الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رِيادةُ الشيخِ رِفاعة الطهطاوي في تجديدِ الأدب العربيِّ

صبري فوزي أبوحسين

2023 / 8 / 7
الادب والفن


ليس تجديد الأدب العربي خاصًّا بمرحلة ظهور المدارس الأدبية في مطلع القرن العشرين، من ديوان ومهجر وأبوللو وغيرها، بل إن بواكير التجديد الأدبي وُجِدت في النصف الأول من القرن التاسعَ عشرَ، على يد الشيخ المصري الأزهري رفاعة رافع الطهطاوي(1801-1873م) الذي عده الدارسون رائدًا في التنوير والتجديد للعالم العربي في بَدْء دخولنا العصر الحديث؛ لا سيما في المجال الأدبي؛ فالمؤرخ لحالة الأدب العربي قُبَيل العصر الحديث، يجد أنه قد أُصيب معظم الأدباء بتبلُّد الذهن، وجَدْب العاطفة، ونُضوب القرائح، وكساد البضاعة، فانزلقوا إلى دائرة ضيقة من التقليد الضعيف والتكلف الممجوج: شكلاً ومضمونًا؛ مما أنتج ضربًا من العبَث الأدبي، والصياغة الزخرفية والسطحية، في نصوص خالية من أي معنى، ونائية عن أي روح، لا تُثير عاطفة ولا تنبِّه إحساسًا، ولا غَناء فيها إلا في القليل أو النادر الذي يجود به الزمن في أقسى أيامه وأشقى أحواله!
وظل حال الأدبي العربي على هذا النهج الشكلي الساكن الجامد، إلى أن جاء شيخنا رفاعة الطهطاوي، بكل ما فيه نهضة وتحديث وتجديد في أجناس الأدب المختلفة، عن وعي وقصد، وأخذ بأسباب التجديد، يقول عنه الأستاذ عمر الدسوقي:" هو إمام النهضة العلمية في مصر الحديثة غير مدافع، وهبه الله لمصر كي يزوّدها بنور العلم؛ فكان مشعلًا ساطعًا بدَّدَ الجهل وسُدْفَته، وأنار الطريق لآلاف العقول والقلوب, ووضع اللبناتِ الأولى القويةَ في صرح ثقافتنا الحديثة. أُوتِيَ القلب الذكي، والعقل الصافي، والنشاط الموفور، والبصيرة النفاذة، والعزيمة المُبرَمة؛ فما أضاع ساعةً منذ وضع رجليه على سُلَّمِ الباخرة التي أقلته إلى فرنسا إلّا وأمامه الهدف الذي رسمه لنفسه ولوطنه، وظلَّ هذا دَأْبَه إلى أن انطفأ مِشعَلُ حياته"، و لذا نجد شيخنا رفاعة يقول مفتخرًا:
وآدابِي تُسامي بيَ الدراري على شَعَثِي وتُبلغُني مُرادي
عِصـامـيٌّ طـريفُ المجدِ سَعْيًا عِـظَـامِـيُّ شَـرِيـفٌ بـالتّـِلادِ
فقد عاصر شيخنا رفاعة مجموعة من الأدباء المحافظين محافظة تقليدية خالصة؛ أمثال علي أبي النصر المنفلوطي(1811- 1881م(، ومحمود صفوت، المعروف بالساعاتي(1825-1881م)، وعبد الهادي نجا الأبياري (1821-1888م)، وشهاب الدين الحُلواني(1833-1891م)، وحسن بن رضوان الحسيني‌ الخالدي(1822-1893م)، وعلي بن حسن بن علي الليثي(1830-1896م)، ونجيب سليمان الحداد(1867-1899م)، ومحمد بن عبد الجواد القاياتي )1838-1902)، و عبد المجيد شوقي الحسيني(1850-1906م)، ومحمد إمام العَبْد(1862-1911م)، وأحمد بن مفتاح العُمَاري(1858 - 1911)، وأمينة بنت محمد نجيب(1887-1917م)، والشيخ حمزة فتح الله(1849-1918م)، ومحمد إبراهيم بك هلال(1885-1932م)، ، وقسطنطين كفافيس(1863-1933م)، وتادْرُس وَهْبي بك الطهطاوي(1856-1934م)، و سلامة بن حسن الراضي الحسني الحسيني(1867-1939)، ومحمد حسين محمد الهَرّاوي(1885-1939م)، وعثمان بن زناتي بن سراج الحسني )1863-1940م)، ومراد فرج(1867-1956م)... وغيرهم.
كما عاش في زمن شيخنا رفاعة من تبعه في التجديد الأدبي، فكانت لهم مشاركة جزئية مبكرة في ذلكم التجديد، مثل تلميذه صالح مجدي بك(1826-1881م)، إضافة إلى رائد مدرسة الإحياء والبعث للشعر العربي، الأستاذ محمود سامي البارودي (1839-1902م)، ومعه الشعراء الأصلاء: عائشة التيمورية ) 1840-1902م)، وإسماعيل صبري(1854-1923م)، ومحمد عبدالمطلب(1870-1931م)، والسيد توفيق البكري(1870-1932م)، وغيرهم، وفي النثر نجد التجديد الأدبي والنقدي عند الشيخ حسين المرصفي( 1815-1889م)، والشيخ محمد عبده(1849-1905م) والأستاذ مصطفى صادق المنفلوطي(1876-1924م)، والأستاذ مصطفى صادق الرافعي(1880-1937م)... وغيرهم.
فمن يطالع نَتاج الشيخ رفاعة الطهطاوي الأدبي والتأليفي يجد الأساليب الأدبية المُرسَلة المُنطلقة، والرؤى الوطنية النهضوية في قوالب مقالية أدبية طريفة، وقصائد وطنية صادقة، وأناشيد حماسية، وجهادية ثائرة، مُعبِّرة عن الروح المصرية الوثَّابة؛ بسبب ما أتيح له من الثقافة الفرنسية الجديدة، وما أتيح له من الاتصال بحياة أكثر رحابةً وأعظم انفساحًا، وما عاناه من تغلغل الاحتلال الغشوم في مجريات الوطن والمواطنين واستنزاف المحتلين المعتدين لمواردنا ومُقَدَّراتنا.
وبتدبر مجمل آثار شيخنا في المجال الأدبي يمكننا أن نحدد معالم التجديد الأدبي عنده في الآتي:
1-التجديد في النثر الفني:
-----------------------------
بدأ الشيخ رفاعة الطهطاوي مع الإبداع الأدبي ناثرًا مقلدًا، متأثرًا في أدبه روح عصره، خاضعًا للتعمُّل، متكلفًا أعشاب البديع، متهافتًا على أصباغه، مقلدًا من سبقه من شيوخه، ثم انتقل بالأسلوب نقلة جديدة فصار سهل المفردات، سلس التعبير، مرسلاً، خاليًا من أية كُلَف ومبتعدًا عن الأغراض الحياتية الساذجة، فحمل زادًا فكريا عميقًا، وعبر عن تجارب إنسانية حية؛ بفعل مشاركته الفاعلة في تحرير جريدة الوقائع المصرية، وإدارة مجلة روضة المدارس وتحريرها، وبسبب اطلاعه على الأساليب الرائعة عند كبار الكتاب في العصر العباسي عن طريق مشروعه الخاصة بإحياء التراث العربي والإسلامي، حيث نجح في إقناع الحكومة بطبع عدة كتب من عيون التراث العربي على نفقتها، من خلال مطبعة بولاق، مثل: مقامات الحريري(ت516هـ)، وتفسير القرآن للفخر الرازي(ت606هـ) المعروف بمفاتيح الغيب، ومعاهد التنصيص على شواهد التلخيص في البلاغة لعبدالرحيم العباسي(ت963هـ)، وخزانة الأدب ولُبّ لُباب العرب للبغدادي(ت1093هـ)... وغير ذلك من الكتب التراثية البانية التي كانت نادرة الوجود في ذلك الوقت. ونجد الأسلوب السهل الممتنع في مؤلفات الشيخ رفاعة، ذلك الذي يشبه أجود أساليب الصحف اليومية منذ وجدت، فنتنسم منه روح الترسُّل والاطراد، ومن أبرز نماذج ذلك الأسلوب قوله في مقدمة كتابه"مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية :" قد تَحَقَّقَ في مصر اسمها بالمعنى المتعارف أكثر من غيرها؛ لمصير الناس إليها واجتماعهم فيها لمنافعهم ومكاسبهم، وما ذاك إلا لحسن موقعها العجيب الذي أَسْرَعَ في اتساع دائرة تَقَدُّمِهَا في التأنس الإنساني والعمران، وإحرازها أعلى درجة التمدن من قديم