الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ذكريات سياسية في كتاب (مقتطفات من الذاكرة)

قيس كاظم الجنابي

2023 / 8 / 9
سيرة ذاتية


-1-
كتاب (مقتطفات من الذاكرة) للدكتور شاكر الجنابي، الصادر عن المكتبة العصرية ببغداد عام 2022م، ليس سيرة ذاتية أو مذكرات سياسية بالمعنى الحقيقي، ولكنه ذكريات احتفظ بها كاتبها الطبيب عن حياته، طوال أكثر من نصف قرن، اتسمت بالشفافية والمتعة، ونوع من المفارقات والسرد الصريح عن تجربته المهنية والسياسية، فقد بدأ حياته طالباً في مدرسة الإسكندرية الابتدائية قادماً من احدى قراها(ام حيايه) القريبة من مركز تلك الناحية، ثم أكمل شطرا من دراسته في متوسطة المسيب ، قبل فتح المدرسة الثانية فيها، والشطر الآخر في بغداد، ثم كلية الطب على حساب وزارة الدفاع ، فخدم في الجيش العراقي ،وفصل من كلية الطب لأسباب سياسية لانتمائه لحزب الشعب الذي كان يتزعمه عزيز شريف والذي كان واجهة للحزب الشيوعي العرقي، وشاكر من أسرة معدومة عانت الأمرين وهي تبحث عن العيش الكريم.
ليس من السهولة الإحاطة بسيرة طويلة سياسية – مهنية لمثل هذا الشخص المغامر والذي هرب بجلده عام 1963م، بعد استلاء حزب البعث على السلطة فيرحل الى بريطانيا، التي درس فيها تخصصه الطبي ،ولكن حنينه الى الوطن ارغمه على العودة في مستهل السبعينات، ومع ذلك كان طبيب الفقراء والمحتاجين، وهو يتمتع بصداقات عديدة مع كل التيارات السياسية، كما انه عانى من السجن والمراقبة.
يحمل عنوان الكتاب (مقتطفات من الذاكرة)احالات في انه نوع من المختارات التي تناسب المقام والأحداث والظروف، مما تحتفظ به ذاكرة الكاتب ليكون نوعاً من السيرة الذاتية المفترضة أوموضوعاً لسيرة غيرمعلنة، ولأن الكاتب ليس أديباً،فانه احتفظ لنفسه بنوع من الفطرة الريفية ،وحسن الطوية ،مع الإصرار على فعل الخير ومساعدة المستحقين للمساعدة والاسناد، وهذا ما جعله عرضة للمشاكل والمعوقات، فتعرض للكثير من المواقف الطريفة مع عزة الدوري وعبد الكريم الشيخلي وعبد الرحمن عارف وصدام حسين، وكذلك مع الحزب الشيوعي العراقي وحزب البعث في العراق؛ وهو يتصف بالنقاء والصراحة ولا يميل الى انتهاز الفرص.
-2-
أبرز ما يلاحظ على هذه الذكريات، هو عدم خضوعها للتسلسل الزمني الصارم، مع ان كاتبها حاول ذلك ولكن عبر نوع من الاستذكار، فكان يواجه الكثير من الصعوبات، بسبب جذوره الريفية وعلاقاته الشخصية وبسبب تداخل الأحداث والخنادق وتوالي المفارقات الطارئة، لهذا كان يختار المواقف التي لهاعلاقة بتاريخه الشخصي، بحيث يتحول الموضوع من العام الى الخاص، وهذا يكون في الغالب ديدن الكاتب السياسي ،أما الأديب فلديه وسائله الخاصة القادرة على ترتيب سيرته وذكرياته، وتركيبها لتنسجم مع تسلسل الأحداث، فأنت تجد منذ البداية/ المقدمة إشارات واضحة الى مواقف سياسية لها علاقة به مباشرة، في صراع بين الموقف والموقف المضاد له، وهذا يخضع بعض الاحيان الى طبيعة الكتابة نفسها،وما توفره الذكريات من دلالات ووثائق تغني عن كتب التاريخ المفعمة بالبحث والتدقيق الممل.
تضمنت المقدمة الكثير من الاحالات/الإشارات الى المتاعب التي واجهته في حياته الوظيفية ومشاكله المهنية والسياسية ؛ فضلاً عن علاقاته الخاصة ونزعته الفطرية والعفوية في اتخاذ القرارات، مما يشير الى ان فكرة تدوين هذه الذكريات ،أو القطوف منها ، ترجع الى انه لا يستطيع تلخيص سيرة حياته بكتاب مثل هذا، حيث أشار في المقدمة الى انه فكر أن يصب "على الورق ما اختزنته ذاكرتي من حوادث مهمة مررت بها في حياتي وهي تستوجب التدوين".[ص5/ المكتبة العصرية، بغداد ،2022م].
وهدفه من ذلك ان ينفع منها ما يحتاجه "درساً وعبرة"، لأنه يشعر بان حياته "مليئة بالصعوبات والمآسي"، وانها كنت "فريدة في نوعها وغريبة"، يريح بها ضميره الذي وقف معه "متحدياً الأقدار" لا يحيد عن الحق ولا يخاف "الظالمين".
ولكنه وهو في موقف كتابة المقدمة التي يفترض أن تكون تنويهاً بفصول الكتاب، راح يتذكر ما تعرض له من ظروف بعد 8 شباط 1963 حيث اضطر الى الهجرة آنذاك، بعد ان امتلأت السجون "ومواقف الحرس القومي بالناس الأبرياء وكنت معهم بعد أن جردوني من رتبتي العسكرية وتجرعت قسطاً وافياً مما خُصِصَ لي من التعذيب .. بعد ذلك هربت الى بريطانيا.. ومن ثم الى الولايات المتحدة الأمريكية(...) وبعدها رجعت الى وطني عام 1975(...) ثم جاءت الهجرة الثانية عام 1991".[ص6]
والكاتب يستشهد بكتاب (ليلة الهرير في قصر النهاية) للأستاذ أحمد الحبوبي الذي قضى في هذا السجن (24 ساعة) ثم خرج بكتابه الآنف الذكر، وكان الحبوبي واحداً من انصار حركة القوميين العرب في العراق وأنصار الرئيس جمال عبد الناصر.
يرجح الكاتب ولادته عام 1928م فهو من مجايلي الشاعر بدر شاكر السياب، حيث برزت الحداثة العربية والحركات السياسية بعد الحرب العالمية الثانية، فكانت سبباً في ثورة 14 تموز 1958م، وهو بعد هذه المقدمة المثيرة يتجه الى شرح معاناته في طفولته وحياته وما وقع له من ظروف ومفارقات في الريف العراقي ابان العهد الملكي ، حيث تتلمذعلى يد الأستاذ محمود مجيد الجميلي(والد الشاعر ساطع محمود الجميلي) في مدرسة الإسكندرية الابتدائية،وفي نحو عام 1943م انتسب الى متوسطة المسيب للبنين، قبل فتح ثانوية المسيب الحالية، فأكمل دراسته في بغداد، ثم انتسب الى كلية الطب على حساب وزارة الدفاع.
تعد هذه الذكريات السياسية وغيرها مما هي على شاكلتها منبعاً ثرياً لكتابة التاريخ الشعبي المعاصر، سواء أكان من أصحاب القرار في السلطة أو من المراقبين والقريبين منها؛ وهذا ما يجعل هذه القطوف ذات أهمية كبيرة لا بدّ لطلبة الدراسات العليا من الاستفادة منها. وفي هذا الكتاب الذي لايخضع لمنهجية معينة يختلط التاريخ الذاتي/الشخصي بالتاريخ السياسي، ويبدو انه كان من المتحمسين جداً للحزب الشيوعي حتى انه حضر اجتماعاً له من دون دعوة وكان هدفه إزاحة الزعيم عبد الكريم قاسم، للخلاص من دوامة الصراع،ولكن الأخبار وصلت الى الزعيم فاستطاع حبس الكثرين من قادته وانهى معارضة الحزب الشيوعي له، وبقي المضمار مشغولاً بعدد كبير من الانتهازيين والوصوليين، الذي دفعوا الحزب الى تبني شعار(الحزب الشيوعي بالحكم مطلب عظيمي)،وكان نصيب الكاتب النقل الى معسكر ديالى طبيباً، في نوع من الابعاد السياسي.
كانت للكاتب علاقات طيبة مع الرئيس الأسبق عبد الرحمن محمد عارف، وكان كما يصفه بأنه ضد العمل بالسياسة، وقد عين آمراً لمعسكر أبو غريب في بداية ثورة 14 تموز 1958م، فوضعوا عدداً كثيراً من أنصار العهد الملكي في المعسكر والمستشفى تحت قيادته، ومنهم بهجت العطية وخليل كنة وأحمد مختار بابان وتوفيق السويدي وفاضل الجمالي وكاظم الحيدري(مذيع)، ثم التقى بعد يومين أو ثلاثة بعبد لسلام محمد عارف في بيت العميد نايل محمود(في مسكن آمر المعسكر في أبو غريب) فرأى البساطة والسطحية في التفكير،أما عبد الرحمن عارف فكان صديقه وعلاقته به طيبة جداً، حتى انه كان يعالجه في عهد صدام حسين وما لذلك من حساسية وخطورة على حياته، وقد وصفه بأنه انسان طيب ومتواضع ومتدين،وكان يتحدث معه فيقول له:" تره آني ما افهم شي بالسياسة.. أرجوك اترك هذا المواضيع.. الاحسن ان لا تتدخل ولا توجع رأسنا".[ص104]
وبصفته طبيباً شاهد آثار التعذيب في مستشفى أبو غريب في بدايات الثورة، قام بها عسكريون موالون للزعيم ضد زملائهم من دون سبب يذكر،وكان من هؤلاء صديقه راجي التكريتي وقد قلعت أظافر قدميه ومحمود شيت خطاب وغيرهما. مع ان راجيا كان زميله وصديقه معهم في التيار الديمقراطي منذ بداية المشوار وكان عضواً في اتحاد الطلبة العام في كلية الطب، وكذلك فعل ذلك مع الملازم علي عريم، حيث انقلب الضباط على بعضهم البعض ممن لم يركبوا الموجة،أو ممن لم يظهر لهم ميل الى الحزب الشيوعي.
ويشير الى أن عدداً مهماً من الضباط من أمثال خزعل السعدي وإبراهيم خليل وعدنان الخيال وعبد الأمير العباسي وآخرين كانوا يناقشون الوضع العراقي مع سلام عادل (سكرتير الحزب الشيوعي العراقي) حول صيغة التعامل مع عبد الكريم قاسم؛ فلما اقترحوا عليه بالقيام بانقلاب مضاد لابعاد الانتهازيين عنه، قال سلام عادل:" ان عبد الكريم قاسم هو شخصية وطنية .. تلائم هذه الفترة التاريخية ولا يمكن التفكير بمثل هذه الآراء الخطرة في هذه الفترة".[ص116]
-3-
ثمة الكثير من الطرائف والأفكار والرؤى تربطه برجال العهد السابق والصلات التي وفرتها مهنته كطبيب، ومن هؤلاء عبد الكريم الشيخلي وزير الخارجية وسفير العراق في الولايات المتحدة الامريكية فيما بعد، وعزة الدوري وحسين كامل وخالد عبد المنعم رشيد وصدام حسين، وكذلك بعدد من زعماء العشائر والشخصيات المهمة، ومن ذلك مرافقته لعزة الدوري والشيخلي، في رحلة استشفاء في عقد الثمانينات ؛ فقد طلب منه الدوري عرضه على طبيب جيد فاقترح عليه أن يعرضه على طبيب هندي، فرفض معقباً ،انني جئت من العراق من أجل طبيب هندي في(نيويورك)، فعرضه على طبيب يهودي وأخذ منه أجوراً عالية، فلما شاهد عزة الدوري برج التجارة العالمي تساءل:" كيف يملأون تانكي الماء بهذا الارتفاع". وبعد ان اختلى الشيخلي بالكاتب قال له:" تصور هذه العقليات المتحجرة وأمثالها.. هي التي تقود العراق وتبنيه الآن، كان الله بعونك يا عراق..".[ص141] ولما أراد الكاتب ارسال ابنته للدراسة في أمريكا استنجد بالدوري ليسهل وصول أوراقها في الحصول على موافقة رئاسة الجمهورية قال له:" انصحك بتسليمها الى الدائرة الخاصة لاستلام الرسائل في القصر الجمهوري وسأحاول متابعتها".وفي المرة التالية قال له:" تره احنا لا يحق لنا الاستفسار عن مثل هذه الطلبات".[ص175]
أما علاقته بالشيخلي فقد نصحه بعدم العودة للعراق، حينما قال له:" أنا عرفتك جيداً ولا مكان لك في عراق يحكمه حزب البعث .. انك معروف جيداً عندهم .. وأخلاقك لا تنسجم مع تفكيرهم".[ص148] وبعد عودة الشيخلي تعرض الشيخلي للاعتقال ثم الاغتيال قرب أهل مسكن زوجته، فكان حدسه صحيحاً،أما حسين كامل فكان مصاباً بمرض الربو، فكان حين يصاب بنوبة ينفعل بسرعة ويهدد الأطباء بالويل والثبور ان لم تتحسن صحته، ومرة حملته طائرة مع لجنة طبية من دون أن يعرف جهتها فتبين أنه ذاهب الى معالجة صدام حسين.
أما علاقته مع خالد عبد المنعم رشيد، صديق الرئيس الأسبق صدام حسين، فان يشير الى انه رافقه في سيارته بعد تعيينه رئيساً لديوان رئاسة الجمهورية، الى الإسكندرية لمتابعة صحة والده الشيخ عبد المنعم الرشيد، وكان شاكر الجنابي يوجه له بعض الأسئلة فلا يجيب عنها، فلما ترجلا من السيارة قال له:" الا تفهم؟ من يدري ان كانوا قد وضعوا فيها جهازاً للتسجيل!! لا يمكنك ان تؤمن نفسك من أساليب هذه الأجهزة الأمنية !".[ص177]
ويذكر انه زاره في مرة لاحقة قال له:" هل تعتقد ان الدخول مع هؤلاء القوم هو مثل الخروج منه؟ كان دخولي معهم خطأً كبيراً وياليتني يوماً ما أتمكن من الخروج منه سالماً وأرجو أن تترك هذا الموضوع".[ص178] ويقول انه زار الشيخ عبد المنعم الرشيد ، شيخ عشيرة الجنابين العام، وكان مريضاً وكانت أزمة الكويت في بدايتها، قبل تنفيذ الغزو عليها، فأرسل بيد ابنه خالد رسالة شفوية الى صدام حسين فيها تحذير له مفاده " احذر من دخول الكويت فستكون نهايتك فيه. عبد الكريم قاسم قُضي عليه وكذلك نوري السعيد والملك غازي أيضاً بسبب الكويت.. فليحذر من ذلك جزوة(مصيدة) وقد اعذر من أنذر".[ص178] وكان جواب الأستاذ خالد بأنه رجل عاقل ولا يمكن أن يفعل ذلك،ولكنهم أعدوا له خطة وشجعوه فوقع في الفخ،وكذلك رتبوا له سيناريو شن الحرب على ايران ،لأن " الأمريكيين درسوا شخصية صدام حسين وعرفوا نقاط ضعفه واوقعوه في تلك المطبات وحطموا العراق".[ص 179]
وقد زج بالكاتب في سجن الحاكمية ببغداد بسب حمله رسالة من قبل صديقه الطبيب الدكتور حسين الخفاجي الى بريطانيا،وارسلها بالبريد من دون ان يعرف انها موجهة الى المعارضة العراقية، وبالذات الرئيس جلال طالباني، من دون أن يعرف فحواها، وبعد ان أصبح طالباني رئيساً حاول مقابلته ومعرفة كيفية تسرب أخبار الرسالة الى المخابرات العراقية، ويبدو من خلال سياق الكلام ان المعارضة العراقية آنذاك كانت تسرب ما يصلها من رسائل من المعارضين في الداخل لكي يجري اعتقال المؤيدين لها فتزداد نقمة الشعب على الاحكام التعسفية، فقد تهرب طالباني من الإجابة عن الرسائل،ولعل هذه هو السبب الذي كان وراء اعتقال الشاعر عبد الزهرة زكي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. يوم ملتهب في غزة.. قصف إسرائيلي شمالا وجنوبا والهجمات تصل إل


.. مصر تعلن تدخلها لدعم دعوى جنوب إفريقيا ضد إسرائيل أمام -العد




.. الاحتلال يهدم منزل الأسير نديم صبارنة في بلدة بيت أمر شمال ا


.. حريق بمنزل لعائلة فياض في وسط مخيم جباليا بعد استهدافه من قو




.. بوتين يقيل وزير الداخلية سيرغي شويغو ويعينه سكرتيرا لمجلس ال