الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عوالمٌ ثلاثة: مذكرات عربي يهودي

محمود الصباغ
كاتب ومترجم

(Mahmoud Al Sabbagh)

2023 / 8 / 10
القضية الفلسطينية


ينتمي آفي شلايم إلى عائلة يهودية عراقية عاشت حياة لا يعكر صفوها شيئاً في بغداد؛ فقد كان أفرادها أعضاء بارزين وينتمون إلى طائفة تعود بجذورها، ربما، إلى العصور البابلية قبل نحو 2500 عام. وقد امتلكت العائلة منزلاً كبيراً ضم في جنباته عدد من الخدم والمربيات اللواتي يعملن في بيوت الأغنياء؛ وارتاد أطفال العائلة أفضل المدارس التي كانت منتشرة في بغداد في تلك الفترة، واحتكوا بالكثير من الشخصيات المرموقة، وكانوا يتنقلون بأناقة من حفلة إلى أخرى في المجتمع المخملي البغدادي. وكان والده رجل أعمال ناجحٍ، ويحتفظ بعلاقات مميزة مع عدد من الوزراء، أما والدته، الأصغر سناً من أبيه، فكانت ذات جمال مميز وطموح اجتماعي جامح جذبت حولها عدداً من المعجبين، من الملك فاروق في مصر إلى مجند في الموساد. وكانت هذه الأجواء تمثل بيئة غنية وعالمية ومتناغمة بالنسبة لهذه الشريحة المتميزة والميسورة من المجتمع العراقي. أما بالنسبة لشلايم الشاب المولود في بغداد 1945، فقد كانت تلك الأيام هادئة وسعيدة. ولكن، وكما يقال، الجميل لا يدوم؛ بدأت في العام 1950 سلسلة تفجيرات استهدفت الجالية اليهودية في العاصمة العراقية بغداد، وهو ما دفع الفتى شلايم إلى الفرار مع عائلته من وطنهم القديم لبدء حياة جديدة في إسرائيل الناشئة حديثاً.
لم يكن والده، والذي كان قد بلغ خمسينيات عمره، قادراً على التحدث بالعبرية، الأمر الذي جعله شديد التأثر جراء ذلك. وفاقم الأمر عنده فشله لمرتين في البدء بأعمال تجارية، ما دفعه إلى التوقف عن ذلك. وهكذا أُجبرت الوالدة المفعمة بالحيوية على القيام بأعباء العائلة، مستبدلة حياة البذخ التي كانت تعيشها كسيدة مجتمعاً في بغداد بوظيفة عادية كعاملة هاتف في رمات غان، شرق تل أبيب، حيث عاشوا في ظروف أقل بما لا يوصف عن حالهم في العراق؛ مما تسبب لاحقاً في انفصال الزوجين عن بعضهما نهائياً. وتوفي والد شلايم في العام 1970.
أدرك شلايم، بعد مرور أكثر من 70 عاماً على طفولته المضطربة، فهماً أقرب لعلاقته الأولى مع إسرائيل يعرّفها من خلال عقدة النقص والدونية، فقد نظر الإشكناز الأوروبيون إلى نظرائهم السفارديم، يهود الدول العربية، بازدراء. كان شلايم خجولاً؛ قليل الكلام، لكنه سرعان ما استعاد ثقته، عندما انتقل في مرحلة المراهقة للعيش في بريطانيا.
يقع في قلب هذا الكتاب السجالي [ كتاب آفي شلايم الأخير Three Worlds: Memoir of an Arab-Jew] التحقيق في تفجيرات بغداد التي استهدفت الجالية اليهودية في العراق في عامي 1950 و 1951. ما أدى إلى هجرة نحو 110 آلاف يهودي من أصل 135 ألفاً كانوا يعيشون في العراق في تلك الفترة، توجهوا إلى إسرائيل. ورغم نفي إسرائيل المستمر لأي صلة لها في تلك الهجمات، إلا أن شكوكاً كثيرة وشبهات كانت تحوم بقوة حول أنشطة سريّة لعملاء صهاينة مكلفين بإقناع الجالية اليهودية بالفرار من العراق والاستيطان في إسرائيل. تمثلت مفاجأة شلايم، بالأحرى قنبلته هذه، في الكشف عما يسميه "الدليل غير القابل للدحض على التورط الصهيوني في تلك الهجمات الإرهابية"، التي ساهمت، بطريقة أو بأخرى، بإنهاء الوجود اليهودي في أرض بابل امتد لآلاف من السنين السابقة. إنها تهمة كبيرة لا شك- وستظل محل نزاع ساخن على الدوام.
