
كنت مهجورة
ومأجورة
وكان العنكبوت حذقا حول مغارتي،
لكني رأيتك
في تلك الساعة التي لم تُطبع على السّاعات
ولم تدقّ عقاربها في الساحات،
في الوقت الذي طار فيه الغراب
وحطّت الآلهة بأكلها على الطاولة
لتوزّع نصيبنا منه،
في الزمن الذي ضاق فيه صدر نبيّ
برسالة ناقصة
صرخت ،قلت لك:تنفس
تنفس
تنفس
تنفس
كل ما هنا يحتاجك أن تتنفّس.
(القصيدة من ديوان ال45 بتوقيت ابي الصادر عن دار الامينة للنشر 2022 عنوانها رسالة ناقصة ص.39)

المقاربة التلفظية تتيح لنا تبيان شيئين في هذا النص الأخاذ.
- ضمير المتكلم الخاص بالتلفظ. وهو ضمير الخطاب. ثم ضمير المتكلم الخاص بالملفوظ، وهو ما يطلق عليه ضمير الحكي.
- ثم ضمير المخاطب
- ثم السياق، وهو ما يشار إليه بآليات ظرفية.
في هذا النص الذي يذهل القارئ ويثير شهيته في تذوق كل حرف منه ويجعله يقبض عليه بكل كلكله إن أراد تكوين فكرة وإلا ضاع مباشرة بعد المرور إلى الحرف الموالي، فما بالك بالتنقل بين الكلمات ثم الجمل وصولا إلى النص الذي ينبني على جمالية خارقة ! نص لا ينتظر أن يقرأه المتلقي الذي ينتعش في /ومن الروتين. إنه مكتوب خصيصا لمتلق مقتحم مقتدر محب للتحديات، له نورونات تشبه الالكترونات.
فإذا احتكمنا للمقاربة التلفظية، تقحمنا  "الشاعرة) " في انتظار مصطلح آخر أقوى)، بدون مقدمات في سياق زمني غريب. قد تبدو المعلومات المقدمة كشعوذة بالنسبة "للروتيني" لكنها جوهرة مكثفة، ألماس تشكلت عبر ترسبات خيالية:
" في تلك الساعة التي لم تُطبع على السّاعات،
ولم تدقّ عقاربها في الساحات،
في الوقت الذي طار فيه الغراب
وحطّت الآلهة بأكلها على الطاولة
لتوزّع نصيبنا منه.
في الزمن الذي ضاق فيه صدر نبيّ
برسالة ناقصة"
سياق كله مفاجآت وكله غرائب. زمان ماورائي حيث تبذل "الشاعرة" جهدا كبيرا لتوحي به إلينا من خلال صور مربكة لمنطقنا السائد. "الساعة"، ليست ذلك التقويم الزماني الذي نعرفه، لأنها لم تُطبع بالساعات المعروفة. ثم تحاول الإيحاء لهذا الزمان الماورائي، بأول لحظة طار فيها الغراب. وما حضور الغراب إلا لأنه طائر يذكرنا بذكائه وبتعليمه لقابيل كيف يدفن أخيه هابيل حينما قتله. وهو ما يجعلنا نتأكد بأن الزمان المشار إليه زمان ماورائي، كما سبق الذكر. وهو ما نلمسه أيضا بصورة وجود الآلهة بين البشر وهي توزع الأكل، وظهور نبي ضاق صدره برسالة ناقصة.
بعدها تباغتنا بخطاب موجه إلى متلق مجهول لدينا:
" صرخت ،قلت لك:تنفس" إلى نهاية القصيدة. ما يجعلنا نتقمص هذا المجهول خاصة وأنها تصرخ في كل واحد منا بأن نتنفس. ونحن في حاجة إلى التنفس على الأقل في قراءة هذا النص الذي يفرض علينا أن نتوقف عن التنفس لمتابعة القراءة والقبض على الحروف والكلمات مخافة أن تتسرب من بين نوروناتنا:
"صرخت، قلت لك : تنفس" ، فتصبح عملية التنفس مسؤولية كبيرة ملقاة على عاتقنا، خاصة وأن كل شيء في حاجة إلى تنفسنا. لكن سرعان ما نضبط التنفس حينما تشير بالبيان إلى من "هم" في حاجة إلينا :
ريش البلابل... زجاج النوافذ الهش إلخ.... "
وبطبيعة الحال سردها ليس سرد نثر، منبته الأرض، يقوم على التقدم في الأحداث هدفه الوصول إلى حل. هو سرد من كوكب آخر ربما لو توجهت مرايا" هوبل" لاكتشفته. وهكذا نعيش مع لذة حكي حيث الهو يكشف لنا عن الماوراء الذي توحي به رائحة الأساطير:
" التنانين حكاية تشغل علماء الجيولوجيا
والنارُ أيضا.
الجنّة ما يحدث بين نفسي في فمك ونفسك في فمي.
تحت تفّاحة الموت".
ورائحة الديانات:
" كنت مهجورة
ومأجورة
وكان العنكبوت حذقا حول مغارتي"
لتنتهي بخلاصة تنفي فيها الخطيئة/الخطأ، وتجعل من الحب تلك العشبة الوحيدة الضامنة لحياة أزلية:
" الحب ليس خطأ
إنه العشبة الوحيدة التي أكلها الخروف
قبل أن يركب السفينة الجيفة.
بعد الطوفان
طفى الصّواب على الساعة"
النص إذن بمثابة أوكسيجين للمتلقي وما عليه إلا أن يتنفس، وألا يتوقف عن التنفس، كما تؤكد على ذلك "الشاعرة" بتردادها الأمر: "تنفس...تنفس...تنفس"، لأن كل شيءء بحاجة إلى تنفسه، ليضمن تلك الحياة الأزلية، ولو أنه يشبه الخروف الخاضع لجزار في انتظاره، ربما على متن سفينة أخرى.....








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب


.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع




.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة


.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟




.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا