الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية -الحياة لحظة- الفصل السابع - مجد الغرف -

سلام إبراهيم
روائي

(Salam Ibrahim)

2023 / 8 / 8
الادب والفن


مجد الغرف


وقف ضاحكًا يوشك على فرد ذراعيه، تحت مصباح بئر السلم الخافت.. فرك «إبراهيم» عينيه وشخص محدقًا مرة أخرى بعمق.. الشكل ليس غريبًا.. الواقف المبتسم يلوذ بالصمت ولا يحرك ساكنًا وكأنه يختبره.. لم يشأ سؤاله من يكون.. ففي نظراته وقسماته ما يشي بمعرفة وطيدة:
- من يكون؟!.
ما أربكه أن القادم لم يكن معه أحدٌ. فعادة ما يأتي الزائر الجديد بصحبة رفيق زار الشقة سابقًا. فكيف عرف المكان والعنوان؟!. لم يطل الصمت المربك؛ إذ ظهر من خلف ثنية السلالم النازلة «محمود» ضاحكًا.. وقبل أن ينطق الواقف، الذي استكمل فرد ذراعية، صرخ «إبراهيم»:
- «عزيز»!
تعانقا بقوة.. صارا كتلة واحدة لاهثةً، مرددين شتائم عتب وحب، فآخر مرة رآه «إبراهيم» في بارٍ يقع على شارع «أبو نواس» ببغداد في يوم الجمعة المصادف 6 ـ 6 ـ1980.. وقتها كانت الحملة قد اشتدت فلجئا ، هاربين ، من الديوانية إلى بغداد.. اختفيا في شقة الوزيرية المقابلة لمعمل القطن الطبي، التي كانا يسكنانها أيام دراستهما الجامعية، وهي في الحقيقة مشتمل يتبع بيتًا كبيرًا يصل إليه الداخل بواسطة دهليز طويل، يفضي إلى ثلاث غرف : التي إلى اليمين كانت غرفتهم، يُصعد إلى بابها الحديدي بسلم من ثلاث درجات.. ومن باطن الغرفة المستطيلة الواسعة، وفي نقطة التقاء جداريها البعيدين ينفتح سلم حجري يؤدي إلى فسحة مبلطة؛ حيث المرافق والحمام، ثم سلم ذو ثلاث درجات يؤدي إلى السطح..
لم يكن «عزيز» جالسًا معه على الطاولة نفسها ، بل كان يجلس في آخر حديقة البار الواسعة مع ثلاثة من أبناء مدينته. في خضم الحوار مع اثنين من أصدقائه.. أحدهم كان ملاحقًا بسبب اعتراف مسئوله، نسى «إبراهيم» وجود «عزيز»..
وفي ممر الخروج انقضوا عليهم.. ليقضي «إبراهيم» أكثر من شهر معتقلا بدائرة بغداد. عندما أطلقوا سراحه لعدم ثبوت الأدلة، لم يجد أحدًا ممن كان يختبئ في الشقة.. فالكل غيّر مكانه. ومن ذلك اليوم لم ير «عزيز» إلا هذه اللحظة.. يعني ذلك أنه مرت أكثر من عشر سنين.
قال «إبراهيم» وذراعه تلتف حول كتف «عزيز» البعيدة، وهما يدلفان إلى الغرفة يتبعهما «محمود»:
- عمر الشقي بقي!
فضجّ «عزيز» بالضحك:
- أكيد.. أكيد وإلا ما التقينا!.
أردف «إبراهيم»، وهي يهوي بكفه الضخمة على ظهر «عزيز»:
- وأكبر أناني شفته بحياتي..!.
هدر «عزيز» بالضحك مرة أخرى، وقال:
- وره كل هذي السنين وما نسيت!
- أش لون أنسي يا نذل أش لون انسي!.
يتذكر ذلك المساء بوضوح شديد.. كان قد أكمل دراسته وخدمته العسكرية واشتغل.. بعثته دائرته إيفادًا إلى بغداد. وكالعادة كان يأوي إلى الشقة التي توارثها أبناء المدينة، وكان «عزيز» لا يزال يسكنها لأنه لم يكمل دراسته بعد. في الدهليز المظلم الطويل تحسس المفتاح، الراقد في الجيب الخارجي لحقيبته اليدوية، فكل من سكنها في فترة ما لديه مفتاح، ومن حقه المبيت فيها، كلما قدم إلى بغداد في زيارة.. كان يرشح من نافذتها المطلة على الممر، ضوء خفيف، عبر الستارة المسدلة.. أنصت جوار الباب.. ثمة أصوات تتهامس.. قرع ثلاث مرات قرعًا خفيفًا بسبابته المعقوفة. همدت الأصوات.. عاود القرع بوتيرة أعلى جاوبه رنين الباب المعدني المتلاشي في سكون النافذة. أخرج المفتاح وحشره في الثقب. وفيما كان يديره انفتح الباب وظهر خلفه «عزيز» يبتسم بارتباك، وخلف القاطع الخشبي، الذي يقسم الغرفة إلى قسمين أمامي وخلفي توقف مدهوشًا، فسارع «عزيز» قائلًا:
- أعرفك على صديقتي «سندس»!
استقامت بنصفها الأعلى الناحل مادةً ذراعها الرشيقة العارية مرحبة بصوت ناعم، أطبق على كفها الصغيرة هزَّها غارزًا عينيه في عينيها الوديعتين.. بدت شديدة البراءة للحظة. تشبثت بكفه عندما حاول أن يسحبها ضاغطةً ضغطًا متناوبًا يقوي ويترقق. كان «عزيز» يقف مراقبًا المشهد بعيني صقر. كان الوقت صيفًا، وكانت شبه عارية ترتدي ثوب نوم أحمر بدا ساحرًا على ضوء مصباح الغرفة الناري. تحاشي «إبراهيم» التحديق الطويل في تفاصيل جسدها الرشيق جدًّا والمثير تحت الثوب الشفاف، مركزًا الحديث معه، ومبديًا عدم اكتراثه بها، حتى أنه لم يلقِ نظرة على جسدها من الخلف، عندما نهضت متجهة نحو السلم قاصدة الحمام. سأله: وين صدتها؟!.فضحك قائلًا: كانت صاحبة صديقنا «جعفر»، الساكن في الشارع المجاور، تشاجرت معه عند زيارتي له، تركت شقته غاضبة، تبعتها حتى أرجعها له، لكنها أصرت على السكن معي مؤقتا لحين تدبيرها سكنًا، فآويتها منذ شهر، لكن وقعنا بالحب، قال «إبراهيم» في نفسه معلقًا على جملة عزيز الأخيرة: الأناني بدأ يقدم!. علق ضاحكًا: يعني راح تتزوجها!. ارتبك ردًّا: لا هذا ليس قصدي!. سمعا وقع خطاها النازلة على السلم.. قرر «إبراهيم» مغازلتها بعينيه، فاستجابت بيسرٍ، سأل «إبراهيم» :
- ما عندك عرق؟!
- لا..
كانت تغمز له عندما ينشغل «عزيز» عنها.. قال وهو يدس يده في جيب قميصه ليخرج دينارًا ويمد ذراعه نحو «عزيز»:
- أجلب لنا قنينة من نادي الإسالة!.
تناول الدينار مضطربًا.. تضرجت وجنتاه.. وراح ينقل نظراته بين وجه «سندس» و«إبراهيم».
أردف «إبراهيم»:
- كلها ثلث ساعة!.
وربتَ على ظهره، قالت بغنج:
- سأعد العشاء!.
تسمَّر لائذًا بالصمت.. وبدا أنه يحاول أن يجد مخرجًا، وفجأة أشرقت قسماته قائلًا:
- «إبراهيم» نروح سوه!..
وأضاف بخبث:
- فأنا مشتاق إليك جدًّا يا صديقي!.
لم تنفع معه حجج «إبراهيم»، بالتعب، بل زاد إصرارًا عندما ألحت «سندس» عليه:
- أتركه معي.. ما أريد أبقى وحدي.. أخاف!.
لف ذراعه حول كتف «إبراهيم» وسحبه نحو الباب، غير آبه لصوتها المتوسل:
- أتركه الله يخليك!.
ففوت عليه الفرصة التي بقيت محتدمة، رغم مرور كل تلك السنين.. فقد قضى ليلةً مبرحةً على السطح و«عزيز» يضطجع مع «سندس» عاريًا في الزاوية البعيدة، يضربه صوت آهاتها التي لا تكتمها، وخوار «عزيز» الشبيه بخوار ثور.. سمفونية حية.. فريدة لم ينسها حتى هذه اللحظة، وكأنها تجري تحت ناظريه، وهو يحدث «عزيز».. عزف أوجع جسده.. ووتره طوال الليل.. لم يخفت إلا عند مطلع الفجر.
قال «محمود» ببلاهة:
- عمن تحكون؟!.
لم يجبه أحدٌ.. كان «عزيز» يقول بصوت عالٍ:
- ما تدري كم مرة قلت لك.. أني ويه العاهرات ما أعرف أبوي.. أناني.. وكلب.. بعد أش تريد أكثر من هذا!.
- أدري بيك!.
- اسمع «إبراهيم».. وبعدني أناني حتى هذي اللحظة مع العاهرات، رغم زواجي قبل أربع سنوات!.
لم يصدق أحدهما الآخر قصة زواجه بعد تلك الحياة السرية العاصفة التي عاشاها.. مراهقان في الديوانية، ثم شابان في شقة الوزيرية العجيبة التي كانت ملجئًا للكل.. فمن لم يجد مكانًا يبيت فيه من اليساريين طبعًا يستطيع المبيت فيها، ومن يُستهدَف من عصابات العنف التابعة للاتحاد الوطني، وقت الجبهة الوطنية، يبعثون به إلى الشقة كي يقضي فيها وقتًا إلى أن تهدأ الأمور، ومن نسى نفسه في بار، فلم يجد وسيلة نقل تقله إلى مكان سكنه البعيد يأتي سيرًا على الأقدام إليها.. وكل عاهرة لا تجد زبائن أو مكانًا تقضي ليلها فيه تقرع الباب وتدخل وكأنه بيتها.. ليس العاهرات فقط بل عديد من النساء اللواتي يهربن لمددٍ مختلفة من عسف الأزواج..
حلّت نسوة كرديات متوسطات في السن تزوجن في بغداد.. ومسيحيات شديدات البياض.. وعربيات قرويات، سمراوات قادمات من أطراف المدن.. وأخريات حضريات تبدو عليهن النعمة.. يصبحنَ مشاعًا بطبيعة الحال، لكن الواحدة منهن تختار واحدًا منهم كرفيق تستمتع معه في المضاجعة.. تبكي حينًا.. وتضحك عند الذروة حينا.. عدا أن الغرفة تكون أحيانًا مقرًا لاجتماعات خلايا الحزب الشيوعي السرية، ومكانًا للقاءات غرامية مع زميلاتهم في الجامعة، حيث يُبَلغ قبل أيام الآخرين بعدم الحضور أو مغادرة الشقة في وقت معين.
باختصار كانت نافذة عجيبة، تعرفا من خلالها على بشر ومصائر وخصوصًا عالم المرأة العراقية شديد الغموض.. تذكرا في الجلسة كل تلك التفاصيل وسط بلاهة «محمود» المنصت مدهوشًا من غزارة الوقائع الجنسية، قال «عزيز»:
- رغم القلق وعدم الاستقرار والخوف ما شفت أحلى من تلك الأيام!.
صمت لبرهة وجيزة، ثم أردف:
- شوف عشت هنا وضاجعت أشكالًا، ولكن.. لم أذق ألذ من تلك المسيحية البيضاء، مرصوصة اللحم، مشدودة الجلد، الهاربة من زوجها، والتي اختارتني دونكم!.. أتتذكرها؟!
تجسدت فورًا بجسدها المثير أمام عيني «إبراهيم».. وكانت امرأة غريبة.. لم تدع طوال أيامها العشرة التي قضتها في الشقة، أحدًا يضاجعها سوى «عزيز» الذي وفَّر لها الحماية من الاغتصاب بملازمتها طوال الوقت. وكان عندما يخرج لشأن ما يأخذها معه مخاطرًا باحتمال القبض عليه معها.. ففي أغلب الحالات يقوم الأزواج بإبلاغ الشرطة عن اختفاء الزوجات.. كانت تجلد الجميع في الظلام، وهي تصرخ طوال المضاجعة، وتهذي باللغة الآشورية لتنفجر باكية في آخر الأمر..
وفي المرة الوحيدة التي تركها فيها «عزيز» حاول ثلاثة من النزلاء إقناعها بمضاجعتهم دون جدوى، كانت ترد إنها ليست عاهرة.. وإنها أحبت عزيز.. وكان هذا غير مقنع.. فهي بعد أيام ستعود إلى زوجها وبيتها، وعن أي حب تحكي هذه العاهرة، التي تضاجع عزيزًا وسط مجموعة من الشبان المزدحمين في غرفة بائسة.. الوقت يمر سريعًا. كانوا يخشون عودة «عزيز» دون أن يحصلوا على شيء.
وفي أقصى حالات الهياج هجموا عليها.. فجعلت تضرب وترفس وتصرخ وتعض وتنشب أظافرها، مثل قطة وحشية.. مزقوا قميصها وحاولوا تكبيل يديها.. لكنها كانت قوية كلبؤة.. مزقت وجوههم بأظافرها .. صرخت .. عضت .. شتمت بالآشورية.. وعندما تعبت تكورت؛ حتى لا تمكنهم من فتح أزار بنطالها الكاوبوي الضيق.. إلى أن قرع الباب بعنف فابتعدوا عنها مخذولين.. استقامت وعلى ملامحها شموخ، جعل أحدهم يهوي عليها بصفعة جعلتها ترتفع عن الأرض قليلًا؛ لترتطم بالجدار مطلقة آهة ألم.
ردّ «إبراهيم»:
- هي تِنِسي يا «عزيز».. نارها بقلبي حتى هذي اللحظة!.
علق ضاحكًا:
- فطمتكم كلكم!
أطلق ضحكة شماتة.. لكنه أضاف:
- كانت لعنة.. تعتقد أنا سعيد لما نمت معها.. لا.. لا.. هي لعنة.. ما أنسى ذاك الجسد أبدا والله.. ما أنسى.. تقدر تتخيل أثرها؟!.. ولك شلتني.. خربت كل لذاتي مع النساء.. تدري زوجتي أش قد حلوة.. ورغم كل جمالها.. أسمع صراخ وبكاء تلك المسيحية، وأنا عاري بالفراش مع زوجتي.. كلما تذكرت رعشة جسدها بالذروة .. أبرد.. وما لقيت غير حل واحد خلصني من المشكلة.. هو.. أغمض عيني، وأتخيل شكلها وصراخها وبكاءها ورعشتها ولونها ونبضها فأستمر بالمضاجعة بنجاح!
نبَّ «إبراهيم» مقهقهًا:
- سافل أصيل! سافل مرتب!.
فضج «عزيز» بضحكة صاخبة قائلًا:
- مثلك تمامًا!.
كان «إبراهيم» يلتفت بين الحين والحين، مسلطًا عينيه على ذهول ملامح «محمود» الصامت، الذي لا يعرف كيف يشارك في مثل هذي المواضيع، وباب السياسة وما يجري للدولة الشيوعية مسدود، فكلما حاول إيجاد ثغرة، سدها «إبراهيم» مركزًا على موضوع الجنس.. وحتى عندما تطرقا إلى فترة الحملة على الشيوعيين والديمقراطيين، أواخر 1978، حيث أصبحت الشقة ملجأ لمن يهرب من محافظات الجنوب، إذ إن الحملة ابتدأت من البصرة لتبلغ ذروتها في بغداد أواخر 1979؛ فكانت تمتلئ حتى أن «إبراهيم» في يوم ما لم يجد عند عودته في ساعة متأخرة موطئ قدم كي يقف براحة ويغفو، فعلق تعليقه الشهير قائلًا:
- أريد أنام وين أوقف؟!.
حتى عند تناول هذا الموضوع كانا يركزان على غرابة الهاربين، فواحد ضبط وهو يسطو على بيوت الجيران ليتلصص من النوافذ غير المسدلة.. وآخر يطفئ السجائر على جلد ذراعه مجربًا هل يستطيع الصمود عند اعتقاله، وآخر يفزّ بعد منتصف الليل باكيًا شوقًا إلى زوجته وابنه الرضيع، وآخر كان يضحك طوال الوقت ويقول:
- صاعد أضرب جلق!، وآخر يقرأ طوال الوقت غير آبه بما يجري. والغريب أن الشقة لم تكبس مطلقًا رغم أن عديدًا ممن اختفى فيها اعتقل؛ إذ يبدو أن كل من اعتقل لم يعترف على مكانها في حالة نادرة. رغم ذلك لم يركزا على صمود أولئك الرفاق.. وعندما أراد «محمود» أن يلقي الضوء على هذا الجانب قائلا:
- أبطال الرفاق اللي صمدوا!.
حدقا نحوه باستغراب، وواصلا حديثهما عن أشياء لا يجرؤ أحد على البوح بها، متطرقين إلى ما كان يجري في كردستان من محاولات لإسقاط الرفيقات اللواتي وقع عديد منهن بحبائل المسؤولين، قال «عزيز»:
- ما تدري «إبراهيم» أش كان يصير بينا بالليل بموقع نوزنكـ. القاعة تشترك بحايط مع غرفة «يوسف» عضو اللجنة المركزية.. ونص الليل نسمع عبره صراخ الرفيقة، التي تدعي مراعاته لكبر سنه، وهي تصغره بعشرين سنة.. صراخ يذبح ذبح يا «إبراهيم».. في يوم شطت.. نهضت من الفراش، وطلعت من القاعة وردت أقتحم غرفته.. قتلني القواد ابن القواد قتلني.. الليل كله يضاجع وأحنه قتلتنا الجلق!.
نبّ «محمود»:
- لا تشوهوا قيادة الحزب!.
كانوا قد أتوا على قنينة الفودكا الثانية.. التفت عزيز نحوه قائلًا في سخرية:
- أعد ما قلته.. أعده.. يرحم والديك!
فكرر «محمود» بكل جدية وبلاهة ما قاله.. جاوبه بعفطة عظيمة.. فحدق مبهوتًا بـ «عزيز» ثم التفت نحو «إبراهيم» الذي أطلق عفطةً أعظمَ، مما جعله يقول بصوت ضعيف:
- هاي أنتم أش لون مناضلين!.
- مناضلون غصبن عنك!..
وأردفا ضاحكين:
- وإذا ما يعجبك.. نشگ حلقك!.
واستمرا في الحديث عن تلك التفاصيل، التي يعتقد أنها تمس مقدساته.. هو نزيل المدرسة الحزبية في موسكو في آخر أيامها، قبل أن يلغيها يلتسن ويطردوا.
لم يشف غليل «إبراهيم» صَفْعِ «محمود» في موقف الحافلات أمام مطار موسكو في ذلك الصباح البارد.. لا يزال يحمل في قلبه غيظًا منذُ تلك الليلة الأخيرة، التي حرمه فيها من مضاجعة زوجته التي عادت مثل ذكرى قديمة، تكاد تندثر في صخب أيام موسكو.. كان يعد ويرتب في ذهنه كي يثير موضوعًا بعينه يفضي إلى السخرية منه، لاسيما بعد علمه أن «محمود» بمرور الوقت أصبح مثار سخرية رفاقه في المدرسة الحزبية، الذين قصوا عنه عديدًا من حكايات فشله في مضاجعة روسية واحدة، ممن يصادفونهن في حفلات خاصة، حتى أنهم وفروا له جوًّا خاصا بعد أن أوصوا به إحداهن.. فانفردت به موصدة باب الغرفة بالمفتاح، غط في نضحٍ حتى ابتلت ملابسه، وراح يحدثها مرتبكًا عن الشيوعية ونضال العاهرات الروس في حرب الأنصار أثناء الحرب العالمية الثانية، مما قرأه في روايات الحرب التعبوية التي تطبعها دار التقدم الروسية لتصبح مادة تثقيفية لشيوعيي العالم. لم يقترب منها. تذكر كل ذلك و«محمود» يحاول أن يفتح باب السياسة بالحديث عن المؤامرة التي حيكت ضد الاشتراكية.. أسكته «إبراهيم» قائلا:
- رجاءً بلا سياسة.. لعبت نفسنا منها!
أيده «عزيز» قائلًا:
- أسمع لما كنتم تقاتلون بالجبل، شفت الناس هنا أش لون تكره الشيوعية.. صديقي روسي قال لي بما معناه: حتى الماء النازل من الحنفية يكره الشيوعية.. حولوا الناس إلى عبيد.. بيروقراطية ومخابرات.. رشوة وفساد.. واللي يعترض يضيع.. مثل ما يجري عندنا بالعراق بالضبط.. عمموا الفقر.. إلا لطبقة ضيقة هي القيادات الحزبية وقادة المؤسسات ومن يحيط بهم.. وصار الأجنبي يقدر يضاجع الشابة الروسية مقابل وجبات الغذاء والسينما وما شابه.. سترى بنفسك يا «إبراهيم» سترى..
والتفت نحو «محمود» قائلا:
- أكيد أنت شفت بالمدرسة الحزبية!
- ...
- قل هذا غير صحيح؟!
علق «محمود» بصوت واهن متردد:
- صحيح لكن...!.
- بلا لكن وفكنا من هذا الحديث المتعب.. اللي راح يقودنا لانفعالات مؤذية.. فأتذكر إخوتي الثلاثة، اللي راحوا بمعارك مع جماعة «جلال الطالباني».. وبعدين أشتمك وأشتم حزبك.. والعالم كله!..
- ..
صمت محتقن القسمات.. فسارع «إبراهيم» قائلا:
- اهدأ.. اهدأ.. جرّ كأسك.. وخلينا نحكي عن أول مرة ضاجعنا فيها!.
وخطف نظرة إلى وجه «محمود» الذي تبسّم بارتباك.. وضع «عزيز» كأسه على الطاولة، وحملق بعينين مضيئتين نحو النافذة، وكأنه ذهب بعيدًا وقال:
- أي هذا الموضوع اللي يريح!.
قال «إبراهيم» فورًا:
- قص لنا يا «عزيز»!.
حملق «عزيز» في خبث للحظات، قبل أن يتساءل:
- ماذا تقصد بالضبط؟!..حدد.. صبي.. حمارة.. عاهرة!.
فغر «محمود» فاه ونقل نظره بين الاثنين، فوجدهما يبتسمان وكأن ما قاله عزيز شيء عادي ومألوف، فهو طالما سمع همسًا عن أولئك الذين يمارسون الجنس مع كل شيء حي.. كان يظن أن مثل تلك النماذج غريبة الأطوار.. مريضة.. ليس لها أدنى درجة من الوعي.. لا.. بل كان يردد مع نفسه كلما سمع مثل تلك القصص: هذا مجرد خيال.. وهاهو في هذه اللحظة يسمع رفيقين من أبناء مدينته.. مناضلين.. صمدا في المعتقل عدة مرات، وقاتلا بكل شجاعة في كردستان وتشردا، وأحبّا وتزوّجا.. ولديهما أطفال بعكسه؛ فهو لم يستطع أن يوفق وضعه البشري بين النضال السري والزواج.. وبقولٍ أدق لم يجد رفيقة تتعلق به، رغم احتكاكه بعدد كبير من الرفيقات في العمل السري ببيوت حزبية.. يسمعهما يتحاوران وكأن ذلك جزء من ماضيهما المشترك.. سألهما وفي صوته رعشة:
- يعني.. يعني.. أنتم مضاجعين.. كل شي!.
تبادل «إبراهيم» و«عزيز» نظراتٍ متواطئة ليعلق «إبراهيم» قائلا:
- على كل حال!.. لا تسأل.. اسمع فقط!
وثبت عينيه على «عزيز» قائلًا:
- لا تصير خبيث وتفضحنه.. أقصد أول تجربة ويه عاهرة، ويه متزوجة، ويه باكر.. أول مرة اتنام مع امرأة وتذوقه!.
- صار واضح.. اسمعا:
«في أول مراهقتي عملت في مقهى أبي اللي يديره أخي الكبير تعرفوه شيوعي، شقي، سكير، مقامر، نسوﻧﭽﻲ .. طيب، كريم، ثرثار، متلاف كل التناقضات بيه ومعروف في المدينة كلها، وكان قاسيًا معي.. إذا تأخرت أو أخطأت أو نسيت شيئًا.. يضربني بقسوة بعصا يخبئها في خزانة المقهى.. كان لا يعاقبني أمام الناس، بل عندما يخلو المقهى من الرواد، أما في الظهيرة أو في ساعة متأخرة من الليل قبيل غلق المقهى.. بالمقابل كان يعطيني أجرة يومية مقابل عملي.
تتذكرون مقهانا اللي هو عبارة عن باحة كبيرة في آخرها غرفة صغيرة، تحوي الموقد وأدوات الشاي من قواري واستكانات وأركيلات وفحم، وفي داخلها باب صغير يؤدي إلى المغاسل والمرحاض.
حرموني من اللعب بالشارع.. من المدرسة للمقهى، حتى واجباتي كنت أحلها بغرفة الموقد الحارة. ومثل ما قلت لكم بدأت أحلم، ومن زملائي في المدرسة سمعت عن العادة السرية فجربتها في ليلة تحت الغطاء، بعد أن نام إخوتي المتكدسين معي في غرفة طويلة بلا أثاث.. وجدت بها لذة غريبة، فرحت أمارسها كل ليلة تقريبًا..
كنت أرتبك في الصباح شاعرًا بالذنب.. إلى أن تبدل موعدها حينما وجدتُ يومًا على قنفة في طرف المقهى مجلة الشبكة نسيها أحد الرواد مع عدة جرائد أتذكرها حتى هذه اللحظة، المنار، كل شيء، والراصد. تصفحت المجلة في الظهيرة فأنذهلت من أجساد النسوة العاريات.. وكانت صورة الغلاف الملونة لـ «برجيت باردو» شبه عارية، إلا من قطعة قماش صغيرة جدًا تغطي شقها الذي بدا صغيرًا..
يضاف إلى صور بالأسود والأبيض داخل الصفحات وهي بأوضاع مختلفة مثيرة، من الخلف من الجوانب من الأمام رافعة الساقين، منحنية تنظر من بين فخذيها الرشيقين الأملسين اللذين بدوا كعمودين شاهقين، فكنت أتتبع الساق من الكعب حتى المؤخرة قليلا.. قليلا..
تلك الصور سببت لي ما كنت أعتقده كارثةً.. خبأتُ المجلة في زاوية من غرفة الموقد المكتظة. ودأبت على إخراجها في الظهيرة، عندما يخلو المقهى لأقلبها على مهل إلى أن أستثار وينتصب، فأداعبه على مهل خلف بناء الموقد جالسًا على الأرض، في زاوية لا يستطيع الداخل للغرفة أن يراني. أصبحت أمنية يومي هي انتظار لحظة أذان الظهر ومغادرة أخر جليس، وفي ظهيرة من ظهائر تموز الحارق.. تأكدت من فراغ المقهى والشارع من الناس، فأسرعت إلى مجلتي المضمومة في فجوة مهملة بحاشية القنفة، وبدأت بتقليبها رافعًا ثوبي إلى ما فوق خصري، وفيما كنت أداعب وسطي .. متخيلًا جسد «برجيت» حيا يتحرك لصقي، سمعت صوت أخي المدوي يصرخ:
- حمار..ماذا تفعل؟!.
جمد الدم في عروقي.. ماتت يديَّ، فانحل قضيبي وسقطت المجلة.
قرع الباب قرعًا عنيفا أيقظهم من المشهد الحار.. أسرع «عزيز» وغاب في المدخل.. سمعه «إبراهيم» يفتح الباب، ويدخل في حوار بالروسية مع امرأة.. عاد بعد دقيقتين ليقول مستغربًا:
- هذي واحدة سكيرة، تقول أريد حبيبي «إبراهيم»!.. ولك وين لقيته ما صار لك وحدك بموسكو غير شهر ونص!.
- أصرفها وبعدين أسولفلك!.
- ما تقبل.. قلت لها غير موجود تقول تكذب.. فقط أخبره أني في الباب!.
- راح تخرب الجلسة بس تدخل.. أعطيها ما تبقى بالبطل من فودكا.. وأصرفها!.
وأشار «إبراهيم» إلى القنينة المنتصبة وسط الطاولة الصغيرة.. تناولها «عزيز» وخطا نحو المدخل.. سمعاه يدخل بالحوار من جديد، ليتحول إلى شبه مشادة، انتهت بغلق باب الشقة بعنف، ليظهر بعدها على عتبة الغرفة مدهوشًا يحدق نحو «إبراهيم»، قائلًا:
- شبعتني شتائم، تقول أني لست متسولة «بنت العاهرة».. أنا حبيبة «إبراهيم».. قلت لها: روسي ما يعرف أش لون صار حبيبك.. رمتني بخرطوش طويل من فشار الروس اللي بالحضيض، وقبل ما أَسِدِ الباب خطفت «البطل» من يدي.. «إبراهيم» هذي وراها قصة لازم تحكيها إليّ..
- بعدين.. بعدين.. خلينا نسمع قصتك بالأول!.
أنتبه «إبراهيم» إلى «محمود» وقسماته النحيفة السمراء، التي أمعنت في غبائها، وهو يستمع إلى هذه التفاصيل، ويرى مشهد الروسية أمام ناظريه قبل لحظة.. فقال في نفسه:
- من المؤكد أنه يتساءل الآن عن أية أسرار نكتم!.
قال «عزيز»:
- أين كنت بالضبط؟!.
وأنهمك بفتح غطاء قنينة فودكا جديدة.. ذكره «إبراهيم» معيدًا آخر مشهد تمامًا كما رسمه قبل طرق الباب عن سقوط المجلة في زاوية خلف موقد المقهى، فاستعاد «عزيز» مناخ المشهد من جديد، وقال:
- بدأت أرعش.. تيبس ريقي.. قفزت من مكاني.. وقفت وتمنيت أطير من الباب وأضيع بغير هذي الدنيا، بالسماء.. أخفيت قضيبي باللباس وعدلت ثوبي.. وتوقعت راح يكسّر العصا على رأسي. لكن ظل ساكت ما أدري ليش.. ساكت ويتمعن في وجهي، وكأنه يفكر بأمر ما، فقلت مع نفسي: يمكن يفكر أش لون يعاقبني، بالعصا، بغيرها..
ولما هز رأسه، والتفت جهة الموقد المليء بالجمر ارتعدت وراحت أسناني تصطك بصوت مسموع، وأنا أتخيل الجمر يلامس جلدي، زاد رعبي فبدأت أبكي.. صاح بيّ: أسكت حمار.. لا تبكي مثل النسوان.. أسكت.. قال ذلك بلهجة مرحة.. سكت. وانتظرت والتوتر بدأ يخف لما شفت بسمة خفيفة، لاحت بطرف عينيه «معنى ذلك أنه بمزاج رائق وغير غاضب مني» قلت مع نفسي بشك.. مد يده الضخمة وسحبني بعنف إلى صدره، عانقني وضربني بقوة على ظهري بكفه المفتوحة، قائلا: صرت كبير وما أدري!.. أخذني إلى أول قنفة قريبة وجلس أمامي وقال: أسمع ما أقوله يظل سر بيني وبينك ما تطلعه لأي بشر.. وافقته. فشدّد وإذا سمعت طالع لغيرنه راح أسلخ جلدك. هززت رأسي مؤكدًا فقال: لازم تنام ويه مرة من لحم ودم!.
لم أصدق ما أسمعه.. هل من المعقول راح أنام ويه واحدة؟!.. هذا الحلم المستحيل وقتها أو اللي يبدو بعيد.. بعيد، قلت لنفسي ذلك، وأخوي يكمل: بكرى الظهر حضر حالك.. أسمع راح تدفع أنت ثمن المضاجعة.. كنت ساكت وهو يقول أقطع أجرة أسبوع.. من عملك بالمقهى. وقتها كنت مستعد أدفع أجرة سنة ليس أسبوع. ما نمت تلك الليلة ومارست العادة السرية «وأنا أتخيل العاهرة اللي وعدني بها» أكثر من مرة. وعند ظهيرة اليوم التالي وبعد خلو المقهى وقت القيلولة أقفل المقهى وقال:
- هيا بنا..
ما أنسى ذاك اليوم أبدًا.. كانت ظهيرة حارة جدًّا.. نهاية تموز. والشوارع خالية من البشر.. كان يسير أمامي بعدة خطوات.. وكنت أكاد أطير.. لا.. لا.. كنت طاير من الفرح. لما أتذكر الآن بعد أكثر من عشرين سنة، أشوف نفسي بحالة من الفرح الغريب ما أحسست بمثله بعد ذلك أبدًا، رغم مضاجعتي لعشرات النساء من مختلف الأجناس.. كنت أسير خلفه وكأنني ذاهب إلى جنة الخلد.. ولم أكن أدري وقتها.. أن تلك التجربة ستفتح علي أبواب جهنم والمرأة وأظل ألهث وألهث دون أن أرتوي..
المهم عبرنا الجسر الخشبي القديم باتجاه الصوب الكبير.. كان النهر الصغير مليئًا بالصبيان العراة.. انحرف يمينًا، ثم عبر الشارع العريض، وهبط على السلالم الحجرية للزقاق المجاور لمحكمة الديوانية القديمة. غمرتنا أزقة الجديدة بظلالها الباردة.. كنت أحث الخطى خلفه. وكان صامتا لا يبادلني الكلام.. لا بل لم يلتفت نحوي مرة واحدة..
وعندما استدار مع حافة جامع السنة باتجاه الكرفت، بدأت أشك، فالطريق يؤدي إلى بيتنا.. بدا خطوي يضطرب، وأنا أتخيل أنه أعدّ لي كمينًا في بيتنا كي أجلد من قبل إخوتي الكبار. تلكأت.. فأحس عندما تخافت صوت قدمي.. التفت وحثني على الإسراع. ومن باب جانبي لخان الحصن والحمير في الكرفت قرع الباب، فخرج الحارس العجوز مرحبًا.. وغادر بينما دخلت مع أخي. قال بصوت قوي: بيض وجهي وصِرْ رجلا عن حق. لم أفهم فالخان واسع وفيه أحواض طولية للعلف وقدور ماء وحشيش وعدة حصن تجوب في المساحات العارية، وتحت سقيفة تلتف على امتداد ثلاثة جدران..
وقبل أن أسأل اندفع باب الخان الخشبي المردود، ودخلت امرأة تلهث ملفوفة بعباءة سوداء.. وعندما وقع نظرها علي قالت: ياه هذا أخوك.. بعده زغير.. أخاف يفضحنا!..
فرد بجد:
- لا.. لا تخافين سرك في بئر!
كنت مرتبكًا.. بدأت أنضح وهو يوصيها: انتبهي بعده ولد.. هذي أول مرة، فلم أدرك إلا بعد أن تركنا أخي لوحدنا قافلا باب الخان من الخارج.. أنها جارتنا زوجة شرطي النجدة «مشكور»، والتي ولدها زميلي في الصف نفسه، ويلعب معي في المدرسة والشارع. وكانت تزورنا كل يوم تقريبًا.. يعني مصادقة أمي وتساعدها بالتنظيف والطبخ.. وكنت أناديها «خالة». فكرت بكل هذا ما أن أغلق الباب وصرت وحيدا جوارها.. كانت تنظر نحوي بحنان وتبتسم بينما تبللت ملابسي وكأني غطيت بالنهر.. أخذتني من يدي وسارت بي نحو ظلال السقيفة جوار المعلف.. لم تنطق بكلمة واحدة ولا أنا طبعا.
كنت أشعر بالذنب، وأنا أخطو جوارها حتى فسحة مغطاة بالتبن.. نزعت عباءتها وفرشتها فأنحسر ثوبها الأحمر القصير عن فخذين أبيضين متينين من الخلف، أنسياني كل ما يتعلق بالشعور بالذنب.. عدلت أطراف العباءة فوق التبن وكانت ترمقني بين الحين والحين بعينين متوهجتين.. قامت وأخذتني إلى حضنها. قبلتني على وجنتي ورقبتي هامسة: لا تخاف.. لا تخاف.. وهي تحاول حبس الرجفة بجسمي.
وقليلا.. وقليلا بدأت أحس بدفء جسمها. وتوترت.. وبخبرة راحت أصابعها تجوس أنحاء جسمي، وتمص فمي بعد أن رفعت ثوبها .. التحمت بها .. همست: أكمل .. توترت إلى الأقصى، ثم همدت .. إليّ الثانية.. وقتها لم أفهم ما تعنيه ..
وعندما جلست على العباءة وأجلستني جوارها وراحت تمسح بشرتي بعد أن جردتني من ثوبي.. كنت أحس بدغدغة لذيذة وشفتاها تجوبان أنحاء جسمي.. إلى أن تهيجت من جديد. فاستلقت فاتحة ساقيها الطويلتين إلى الجانبين وجرتني فوقها وهمست: ارضع.. ارضعْ.. ودسَّت الحلمة في فمي. وفيما كنت أرضع.. قادتني إليه.. كان ناعمًا.. ساخنًا.. لينًا أخذني إلى عالم غير عالم الخان والتبن.. وملأت شمي رائحة جسدها وملابسها وشعرها، التي هي مزيج من روائح المسك والبخور والحناء والدارسين والبهارات، فطردت رائحة الروث والتبن والتراب..
حتى تلك اللحظة لم أجرؤ على النظر في وجهها، إذ كنت أغمض عيني.. لكنني فتحت عيني القريبتين من قسماتها.. كانت تقضم أسنانها، ويتموج في وجهها شيء يصعد وينزل. وكانت تنظر إلى الجهة اليمنى.. فشخصت إلى حيث تنظر.. فرأيت حصانًا أسود قريبًا جدًّا يحدق نحونا بينما تدلى .... طويلا متوترًا يكاد يبلغ الأرض.. تتموج تحتي وتكتم الصراخ، وما فارقت عينها الحصان الذي بدأ ينخر ويرفع ..... ويضربه بجدار بطنه ضربات متتالية إلى أن صرخت وعضتني بصدري، مطبقةً ساقيها على وسطي بعنف توافق مع صهيل الحصان.. مما جعلني أشخص نحوه مرة ثانية فرأيته يرفع قائميه الأمامين ويخبط بهما الهواء في هياج.
وصمت «عزيز» فجأةً.. فوجد «إبراهيم» نفسه من جديد في المكان.. تلفت محملقًا حواليه، فرأى «محمود» مضرج الوجه يفغر فمه، ويركز نظراته على شفتي «عزيز» المطبقتين منتظرًا المزيد من التفاصيل أو نهاية القصة التي بترها، ولم يكملها لينقل إلى موضوع يتعلق به قائلًا:
- فتحت عيني هذي التجربة، وبقيت أعمل لدى أخي دون مقابل.. إلى أن وجدت السكة!.
سأل «محمود» بلهفة:
- أش تقصد بالسكة؟!
- عرفت الدرب.. بدأت بالجيران.. فكثير من المتزوجات إما مهجورات وإما ما يشبعوهن أزواجهن.. هذا عدا اللي عندهن مشاكل.. المهم وجدت الطريق سهلًا.. شيء واحد يتأكدن منه هو سكوتك.. فإذا عرفن أنت سراني يشبعنك. ولما بنيت علاقة مع جارتنا اللي ضاجعتها بالخان، عرفت أن أخي الزنديق ما يعطيها ولا فلس من أجرتي!.. فهي تريد تتمتع يعني ليست عاهر.
صمت لحظة وعقب معلقًا:
- خربتْ نظرتي للنسوان!.. صرت أشك بكل واحدة حتى بأخواتي.. بنسوان إخوتي.. وتصورت أن كل جاراتنا ممكن النوم معهنّ فوقعت بعشرات المشاكل وشبعت ضربًا من كثرة حماقاتي، لكن كنت ما أجوز لأن مرة أصيب ومرة أخيب..تعودت على القحاب وصرت أناني مثل ما تعرف يا «إبراهيم» وما زلت.. غير أني متزوج وعندي طفلة، لكن لما أشوف واحدة بمكان أنسى كل شيء.. وأتنافس مع أعز صديق.. لا حتى مع أبوي وأعمل المستحيل حتى أزيحه وأحصل عليها!.
والتفت نحو «إبراهيم» قائلا:
- الدور عليك يا «إبراهيم».. خبرنا عن أول مضاجعة.. ثم تَبصرني بسالفة هذي الروسية السكيرة، اللي دقت الباب وتقول أنت حبيبها؟!.
وقهقه بصخب مرددًا:
- حبيبها.. حبيبها بنت العاهر!.
أثناء ما كان «عزيز» يعلق ويحلل تجربته.. كان «إبراهيم» في غمرة شعور عميق بالغبطة من كل ما يجري له في موسكو.. غبطة دائمة جعلته يضحك طوال الوقت في حضور الآخرين.. غبطة كان من المستحيل حضورها وسط زوجته والأولاد.. بالعكس كان وجودهم يوتره، وهي تحاصره طوال الوقت:
- لا تشرب.. أين تذهب.. ماذا سيكون مصيرنا؟!.. سنضيع!. ما معنى وجودنا هنا وسط هذا الشعب السكير؟ ما الحل والطرق انقطعت؟ وأنت تضحك.. ما مهتم لا بيّ ولا بالأطفال.. ولا بالمشكلة.. تضحك وتشرب.. وتتسكع وكأنك سائح.. إذا خلصت فلوسنا وين نعطي وجهنا؟!.
كان يدرك أن كل أسئلتها مشروعة.. لكن ماذا بيده؟ حاله حال مئات العراقيين المحاصرين في موسكو بانتظار رحمة المهربين ومنظمة الحزب الشيوعي في موسكو.. ثم لماذا ينكد يومه بكل هذه الهموم.. والأمر سواء إذا حُلَّ فبها وإذا لا.. فبها أيضًا!.. ومن هذا المنطلق القريب جدًّا من منطق الحياة فقاعة.. الحياة لحظة، كان مبتهجا في أسوأ الأحوال..
لذا تفاقم الوضع بينه وبين زوجته التي ما برحت تحاصره وتكيل له اللوم.. حتى وصل في بعض الليالي إلى نفوره منها في الفراش، فتأجج غضبها وحولت الشقة إلى جحيم يهرب منه إلى السكر كي يتمكن من تحملها.. ليس الشرب فحسب بل وجد في السكر حد الإغماء مخرجًا يلاشيه فيعود لا يسمع ما تقول. ذلك زاد من تعقيد الوضع، فأمعنت في حربها إلى الحد الذي أحس في ليلة من ليالي الجحيم تلك برغبة جارفة في تهشيم قسماتها المتنمرة الصخرية الوقحة، وهي تنق وتلح وتلوم فأمسك بقنينة فودكا مليئة من عنقها الرفيع بقبضته المشدودة. رفعها عاليًا وهو يقفز من الأريكة التي يجلس عليها «عزيز» و«محمود» الآن. فصمتت مذعورة وتكورت على نفسها.. وبدلا من ضربها، هوى بالقنينة على أم رأسه فنزف بغزارة وسبح بالدم والفودكا.. فتحولت فورًا عائدةً إلى وضعها القديم، حيث كانت الأنيسة المحبة الحانية العطوف. فحضنته لاهثة مذعورة.. جففت جرحه، وعاملته بشجن قديم، يعود إلى بداية قصتهما، ولكنها في الصباح عادت إلى الزن واللوم والنكد..
سرح مع كل ذلك في الوقت الذي كان به «عزيز» يعلق على تجربته الجنسية الأولى.. وفكر بلمحة خاطفة في وضعه الجديد بعد سفرها رائيًا وجه ذلك الروسي الأنيق بربطة عنقه المتناسبة مع بدلته لونًا والحامل حقيبة دبلوماسية، والذي كان يحدق نحوه طوال الوقت وهو يضحك بصخب معلقًا على كثير من الأحداث، التي مرت به بسخرية لصديق درس في روسيا ويعمل فيها. صخبه ضجَّ عربة المترو وجعل ذلك الروسي الأنيق يقترب من صاحبه، ويطلب منه أن يسمح له الجلوس مع «إبراهيم»، وعندما سأل صاحبه الروسي عن سبب رغبته بالجلوس مع «إبراهيم» أجاب فورًا:
- أريد أعرف سر بهجة هذا الإنسان!، وهل يوجد في هذي الدنيا ما يبهج إلى هذا الحد؟!.
همس له صاحبه بما قاله الروسي، وعن دعوته لجلسة شرب على حسابه..
- المجنون يظنني أسعد إنسان في العالم!..
علق على قول الروسي.. ورفض الدعوة ممعنًا في قهقهته الصاخبة.. ومتشبثًا بالحياة الفقاعة.. يمسك بها لحظة فلحظة.. فالعمر يمضي مرة واحدة.. وكل يوم لا يتكرر أبدا.. تأمل كل ذلك مستمتعًا بغبطة الأجنحة، وسط هذا البوح وفي الشقة نفسها التي كانت جحيما قبل سفرها.. و«عزيز» يلحّ طالبا منه البدء.. عبَّ بقايا كأسه وحملق بـ «محمود» الفاغر فمه والمنتظر بلهفة حكايته.. تنحنح وكأنه على منبر وقال:
- تعرفون عشت مدللًا لصيقًا بأمي طوال الوقت.. تأخذني إلى حمام النسوان إلى وقت متأخر.. وإلى هذه اللحظة أتذكر مثل حلم واضح حشد النسوة العاريات المنهمكات في فرك أجسادهن بالليف ورغوة الصابون.. وكانت تدافع عني كوني صغيرًا كلما عارضت صاحبة حمام الدولجي دخولي.. وكنت أكبر دون أن تنتبه إلى ذلك. وكما تعلمون اضطرت أمي إلى إكمال تحصيلها العلمي لتصبح معلمة بوقتٍ مبكر كي تعيننا. وكانت تسافر في كل عطلة صيفية إلى المزارات البعيدة.. أخذتني معها إلى مرقد الإمام الرضا في إيران.. وإلى كل المزارات الموزعة في أنحاء العراق.
وفي إحدى السفرات صحبتنا شابتان كانتا تعملان مع أمي معلمتين في المدرسة نفسها إلى دمشق. أخبرتني أمي أننا سنزور الست زينب هامسة لي: بأنهما «تقصد الشابتين» من عائلة هي من أشرف العائلات وأبوهما شيخ من شيوخ عشائر أرياف النجف أوصاها بهنَّ، ويعتمد عليها في ذلك. أتذكر الحديث بالضبط؛ إذ إن ما حدث لن يُمحي من ذاكرتي إلى الأبد. وقتها كنت ما بين.. وبين.. أتأرجح على حافة البلوغ.. أفز مرات نص الليل أو وجه الصبح على بلل في لباسي الداخلي.. أو أجد نفسي منجذبًا لسيقان امرأة أنحسر عنها الثوب أثناء جلوسها مع أمي في الباحة.. أو لأخرى تتعرى في الغرفة عندما تأخذ أمي مقاسها لخياطة ثوب.. ويجذبني كثيرا شكل جاراتنا المنحنيات أثناء كنس باحات بيوتهن..
لكن إلى ذلك الوقت، لم أعرف العادة السرية، ولم يحدثني أحد عن الجنس والمضاجعة وأشياء المرأة.. كان كل شيء غامضا.. لا بل زادني غموضًا شدة تعلق أمي بي، كنت أقضي معها كل وقتي عدا وقت المدرسة.. باختصار كنت شديد البراءة قبل تلك السفرة.. أجلستني السمراء الواسعة العينين إلى جوارها في الحافلة، بينما جلست أختها البيضاء الممتلئة جوار أمي. قالت:
- تعرف اسمي يا «برهم»!
- لا!.
- «حكيمة».. اسمي «حكيمة»!
كنت أشم عطرًا مثيرًا ينبعث من جسدها الساخن الملفوف بالعباءة، وهي تحدثني بهمس مقربة شفتيها من أذني.. سألتني عما أفعله في وقت ما بعد المدرسة، وهل لدي علاقات بصبيان أو صبايا، وهل أحببت واحدة. وعند حلول الظلام والحافلة تقطع الصحراء باتجاه الحدود، سألتني أن أضع رأسي على فخذها إذا شعرت بالنعاس.. وفعلا بعد ساعة هويت برأسي إلى طراوته.. دفعت بجسدها بشدة نحو النافذة، فأتاحت لجسدي الصغير التكور على الكرسي، بينما أعلى كتفي ورقبتي ورأسي يتوسد فخذها البعيد والمرتفع قليلا كوسادة لصق زجاج النافذة.. وبدأت تقص لي قصة بصوت هامس ناعم عن الأميرة والصبي الصغير كيف لوعها؛ لأنه لم يدرك سن الحب بعد..
لم أكن وقتها أعي أن قصتها تدور حولي إلا في الأيام التالية.. كانت تحكي بصوت مرتعش حزين عن قصر الأميرة السجن، وعن صبيها الذي تراه من نافذة غرفتها العالية يلعب في حديقة أمام أسوار القصر كل صباح.. كانت كلماتها تتسرب كحفيف، وهي تمسّح شعري بأصابعها الناعمة، إلى أن سقطت في النوم مخدرًا بهمسها وعطرها ودفئها وحنوها دون أن أعرف نهاية القصة.. في ضاحية الزينبية التي كانت وقتها غير ما رأيناه العام الفائت، فالشوارع كانت غير مبلطة بعد، والقبة فقيرة البناء غير مطلية بالذهب كما الآن.
سكنّا في نزل فيه عدة غرف للإيجار.. أنا وأمي في غرفة، والبنتان في غرفة تجاور غرفتنا.. كنت ألبي كل طلباتهما: شراء الوجبات من المطاعم المجاورة، حمل الماء إلى غرفتهما، وقت الصلاة ليتوضأ، الخروج معهما لزيارة مقام الست، أو التسوق من المحلات المجاورة. وفي الليلة الثانية جاءت البنت السمراء، وطلبت من أمي السماح لي بالنوم في غرفتهما مدعية أنهما لا تشعران بالأمان من النزلاء العازبين الساكنين في الغرف المقابلة.. وفعلا كان المؤجرون يرابطون في الغرف تاركين أبوابها مفتوحة، يحملقون بهنّ عند الدخول أو الخروج. قالت لي أمي:
- البنات أمانة في رقبتي.. نم بغرفتهما !.
فرحت في داخلي وأنا أستعيد ملمس أصابعها على رأسي، وفخذها على خدي، وذلك الدفء الغريب والمختلف عن حضن أمي الذي شعرت به معها.. لكني قلت:
- وتبقين وحدك!
- متعودة ابني.. متعودة!
أخذتني إلى غرفتهما العارية من الأثاث.. كنت أسير خلفها حاملا فراشي والغطاء. ومن نوافذ الغرف المطلة على الباحة رأت عيون رجالٍ تجوس في أثر خطوها وهي تسير أمامي بخطوتين، فأحسست فعلًا بأن مبيتي معهما سيجلب لهما الأمان ويخيف من تسول له نفسه السطو.. وقتها كنت قد سمعت قصصًا عن عمليات سطو تجري في الظلام، على السطوح وفي الغرف وباحة البيوت من أفواه النساء، اللواتي يأتين إلى أمي ليخطن الملابس فيهمسن شاكيات مما يتعرضن له في الظلام، دون أن يستطعن المقاومة أو الصراخ أو إخبار أحدٍ خوف الفضيحة، وذلك ما جعلني أترصد في ليالي الصيف مع حلول الظلام ما يجري في الأسطح المجاورة لسطح بيتنا من جهات ثلاث، فرأيت من يعبر الحيطان الواطئة الفاصلة بين السطوح.. بعض من تلك الأشباح ينزل إلى الحوش بواسطة السلالم، والبعض الآخر يندس بين النائمين على السطح، وأخرى تعبر إلى السطوح البعيدة.. حركة غريبة تجري بسكون الليل وفي صمت وضعني في حيرة وعجب، جعلني أسهر منتظرًا تلك الأشباح حتى تعودتها قبل طلوع الفجر.. وعندما أخبرت أمي قالت مؤنبة:
- ليش تتجسس على الناس، مالك شغل!. ولا تفك حلقك بالشارع ولا تقول لأحد!.
وعندما ترى بعينيّ تساؤلًا وعدم قناعة بكلامها تزيد قائلة:
- هذا شرف الناس، ويجوز يصير قاتل ومقتول لو حكيت!.
أقفلتِ الباب بالمفتاح.. وتناولت من يدي الفراش وبسطته في الفراغ الضيق الفاصل بين فراشها وفراش أختها التي وجدناها مرتدية ثوب نوم أحمر ناعم النسج وضيقا، أبرز تفاصيل جسدها المرصوص.. كنت أخالس النظر إلى قسماتها الناصعة البياض وشعرها الأسود الطويل، الذي أراه أول مرة مسدلًا يكاد يصل إلى كاحل قدميها. بينما «حكيمة» السمراء ترتب وضع فراشي.. شخصت نحو النافذة المطلة على الباحة، والأخرى المقابلة المطلة على الشارع فوجدتهما مقفلتين والستائر مسدلة بإحكام. هبَّ عطر قوي انبعث من جسد البيضاء المنهمكة في فرد شعرها بمشط خشبي، وهي تحدق بمرآة مدورة ممسوكة من طرفيها بحاملين خشبيين.. لم تكن منتبهة لوجودي، ولم تكن في مواجهتي وذلك أتاح لي التمعن في صدرها الناهد وخصرها المليء وفخذيها المفتولين فتلا.. ابتسمت للمرآة ثم راحت تدندن بأغنية حسين نعمة
«فرد عود يلشاتل العودين.. خضر ياويلي».
أدرت طرفي نحو «حكيمة» الراكعة على ركبتيها، تغطي الفراش القطني بالشرشف.. جذبتني مؤخرتها الرصينة والبارزة وخصرها الناحل، ورشاقة ساقيها العاريتين إلى ما فوق الركبة بقليل. توهج شيء في جسدي.. شعرت برأسي يسخن وتهبط الحرارة سارية عبر رقبتي إلى الأحشاء والأطراف.. ارتبكت و«حكيمة» تلتفت نحوي، بعد أن أتمت تعديل الفراش.. حملقت بوجهي الذي تضرج ضاحكة، وقالت موجهة الكلام إلى أختها:
- شوفي «رشيدة».. أش لون خجول.. شوفي عيني.. من أروح لك يا عيني فدوة!.
وقتها فقط عرفت اسم البيضاء التي جاست بعينيها السوداوين الواسعتين في وجهي وجسدي مبتسمة، لتقول بصوت أشد نعومة من صوت حكيمة:
- لا تستحي أحنه مثل أخواتك الكبار.. لا تستحي راح تسولف لك «حكيمة» قصة قبل النوم!.
وعادت تفرد شعرها وتتمرى.. مستني «حكيمة» بكتفها في طريقها إلى الحقائب المركونة في زاوية الغرفة. نزعت ثوبها الأسود الطويل بسحبه من الأعلى، في اللحظة التي غطى فيها الثوب وجهها شخصت عيني نحو ساقيها وفخذيها المتينين الرشيقين اللامعين سمرةً، تحت مصباح الغرفة الناري المتدلي من السقف العالي .. استدارت في حركة متعمدة لتصبح بمواجهتي فرأيت مدى ضمور بطنها وضيق خصرها وتكور نهديها الصغيرين الصلبين من تحت الثوب الداخلي الشفاف.. أحسست أنها تتعمد ذلك؛ لأنها كانت لا تحدق نحوي مفسحة المجال لعيني الفضوليتين التملي بمفاتنها.. أو كنت أظن ذلك في تلك اللحظات. لبست ثوب نوم أسود عريضًا وطويلًا أخفى جسدها حتى الكاحلين.. وفكت ضفيرتيها الطويلتين، فانتشر شعرها المائل إلى شقرةٍ خفيفة مغطيًا ظهرها وهابطًا حتى أسفل مؤخرتها المرصوصة، وراحت تفرده أيضا بمشط خشبي أخرجته من حقيبتها.. ازداد توهجي وموج رائحة فريدة هبَّ من شعرهما، من أصابعهما، من ثيابهما، من حركتهما، فرحت أجوس بعيني متنقلا بين جسديهما وأشياء الغرفة، جذبتني أشياء حقائبهن المفتوحة والمبعثرة القريبة من موضع وقفتي، مشدات صدور مختلفة الألوان، ألبسة داخلية ضيقة صغيرة الحجم صارخة الألوان، وكأنها ألبسة أطفال تختلف عما تستخدمه أمي.. علب تجميل مفتوحة، قناني عطر:
- عيني «إبراهيم».. ليش واقف!. أقعد على فراشك.
انصعت فخطوت عابرًا الفراش القريب، لأهبط على فراشي يخالط ارتباكي، لذة غامضة تنبثق من الفراشين المحيطين والمرأتين المنهمكتين في طقوس ما قبل النوم.. من مكاني على الفراش فكرت بأمي لحظة فحزنت من أجل وحدتها في الغرفة المجاورة، وتمنيت الرجوع والنوم جوارها.. لكن «حكيمة» أقبلت مشرقة الوجه وجلست على فراشها إلى يميني جهة باب الغرفة، وقالت بصوت خفيض:
- إبراهيم أتخاف من الظلام؟!.
- لا!.
فنادت:
- رشيدة.. طفي الكلوب!
تابعت خطاها المتمهلة المتجهة نحو زر المصباح المجاور للباب، ذراعها العارية المليئة البيضاء، ترتفع مبرزة سبابتها لتضعها على النتوء الأسود، عيناها الكحيلتان تشملان أرجاء الغرفة، ثم.. طق.. فغرقنا في ظلمة بدت للوهلة الأولى كثيفة مصحوبة بصمت وكأننا سقطنا في عالم آخر. حبست أنفاسي منصتًا لحفيف خطى «رشيدة»، التي اقتربت لتهبط على فراشها إلى يساري.. سمعت جسدها يستلقي معانقا الفراش. ظللت أحملق بالسواد رائيا عددًا لا يحصى من نقاط بيض لامعة، تظهر وتختفي مثل لمح البرق.. فركت عيني وحملقت من جديد فتلاشت، و«حكيمة» تمسك بكتفي، وكأنها تراني قائلةً:
- أنطرح عيني!
أرخيت جسدي منزلقًا إلى الفراش.. سحبت يدها وهمست:
- اسمع عيني.. أسمع راح أكمل القصة اللي سولفته إلك بالسيارة.. ما عرفت أش لون انتهت لأن غفيت بنصها.
- أي..
قلتها بصوت مرتعش، فرائحة جسديهما الفائرين ملأت أنفاسي وأربكتني.
- قرب مخدتك من مخدتي حتى تسمع زين.
ولم تنتظر.. سحبتها ورأسي بعناية.. صرت أسمع أنفاسها وعندما تصمت في فاصلة قصيرة تستوجبها الحكاية، يختلط لهاثها بضربات قلبي بضربات قلبها بلهاثي الذي أحاول بمشقة حبسه.. لخصت القسم الأول منها، ثم راحت تفصل الباقي عن محنة الأميرة العاشقة التي بعثت صديقها العصفور كي ينتبه الصبي إلى شباكها.. فعاد يجلس كل يوم من الصباح حتى المساء، يحدق في النافذة العالية والأميرة ترسل له القبلات وتنفث الحسرات حالمة بوصاله. كانت تسألني من وقت لآخر، عندما أهمد سارحًا في خيالي مع الأميرة والصبي، متخيلا شكل القصر والأميرة وارتفاع النافذة والصبي والبستان وصباح القصة ومساءها ولوعة العاشقين:
- «برهم» نمت!.
فأهمس:
- لا.. لا!.
فتواصل الكلام عن فشل محاولات الأميرة الكثيرة للقاء الصبي؛ لما يحيط بالقصر من حراس وأسوار وجواسيس، فمن المستحيل النزول إليه في البستان..أو جعله يدخل من باب القصر.. ففكرت بوسيلة تجعله يصل غرفتها سرًّا.. فكلفت جاريتها كي تفتح باب السور الخلفي للقصر كي يدخل الصبي.. ففعلت. فأنزلت من شرفتها سلمًا من الحبال تسلّقه الصبي في الظلام، فأخذتهُ إلى حضنها بلهفة.. تسلل النعاس إلى عيني فانسدلت أجفاني ببطء شديد مطبقةً وغبت في أعمق غفوة.
لا أدري كم بقيت غافيا.. لكنني استيقظت على أصابع ناعمة تسللت من تحت ثوبي وراحت تسيح بأنحاء جسدي بخفة، من أسفل القدمين وحتى حلمتي صدري. تململت فسكنت الأصابع على بطني حيث كانت في طريقها إلى الأسفل. همدت منتظرًا.. عادت تجوب ممسحة بشرتي بحنان. شعرت بلذة فريدة، والأصابع تداعب وسطي الذي بدأ يتوتر..
وبعد عدة دورات شملت كل جسدي.. أخذت يدي اليمنى القريبة من موضع فراشها ووضعتها على نهدها الصغير الحار.. رحت أتلمسه منتفضًا راجفا، وجرفتني رغبة عنيفة في الالتصاق بها. زحفت غريزيًّا مقتربًا من جسدها.. لفحني لهب ينبثق من عريها وهي ترفع غطاءها لتسحبني إليها. أخذت شفتيّ بشفتين خبيرتين. كنت مستسلمًا لشفتيها.. لساقيها، لأصابعها التي تشبثت بوسَطي المتوتر الصغير.. لذراعها تتسلل من تحت خصري لتلتف حول ظهري.. كانت عارية تماما، تمسك بأصابعي من القفا وتجعلها تجوب على بشرة جسدها الكاوية..
لا أدري ماذا صار بيّ.. أريد الذهاب أبعد.. فأخذت التصق بها بشدة.. أحاول الدخول فيها.. الغور في أحشائها.. اشتعلت..ذبت.. كدت أفقد الوعي..شرعت بالبكاء.. كبحت دموعي.. رفعتني.. صرت فوقها تمامًا.. تصاعد لهاثها.. كتمت آهات خافتة، فاردة ساقيها وساحبة وسطي إلى ما بينهما. أطبقت بساقيها ملتفةً حول ظهري .. تناسقت حركة جسدينا فجعلت أهز بجسدي على إيقاع حركتها .. رحت أزأر ولهاثي يختلط بلهاثها المصحوب بصرختها المكتومة . تصاعد الزئير إلى ذروته.. استرخى جسدانا.. أنزلتني بكفين حنونتين ودفعتني إلى فراشي معدلة الغطاء على جسدي. لبثت ساكنًا مستمتعا بما جرى غير قادرٍ على النوم.. تجرفني الرغبة بين اللحظة والأخرى إلى مد يدي نحوها.. لكني لم أجرؤ..
بقيت مطروحًا على ظهري، أحملق في عتمة السقف الذي بدا قريبًا، أستعيد حنان أصابعها وطعم ثدييها الصغيرين وحرارة فخذيها الرشيقين، ولحظة الولوج في شقها الرطب الحار، غير مصدق وكأنني كنت في حلم، فوجدتني أمد يدي إلى وسطي الذي بدأ بالقيام وأرهف السمع إلى أنفاس «حكيمة» السمراء، وهي تنتظم وتلقيني إلى اليأس من تكرار الأمر من جديد. في اللحظة تلك سمعت دبيبًا خافتًا يصدر من يساري، فسكنت قاطعا أنفاسي.. تصنعت النوم منتظرًا إلى أن شعرت بأصابع ذات طعم مختلف، تتسلل لتجوب بأنحاء جسدي العاري، فأنا لم أرتدِ ثوبي الذي نزعته «حكيمة» عني بعد.
وقطع «إبراهيم» قصته ليصب كأسًا.. رنّ سائل الخمرة الأبيض في الصمت الكثيف.. رفع رأسه ليحملق بوجهي «عزيز» و «محمود» المذهولين السارحين بعيونهما الشاردة في تحديقها نحوه، وكأنهما مخدران. فزّ «محمود» قائلا:
- كمّل.. كمّلْ!
هدر ضاحكًا وقال:
- أش أكمل!. فاللي جرى مع «رشيدة» لا يختلف إلا قليلا!
هتف «عزيز» بلهفة:
- لا تصير لئيم.. سولف الباقي!.
- قابل أني مثلك!
رد «إبراهيم» غامزًا إلى ما فعله معه في شقة الوزيرية قبل أكثر من عشرة أعوام.. وقرر أن يقص باختصار شديد ليضع في قلب «عزيز» حسرة.. أما «محمود» فسيكون الأمر مضاعفًا.. فهو يُجلد مرتين الأولى من القصة نفسها كونه لم يذقه بعد، والثاني لنقص لذة الوصول إلى تفاصيل القصة كاملة، فكر في نفسه، بينما «عزيز» يتوسل وشيء من الليونة ألمّ بصوته الخشن:
- «إبراهيم».. سولف الفرق القليل!
رشف رشفة من الفودكا وترك ظهره يسترخي على الأريكة؛ ليبحر شاردا إلى كون «رشيدة» البيضاء المخبوء تحت الغطاء الجالب للغبطة، كلما قام من تحت ركام السنين كما في هذي اللحظة وهو يشرع بتخليقه من جديد بالكلمات.. فاء إلى الثلج المتساقط خلف النافذة وصمت الليل وسكون المنتظرين شروعه بالكلام، فأردف:
- لم تكن متمهلة مثل «حكيمة».. كانت أصابعها تمسح بشرتي بعنف، تعصر، تقرص حد الألم. وعندما وجدتني مستثارًا سحبتني فورًا إلى جوارها تحت الغطاء. كانت عارية تبث نارًا مثل فوهة التنور. حرگتني حرگ.. قربتْ رأسي من صدرها الكبير وحشرت حلمة ثديها في فمي.. لازلت أحس بطراوتها بعد كل تلك السنين. أطبقت شفتي عليها ورحت أمص غريزيًّا. لحظات وصارت هي فوقي.. أقحمتني بعنف في المرة الأولى، وفي الثانية راحت تلعب برقة وهدوء أمتعني.. تصعد فوقي.. تنزل.. تعطيني ظهرها مبرزة مؤخرتها المرصوصة. تصعدني فوقها، فأكاد أنزلق لملاسة وطراوة وصلابة جسدها المرصوص العاري، باختصار كانت عملية وجربت كل شيء.. علمتني الكثير!.
مع أذان الفجر دفعتني إلى فراشي، فغفوت منهكًا!.
استيقظت في الصباح على صوت ترتيل آيات قرآنية.. لبثت تحت الغطاء محاولا تذكر المكان الذي أنا فيه، فعجزت.. أزحته قليلا.. قليلا.. فرأيت البيضاء تركع على ركبتها مرتدية ملاءة الصلاة البيضاء ومنهمكة في التلاوة بصوت عذب.. بحثت عن الأخرى، فرأيتها منهمكة في القيام والقعود على سجادة حمراء، مبسوطة في الطرف المقابل.. تواريت تحت الغطاء شاكًّا بما جرى ليل الأمس:
- أكنت في حلم؟!.
هتفت في نفسي منتظرًا إلى أن سمعت صوت «حكيمة» توقظني بحنان.. فنهضت متطلعًا نحوهن بذهول. لم يبد على حركاتهن ما يوحي بشيء، وكأن ما جرى لم يكن، إذ كنَّ يتصرفن بتلقائية وبراءة لا تختلف عن تصرفهنَّ نهار البارحة.. ظللت طوال نهار اليوم التالي حائرًا، أتتبع بعيني انفعالات وجوهيهما علّي أجد ما يشير إلى ما حدث في الليلة الفائتة دون جدوى.. كن يمدحنني أمام أمي بحيث تضرج وجهها فخرًا.. بقيت طوال النهار مذهولا بانتظار المساء وطقوس الاستعداد للنوم، وتكررت الليلة الأولى في الليالي السبع المتبقية.
- ألم ترهن عند العودة!
- أبدًا..
أجاب «إبراهيم» وصمت طويلًا، قبل أن يضيف:
- خرّبن وضعي.. صرت مثل المجنون.. أهيج فجأة.. فأخرج بعزِّ الظهر ونص الليل أدور مثل ثور مستعد اقتحام أي أنثى تصادفني في شارع خالٍ.. فنصحوني بالذهاب إلى مضارب الغجر في الفوار بطرف المدينة، ثم عرفت دروب عشرات بيوت الدعارة السرية المنتشرة بالجمهوري والعسكوري والچلبية والإسكان، لكن لا العاهرات ولا العادة السرية أشفيا القلب.. بالعكس خلني أحلم بليالي نزل الزينبية وكأنها جنة فقدتها إلى الأبد.. ولم يوازن وضعي الهائج إلا انشغالي بالسياسة.. وحلم مدينة «ماركس» الفاضلة، فصرت أستحي.. وإذا دبرت واحدة فبالسر.. إلى أن وقعت بالحب وتزوجت، فخفف ذلك كثيرًا من هجوم روائحهن، التي تهب غفلة لتأخذ عقلي كلما سرحت!.
علق «عزيز» قائلا:
- تدري هذا يعتبر في أوربا اغتصابًا!
- ماذا تعني؟!.
سأل «إبراهيم» مستفهمًا.. فمنظوره لهذا الفعل كان محددًا بفعل الجنس قسرًا من قبل الكبار الذكور مع الصغار من الجنسين، أو الرجل حين يضاجع امرأة رغمًا عنها.. هذا ما كان يقرأ عنه ويراه في السينما، ويتداول بشأنه في حوارات مع أصدقائه الكتاب والشعراء في المدينة!.
- يعني ما دمت قاصرًا، ومارستا معك الجنس، يعني ذلك اغتصاب!.
فعلق «إبراهيم» ضاحكًا:
- أجمل اغتصاب.. يا ريت كنت أغتصب بهذه الطريقة كل مساء!
- ...
وقهقها بصخب، ثم أضاف «إبراهيم»:
- نعم.. لو كانتا في المدينة نفسها أو في دار مجاورة، لكفاني ذلك شر عشرات المغامرات التي كادت تودي بحياتي!.
- ..
لم يسألا بل حدقا نحو «إبراهيم» في وضع الإنصات، راغبين في سماع المزيد من قصصه المتصلة بالتجربة التي رواها.. قال «إبراهيم» في نفسه بغبطة فريدة تخصه وحده:
- ما ألذّ هذه اللحظات.. وأنا أستعيد كل هذه التفاصيل المنسية.. تفاصيل تجلب البهجة في الخاطر أما حينما يقصها الإنسان فكأنه يعيشها من جديد في غمرة غبطة لا مثيل لها.. وكل هذا مستحيل الحدوث، لولا طيرانها وتركي وحيدًا مع نفسي، التي فقدتها فيها وفي خضم الحرب وتجربة الجبل والنضال.. آه ما ألذ وجهي الجالسين المنتظرين، على جمر، ترتيب قصة أخرى يستحيل عليَّ تذكرها قبل غيابها في ذلك الفجر، خلف باب الممر المؤدي إلى الطائرة!.. ما ألذّ وجهيهما رغم حبي لواحدٍ ومقتي للآخر!..
نب «عزيز» نافد الصبر:
- أهلكتنا ما تبدي!.
- اسمعا.. اسمعا.. كنت حائر يا قصة أبدأ بها.. لكن سأحكي لكما عن تجربة مدتها لا تتجاوز دقائق.. لكنها كانت من الممكن أن تودي بحياتي!.
