الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مغامرات اللغة أو الماوراء الشعري  قراءة في بعض قصائد الشاعرة سنيا الفرجاني (4)

محمد العرجوني
كاتب

(Mohammed El Arjouni)

2023 / 8 / 8
الادب والفن


الحلقة الرابعة

من شارع طويل في ذاكرتي أكتب هذا المساء لأقول لكم:
وصلت للتوّ، لم ألتق أحدا في الطّريق إليكم.
في يدي كوب حليب
سقطت ذبابة فيه ولم تمت.
أتممت جمع أربعة أيام في قبضة واحدة وتركتها قبل المغرب فوق ظهر الكناري.
لم ير أحدٌ أحدًا يستعيد أيامه، لذلك سرت ببطء ولن أتوقّف.
ثمّة أصوات طيور . أرى من بعيد عصفورا يلوّح بمنديل.
ربّما في البحر القريب أيّام تستغيث
الأفضل أن أقول ربما في البحر أيام تريد أن تنجو.

(انتهى في 4/1/2023
بني باندو جربة
قصيدة نشرت على الفيس بوك فقط)


ارتأيت هنا أن أتحدث عن الفضاء في هذا النص الذي لا يختلف عن نصوص "الشاعرة" (دائما في انتظار مصطلح أقوى)، من ناحية القيمة الإبداعية.
هناك فضاء :"شارع طويل." لكن سرعان ما تفاجئنا "الشاعرة"، بضغط على زر الخيال، ليصبح ملكا لذاكرة الأنا المتحدثة. إلا أن "الشاعرة" تريده أن يكون فضاء عموميا، خاصا على الأقل بمتلقي النص. حيث تقحمنا ب:"لأقول لكم." و تأخذنا على دربها وتخبرنا بأنها "لم تلتق احدا" منا طبعا.
هذا الفضاء العمومي، الممتد بالعالم الداخلي للشاعرة، يصبح مسرحا لأحداث تُمتح من"غرائبية"المخيال الشاعري. أحداث تسردها بفنية تشبه تقنية السيناريو الذي قد يتعب المخرج من بين المتلقين. إذ، إذا استطاع أن يتمثل "كوب الحليب والذبابة التي سقطت فيه ولم تمت"، فكيف له أن يتمثل" الأربعة أيام التي جمعتها في قبضة واحدة وتركتها فوق ظهر الكناري، العصفور الذي يلوح بمنديل"، وكيف له أن يتمثل "الأيام التي تستغيث في البحر القريب، أو تريد أن تنجو "؟ مهمة صعبة على المخرج، وما عليه إلا أن يكون بارعا في التفاعل بنفس المخيال.
وبما أننا استأنسنا هذا الفضاء بدعوة أو بإقحامنا من قبل "الشاعرة"، ما علينا سوى فك شيفرات النص من خلال ما رصدنا، أخذا بعين الاعتبار هذه الغرائبية وهذا السرد الذي لا "ينسرد" بهدف التقدم في" الحكي" لأنه ليس سردا نثريا. قد يقول قائل، إنه سرد" شعرو-نثري"، أما أنا فلدي حساسية مفرطة مع المصطلحات الهجينة، فحدسي ينبهني بأننا أمام إبداع تميزه بهارات ماورائية، تماما كما تميز بعض المعادن النفيسة شظايا نيزك...
يتميز الغرائبي (الفانتاستيك) باقتحامه للإطار الواقعي، حسب تزفيتان تودوروف. فيكون الهدف منه هو إثارة الارتباك والقلق والخوف والكرب لدى القارئ. وفي هذا الصدد يتحدث فرويد عن ما أسماه "بالغرابة المزعجة". إلا أن هذه الغرابة قد تنتهي بالكشف عن حل منطقي. لكن ونحن امام نصوص ماورائية، فهدفها ليس البحث عن حل منطقي، وليس غثارة القلق والخوف، وإنما جذب المتلقي نحو ما هو خارق للطبيعة. لكن لا بد من الإشارة إلى أن النقد يفرق بين ما هو فانتاستيك وما هو ذو نزعة ساحرة، أي خارق. ويتجلى هذا الفرق في عدم الإيمان بالظاهرة الغريبة أو الفانتاستيك التي يتشكل منها النص، بينما في النص ذي النزعة الساحرة، كما هو الشأن بالنسبة لهذا النص، فإن الظواهر الخارقة، مثل" أرى من بعيد عصفورا يلوّح بمنديل.
ربّما في البحر القريب أيّام تستغيث
الأفضل أن أقول ربما في البحر أيام تريد أن تنجو"، تكون مقبولة بل ومحببة منذ البداية وتعتبر طبيعية تمامًا، خاصة وأن
هو ذا هدف النص الماورائي وإلا كان سيسلك طريق النصوص الفيزيائية الملموسة المتداولة التقليدية.
وعلى هذا المستوى يرحب النص بآكلي المعاني (sensivores) والمؤولين. فما عليهم إلا أن يقتحموا هذا الفضاء، "الشارع الطويل بذاكرة " الشاعرة ذات "مساء وهي تكتب لهم...

لم أكن أعرف شيئا.
مع الوقت تعلمت ملايين الأشياء
أغلبها لا يصلح للضحك
ربما جلّها لا يستحق أن أسرده.
في الحقيقة أشعر بالخيبة، عندما نظرت إلى الضوء في آخر العظام
وجدت ملامح امرأة ترسم كرة
ورأيت بالكاد
ما يشبه رجلا خلف الكرة.

(نشرت فقط علة صفحة الفيس بوك)


نص كهذا يخاتل المتلقي. سرد بريء يتقدم بكل هدوء وبشكل عادي جدا بوظيفته الإخبارية.
تتحدث في جملة واحدة عن حالتها الأولى: "لم أكن أعرف شيئا". حالة تحيلنا على براءة طفولية. ثم يحدث التحول مع الوقت: "مع الوقت تعلمت ملايين الأشياء". بمنطق السرد، ينتظر المتلقي حكايات تبرز هذه الملايين من الأشياء. إلا أن الشاعرة، ربما بتردد منها، تستخلص على أن " أغلبها لا يصلح للضحك
ربما جلّها لا يستحق أن أسرده".
هكذا تستبق انتظاراتنا: هل كنا ننتظر منها سرد أشياء مضحكة؟ ومن أين أتت بهذا الحكم القاضي بأن جلها لا يستحق السرد؟. هكذا تتقمص دور المتلقي بنفس وتيرة دورها السردي. نحن إذن أمام سرد بريء، وفي نفس الوقت تتخلله آراء وتعاليق الشاعرة. وكأنها تزيح ما يعيق الفهم لدى المتلقي. أو كأنها تريد إبعاده عن المألوف. وهذا المألوف تعبر عنه ب: "لا يصلح للضحك...بل ولا يصلح للسرد". لنجد أنفسنا أمام سرد مخادع، ينفي السرد. خدعته تتشكل عند نقطة اللي والتلوية: "عندما نظرت إلى الضوء في آخر العظام". هنا لوَت الشاعرة النص وكأنها تعتصره، بل وتغير ملامحه الأولى. تنفي عنها السرد المألوف الذي يؤدي إلى الضحك. وهي ليس لها ما تسرد على هذا المنوال. ولوّت في نفس الوقت الأمر على المتلقي لتبدع به فما عليه إلا أن يسترجع أنفاسه ليجد طريقه وسط هذا الإبداع. فما عدا "العظام" و"الضوء"و"الكرة"، وهو ما تؤكد عليه الشاعرة بكل يقين، فإننا أمام ملامح فقط لما يشبه امرأة ورجل. وهنا لا بد من الاستعانة بقراءة سيميولوجية لهذه الصورة التي رسمتها لنا بحروفها التي تسعفها بالتنقل من المألوف والملموس إلى ما هو غير ذلك وما هو ما ورائي...
نص يفترض قصة أخرى لفرضية"الخلق". خلق من عناصر ثلاثة واضحة المعالم، لما يشبه أو يوحي بوجود الإنسان، حيث تبقى المرأة، ولو أن الإشارة إليها بالملامح فقط، هي أصل الوجود، لأنها هي التي ترسم ما يشبه الرجل.
هكذا تعبد الشاعرة طريقها إلى ماوراء الشعر.
(يتبع)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب


.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع




.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة


.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟




.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا