الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أملُ إبليس: عن الصيف المُختلف

دلور ميقري

2023 / 8 / 9
الادب والفن


1

في أحد الأيام من صيفٍ مُبكر، كانَ دارين ينتظرُ المصعدَ حينَ أنضمّت إليه إمرأة سويدية وراحت ترمقه بإهتمام. كانت قسماتُها رقيقةً وجسدُها مُثيراً، مُتأججاً شأن المُتجاوزات سنّ الأربعين. سألته، ما لو كانَ مُقيماً حديثاً في البناء؛ كونها تراه لأول مرة ـ كما قالت. ثم بادرت إلى تقديم نفسها، ببساطة: " إسمي تيريز، أعملُ ممرضة في مستشفى أكاديمسكا ". بعد قليل، في المصعد، فاجأته ملاكُ الرحمة بإقتراح السهر معاً في الملهى. إتفاقاً، أنه كانَ يوم السبت، المنذور لهكذا مناسبة.
مع حلول الليل، أخذته تيريز في سيارتها القديمة. في خلال الطريق، دسّت يدها أكثر من مرة عند فتحة بنطاله. كونها ثملة بعضَ الشيء، فإنها في الملهى وأثناء الرقص، واصلت الإلتصاق بجسده في قليلٍ من الحشمة. عندما آبت من دورة المياه، وكانَ دارين جالساً في إحدى مقصورات الملهى، أنحدرت إليه بحركة مُعابثة من مسند الأريكة لتستقر في حضنه. أكتشفَ رفيقها عندئذٍ بدهشة، أنها بلا سروال داخليّ. كانت هذه بدعة جديدة للفتيات المُراهقات، اللواتي قلدتهن تيريز أيضاً بتلك الحركة المَوْصوفة. عليها كانَ أن تنهي التمثيلية في مسكنها، ثمة في حجرة النوم، فتمتّع نفسها في إمتحان الشاب بما هيَ خبيرةٌ فيه من فنون الباه.
في صباح اليوم التالي، وكانَ بين اليقظة والمنام، أحسّ دارين بيدٍ ناعمة تعبث بشعر صدره، النامي ببطء. صاحٍ، فتحَ عينيه رويداً كي يُصبّح على شريكة الفراش. وإذا به يُفاجأ بمرأى صبيّةٍ صغيرة السنّ، لعلها لا تتجاوز الخامسة عشرة. من ملامحها، أدرك بالطبع أنها ابنة تيريز. كانت ترنو إليه بجسارة، ما دفعه إلى شدّ اللحاف على جسده العاري. أطلقت عند ذلك ضحكةً مُجلجلة، ما تسبّبَ في إيقاظ والدتها. قالت لها هذه، وهيَ تغالبُ النعاسَ، بعدما ألقت نظرةً على ساعة الحائط: " ما هذا منكِ، انّيكا، أليسَ الوقتُ مُبكراً جداً؟ ". قبل أن تغادرَ الحجرةَ، أشارت الفتاةُ للشاب بإشارة تهديدٍ طريفة من إصبعها. بقيَ دارين يقظاً، مُنتعظاً بشدّة لمرأى الردفين العاريين، الغافيين بالقرب منه. عقبَ مرور دقائق أخرى، فقدَ زمامَ أمره، فألتصق بالمرأة من الخلف. وإذا عضو المتعة ينفجرُ فجأةً عن الدفق الحيويّ، ليلوّث كلّ شيءٍ. عندئذٍ، رفعت تيريز رأسَها عن الوسادة: " ما بقاؤكَ هنا في سريري؟ لِمَ لا تذهب إلى بيتكَ؟ "، صرخت بشيءٍ من الغضب قبلَ أن تغلق عينيها من جديد. لقد تحوّلت، بغتة، إلى إنسان آخر لم يتعرّفه فيها الشابُ المسكين. وكانَ هذا، أيضاً، بمثابة إمتحان.
ليالي عطلة نهاية الأسبوع، لم يكن غريباً أن يمحضها دارين مقتاً صادقاً. إنها من جهة، تذكّره بجالا المُهيّضة الجناح؛ ومن جهة أخرى، يعلمُ أنّ تيريز تمضي فيها إلى الملهى بسيارتها مع راكبٍ جديد. إلا أنّ الوقتَ الآنَ نهاراً، مع أنّ شمسَ الشمال في الصيف قد تبقى مشرقة حتى منتصف الليل. دارين، البعيد قليلاً عن مسكن الذكريات الأليمة، قد وجدَ نفسه تواً في سنتر غرينبي. كان يحلو له التسكّع هنا عبرَ شبكة الممرات، المحدقة بها واجهاتُ المحلات التجارية، لو أنّ مزاجه على ما يرام. على ذلك، أتجه رأساً إلى المخزن كي يرفد ثلاجة البيت بما هو ضرويّ وغير ضروريّ. وإذا بصبيّةٍ تعترضُ طريقَهُ، فجأةً. كانت تلهثُ قليلاً، فيما تحدجه بنظرةٍ ثابتة. بقيت تنظرُ في عينيه للحظات، كأنما أصابها مسّ. هذا أتاحَ له، ولا غرو، تأملها عن قرب. ليجد أنها بارعة الحُسن، فتيّة، ولكن يصعب تقديرُ عُمرها. كذلك، ذكّرته بشخصٍ ما؛ لا بد أنه من بني جلدته. ثم فتحت فاها أخيراً، لتخاطبه بكرديّة جزلة: " أنا شيلان، إمرأة دوغان، وهوَ ينتظرك في الخارج ". كانت مفاجأة جميلة، وما لبثَ أن مشى معها في الطريق إلى مدخل السنتر. في الأثناء، قالت له مع إبتسامةٍ رائعة: " لقد مررنا على مسكنك، دونَ إعلامك مسبقاً، كون شقتك ما فتأت مفتقدة لهاتف ". لما أعلمها أنه حصلَ على خط الهاتف مؤخراً، أخذت منه الرقمَ الخاص به. ثم واصلت كلامها، موضّحةً: " لم نجدك إذاً في المسكن، فقررنا أن نمضي بعض الوقت في هذا السنتر. وإذا دوغان يلمحك، وكنتَ تهم بالدخول إلى نفس المكان ". شاركها شعور المرح، ثم أخبرها أنه حينَ رآها شبّهها بشخصٍ يعرفه: " وكانَ حَدَسي صحيحاً، فقد تبيّنَ أنكِ شقيقة آلان "
" شقيقته الصغرى! "، قالتها ضاحكة. لكنه علمَ لاحقاً، أنها تكبر آلان بعامين. إذ مضى في مساء نفس اليوم إلى كشك هذا الأخير، وهناك أخبره بلقائه مع شقيقته ورَجُلها. وكانَ قد أنقطعَ تقريباً عن زيارته في مكان عمله، كون عشيقته السابقة ضيّقت عليه الخناقَ في أيام العطلة.