الزمان وعلى مَرِّ العصور وكَرِّ الدهور، انصَقَلَتْ في مرآة جوهرها صور أخلاق الخلائق، وتَهَذَّبَتْ طباعهم على التدريج وتشبَّثوا بثمرات العلوم والمعارف ووقفوا على الحقائق، وبمخالطة غيرهم من الأمم ذاقوا حلاوة الأخذ والعطاء وكثرة العلائق، وكما تَمَدْيَنُوا بصنائع العمران تَدَيَّنُوا بما اتخذوه من الأديان، وكان يُعْرَف خواصهم وحكماؤهم في الباطن بوحدة الملك الديان". وهذا الأسلوب ديدنه في بقية كتبه؛ وإن قلنا: إن نثر الشيخ رفاعة التأليفي محطة بارزة في تطور الأسلوب العربي، في العصر الحديث، لم نكن مبالغين!
هذا إضافة إلى كتابه الفذ(تخليص الإبريز في تلخيص باريز[الذي طبع أول مرة سنة 1834م])، والذي يعد أول أنموذج لأدب الرحلة في العصر الحديث؛ فقد وصف بأسلوبه المسترسل كثيرًا من انطباعاته ومشاهداته، كما نقل عديدًا من المعارف والنظم، والقوانين التي أعجب بها في فرنسا، وهو أنموذج أول لفن السيرة الذاتية في تاريخ أدبنا الحديث أيضًا، وهذا الكتاب دليل أدبي على جُرأة مثقف مصري أزهري في وصف قيم ديمقراطية، وأنظمة دستورية، غربية، أُعجب بها وأعلن عنها في عصر محافظ شديد المحافظة!
وكذا نجد للشيخ دورًا في تجديد كتابة السيرة النبوية بكتابه الختامي الجميل (نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز)؛ إذ استخدم المنهج العقلي في تحليل وقائع هذه السيرة العطرة، وفيه رد على الصورة المشوهة التي رسمها الكتاب الغربيون عن الإسلام. وقد تأثر بنهجه كثير من الأدباء المحدثين الذين كتبوا في السيرة النبوية بطريقة أدبية عقلانية، أمثال الأستاذ محمد حسين هيكل(1888-1956م) والأستاذ العقاد(1889-1964م)، والدكتور طه حسين(1889-1973م)...وغيرهم.
2-إدخال فن القصة في الأدب العربي:
----------------------
للشيخ رفاعة عمل قصصي رائد هو ترجمته (مغامرات تليماك Les Aventures de Tedlemaque )، التي كتبها القس الفرنسي (فينيلونFenellone)، وقد سمى رفاعة الترجمة "مواقع الأفلاك في وقائع تليماك"[ طُبِعت أول مرة سنة 1867م]، ولعل الأدب العربي الحديث لم يعرف ترجمة لرواية فرنسية قبل ترجمة رفاعة تلك الرواية، التي تعد - في نظر مُؤَرِّخي تطور الفن القصصي عند العرب- أول مظهر من مظاهر النشاط الروائي في مصر، خلال العصر الحديث، ولقد أراد شيخنا رفاعة بهذا الكتاب القصصي أن يوجه أذهان الناشئة إلى أهمية القصة في الأدب، وأنها لونٌ من ألوانه, لم يعبأ به العرب من قبل، وأنها ستكون جليلة الشأن في التربية. يقول في مقدمة كتابه هذا: "إن تعريب تليماك، بكل من في حماك، أو ليس إنه مشتمل على الحكايات النفائس، وفي ممالك أوربا وغيرها عليه مدار التعليم في المكاتب والمدارس، فإنه دون كل كتاب، مشحون بأركان الآداب، ومشتمل على ما به كسب أخلاق النفوس الملكية، وتدبير السياسات الملكية"، ثم إن هذه الترجمة تشتمل على فكر سياسي إيجابي، حيث الدعوة المُحجَّبة للمصريين إلى التآزر والاتحاد للمقاومة والخلاص من الاستعمار وأذياله، وتقديم بعض قيم الديمقراطية، ومبادئ الحرية؛ فقد ذكر رفاعة أنه قصد بترجمة تليماك:"إسداء نصائح إلى الملوك والحكام، وتقديم مواعظ لتحسين سلوك عامة الناس"، ولكن يلاحظ بوضوح أنه اختار هذه الرواية بالذات لكونها أنسب الأعمال لحاله، وموقف الخديوي عباس منه، حين اضطهده ونفاه إلى السودان، يقول: "الملك هو وليُّ الأمر في الرعية، يأمر وينهى، وأحكامُ المملكة وقوانينُها تجري عليه.. وإذا أساء الاستعمال تُغلُّ يده؛ فإن الأهالي سلمته الشرائع وديعةً بشرط أن يكون أبًا للرعايا بموافقتها" (انظر: وقائع تليماك ص66)، وفي موضع ثان يقول: " فالحكمة الإلهية التي أوجدت البرية من العدم. تحب أن تكون بينهم رباطة تربطهم بالاتفاق والاتحاد، وأن يكونوا إخوانًا؛ فإن جميع البشر أبناء رجل واحد، انتشروا في جميع جهات الأرض،... فويل لأهل الجحود الذين يتطلَّبون الفخار بسفك الدماء"( وقائع تليماك ص197). وفي ذلك ما فيه من دعوة إلى التجميع، وتعريض بالطغاة. و نلاحظ أهمية أخرى لهذه الترجمة، وهي أن لغتها أسلس وأقرب إلى الجمال المطبوع من لغة تخليص الإبريز؛ وذلك لتقدم أسلوب شيخنا رفاعة في الفترة التي بين الكتابين، ومن هنا يعد الكتاب خطوةً في سبيل تحسين النثر العربي وتطويره. وأخيرًا هناك ظاهرة جديرة بالتسجيل تتعلق بالأدب في تلك الحقبة، وهي الالتفات من بعض الكتاب إلى موضوع المفهوم الحديث العميق للوطن والوطنية والمواطنة، ومن ثم يعد هذا الكتاب حجر الأساس في الأدب المصري القومي في العصر الحديث، كما يرى الأستاذ عمر الدسوقي.
3-التجديد في فن المسرح:
-------------------
اهتم الشيخ رفاعة بفن المسرح اهتمامًا مبكرًا وواعيًا؛ منذ بعثته إلى فرنسا؛ انطلاقًا من إيمانه بأن فن المسرح يصلح الشعوب؛ فكان صاحب أول موضوع مسرحي متكامل، مطبوع باللغة العربية، في عالمنا العربي-كما يقرر الدكتور سيد علي، المُؤَرِّخ الأول لفن المسرح في عالمنا العربي الآنَ- والمنشور في مصر سنة 1833م، وهو ترجمته كتاب (ديوان قلائد المفاخر في غريب عوائد الأوائل والأواخر) للمؤلف الفرنسي (ديبنج (Depping، والذي عرّفنا فيه – ولأول مرة – معنى المسرح من خلال شرحه – وليس ترجمته - لكلمة (سبكتاكل) - والمقصود بها المسرح باللغة الفرنسية – قائلاً عنها: "... اسم لمَلْعَبَةٍ ببلاد الإفرنج، يُلعَب فيها تقليدُ سائرِ ما وقع. وفي الحقيقة إن هذه الألعاب هي جِدٌّ في صورة هَزْل؛ فإن الإنسان يأخذ منها عِبَرًا ... إلخ". أما الجزء الخاص بتاريخ المسرح العالمي الموجود في الكتاب نفسه، وقام الطهطاوي بترجمته، فكان أول تأريخ للمسرح العالمي باللغة العربية!! ولم يكتف الشيخ الأزهري رفاعة الطهطاوي بذلك، بل نشر كتابه المؤلف (الديوان النفيس بإيوان باريس)، المشهور باسم (تخليص الإبريز إلى تلخيص باريز)، وضمّنه تفاصيل مشاهداته للمسرح الفرنسي، الموجودة في الكتاب تحت عنوان (متنزهات مدينة باريس)، عام 1835م. ولم يكتف الشيخ الأزهري رفاعة الطهطاوي بذلك أيضًا، بل كان أول من نشر باللغة العربية ترجمة نص مسرحي كامل من اللغة الفرنسية إلى اللغة العربية، ونشره في مصر عام 1868م؛ ليكون أول نص مسرحي منشور باللغة العربية في تاريخ مصر بأكملها، وفي تاريخ المسرح العربي كله، وهو نص مسرحية (هيلانة الجميلة)" لكل من "هنري ميلهاك ولدوفك هاليفري"...