اتسعت عيونهما مركزين التحديق نحوه وهو يصب كأسًا جديدة، وقبل أن يشرع بالكلام قُرِعَ الباب قرعًا شديدا.. بادله عزيز نظراتٍ فهمس له:
- إذا السكيرة الروسية فقل لها غير موجود، وإذا واحد من جماعتنا فأدخله!.
تعالت ضجة مشادة حال فتح الباب.. مشادة بالروسية لم يفهم «إبراهيم» منها شيئا، أما «محمود» فهو لا يفهم شيئًا مما يدور حوله.. وكأنه يعيش في كوكب آخر غير الأرض؛ إذ كان يحدق ببلاهة نحو المدخل الضاجّ بلغطٍ تحول إلى صياح عنيف بالروسية.. سمعا بعدها الباب يطبق بعنف، ليظهر في إطار باب الغرفة «عزيز» بوجهه المندهش، وقف ساكنًا تحت الإطار يحملق نحو «إبراهيم» غير المكترث بصمتٍ بدا متعمدًا، قبل أن يخطو نحو الأريكة قائلا:
- اسمع ولك أنت راح أتجنني!.
- ماذا بك.. ومن كان في الباب؟!
سأل «إبراهيم» دون مبالاة، ولما لم يجد جوابا أضاف:
- هل كانت السكيرة!.
- لو كانت لما تعجبت، لكن كانت واحدة أسمن من «سعادة المطهرجي» وتقول أريد حبيبي «إبراهيم».. ولك ما تَفَهِمني أش لون وأنت ما تعرف روسي، وما صار لك شهر وحدك بموسكو!. راح أتخبل متى أتكمل قصتك حتى أعرف السر؟!.
- ...!
لزم «إبراهيم» الصمت مبتسمًا، وغبطته تتعمق إلى حدود لن يبلغها في مستقبل الأيام أبدًا إلا حينما يضيع وقت الأزمات في الحقول لساعات، ثم يعانق تراب الأرض وعشبها عابًّا عطرها المخدر. غبطة أخذته إلى وجه «شيركو» المجنون المختفي منذ أيام، فتجسد وجهه وهو يتمزق لعذاب هذه الذوات الروسية الضائعة والباحثة عن وهمٍ، عنه.. «إبراهيم» الواهم أصلا.
أضاف «عزيز» بصوت جهوري:
- اسمع صرفتها.. وأكلت باقة من الشتائم والفشار الروسي المرتب مال اللي بالحضيض.. ولا يهمك.. متعود على لسانهن السوقي.. يهمني أعرف أسرارك الجديدة.. لكن بعدين.. الآن خلي نكمل ما وصلنا.. قصة الدقائق اللي ممكن تقتل فيها بسبب الرغبة والجنس..أكمل «برهم» أكمل..
- كان ذلك أوساط السبعينيات، في العطلة الصيفية، سافرت للموصل ونزلت في فندق درجة ثالثة.. أبكر صباحًا للعمل كصباغ في إحدى المدارس.. الغرفة التي كنت أنزل فيها ضيقة تزدحم بثلاثة أسرّة. الفسحة الوسطية ممر مستطيل بالكاد يسع لشخصين.
كان النزلاء يتبدلون في كل ليلة وأكثرهم من القرويين القادمين من أرياف الموصل البعيدة.. كنت لا أعيرهم اهتمامًا بهم (بهم زائدة تحذف)، فعمليًا كنت أعود إلى الغرفة في ساعة متأخرة.. أقضي غالبية ما بعد وقت العمل في التسكع بأنحاء المدينة، التي أنزل فيها للمرة الأولى.. أفقت في يومٍ من النوم على صوت أذان الفجر المصحوب بصرير باب الغرفة. فأدركت أن أحدهم خرج للوضوء كما يحدث غالبًا.. لبثتُ أنصت إلى أصوات المؤذنين يتردد صداها قبل أن تتلاشى في السكون. فكرت في غفوة قصيرة.. أردت أن انقلب على جنبي لكنني جمدت شاعرًا بمن يرصد حركتي.. قطعت نفسي، وباعدت أجفاني قليلًا.. قليلا وببطء شديد. على ضوء الفجر المتسلل من النافذة المفتوحة، في خليط الفضة والسواد.. رأيت وجه قروية تجلس على السرير المقابل مدلية ساقيها وتحملق بوجهي بعينين واسعتين..
وجه أبيض مضيء، مندهش مؤطر بشال أحمر مشدود تحت الحنك، وجه فاتن تلك الفتنة الفريدة، التي تحرزها فتيات قرى الشمال البعيدة عن المدن.. جمال بري بريء ساكن، يشخص نحوي بذهول وكأنها تحلم. نقلت نظري دون أن أتحرك بين وجهها والباب المردود.. أرهفت السمع، وأنا أقيس المسافة بين المغاسل الكائنة في طرف الممر المقابل والغرفة.. لم تغادر عيناها وجهي.. اتسعت في وجهها المنير ظل بسمة.. لم أفوت ثانية.. قفزت من السرير. وبقفزة واحدة صرت جوار الباب.. أغلقته بأحكام.. كانت تتابع حركتي بعينيها الواسعتين.. أزحت ثوبها الفضفاض، فرفعت كفلها لتسهل العملية. ازداد وهج عينيها يخالطه خوف ولذة. وعندما التحمت بها شدتني بعنف، وكأنها كانت على وشك بلوغ الذروة..
لم يستغرق الأمر سوى دقائق معدودة.. أسرعت نحو الباب، فيما كانت تعدل ثوبها وتندس تحت الغطاء الخفيف.. سحبت السرقي وأعدته كما كان.. قفزت إلى سريري لأخفي رأسي تحت الغطاء.. وجدت جسدي يرتعد على وقع أقدام تقترب من الباب.. ومن فتحة صغيرة بالغطاء عملتها بإصبعي رأيت قرويًّا بسرواله العريض وشاربه الكث وقسماته القاسية، يقف في إطار الباب المفتوح، يعدل حزام مسدسه المخبوء تحت سترة خفيفة، ويناديها كي تقوم للوضوء وتصلي الفجر.
- ولك.. لو مقتول!.
نبّ «عزيز» وسحب نفسًا عميقًا.. وكأنه كان يختنق..
- صحيح ما تحكيه لو خيال!.
علق «محمود» وهو يبلع ريقه..
- أهمله «إبراهيم»، موجهًا حديثه لـ «عزيز».
- ليست هذه فحسب.. وقعت بعشرات المواقف المشابهة وكنت فيها على حافة القتل!. لولا السياسة وزوجتي لصرت مجنونًا في بحثي عن جنة المعلمتين المستحيلة!.
علق «عزيز» ساخرًا:
- يعني صرت شريف لمن تزوجت!
- أقول بصدق طوال الفترة كنت أكبح كل نزواتي!
- ونجحت!.
شطح «إبراهيم» مستعيدًا تجربتيه مع المتشردة وبائعة الخضرة الروسيتين، وقال في نفسه:
- من المستحيل البوح لصديق طفولة وصبا ومراهقة ونضج مثل «عزيز» بهذه التجربة، فسوف يظل يسخر مني، مستخدما مثله الأثير الذي يطلقه على مثل هذه الحالة:
«صام.. صام.. وفطر على جرية»!.
تكوينه نقيض تكوين «شيركو»، فـ «عزيز» سافل بالسليقة، يعامل النساء بعقلية تاجر.. كونهن عاهرات بطبيعتهن.. أكد له ذلك مرات وهو يحدثه عن بنته الصغيرة بنت السادسة التي تطيل الوقوف أمام المرآة لتفرد شعرها معلقًا .. «سلامي»، إنهن عاهرات بالغريزة.
- نعم.. نجحت!
نطقها «إبراهيم» بطريقة منفعلة.. مسرحية، فرمقه «عزيز» بعينين متخابثتين قائلًا:
- أما أنا فزادني الزواج جنونًا بمذاق النساء المختلف!.
صمت قليلا ليضيف:
- لكل واحده.. طعم فريد مختلف!
- ...
- .. وهذا لا يخفي عليك يا «إبراهيم»!.
- ..
- ولو تحضر واحدة.. أصير خرقه وأبوس رجليها بحضوركم إذا تريد!.
صمت قليلا.. حملق في وجه «إبراهيم » بعينين ودودتين.. مدّ ذراعه إلى كأسه.. عبه رشفة واحدة، وقال:
- «إبراهيم» لدي إحساس كأنك لم تتزوج أصلًا!
- أنت تبدو كذلك أيضًا .
رد «إبراهيم»، والتفت نحو «محمود» الصامت المذهول، قائلًا بمرح يبدو شديد البراءة:
- الدور عليك.. قص علينا تجربتك الأولى!
حوصر «محمود» بعيون النديمين السارحين المنتظرين.. وجسديهما الموشكين على الهجوم.. أحس بعيونهما تبث جمرًا يكوي سكون عالمه البارد.. الخاوي.. المستكين.. المنساب بنسقٍ كان يعتقد أنه الصحيح.. حيث كان صارمًا مع نفسه.. يقمع كل رغبة وغريزة.. منشغلًا بما يجري في المدينة.. مقهى والده.. المدرسة.. في قراءة كتب الفلسفة والتحليل..فدخل نفق طهر الموقف.. الطهر القامع الذي كان يعيب على جسده حتى حالة الانتصاب الصباحي الغريزية.. فماذا يقول كي يتواصل معهما!.
- وإذا ما عندي حتى تجربة أولى!
نبا بصوت واحد:
- خاف ما عندك سلاح!.
وهجما عليه ضاحكين.. أمسكه «إبراهيم» شالًّا حركة ذراعيه ورجليه، مفسحًا المجال لـ «عزيز»، وهو يجرد «محمود» من لباسه الداخلي؛ كي يتأكدا من رجولة هذا الكائن الغريب.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مهندس الكلمة.. محطات في حياة الأمير الشاعر الراحل بدر بن عبد


.. كيف نجح الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحسن طوال نصف قرن في تخليد




.. عمرو يوسف: أحمد فهمي قدم شخصيته بشكل مميز واتمني يشارك في ا


.. رحيل -مهندس الكلمة-.. الشاعر السعودي الأمير بدر بن عبد المحس




.. وفاة الأمير والشاعر بدر بن عبد المحسن عن عمر ناهز الـ 75 عام