بعد ذلك، أشارت شقيقة آلان إلى سيارة خضراء اللون، فائقة الجدّة، تبدو عن بُعد ـ كزيزٍ مصقول الظهر: " إنه هناك ". وكانت شيلان في فستانٍ زاهٍ، بنفس اللون. وفكّرَ دارين، أنّ ذوي الخلفية الريفية يعشقون الأخضر، لون الطبيعة المباركة. بعد قليل أيضاً، كانوا ثلاثتهم في حجرة النوم، المُتقمّصة صفة صالة الإستقبال. تفرّد دوغان في الجلوس على الكرسيّ الوحيد، فيما جلست امرأته على طرف السرير بجانب المُضيف. هذا الأخير، كانَ مُحرجاً كالعادة بسبب الحالة العشوائية للمكان. مع أنه ـ كفنان ـ عليه كانَ أن يجدَ الأمرَ ملائماً جداً لطبيعته. ولكنه لم يفكّر هكذا، بل دارى خجله بالتوجّه إلى المطبخ كي يعود مع طبق فاكهة وصحن مُكسّرات. في الأثناء، كانَ دوغان قد أخرج من حقيبة جلدية صغيرة بضعَ صفحات مطبوعة: " إنها نسخ بروفات القسم الثقافي، لتلك الصحيفة التي حدثتك عنها. ستقرأ ما فيها من قصص وأشعار، ثم تضع الرسومَ اللازمة. أنتَ مُتمكّن من الكردية، أليسَ حقاً؟ "
" نعم، ولقد طوّرتُ لغتي بقراءاتٍ أدبية وسياسية في خلال وجودي في السويد "، أجابَ دارين مُتضرّجَ الوجه. لقد كانَ يُجيد اللسانَ الأم، لكنه كانَ يفكّر بالعربية. لذلك كانَ يتعثّر أحياناً في الإهتداء إلى المفردة الأصيلة، فيما أنّ الآخرين يستعيرون ببساطة مفردة عربية أو تركية. في حقيقة الأمر، أنّ والده كانَ معلّمه الأول. ففي أوان دراسته في الصف السابع، أخذ الوالدُ يوماً كتابَ المُقرر الإنكليزيّ ثم قال لابنه: " اللغة الكردية تستعملُ نفسَ الحروف تقريباً، لأنها والإنكليزية من شجرة لغات واحدة ". كانت تلك بداية تعرّفه على الألف باء الكردية، ومن ثم صارَ يستفيد من مكتبة والده لتحسين معارفه بهذه اللغة.
علّقَ دوغان، وهوَ يومئ إلى المكتبة: " لديك مجموعة جيدة من الكتب الكردية، مع أنك حديث العهد بالإقامة في السويد. كذلك، في وسعك الإستفادة من القسم الكرديّ في مكتبة أوبسالا ". هنا، ألتفتت شيلان لتسأل المُضيف: " منذ متى أنتم تقيمون في الشام؟ "
" منذ عشرينيات القرن التاسع عشر، حينَ قدمَ جدّ أجدادنا من ريف ماردين "
" إنه لشيء مدهش، وجدير بالإعجاب، أنكم حافظتم على لغتكم القومية كلّ هذه الفترة الطويلة "، قالتها ثم أضافت: " إنكم تذكّرونني بكرد أنقرة وقونية، الذين تمسّكوا بلسانهم الأم أكثر من سكان بعض ولايات كردستان تركيا ". طُربَ دارين لكلامها، وسيظهر له بعد قليل ما نمّ عن معرفتها المُسبقة لمعلوماتٍ عنه شخصياً. إلا أنّ هذا، لم يمنع فكرة خبيثة من طرق رأسه: " الجميلة الغنية، لديها إذاً الوقت للإهتمام بمشاغل زوجها وصداقاته، مع أنّ ذهنها مزدحمٌ ولا شك بالأرقام والحسابات! ".
قال له دوغان، وقد طافت إبتسامةٌ ماكرة على شفتيه الرقيقتين: " سمعتُ أنك تتكلمُ أيضاً بعضَ الفارسية؟ ". تلعثمَ دارين في الجواب، مُحمرّاً: " أجل، بفضل بعض زملاء الدراسة الإيرانيين! ". عندئذٍ، إنتبهت شيلان إلى ما أعتراه من خجل، ولعلها كانت بدَورها مُلمّة بموضوع عشيقته السابقة. أستطرد دوغان بالقول، مُتكلّفاً لهجة جدّية: " إذا أردتَ الإختلاط بالمجتمع السويديّ، وخصوصاً نخبته الثقافية، فلن يصعب ذلك عليك في حال إجادتك للغتهم ".
بعد عدة أعوام، عندما ظهرَ الكاتبُ الكبير مُجدداً في برنامج ثقافيّ على القناة المحلية الحكومية، لحظ دارين أنّ سويديته ليست أدبية ولا تختلف عن لغة الشارع.

2
وإذاً، بدأ الصيفُ بشكلٍ رائع. كانَ كذلك، حتى لو أخذنا معنىً رصيناً. فمتنبئو الطقس على الصفحات الأولى من الجرائد اليومية، قالوا أنّ درجات الحرارة ستكونُ إستمراراً للصيف المنصرم. إن كلمة " الطقس "، بحدّ ذاتها، لها وقعُ السّحر في هذه البلاد، المحكومة أمزجةُ أهلها بالوحدة والعزلة والكآبة. فإنهم لا يتبادلون عادةً سوى جملة واحدة عن أحوال الطقس، إن ألتقوا بعضهم البعض ـ كجيران بالطبع ـ عند المصعد أو باب الشقة. أما لو كانَ الجارُ أجنبياً، فإنهم يكتفون بتحية مُقتضبة رداً على تحيته. فإذا تمادى بالحديث، نظروا إليه على أنه مختلّ عقلياً. مع ذلك، وبالرغم من إبداعهم بشتى مناحي الحياة اليومية، والمستقبلية أيضاً، فمن الممكن الظنّ أنهم يتجنبون الآخرين ـ كمرضى نفسيين من الصعب علاجهم.
مع هذه البداية المَوْسمية، المَوْصوفة، لم يعُد مُهمّاً إن كانَ دارين قد وعى العقلية السائدة، على الأقل كما عبّرت عنها تيريز حينَ طردته بفظاظة من شقتها. ربما طردته لا لسبب مُقنع غير أنها حلمت في أثناء النوم برجل آخر، هجرها عقبَ أنتفاخ بطنها بالحَمْل. وإذا هيَ تفتحُ عينيها وشيءُ هذا اللاجئ، الراقد على السرير بجانبها، مغموسٌ في أستها مع رغوةٍ شبيهة بالحليب والطحين لمّا يُصار إلى تحريكهما على النار. هذا، أفقدها أعصابها، ولا غرو. لقد جعلَ إستمرار رقادها مُحالاً، فأجبرها على النهوض إلى الحمّام. فيما هربَ الزائرُ إلى شقته، مُهرولاً، وسرواله الداخليّ مٌبتلٌ. في أعقابه، كانت تلاحقه قهقهةُ الفتاة المراهقة، التي لاحَ أنها أدركت الموقفَ على خلفيّة سماعها دمدمة الأم بالشكوى ومن ثم بالشتائم.
في أحد النهارات الصيفية، المُتنقّلة فيها الشمسُ خبباً على أنغام تغريد الطيور، وجدَ دارين نفسه على الشرفة. إلى الأسفل، كان يمتدّ مرجٌ أخضر فاره، موازٍ لشريطٍ إسفلتيّ ضيق، مُظلل بأفياء العمارات السكنية. فوق هذا الشريط، كانت انّيكا تُبرز مهاراتها الرياضية على مرأى من أعين عددٍ من الأطفال، كانَ أكبرهم لا يتجاوز سنّ العاشرة. حينما كانت تتشقلبُ في إحدى الحركات، لحظ دارين أنّ سروالها الداخليّ مفقودٌ. شعرَ بانتصابٍ شديد ـ ليسَ من منظر الفتاة بالطبع ـ بل مما علق بذاكرته من منظر الأم؛ تيريز، الشهوانية الشبقة، الجموح. على سبيل الصدفة، كانَ اليومُ هوَ السبت، تخرجُ فيه ليلاً إلى الملهى مع أحدهم، وربما تؤوب معه إلى الفراش. مع الأسف، فكّرَ دارين، كانت تيريز قد تجاهلته كليّاً مذ واقعة الصباح، المُشينة. لقد أحمّرَ وجهُهُ الآنَ، لمجرد إستعادته تلك الواقعة. مع مرور الوقت، أدركَ أنّ انّيكا تتعمّدُ تكرارَ حركتها البلهوانية، الفضائحية، عقبَ إنتباهها لوجوده على الشرفة. عندئذٍ غادرَ موقفَه، كي يعود إلى مطالعة أحد الكتب.
بعد غروب شمس ذلك اليوم بنحو ساعتين، بدأ الليلُ ينفثُ أنفاسَ الصيف الحارّة. وكان دارين ما فتأ مُستغرقاً بالقراءة، مثل كاهنٍ لا يجد ما يفعله قبل النوم سوى إعادة مطالعة الكتاب المقدّس. وكان كاتبُ المستقبل، من هواة تكرار قراءة الكتب الجيدة بدلاً عن إضاعة الوقت بقراءة الكتب الرديئة. مجموعة من كتبه، التي تركها في موسكو لدى أحد الأصدقاء، وصلته مؤخراً بالبريد المُسجّل. الطريف، والمُقزز في آنٍ معاً، أن يجد بقّة قد إنسلّت من أحد تلك الكتب؛ بقّة، كانت مستوطنة، بالطبع، السكنَ الطلابيّ الموسكوفيّ ثم شاءت تقديم اللجوء في بلد الحرية كي تغتذي من دم مرضاه النفسيين!
تقريباً أشبه بجموح الأم، أقتحمت انّيكا خلوةَ الكاهن، المُقدّسة. فتحَ بابَ الشقّة، إستجابة لرنين جرسه المُلِحّ، ليُطالعه الرونقُ الفاتن للفتاة المُراهقة، وكانت بنفس ملابس الصباح. قالت له بصوتٍ مبحوح قليلاً، عارضةً مجلة أطفال أمام عينيه: " أتريدُ شراءَ هذه المجلة؟ ". كانَ واضحاً، أنها تسيطر على نفسها بصعوبة كيلا تنفجرُ بالضحك. لعلها الصفقة المُلتبسة، أثارت ذلك الشعور، أو ربما ذكرى هروبه من شقتهم. وكما يُقال، أخذها دارين بقدْر عقلها الصغير: " ماذا سأفعلُ بمجلة أطفال؟ "
" تهديها، مثلاً، إلى طفل أحد أقاربك "
" أأنتِ بحاجةٍ إلى ثمن المجلة؟ "
" ممكن ألا أكون كذلك، لو أشتريتَ لي سروالاً داخلياً بلونٍ أحمر! "، قالتها وهيَ ترفعُ طرفَ ثوبها عن ثمرة جوز الهند ذات الزغب البنيّ والجوف الفضيّ. بقيَ مبهوتاً للحظاتٍ، وقد تضرّجَ وجهُهُ كما لو أنه تقمّصَ صفة ذات الخدر، الخفرة. لكنّ الفتاة المُعابثة، الشبقة، لم تنتظر ردّه. إذ بادرت بخطى سريعة إلى التوجّه رأساً نحو السرير، وكانَ باب حجرة النوم مقابلاً تماماً لباب الشقّة: " أليسَ هذا السريرُ ضيّقاً، بالنسبة لشخصين؟ "
" كما تعلمين، أنا أعيش لوحدي؟ "
" من أينَ لي أن أعلم؟ هل تخلط بيني وبين والدتي، التي أنتَ ضاجعتها في بيتنا؟ "، قالت ذلك وقد بدت سعيدة أنها نجحت بجرّه للكلام. كانَ قد أغلقَ باب الشقة، ثم أستوى بدَوره بالقرب من السرير، ولبثَ في حيرةٍ بيّنة. فيما هي مُستلقية على السرير، ورأسها على الوسادة. فما عتمَ أن عادت لترفع ثوبها، وصارت تفحّ بلسانٍ داعر: " أنظر إليه، بعين الفنان! أليسَ أجمل وأفتى من أيّ فَرْج، أنتَ عرفته؟ "
" وكيفَ عرفتِ، أنني فنان؟ "
" أنتَ قلتَ ذلك لتيريز "، قالتها ثم حطت ببصرها على لوحةٍ زيتية تزيّن المكتبة: " أوه، إنها كئيبة جداً ". كانت لوحة لصديقه، الفنان زهير حسّيب، تمثّل إمرأة قروية كردية. أرادَ أن يوضّحَ ذلك للفتاة، لما أدارت جسمها كي تقلّب في كتابٍ عن الكرد باللغة الروسية: " ما هذه الأحرف الغريبة؟ "، تساءلت ضاحكة. لم يستطع الجوابَ، عندئذٍ. إنّ نظرَهُ تجمّدَ عند مشهد ردفيها العاريين، العارمين، وهما تحت ضوء الحجرة القويّ.
بعد نحو نصف ساعة، تقمّصت الفتاةُ هذه المرّة حالةَ الأم حينَ أفاقَ دارين ذلك الصباح في سريرها. هُرعت انّيكا إلى الحمّام، والرغوة الحليبية تقطر بعدُ من أستها وتسيل على فخذها؛ كما لو أنها شجرةُ صمغ. غبّ عودتها، أصرّت على نيل متعتها، بأن أمتطته وظلّت ترهزُ وهي في غاية الشبق حتى بلغت النشوة. في المرة الثالثة، أخضعها مُجدداً إلى نزوته، مع قليلٍ من الزبدة الطريّة. مع ذلك، أنتقلت من صراخ الشهوة إلى أنين الألم. وكانَ ثمّة مرة رابعة، كون أنوثة انّيكا من نوعٍ لا يستسلمُ لليأس أو الهزيمة. الضوءُ القاسي للفجر الصيفيّ، كانَ قد غمرَ الأشياء خارجاً، لما ودّعته الفتاةُ عند باب الشقّة. قبّلته بوهن، ثم سارت على طول الفناء برجلين مُرهقتين، فيما رأسها مائلٌ إلى جانب مِن مَبلغ ما فيه مِن وَسَن.

3
غبّ مغادرة الفتاة، جفى النعاسُ جفنيّ دارين لساعةٍ أخرى. كانَ مُفرغاً من الرغبة، يُفكّر ما لو كانَ صواباً إذعانه لمَشيئة مُراهقة مُعابثة لا يؤتمنُ جانبها. كانَ واضحاً، أنّ علاقتها بالأم تتسمُ بالصراحة إلى حدّ كبير: " فماذا سيكونُ ردّ فعل تيريز، لو علمت أنني أضاجعُ إبنتها الوحيدة؟ ". هوَ المُتجاوز سنّ الثلاثين، يُعاشر بنتاً بالكاد تناهز الخامسة عشرة. لو أنه تزوّجَ باكراً، حال فتية الريف، لكانَ لديه ابنة في سنّها. إلا أنّ ما هدّأ من رَوْعِهِ، ملاحظته ولا شك لتمرّسها في فنون الجنس حتى كادت تُضاهي والدتها.
لقد خبرَ دارين مثلَ هكذا طبيعةٍ لدى بنتٍ، ربما تكبرُ انّيكا عُمراً بقليل؛ وكرديّة فوقَ ذلك. كانَ اسمها، " نوروز "، فتاة جميلة شقراء، تفيضُ أنوثة مُبكرة. أسرتها، كانت تقطنُ في جوار شقّة شقيقته، والفتاة صديقة لابنتها. ذات ظهيرةٍ صيفية من عامٍ مضى، فوجئ بها تدخلُ حجرته لتطلبَ منه عرضَ رسومه على ناظريها. سألها عن صديقتها، فقالت أنها تأخذ حماماً شمسياً على الشرفة. كانت الرسومُ الجديدة على الطاولة، وما عتمَ أن راحت الضيفة الصغيرة تتفحّصها. دعته من ثمّ إلى الوقوف بجانبها، لكي يشرحَ لها ما غمضَ من معاني الكاريكاتير. ظهرَ أنّ لديها بعضَ الوعي بأمور السياسة، كون والدها من نشطاء أحد أحزاب كردستان تركيا. لكنّ دارين لحظَ بقلق ما في عينيها من بريق الشهوة، وتعمّدها الإحتكاك بمؤخرتها في وسطه. تحققت مخاوفه أكثر، عندما أعربت الفتاةُ عن شعورها بالحر فيما هيَ ترفعُ ثوبَها القصير كي يرى سروالها الداخليّ. عندئذٍ شاءَ أن يتملّصَ من المَوقف، بأن تحرّك من الحجرة، قائلاً لها بنبرةٍ مُداعبة: " لنرَ صديقتكِ، ما لو كانَ في نيّتها أن تضيّفنا الشايَ ". لاحقاً، ولحين حصوله على شقةٍ مُستقلة بعد نحو شهر، ظلّت نوروز تكررُ محاولات إغوائه بشتّى الأساليب، المُبرهنة على ما في طبيعتها القروية الماكرة.
مثلما سبقَ القولُ في مكانٍ آخر، كانت أسرةُ آلان تقيمُ أيضاً في جوار شقّة شقيقة دارين. ثم توثّقت صلة الشابين، وذلك عن طريق النادي، وتعاونا أيضاً في رفد المعرض السنويّ لمعهد اللغة بالرسوم والصوَر. كانَ دارين دائبَ التواجد في الكشك، الكائن على مبعدة قليلة من محطة القطار، أينَ يعملُ آلان في يوميّ عطلة نهاية الأسبوع. هذا الأخير، كانَ أحياناً يُعلّق ضاحكاً على حركات الفتيات المُراهقات من زبائنه، اللواتي يرغبنَ بإقامة علاقة عابرة معه: " عدّة مرات، رأيتَ الواحدة منهن تنصاع بسهولة إلى الدخول لحجرة المكتب، كي أضاجعها، فيما زميلتها تقف خلف الصندوق لتراقب سير الأمور في المحل ".
كلّ تلك الأمور، تمعّنَ فيها ذهنُ دارين عقبَ معاشرته لإبنة تيريز المُراهقة. في الأيام التالية، شجّعَ الفتاةَ على الحضور إلى شقّته. لقد صارَ يُسعدها أن تكونَ شجرةَ صمغ. على سبيل الدعابة، فاجأها مرةً عندما لوّحَ بسروالٍ داخليّ أحمر اللون: " لقد أشتريته، بحَسَب طلبكِ، فسبّبَ لي حَرَجاً في طابور المخزن أمام الصندوق ". طفقت تضحكُ ليسَ على الموقف المذكور، بقدر ما أكتنفته من طرافةٍ طريقتُهُ المُتعثّرة في التحدث باللغة السويدية. عادةً، فإنه كانَ يضعُ كلمةً يعرفها بمكان الكلمة المقصودة، التي جهلها أو نسيها، مما ينشأ عن ذلك غالباً جملةٌ في غاية التناقض. ما عتمَ أن خلعت انّيكا ملابسها بلمحةٍ، بغيَة إرتداء ذلك السروال الداخليّ. لكنّ دارين أنقضّ عليها، ليقذف من جديد في ردفيها الفاتنين. على الأثر، شعرَ معاً بالإثارة والتقزز، عندما أقحمت تحت أنفها شيئَه الملوّثَ بالقذارة كي تنهل بقيةَ الرغوة الحليبية.