4-التجديد في فن الشعر:
-------------------
لم يكن شيخنا رفاعة بالشاعر الفحل، ولم يكن يفتخر به، ويعده من بضاعته الجيدة، يقول:
وما نَظْمُ القَريضِ برأسِ مالي ولا سَنَدي أراه ولا سِنادي
ولكنه سخر موهبة الشعر لبث بعض آماله وآهاته عن طريقها، فكانت له تباشير في الشعر الجديد، في المضمون حيث نجد في ديوانه المديح النبوي، والشعر الوطني، والشعر التربوي، والشعر الذاتي، والشعر الوصفي للمظاهر الحضارية الجديدة، والشعر التعليمي. وفي مجال شكل الشعر نجد له الأراجيز، والموشحات، والأناشيد، والأوزان القصار، وفي بعض تجارب شيخنا الشعرية تلوين موسيقي في الوزن والقافية، يجعله من رادة التجديد في موسيقى الشعربي العربي. ويتميز شعر شيخنا ونثره بعاطفته الوطنية الصادقة الحارة، وكان يتقد وطنيةً وغيرةً على بلاده، حيث مدحُ مصر والفخرُ بها، وتفضيل مصر، ومدح جيش مصر، و ونظم قصائد سجلت انتصارات الجيش الوطني ضد الأتراك و الأوروبيين، ومدح آثار مصر، والحنين إلى مصر وقت غربته، والدعوة إلى الجهاد والمقاومة والأخذ بأسباب القوة العسكرية لأجل الحفاظ على تراب الوطن ومقدراته، والحث على افتدائه، وبذل كل شيء في سبيله، وهو صاحب أول تجربة لنشيد وطني؛ متأثرًا في ذلك بترجمته نشيد المارسيلييز، نشيد الثورة الفرنسية المعروف!
ومن جميل شعر رفاعة الوطني قوله:
ولَئِنْ حلفتُ بأنَّ مِصرَ لَجَنَّةٌ وقطوفُها للفائزينَ دَوَاني
والنيلُ كوثرُها الشهيُّ شرابُه لَأبَرُّ كلَّ البِرِّ في أيماني
ومن نماذج فن الأناشيد الحماسية قوله:
يا أيها الجنودْ والقادة الأسودْ
إن أَمَّكم حَسُودٌ يعودُ هامي المدمعِ
فكم لكم حُروبٌ بنصرِكم تؤوبْ
لم تُثنِكم خُطوبٌ ولا اقتحامُ مَعْمعِ
وكم شهدُتم مِن وغًى وكم هزمتُم مَن بَغى
فمَن تعدَّى وطغى على حِماكم يُصرعِ
ومن شعره المُمَجِّد لجيش مصر قوله من موشحة نشيدية:
يا حِزْبنا قُمْ بنا نسودْ فنحنُ في حَرْبِنا أسودْ
عندَ اللِّقا بأسُنا شديدْ هامُ عِدانا لنا حَصيدْ
حامي حِمَى مِصرِنا سعيدْ في عصرِه مجدُنا يعودْ
بجندِه المجنَّدِ وسيفِه المُهنَّدِ
ونصرِه المُؤيَّدِ وعزِّه المُشيَّدِ
في عصرِه مجدُنا يعودْ
فالشاعر فضلًا عن تلوينه للقوافي في هذا النشيد، قد استخدم بحرين، إذ استخدم مخلع البسيط في الأشطر الطوال، واستخدم مجزوء الرجز في الأشطر القصار، وهذا ما لم يجرؤ عليه إلا أئمة التجديد من الوَشَّاحين أنفسِهم، كما يقول الدكتور أحمد هيكل في كتابه "تطور الأدب الحديث في مصر."
