الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تَفجير 4 آب: بين الذِّكرى والقَضيَّة

نجيب علي العطّار
طالب جامعي

(Najib Ali Al Attar)

2023 / 8 / 8
مواضيع وابحاث سياسية


لا يَني عدَّادُ الأيَّام يَعودُ علينا، كُلَّ رابعٍ من آب، بما يُشبِه التَّذكير بالجريمةِ الأعظم التي ارتُكبَتْ بحقِّ كُلِّ ما يَتَّصلُ بالإنسانيَّةِ في هذا البَلد. ورغمَ أنَّنا، نحنُ اللُّبنانيِّين، لم نَزلْ في حَضرَةِ الجريمةِ التي لم نتعافَ منها على كُلِّ مُستوًى كُرِثْنا به، إنْ كانَ ثَمَّةَ سبيلٌ إلى التَّعافي، إلَّا أنَّنا، نحنُ اللُّبنانيين أنفُسَنا، لم نرتقِ بعدُ إلى مَنعِ مَنظومةِ الطُّغاةِ من تحويلِ الجريمةِ مِن قضيَّةٍ إلى «ذِكرى». ورغمَ بعضِ المُحاولاتِ التي يُحاولُها بعضٌ من ذوي ضحايا التَّفجير، وقِلةٌ من النُّوَّاب، إلَّا أنَّ الصُّورةَ العامَّة تُؤكِّدُ أنَّنا لم نستطِعْ بعدُ جعلَ تفجير مرفأ بيروت قضيَّةً مِعياريَّةً على المستوَيَيْن؛ الوَطني والإنساني.

تختلفُ السِّيناريوهات المُفترضةُ وتتعدَّدُ بتعدُّدِ المُحلِّلين وعددِهم، ولعلَّ هذا هو أحدُ معالِم مكروثيَّة اللُّبنانيين بقضائهم. بَدَهيٌّ أنْ يُصارَ إلى التَّحقيق عندَ وقوعٍ جريمةٍ، أو كارثةٍ، في أيِّ دولةٍ منَ الدُّول، وبَدَهيٌّ بالقَدرِ نفسِه أنْ يصيرَ التَّحقيقُ نفسُه في تفجير المرفأ جريمةً وكارثةً، إذْ أنَّه، أي التَّفجير، قد تحوَّلَ، بلِحاظِ ما تلاه، إلى جريمةٍ سِياسيَّةٍ لا تختلفُ عن جرائم الاغتيال السِّياسي في لُبنان، على الأقلِّ من حيثُ تضييع الحقيقة في أروِقةِ المَحاكم. بيدَ أنَّ رَبطَ الأحداث بعضُها ببعضٍ يُمكنُه، بصورةٍ أو بأُخرى، أن يُرجِّحَ كفَّة سيناريو على آخر.

جرَتْ عادةُ التَّحقيق في الجرائم أن يُسألَ عن «المُستفيدِ الأوَّل» من وقوعِ الجريمة وأن يُشارَ إليه على أنَّه «المُتَّهمُ الأوَّلُ». بيدَ أنَّ استعراضَ الواقعِ في جريمةِ تفجير المرفأ، وما تلاها، يَلزمُ عنه تقريرُ أنْ ليسَ ثَمَّةَ مُستفيدٌ في الدَّاخلِ اللُّبناني من افتعالِ التَّفجير، على أنَّ هذا التَّقرير ليسَ نَفيًا لمسؤوليَّةِ تترتَّبُ على طرفٍ لُبنانيٍّ وحُلفاءٍ خارجيين له. بعبارةٍ مُغايرة؛ إنَّ الاتَّهامَ في قضيَّةِ التَّفجير ليسَ اتِّهامًا بافتعالِ التَّفجير وإنَّما هو اتِّهامٌ بالمسؤوليَّةِ عن وقوعِ التَّفجير مِن خِلال تخزين نيترات الأمُّونيوم بكمِّياتٍ كانتْ كافيةً لإحداث ما قد حدث. فثمَّةَ، إذًا، مُستفيدون كُثُرٌ على المستوى الدَّاخلي؛ مثلُ بعضِ الأطرافِ التي «تستثمرُ» الجريمةَ في صراعات النَّفوذ معَ أطرافٍ أُخرى، وعلى المُستوى الخارجي؛ مثلُ «إسرائيل» التي استفادت، على سبيل المِثال لا الحَصر، من تدمير مرفأ بيروت لصالحِ مرفأ حيفا. ولكن ثَمَّةَ مسؤولٌ واحدٌ عن تأمين الشُّروطِ اللُّوجستيَّة، أو الكيميائيَّة إذا جازَ التَّعبير، لوقوعِ الإنفجار؛ وهو الذي خزَّنَ النِّيترات، والذي غضَّ الطَّرفَ عن تخزينِها، في العنبر رقم 12.

إنَّ استعراض الأحداث المُرتبطة بالتَّفجير، وما سبقَه وما تلاه، يَضعُنا أمام سيناريو هو الأكثر احتماليَّةً من حيثُ التَّطابقِ القائم بين الواقع والتَّحليل. فقد ربطَ بيانُ البرلمان الأوروبِّي، الذي صدرَ في تمَّوز الماضي، بين حادثةِ تفجير المرفأ وثلاثةِ اغتيالاتٍ حدثتْ بين العامَيْن 2017 و2021 وهي: اغتيالُ العقيد جوزف سكاف، المدير السابق لشُعبةِ مكافحةِ المُخدِّرات في المرفأ، سنة 2017، وهو الذي كان أوّل مَن حذَّر السُّلطات اللُّبنانيَّة من خطورةِ تخزين النِّيترات في المرفأ. ثُمَّ جو بجَّاني الذي صوَّر العنبرَ رقم 12 قبل الانفجار وبعدَه والذي اغتيلَ وسُرقَ هاتفُه في كانون الأوَّل 2020، أي بعدَ أربعةِ أشهرٍ على التَّفجير. وأخيرًا النَّاشط السِّياسي لُقمان سليم الذي اغتيلَ في 3-4 شباط 2021 بعدَ عشرةِ أيّامٍ فقط من مقابلتِه على قناة الحدث والتي صرَّحَ فيها أنَّ تخزين النِّيترات في المرفأ كان عبرَ حزب الله اللُّبناني لصالحِ النَّظام السُّوري، حيثُ أشارَ سليم إلى أنَّ وصولَ الباخرةِ «روسُّوس» المُحمَّلةِ بالنِّيترات إلى مرفأ بيروت جاءَ بعدَ «حوالي شهرٍ وأسبوعَيْن من توقيع النِّظام السُّوري على مُعاهدةِ الحدِّ من الأسلحةِ الكيمياويَّة»، وربطَ سليم بين وصولِ النِّيترات في 23 تشرين الثَّاني من العام 2013 وبين تصاعُدِ وتيرة الغارات التي يشنُّها النِّظامُ السُّوري على مناطقَ سوريَّةٍ بالبراميل المُتفجِّرة التي تدخلُ نيترات الأمُّونيوم في تصنيعِها. تُضافُ إلى هذه المُعطياتِ الأساسيَّة الحملةُ التي قامَ بها فريق الممانعة على قاضِيَيْ التَّحقيق، فادي صوَّان وطارق البيطار على التَّوالي، والتي انتهتْ باستقالةِ الأوَّل وعرقلةِ عملِ الثَّاني. وتكفي الإشارةُ إلى ما أشارَ إليه تقرير البرلمان الأوروبي مِن امتناعِ وزير الماليَّة يوسف الخليل عن التَّوقيع على المرسوم الخاص بالتعيينات القضائيَّة الأمر الذي عطَّلَ انعقادَ الهيئةِ العامَّة لمحكمة النَّقض في لبنان، بسبب تقاعد أحد أعضائها في أواخر سنة 2021، والتي تتمتَّع بالاختصاص القضائي في البتِّ بقضيَّة كف يد القاضي بيطار بعدَ أن رفضَ مجلس القضاء الأعلى إقالتَه من منصبه. إضافةً إلى امتناع مجلس النُّوَّاب، بغالبيَّة أصواتِه، عن رفع الحصانات عن النُّواب الذين طلبَ القاضي بيطار رفعَ الحصانةِ عنهم.

تُشيرُ هذه الوقائع إلى أنَّ التَّفجير، رُبَّما، لم يكن مُدبَّرًا ولكنَّ طمسَ التَّحقيق، أو «تطييره»، هو أمرٌ مُرادٌ بقوَّةٍ ويجري بصورةٍ مدروسةٍ وممنهجة. والسِّيناريو الأكثر احتماليةً هو أنَّ تخزين النِّيترات لم يَكنْ بهدفِ إعادةِ نقلِها دُفعةً واحدةً إلى أماكن استخدامِها، وإنَّما المُرادُ هو جعلُ مرفأ بيروت مكانًا للتَّخزين الدَّائمِ لهذه النِّيترات لتُنقلَ على مَهلٍ، ودونَ ضجَّةٍ إعلاميَّةٍ، إلى حيث يشاءُ مُخزِّنُها، ولهذا قُتلَ العقيد سكاف الذي قد يُثيرُ هذه الضجَّةَ غيرِ المُرادة. أمَّا وقدْ وقعَ الانفجار فأصبحَ المُرادُ أن يُحال دون كشفِ هُويَّةِ المُخزِّنِ وتقرير مسؤوليِّتِه المُباشرة عن التَّفجير، ولهذا قُتلَ جو بجَّاني ولقمان سليم. ولا يُستبعدُ قيامُ «إسرائيل»، أو غيرِها منَ الأطراف الإقليميَّة أو الدُّوليَّة، بتفجير هذه النِّيترات مِن أجل إعادةِ خَلطِ الأوراق على المُستويَيْن اللُّبناني والإقليمي، ورُبَّما الدُّولي. وهذا ما يُبرِّرُ تصريحاتِ نتنياهو سنة 2018 بشأنِ مرفأ بيروت من جهة، وعدم الكَشف عن صور الأقمار الاصطناعية التي تُثبتُ ضلوعَ «إسرائيل»، إذا كانت ضالعة.

لا جَرَمَ أنَّ جريمةَ تفجير مرفأ بيروت، وما يتَّصلُ بها من اغتيالات وعرقلات، تُشكِّلُ بُرهانًا جليًّا على سيادةِ ثقافةِ الإفلات من العِقاب في لبنان. وتاليًا، فإنَّ التَّحقيق في هذه الجريمة باتَ ضرورةً وجوديَّةً من حَيْثِيَّتَيْن: الأولى، والأَوْلى، هي لكَسرِ هذه الثَّقافةِ والحَيلولَةِ دونَ تَصييرِها عُرفًا من أعرافِ اللُّبنانيين. والثَّانية هي من أجل استردادِ العدالةِ المَسبيَّةِ على هذه الأرض في جريمةٍ لم تَزَلْ قَيْدَ الارتِكابِ، وستظلُّ كذلك حتَّى مُحاسبةِ كُلِّ المُرتكبينَ عَمْدًا أو سَهوًا أو على سبيلِ الصَّمت.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمريكا تزود أوكرانيا بسلاح قوي سرًا لمواجهة روسيا.. هل يغير


.. مصادر طبية: مقتل 66 وإصابة 138 آخرين في غزة خلال الساعات الـ




.. السلطات الروسية تحتجز موظفا في وزارة الدفاع في قضية رشوة | #


.. مراسلنا: غارات جوية إسرائيلية على بلدتي مارون الراس وطيرحرفا




.. جهود دولية وإقليمية حثيثة لوقف إطلاق النار في غزة | #رادار