المشاهد الخلاعية للمُراهقة الشبقة، تترى أمام عيني دارين ـ كشريطٍ إباحي ـ فيما كان سائراً على امتداد شارع فكسالا. كان قد انحدرَ من هضبة غرينبي في هذا الأصيل الصيفي، الذي بلا لونه الخاص بسبب أشعة الشمس الساطعة، السابغة على كل الأشياء لونها الذهبيّ الشاحب. قمرُ الشمال، قبعَ حزيناً بلا نوره الفضيّ ولا حتى هالته الأشبه بعشٍ مقلوب، بفرن انّيكا المُلتهب. وكان من نتيجة تفكيره بذلك الفرن، على أية حال، أنّ شيئه أنتعظ بشدة حتى لقد فكرَ العودة أدراجه كي يُلهب به أوارَهُ. لكنه توقفَ فجأةً، وقد ألمّت به فكرةٌ أخرى: " بما أنّ محل آلان يقعُ على سويّة محطة القطار مع إنحرافٍ قليل إلى الجهة اليسرى، فلمَ لا أسلكُ طريقَ سالابكا وأختصرُ المسافة؟ ". إلا أنه طردَ هذه الفكرة حالاً من رأسه، ليسَ لكونه من هواة التسكّع، حَسْب، بل وأيضاً لإستعادته حادثة طريفة، حصلت في مبتدأ هذا الصيف.
نورو، الذي جاءَ إلى السويد بفيزا دعوة رسمية، كانَ يائساً تقريباً من إمكانية قبول لجوئه. إنه صاحبُ أراضٍ زراعية خصبة في إحدى بلدات الجزيرة، أعتادَ أن يضعَ إيرادَ الموسم في جيبه، لينطلق من ثم إلى حلب ودمشق سعياً وراء القحاب. كان قد قدمَ مع دارين إلى السويد في نفس الفترة، فتعارفا عن طريق النادي. ولأنّ الغريقَ يتعلّقُ بقشّة ـ كما يُقال ـ فإن نورو كانَ مُستعداً لتقبّل أيّ طريقةٍ تساعده في الحصول على الإقامة. إلا طريقة واحدة، وكانَ قد عرضها عليه جيجي. ابتدأ هذا بالقول، وكانوا في طريقهم إلى موقف الحافلات، مُخاطباً الرجل: " أنتَ تقولُ، أنني كنتُ أناك في صغري. أليسَ صحيحاً؟ "
" وأضعكَ بذمّتي، أنكَ ما زلتَ كذلك! "، ردّ نورو مُقهقهاً. هزّ الآخرُ رأسَهُ، تعبيراً عن التفهّم، ثم قال: " إذاً ما رأيكَ أن تتزوجني بأوراقٍ رسمية، لكي تحصل على الإقامة؟ ". أطلقَ نورو ضحكةً فاترة، مُتمتماً: " لا حول ولا قوة إلا بالله ". أندفع جيجي للقول، بنبرة أكثر جدّية: " عندما يتمّ زواجنا، ستقولُ لمحاميكَ أنه يستحيلُ عليك العودة إلى سورية، لأنك قد تواجه الموتَ على يد أقاربك! "
" من أجل الله، لا تذكر أمام أحد هكذا كلام ولو كانَ مزاحاً. لأنهم قد يشكّون بأننا فعلاً على علاقةٍ مُشينة، فتنشأ الأقاويل ومن ثم تصل إلى بلدتي وتتسبّب بمشكلة عائلية لا رادّ لها "، قالها نورو عابساً. إذاك، كانوا في طريقهم إلى كنيسةٍ تتبع جماعة مسيحية منشقّة ( سِكْت )، تقيم إحتفالها السنويّ. وكانَ أحدهم قد أقنعَ نورو، بأنّ من يُظهر تعاطفه مع هذه الجماعة، تقوى فرصته في الحصول على الإقامة. هذا الشخص، ويُدعى " رمّو "، كانَ من نفس بلدة ملّاك الأراضي وسبقَ أن أقاما معاً في معسكر للاجئين، يبعد بنحو ساعة في الحافلة عن أوبسالا. بعندما نزل الأصدقاءُ الأربعة من الحافلة، لاحَ في الأفق الصرحُ العظيم لتلك الكنيسة، المُوحي بما للجماعة من غنى ونفوذ. إذا بالغندور، يُغرّد بهذا الإقتراح: " لو أننا سلكنا طريقاً آخر، سنصلُ في الوقت المناسب للحفل ". ردّ عليه صديقه اللدود، نافخاً بضيق: " يا ابني، هذا الشارعُ يؤدي باستقامة إلى الكنيسة "
" كل الطرق تؤدي إلى روما، لكن المهم أن يسلك المرءُ أقصرَ الطرق إليها "، قالها جيجي مُتفلسفاً. هكذا أنصاع رفاقه إلى فكرته، وما لبث أربعتهم أن غذوا السيرَ. بعد نحو نصف ساعة، كانَ صبرُ ملّاك الأراضي قد نفد: " كنا نسيرُ بأمان الله في الشارع المؤدي إلى الكنيسة، والآن لم نعد نراها بالرغم من أنها كانت تعانقُ السماءَ. فهل أعدتنا إلى مركز المدينة، يا ابن الحرام؟ "، خاطبَ جيجي بحنق. ضحكَ هذا الأخير، وقال بنبرةٍ مُتسامحة: " لا تقلق، سنصل في الوقت المناسب! ". بعد زهاء نصف ساعة أخرى، وصلوا إلى الكنيسة؛ ولكن الإحتفالَ كانَ قد شارفَ على الإنتهاء. كان ثمة جمعٌ هائل، بينهم العديد من الأجانب، وقد تم إلتهام كل الأطعمة والحلوى ولم يبقَ أيضاً أثرٌ للقهوة والشاي. ألقى نورو نظرةَ أسى على الغندور، وقال: " كم كنا أغبياء، لأننا جعلنا منيكاً دليلنا ".

4
كادَ دارين أن ينفجرَ بالضحك، فيما كانَ يستعيدُ تلك الحادثة. على ذلك، عدّل عن فكرة الطريق المُختصَر وتابع سيره المعتاد في شارع فكسالا. عندما همّ باجتياز السكة الحديدية، ثمة في محطة القطار، قُرعَ جرسُ الإنذار. وقفَ مُنتظراً مرورَ القطار، فيما كانَ يتصببُ عَرَقاً. ما كانَ الجو بهذه الحرارة المرتفعة في هذا الوقت المتأخّر نسبياً، إلا أنّ المشي جعل جسمه ساخناً ومُرهقاً. في أثناء الإنتظار، أبتسمت له إحداهن مع غمزةٍ مُعابثة من عينيها، اللتين بلون العشب النديّ. هذا سيتكررُ ثمة، في محل صديقه، وكانَ يغصّ بالفتيات المراهقات في ليلة عطلة نهاية الأسبوع. بمجرد أن تبادلَ آلان حديثاً قصيراً مع زبونتين فتيتين، فإنه خاطبَ دارين بالقول، مُطلقاً ضحكته الظريفة المُبهجة: " ياو، البنتُ تحوم حولك كالنسر وأنتَ مشيحٌ وجهك إلى ناحية الشارع "
" ماذا تريدُ هذه؟ "
" وماذا تريد البنتُ غيرَ النيك؟ أدخل معها إلى حجرة المكتب، فاقضي وطرك منها. بعدئذٍ يحينُ دوري مع صديقتها "
" لا تُعجبني هذه البنت، لأنّ جسمَها ضامرٌ كالعود "
" المشكلة، أنني أتفقتُ مع صديقتها "، قالها آلان ثم أستدركَ: " سأتكلمُ معها، ربما ترضى أن تركبها أنتَ ". وإذا الأمورُ تتعقّد، وما عتمَ أن تركت الفتاتان المحلَ وهما تتضاحكان. قال آلان لصديقه، وعلى شفتيه ابتسامة مُنكسرة: " كانتا تفاحتين ناضجتين، وأنتَ أضعتهما علينا لسببٍ سخيف ". لم يتأثّر دارين كالآخر، كونه تلذذ في يومٍ مضى بقضم تفاحةٍ أكثر نضجاً وحلاوة. إلا أنّ آلان، المُتأمّل بالمزيد من الفاكهة، سرعانَ ما سلا الموضوعَ: " سأغلقُ المحلَ باكراً الليلة، لأننا سنتعشى لدينا في المنزل "
" أرجوك، لا تُحرجني بهذه الدعوة "
" عن أيّ إحراجٍ تتكلم، ياو؟ إنّ والديّ هما مَن طلبا مني دعوتك إلى العشاء "، قالها آلان مع إبتسامةٍ ساخرة. كانَ يُدرك مدى حياء وتحفّظ صديقه، ولعلّ مبعث صلتهما الوثيقة كونهما من طبيعةٍ مُختلفة ـ كما قطبيّ السالب والموجب.
قاده آلان في سيارته، وهيَ من ماركة عالمية لكنها مُستعملة. بالرغم من غروب الشمس، فإنّ الظلالَ ما تفتأ خفيفة وكأنما الليلُ لن يأتي أبداً. يقولون في الصحف أيضاً، أنّ العالمَ يشهدُ تغيّراً مناخياً وأنّ درجاتِ الحرارة هذا الصيف كانت الأعلى مذ وُجدت الأرصاد الجوية قبل نحو قرنٍ من الزمان. التغيّر المناخيّ، بحَسَب أنبياء الطقس أولئك، يعني المزيد من الكوارث الطبيعية؛ بما في ذلك ذوبان جبال الجليد في القطب الشمالي، الذي سيؤدي إلى غرق أجزاء كبيرة من العالم: " وإذاً، فنحن بحاجةٍ غداً إلى ظهور نبيّ مثل نوح، وليسَ إلى أنبياء الطقس. الطوفان، سيتبعه إنتشار الأوبئة، وربما يظهرُ الطاعون مجدداً. ألهذا السبب، كانَ الزحامُ على أشدّه في تلك الكنيسة، التابعة لأولئك المعتوهين؟ أم أنه الإنهيارُ المُتسارع للأنظمة الشيوعية المُلحدة، أعادَ الإعتبارَ للإيمان في أوروبا؟ "، فكّرَ دارين فيما قائدُ السيارة يُصفّر لحناً كردياً راقصاً.
كانَ آخر ما يتمناه دارين، هوَ أن يُدعى إلى مناسبة إجتماعية، ولو من قبيل العشاء لدى عائلة صديقه. لكنهم ثمة، جعلوه يتخلّى عن الخجل بما أسبغوه عليه من حفاوة بخلقهم البسيط والطيّب. الأب، الفارع القامة، كانَ على شبهٍ لافتٍ بدوغان؛ لأنهما ابني عم. وإمرأته كانت أيضاً على قرابة بصهرها، إنما من ناحية الأم. لمَحض المُصادفة، أنّ شيلان كانت هناك، وذلك لأنّ رَجُلها قد سافر إلى تركيا. كذلك، كانت جدّتها لأمها موجودة؛ وهيَ إمرأة قوية الشكيمة، من ملّة " الظاظا " ذات اللهجة الكردية المُميّزة. وقد أحتفت بدارين، لدى علمها بأنّ أصول أسلافه يمتّون لنفس ملّتها. الجدّة، كانت مقيمة مع أسرة إبنتها بصفة دائمة، كونها وضعت مُستأجراً في شقتها. في خلال العشاء، كانَ محورَ الحديث هوَ القلقُ على مصير دوغان ما لو تمّ إعتقاله في الوطن لسببٍ سياسيّ. كانَ قد سبقَ وسوّى وضعه، بشأن تخلّفه عن الخدمة العسكرية، ما جلبَ عليه إنتقادات عديدة من جانب الناشطين الكرد. فيما بعد، سيُندد هؤلاء بتصريحاته للصحافة التركية عن تحسّن حقوق الإنسان في البلاد، وبضمنها الحقوق الثقافية للكرد، وذلك عقبَ أنجلاء الغمّة العسكريتارية.
في ساعةٍ مُتأخرة من الليل، كان آلان في المطبخ مع الضيف يتبادلان الحديث. لقد أستبقاه إلى هذا الوقت، كونه سيتعهّد إيصاله لبيته في السيارة. دخلت شقيقته، شيلان، كي تتناول كأساً من الماء. كانت تخطرُ في ثوبِ نومٍ شفّاف، كشفَ ملابسها الداخلية. قالت دونَ أن تنظر إليهما، فيما كانت تشرب: " هه، دارين ما زال هنا؟ ". أطلقَ آلان ضحكة مرحة، بعدما لاحظ إرتباك صديقه. ثم ما عتمَ أن عادا إلى حديثهما، بعد مغادرة شيلان. دونَ مناسبة، قال آلان للضيف وهوَ ينظرُ في عينيه: " الفتيات يحببنكَ، لأنك فائقُ الجمال "
" هل يعتقدنَ أنني كذلك؟ "
" ياو، كم تعجبني سذاجتك! "، ردّ آلان مُفجّراً ضحكته الفاتنة. دارين، ولا ريب، لم يكن ساذجاً إلا في الأمور الحياتية اليومية. كل ما هنالك، أنه لا يُعير إهتماماً لمظهره حتى أنه يكاد لا ينظر إلى نفسه في المرآة إلا عند حلاقة لحيته. أما في مجال الإبداع، سواءً الرسم أو الأدب، فإنه كان على جانبٍ كبير من البصيرة والمقدرة. أي على العكس من أولئك المثقفين، أدعياء الفن والأدب، المبدعين فقط في العلاقات العامة وأساليب صنع الشهرة وكنز المال. إنّ خلفيتهم المتخلّفة، جعلتهم في غاية العناد والشراسة لتحقيق أهدافهم، لا يردعهم وازعٌ من ضمير أو خلق أو كرامة. بكلمة أخرى، إنهم يمتلكون نفس " كاريزما " النصّاب المُحتال.
سوى أنّ دارين شعرَ بكثيرٍ من الضيق، وربما القلق أيضاً، لفكرةٍ خرقاء راودته؛ فكرة، لعلها ليست بعيدة عن الواقع: إنّ شقيقة صديقه وقرينة الكاتب الكبير؛ شيلان، المرأة الجميلة والغنية ـ ربما تعشقه! إنه على ثقة، بأنها تعمّدت الدخولَ إلى المطبخ، بهيئتها المَعلومة، وهيَ مُتأكّدة أنه هناك. فوقَ ذلك، كانت قد أتصلت به في يومٍ سابق، مبررة الأمر بأنّ رَجُلها كانَ قد أمِلَ قبل سفره بوصول الرسوم، الخاصّة بالصحيفة.
" لكنها آخر إمرأة في العالم، يُمكن أن أفكّر فيها. بغضّ النظر عن كل الإعتبارات الأخلاقية، وأنّ ملامحها بديعة، فإنّ جسَدَها لا يُثير رغبتي! "، خاطبَ نفسه. وعلى أية حال، فإنه كانَ آنذاك يتمرّغ سعيداً في فردوسه الصغير مع انّيكا.

5
إلى أن شارفَ الفردوسُ، أخيراً، على الإغلاق. مرةً أخرى، عادَ دارين ليُصادف تيريز عند المصعد. نظرت إليه بطريقةٍ عدائية، قبل أن تفتحَ فمَ العاهرة: " أنتَ تتمتّعُ بمؤخرة بنتٍ قاصر، أليسَ حقاً؟ كأنما تظنّ نفسك في بلدك، الذي لا قانون يحكمه؟ ". بقيَ مذهولاً، يُفكّر في جوابٍ مناسب، حينَ أتى المصعد. فتحت له البابَ، قائلةً بنفس النبرة: " تفضل! ولا تنسَ كلامي، لو شئتَ أن نظلّ جارين ودودين ". ثم تركته يصعد لوحده، وبقيت في مكانها مع سيجارةٍ مُشتعلة.
في أول ليلة جمعة على الأثر، هُرع دارين إلى محل صديقه آلان. كانَ هذا مُلمّاً من قبل ببعض تفاصيل علاقته بانّيكا، وعادةً ما كانَ يُعلّق بكرديّته الظريفة، ضاحكاً: " ياو، كم أنتَ ظالمٌ! ". لكنه الآنَ طفقَ واجماً، عقبَ سماعه ما جرى بين دارين والأم. ثم ما لبثَ آلان أن قالَ بلهجةٍ جدّية، مُبطّنة بالقلق: " إنه أمرٌ سيء، ولا ريب. في وسع تلك العاهرة، فعلاً، أن تُسائلك أمام القانون. وهذا، على الأقل، سيؤثّر على موضوع حصولك على الجنسية السويدية، مستقبلاً ".
هكذا أُجبرَ دارين على غلق باب الفردوس بنفسه، في وقتٍ تمتّنت فيه علاقته بانّيكا. في حقيقة الأمر، أنه لم يكن قد شعرَ نحوها بشيءٍ من عاطفة، خلا تشوّقه لجسدها المُفعم بالغلمة والرغبة. علاوةً، بالطبع، على أنها كانت تلبّي نزواته بكل بساطة وطيبة. في المُقابل، كانَ قد أخذَ عنها فكرةً شبه مُتكاملة ـ كعاهرة صغيرة، مُبتدئة. لقد وصلَ بها التهتّك، حدّ أن قالت له ذات مرة: " فارقُ السنّ بيننا، لا يعني شيئاً. فأنا أُدخلُ بينَ ساقيّ طفلاً عمره عشرة أعوام، عندما أفتقدُ لمَن هم أكبر عُمراً! ". ثم أضافت، وعلى شفتيها الشهوانيتين ظل ابتسامة ماجنة: " كل عشاق تيريز ضاجعوني، بما فيهم أنتَ. والبعضُ منهم، كان سنّه فوق الخمسين. ربما والدي، حَسْب، لم يفعل ذلك! إنه هجرَ والدتي، وأنا كنتُ بعدُ في رحمها ".
لتُدْخِلَ مِن بَعد بينَ ساقيها، فكّرَ دارين، ذكورَ الحي كلهم، وكلابه وأبنيته وأشجاره وأعمدته الكهربائية وحاويات قمامته..! لكنه لن يدخلَ هوَ مرةً أخرى، أبداً. فإنه لن يضحّي بسمعته سواءً قدام السويديين أو مواطنيه. ففي آخر جلسةٍ مع محاميه، وكانَ هذا مُتفائلاً بقرب صدور قرار إدارة الهجرة بمنحه حق الإقامة الدائمة، أشاد به الرجل. وكانَ هذا من أهم أبناء مهنته في أوبسالا، حيث قال لشقيقة دارين: " إنني في كلّ مرةٍ أجتمعُ فيها مع أخيكِ، أخزّنُ في ذهني معلوماتٍ جديدة عن الوضع السياسيّ في سورية ".
