الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل كانت قصيدة النثر سومرية..؟

قيس كاظم الجنابي

2023 / 8 / 10
الادب والفن


مراجعة لكتاب(قراءة في قصيدة النثر)
-1-
يعد كتاب (قراءة في قصيدة النثر) تأليف( ميشيل ساندرا) الكتاب الثاني بعد كتاب (قصيدة النثر من بودلير الى أيامنا، سوزان بيرنار، ترجمة د. زهير مغامس ،دار المأمون ،بغداد،1992م). وهو رسالة جامعية اعتمد فيها على كتاب (بيرنار)،ولكن سعة أفق الثاني ونماذجه وتراجمه وتشخيصه يثير الكثير من الأسئلة التي نحن بحاجة اليها، وأولها أن قصيدة النثر بدأت بوقت مبكر يسبق ظهور الشعر الحر في الغرب، حيث ظهرت قصيدة النثر منذ عام 1830م، وقد حرص المؤلف على البحث عن تعريف مصطلحي لقصيدة النثر، حيث يختلط تعريف (النثر الشعري) بقصيدة النثر منذ وقت مبكر، وقد حاول الكاتب إعطاء ضوابط لهذه القصيدة من خلال تأكيده على خصائصها المعروفة كالإيجاز والكثافة والمجانية والتناقض والتكرار، ثم حاول التمييز بين النثر الشعري وبين قصيدة النثر ، من حيث علاقته بالسيرة الذاتية والرواية والسرديات الأخرى، كالخاطرة والكتابات المكثفة القريبة من الشعر، وهو ما دعاه حسين مردان بالنثر المركز، هذا فضلاً عن التعليقات والتوقيعات واليوميات.
كان بودلير هو المؤسس الأكثر حضوراً في تسويق ونجاح حركة قصيدة النثر من خلال
الإيقاع التعزيمي الذي يتولد على موجات متعاقبة التي يعرفها، فهو يستخدم الوسائل التي يعرفها النثر جيداً حينما يشاء تقديم نموذج شعري لرغبة في أن يكون غنائياً [قراءة في قصيدة النثر: ميشيل ساندرا، ترجمة د. زهير مجيد مغامس، دار المأمون للترجمة والنشر، بغداد 2012م/ص39].
وثمة مقاربات بين قصيدة النثر والحكاية الخرافية(الحكاية بشكل خاص)، في استخدام حكاية المثل والحِكمة والتسلية والاثارة والسخرية(المفارقة)، واستخدام البياضات والفراغات والتقطيع والتشكيل ورسم اللوحة، والتقطيع بطريقة الكتاب المقدس(التوراة) في استخدام الفواصل(الآيات) حيث الإيقاع الكتابي والمضموني والايجاز والجمال والقداسة المضمرة.
وفي كل هذا وذاك يبقى تعريف قصيدة النثر هماً كبيراً لدى الباحث، فيحاول استنباطه من طبيعة النصوص وحركتها وتحولاتها النصية ورغبتها في التفرد مشيراً الى أنه" يتوجب تمييز البنى الشكلية للقصيدة والكتابة الشعرية".[ص55] لاعتقاده بأن الكتابة الشعرية "تفترض مشروعاً شعرياً ،وسعياً لإيجاد الدال (البحث عن صور وايقاعات ،وأشكال بلاغية)الذي يستخدم تأثيرات التكرار، وقيمة معطاة للكلمة على حساب الموضوع الذي يشير اليه"؛[ص55] مما يرجح لديه ولـ(جاكوبسن)أن قصيدة النثر يمكن أن تكتب بالنثر الشعري أولاً، ولكنها ليست قصيدة النثر لهذا السبب، فضلاً عن التوازي وتقاطعات الصوت والمعنى ،وربط جميع مستويات المعنى باللعب على مختلف المعاني، وبناء معدلات أو مماثلات ،وهنا يخدم الايجاز بشكل أفضل كثافة لوازم الأداء لجعل وحدة التأثير وكليته مرئية بسرعة. وانها يجب أن تكون قابلة للقراءة وان كانت علاقتها بالسرد والوصف او الاخلاق دافعاً للاستجابة للشروط، ثم توصل الى حقيقة مفادها أنها نص يتبنى تبرير النثر. والى هنا ونحن غارقون في تعريف وتناقضات قصيدة النثر ،وهل هي سردية أو شعرية؟
-2-
من حيث تاريخها يعتقد الباحث انها من بنات" أفكار القرن التاسع عشر . ولكنها ما كانت لترى النور لو لم يتم طرحها بصورة مستفيضة طوال القرن الثامن عشر ،ولو لم يتم الاعتراف بإمكانية الشعر بالنثر".