5- ترجمة الأدب الغربي:
----------------
لشيخنا الطهطاوي سُهمة باكرة في إطلاع المثقف العربي على نماذج من الأدب الفرنسي؛ فقد ترجم أكثر من خمسة وعشرين كتابًا، في مجالات علمية متنوعة، وكان كتاب «قلائد المفاخر في غريب عوائد الأوائل والأواخر» تأليف دبنح (باريس 1826م)، وهو أول كتاب يُترجَم من لغة أوروبية حديثة، وينشر باللغة العربية عام 1833م، وقد جعله على قسمين: الأوّل في أخلاق أهل بلاد أوروبا، ترجمها عن كتاب العلامة دبينغ في عوائد الأمم وأخلاقها، والثانى معجم الاصطلاحات الجغرافية والتاريخية أخذه عن الفرنساوية. ويرى الدكتور طه وادي-محقق ديوان شيخنا رفاعة- أن شيخنا رائد في ترجمة الشعر شعرًا؛ فهذا مجال لم يَكتب فيه أحد قبله، فترجم قصائد فرنسية في المدح، وقصائد من حصاد الثورة الفرنسية، مثل القصيدة الباريسية، ونشيد المارسيليز، الذي ألفه "روجيه دي لوارل"، والذي مطلعه:
فهيّا يا بني الأوطانِ هَيَّا فوقتُ فَخَارِكم لكمُ تَهَيَّا
أَقِيموا الرايةَ العُظمَى سَوِيَّا وشُنُّوا غارةَ الهَيْجا مَلِيَّا
ولشيخنا (نظم العقود في كسر العود)، وهي قصيدة طُبِعت في باريس ١٨٢٧م، وهى معرّبة عن شعر نظمه العلّامة يوسف أغوب، يدور حول مقدمة غزلية، ثم حنين إلى مصر وتفاخر بها، ومدح لها، هذا إضافة إلى
كتابه (مواقع الأفلاك في أخبار تليماك)، السابق ذكره...
وهكذا نرى شيخنا رفاعة الطهطاوي-رحمه الله، ورضي الله عنه- قد حمل لواء النهضة الجديدة في الأدب العربي، فجدد في أسلوبه وأجناسه وأغراضه، وكانت له تجارب إبداعية أولى في فنون حديثة، مثل: السيرة الذاتية، وأدب الرحلة، والرواية، والمسرح، والنشيد الوطني، وترجمة الشعرِ شعرًا، والتجديد في موسيقى الشعر العربي وزنيًّا وقافويًّا! فنحن إذن، في تتبعنا مسيرة الشيخ رفاعة الطهطاوي وقراءتنا آثاره، أمام أديب متكامل، جمع بين الكتابة، والبحث، والتأليف، والسرد، والشعر، والترجمة، بنهج خاص، وطريقة طريفة، وتأثير ممتد واسع، في تلاميذ وأتباع، تَكَوَّنت منهم مدرسة عَمِلت على الإحياء للجديد الموروث، وأسهمت في إدخال الفنون الأدبية المستحدثة؛ تحقيقًا لأصالة عربية معاصرة، في مجال الأدب وصفًا وإبداعًا!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بحضور شيوخ الأزهر والفنانين.. احتفال الكنيسة الإنجيليّة بعيد


.. مهندس الكلمة.. محطات في حياة الأمير الشاعر الراحل بدر بن عبد




.. كيف نجح الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحسن طوال نصف قرن في تخليد


.. عمرو يوسف: أحمد فهمي قدم شخصيته بشكل مميز واتمني يشارك في ا




.. رحيل -مهندس الكلمة-.. الشاعر السعودي الأمير بدر بن عبد المحس