لكنّ انّيكا كانت ما فتأت مُتشبّثة بالعلاقة معه، تشبّثها بشيئه في أوان مطارحة الحب. مراتٌ عدّة، رنّت جرسَ باب الشقّة، وهوَ ينظرُ إليها خِلَل العين السحرية. أبقى نفسه ليالٍ دونَ نور الكهرباء، لكي تتوهّم أنه ليسَ موجوداً في المسكن. إلى أن ضبطته عند المصعد، وكانت خارجة منه: " لِمَ تتهرّب مني، وأنا مَن بقيتُ وفيّة لحبك فلم ألتقِ رجلاً مذ أن تعارفنا؟ أهيَ والدتي، مَن تخشاها أنتَ؟ إعلم، إذاً، أنني مستعدة لهجر البيت حالاً "، تدفقت في الكلام وكانت في الأثناء تستعبرُ وتشهقُ. رقّ دارين لحالها، وكاد أن يُسلّم لها زمامَ أمره من جديد. بيد أنّ كلماتِ صديقه آلان، المُنذرة، كانت منقوشة في رأسه كأنها جُبلت بالنار. لم يجد جواباً لمُناشدة الفتاة، إلا أن يفتح بابَ المصعد ويختفي داخله، تاركاً إياها فاغرة الفم من الدهشة. مع مرور الوقت، دونما تدخّلٍ آخر من جانبها، أدرك مدى تأثرها من حركته الأخيرة: " على الأرجح، أنها الآنَ قد أصطادت أحدَ أصحاب والدتها. ولعلها أيضاً، في أسوأ الحالات، تقومُ بمضاجعة ذلك الغلام ذي العشرة أعوام! "، فكّرَ مُطمئناً.
الهاتف، أسهمَ بحلّ العديد من مشاكل دارين، مثلما أنه جعل الأصدقاء بأتون في مواعيدٍ مُحددة. وقد حضرَ الصديقان اللدودان، ذاتَ مساء، وفي نيّتهما إصطحابه إلى الملهى. قارعوا الشرابَ، وتبادلوا الأحاديثَ المعتادة عن المرأة؛ فوصفها أحدهم بأنها محور الكون، وردّ آخر بأنها شرّ لا بد منه. سألا دارين عن رأيه، بما أنه بقيَ ممسكاً عن الكلام. قال بصدق: " المرأة هي الحكمة الوحيدة في الكون، التي لا يفهمها سوى الموتى "
" لقد سَكِرَ صاحبنا، سلفاً "، علّقَ جيجي مقهقهاً. في الأثناء، كانَ نورو يُعدّ سجائرَ اللف في جهاز صغير. أجاز الآخرُ لنفسه التحرشَ بالرجل، فسأله: " ماذا ستفعل في السويد لو حصلتَ على الإقامة؟ أنتَ فلاح والزراعة تحتاج إلى الشمس، فيما الصيف هنا شهرٌ واحد؟ "
" وأنتَ، أيها الشامي؟ كيفَ ستبيع الفلافل في طرقات السويد، وطقسها كما قلتَ؟ "
" أنا بمجرد حصولي على الباسبورت السويدي، سأهاجر إلى أمريكا أو كندا "
" كنتَ تنتحب، حتى يوم أمس، على ذكريات مؤخرتك في سويسرا! "
" مُجرّد حنين. مَن يُريد أن يكسبَ الذهبَ، فما عليه إلا الهجرة إلى ذينك البلدين "
" ما أنتَ سوى ولد مُدلل وبطران، هذه هيَ حقيقتك "
" شكراً، سأتذكّر كلامك حينَ أغدو رجلاً بشارب غليظ مثل شاربك "
" لا تتكلم عن الشارب، لأنك ستبقى ولداً "
" قمْ وأزلْ شاربَ الهارون هذا، وإلا فإنّ نساءَ الملهى لن يقربنَ طاولتنا "
" لا حول ولا قوة إلا بالله "، ردد نورو جملته الأثيرة وهوَ يُقرقر ضاحكاً. ساعة أخرى، وكانوا في ملهى " بالديس ". فما عتمَ أن أخذوا أمكنتهم وراء إحدى الطاولات، القريبة من دائرة الرقص. أحضرَ النادلُ زجاجةَ نبيذ، فصبّ قليلاً في كأس نورو. قال هذا بالعربية، مُحتجّاً: " ما هذا الغبي؟ كأنه دفعَ ثمنَ الزجاجة من جيبه "
" إنك أنتَ الغبي، والمتخلّف أيضاً! "، خاطبه جيجي ضاحكاً بصخب. ثم أستدرك، ليوضّح له: " النادل صبّ لك قليلاً من النبيذ، لكي تشمّه ومن ثم تعطي رأيك إذا كانَ جيداً أو رديئاً ". وكانت هذه، عادةً، مَدخلاً مُناسباً إلى المناوشات بينهما. إلا أنّ جيجي، وكانَ جذّاباً في أعين النساء، نهضَ حالاً للرقص مع إحداهن. بقيَ نورو يرشفُ الشرابَ والسيجارة بيده الأخرى، لحين أن هتفَ بجذل: " عجوزنا هنا، وهوَ يعتقدُ أنه ضمَنَ لفراش الليلة إمرأةً خمسينية ". كانَ يعني ذلك السياسيّ المُخضرم، الذي يَدعونه، " خالو "، وكانَ دارين يعرفه من خلال يوميات النادي. إنه رجلٌ في غاية الحيوية مع أنه ربما تجاوزَ الستين، معتدل القامة، أبيض الشعر وملامحه تُنبئ عن حُسْنٍ غابر. كانَ عندئذٍ في مزاجه الرائق، يُراقص تلك المرأة، وكانت تلوحُ ثملة نوعاً ما. قال نورو لدارين حينَ توقفت الفرقة الموسيقية عن العزف: " أنظرْ ما سأفعله به! ". ما أن أشتعلَ إيقاعُ الجاز مُجدداً، إلا وهُرع ملّاك الأراضي باتجاه طاولة المرأة الخمسينية. أنحنى لها مع العطر المُتطاير من بذّته الباذخة، ثم طلبها للرقص. هنيهة أخرى، وجاء خالو إلى دارين ليجلسَ بمقابله: " أرأيتَ كيف يُحاول سرقة المرأة مني؟ إنه شابٌ بعدُ، وفي وسعه إستمالة من هنّ أصغر سنّاً ". ثم ما لبثَ أن ناقضَ كلامه، بأن أستطرد ساخطاً: " إنه يرغبُ بمعاشرة السويديات، وهوَ لا يعرفُ كلمتين من لغتهن! ". شاءَ دارين تطييبَ خاطر العجوز، بأن سأله لو كانَ يرغبُ بشرابٍ ما. أجابَ وما زال مُتكدّراً: " كأس بيرة، لكن من النوع الخفيف ".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بعد فوز فيلمها بمهرجان مالمو المخرجة شيرين مجدي دياب صعوبة ع


.. كلمة أخيرة - لقاء خاص مع الفنانة دينا الشربيني وحوار عن مشو




.. كلمة أخيرة - كواليس مشهد رقص دينا الشربيني في مسلسل كامل الع


.. دينا الشربيني: السينما دلوقتي مش بتكتب للنساء.. بيكون عندنا




.. كلمة أخيرة - سلمى أبو ضيف ومنى زكي.. شوف دينا الشربيني بتحب