يبدو كتاب شلايم الأخير مشغولاً بطريقة بديعة تمزج ببراعة بين ما هو شخصي وما هو سياسي، حيث تظهر ذكريات الحياة العائلية المستعادة بكل بذخها ومجدها وآلامها ولحظات بؤسها وضنكها. يبدو صوته إنسانياً وقوياً؛ يذكرنا بأن ليس الفلسطينيون وحدهم ضحايا قيام دولة إسرائيل في العام 1948. ويؤكد على أن المشروع الصهيوني وجّه ضربة قاتلة لأوضاع اليهود في الدول العربية، وحوّلهم من مواطنين مقبولين إلى طابور خامس موضع شبه ومتحالف مع الدولة اليهودية الجديدة. ويتمسك شلايم، بحزم، بهويته كعربي ويهودي، ومن هنا جاء عنوان هذه المذكرات.
بعد خدمته في الجيش ووصوله كطالب جامعي إلى كامبريدج في العام 1966، يختتم شلايم قصته بنهاية غير عادية يشن فيها هجومٍ مباشرٍ على الصهيونية ودولة إسرائيل الحديثة. حتى بعد كل ما حدث من قبل، لم تخفت حدة ضراوته المذهلة.
هذه الصرخة الحادة "إني أتهم J’accuse " ستصدم البعض؛ لا سيما حين يؤكد على الدور الكثيف للحركة الصهيونية الأوروبية وإسرائيل معاً لزيادة التفرقة والانقسام بين العرب واليهود والإسرائيليين والفلسطينيين والعبرية والعربية واليهودية والإسلام.
لقد عملت هذه الجهات بنشاط محموم على محو التراث القديم المتمثل في "التعددية والتسامح الديني والعالمية والتعايش. وفوق كل شيء، لم تشجعنا الصهيونية على رؤية بعضنا البعض كإخوة في البشرية، متساوين في الإنسانية، كما يقول. لقد تحولت إسرائيل، التي أنشأت أصلاً على يد "حركة استعمارية استيطانية" ارتكبت "تطهيراً إثنياً في فلسطين"، إلى "دولة قلعة تعمل بعقلية الحصار وتعزز توجهات الإبادة الجماعية تجاه جيرانها".
هذه الأفكار التي يطرحها شلايم تمثل منطقة شديدة الخلاف والتنازع. وهو يعترف بأن غالبية الإسرائيليين، بما في ذلك عائلته، غاضبون من تصنيف إسرائيل كـ "دولة أبارتيد"، ولكن هذه هي بالضبط الحقيقة التي يراها.
أما بالنسبة للطريقة الأكثر فاعلية للتقدم نحو الحل، فمن الصعب طرح حجة مقنعة ذات مصداقية تعاكس استنتاجه فشل ما يسمى حل "الدولتين" للصراع الإسرائيلي الفلسطيني؛ فبعد سنوات من التوسع المستمر وغير القانوني للمستوطنات الإسرائيلية، بات السؤال الجوهري يتساءل ببساطة، أين ستكون الدولة الفلسطينية بالضبط؟
ولذلك، يفضل شلايم حل الصراع باختيار طريق الدولة الواحدة، رغم عدم القبول له باعتباره مسعى هامشي متطرف، بيد أنه ينظر إليه لآن بجدية متزايدة بين العديد من الأطراف، بما في ذلك الفلسطينيين وقلة قليلة جداً من الإسرائيليين، وهو حل يضمن، بزعم شلايم، " حقوقاً متساوية لجميع مواطني الدول، بغض النظر عن العرق أو الدين" وهذا يعني "نهاية دولة إسرائيل اليهودية".
طيب.. لماذا يجب علينا التفكير بهذا الحل؟
يجيب شلايم بكلمة فصل قاطعة: " ببساطة، لأنه لا يمكن لنظام فصل عنصري العيش كثيراً أو قليلاً في قرننا الحادي والعشرين".
المصدر:https://www.spectator.co.uk/article/the-shocking-truth-behind-the-baghdad-bombings-of-1950-and-1951/








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - مجزرة الفرهود) في العراق)
توفيق أبو شومر ( 2023 / 8 / 10 - 02:34 )
عزيزي، هناك ملف خطير يؤيد استنتاج آفي شلايم، حول مجزرة الفرهود في العراق، وهي التي وقعت عام 1941 في ظل الحكم البريطاني، وكانت غايتها دفع اليهود للهجرة إلى إسرائيل ادعى الصهاينة بأن العراقيين طاردوا اليهود بالسكاكين والسيوف وقتلوهم، غير أن الشاعر عزرا مراد اتهم اللوبي الصهيوني بتنفيذ هذه المجزرة المزعومة، ولم يوافق على أن ما حدث كان مجزرة... شكرا

اخر الافلام

.. لأول مرة منذ 7 عقود، فيتنام تدعو فرنسا للمشاركة في إحياء ذكر


.. غزيون عالقون في الضفة الغربية • فرانس 24 / FRANCE 24




.. اتحاد القبائل العربية في مصر: شعاره على علم الجمهورية في ساب


.. فرنسا تستعيد أخيرا الرقم القياسي العالمي لأطول خبز باغيت




.. الساحل السوداني.. والأطماع الإيرانية | #التاسعة