[ص61] وتعد الملحمة أو الشعر الملحمي والمترجم والشعر الغنائي من روافد تأصيلاتها ومما يجسد هيبة الخيال في النثر، لتأكيد القرابة مع الملحمة،لأن النثر يحتوي" تزويقات شعرية تقليدية وبصمات عروضية"؛[ص71] مما أدى الى زعزعة الحدود بين الأجناس المختلفة كالرواية والشعر والمقالة والسيرة الذاتية، بحيث يمكن التعبير الشعري بالنثر، بشكل يوحي بأن قصيدة النثر لم تكن ابتكاراً بالمعنى الكامل، وانما كان للحركة السريالية أثرها في اختراق هذه الفوضى ،من خلال نماذج مختارة ومعروفة بين عامي (1820-1855م)؛ فكانت قصائد مثل(كاسبار الليل) التي كتبها (بيرتران 1807-1841م)، وهو شاعر كيمياوي له بحث عابث عن الشيطان، وكلمة(الليل) هنا لا تعني الليل – حسب اعتقادي – وانما تعني الشيطانة (ليليث) التي شاع اسمها لدى شعراء الغزل العذري تحت اسم (ليلى) وهي مرتبطة بالشياطين والجنون والأساطير العراقية القديمة، والغرائبية في علاقتها بالابتكار والمشاكسة مع قصيدة النثر، و(ليليث) جمعها (ليليات) وقد وصفت بأنها ملكة الليل ،وانها شيطانة مادامت لها سمات الآلهة من حيث ارتدائها غطاء الرأس المقرن، وأرجلها مثل أقدام الطير فهي كالعفاريت ،ويعني اسم (ليليث) صوت(البوم) أو (الهامة) عند العرب، و قد تنبأ النبي(أشعيا) بأن أرض الروم ستصبح قفراً ،وأنها هي زوجة آدم الأولى لكنها طارت بعيداً عنه بعد شجار يتعلق بالجنس من جهة وأراد آدم أن تكون السلطة والقرار بيده من جهة أخرى ، فرفضت بإصرار ومنذ ذلك الحين أصبحت خطراً على الأطفال.[ص87-88/ الالهة ليليث ملكة الليل، دراسة أثرية عن آلهة العالم السفلي: د. صلاح رشيد الصالحي، بيت الحكمة ،بغداد،2012م]. وهذا ما يشير الى علاقة (ليليث) بالليل والأساطير السومرية والأدب العبري المتأثر بها، حيث يجتمع الفنتازي/الغرائبي بالليل والتصوير، من أجل انتاج قصيدة النثر ،والتي تعني فيما تعنيه بأنها قصبة الشيطان(الجن)؛ فضلاً عن الجوانب الفنية والتشكيلية كعلامات الترقيم وتقطيع الكلمات وكتابة الحروف واستخدام أسلوب المفارقة في رسم وترتيب الكلمات، ومضامينها لتصبح قصيدة النثر لدى(فورنريه) مجرد "حكاية أخلاقية تهكمية".[ص79]
ومن خلال شخصية (ليليث) كتب بودلير (1821-1867م) ومنذ عام 1857م حيث جرى نشر ديوان (أزهار الشر)،ومن بينها ستة نصوص تحت عنوان (قصائد ليلية) وهي بالأحرى (قصائد ليليث) أو (قصائد الشيطانة ليليث)؛ وقد حصل نوع من الوهم في ترجمة ليليث الى الليل مع أنها بدت محلقة بالأحلام والرؤى والوحي الشيطاني المتدفق، ومن هنا عدَّ بودلير قطعه تلك بأنها ذات(فتنازيا ملتوية) كـ(أجزاء الأفعى) لعلاقة الأفعى بالشياطين والجن، معترفاً بقراءة (كاسبار الليل)أو (كاسبار الشيطان) أو بالأحرى(كاسبار ليليث)؛ مشيراً الى الصورة السادية للأفعى المُقطعة، في إشارة الى التنافر والاعتباطية والتكرار غير المنظم والموسيقى العابثة. بحيث ارتبطت قصيدة النثر بملمس الأفعى الناعم ، لكي تعبر عن هلامية المشهد وطبيعة الظروف التي نشأت فيها حتى وفاة بودلير عام 1867م، حيث دخلت قصيدة النثر عصرها الذهبي للسنوات(1869-1898م) لتصبح جنساً أدبياً معترفاً به وتؤكد من جديد ضرورة تحرير الشعر من قيوده وابتكار الشعر الحر في أوربا، وبالذات في فرنسا بشكل خاص.
-3-
بدأت قصيدة النثر بمثابة صرعة كاسحة نحو الحداثة غير المنضبطة تشبه (الموظة) في الأزياء، وكان بودلير قد وضع لها حجرها الأساس، ثم جرى تطويرها ومواكبتها من قبل مشاهير كتابها بعد ذلك، ففي عام 1884م أثنى (هويسمانس) في رواية له ثناءً كبيراً على قصيدة النثر، وبعد عام 1886م فرضت نفسها تدريجياً بوصفها جنساً أدبياً ،وصارت مادة للصحافة، فتداخلت كتابتها مع القصة القصيرة والرواية القصيرة والمنوعات والكتابات النثرية ،وذلك تحت عنوان (نثر رثائي)، أو (نثر مُسّجع)أو (استعارة)أو (سكيجات قصيرة) وربما انطباعات ،ثم برز على السطح مصطلح(نثر موجز) وصار لقصيدة النثر موضوعات تشكيلية وتقنيات تأطير للموضوع، تحت باب(اللازمة)أو(التكرار) انسجاماً مع الحركة الرمزية الفرنسية والرواية القصيرة، وربما كان ذلك بتأثير الشعر الديني والغنائي، مثل الشعر العبراني المرتبط بالتوراة، وهو بالأساس متأثر بالشعر السومري؛ ومما لا شك فيه أنه كان للكهنة اليهود الدور الأساس في تدوين الأسفار التوراتية التي كتبت باللغة العبرية المعروفة بآرامية التوراة ،وانه كانت لهم معرفة واسعة بالنصوص السومرية والبابلية. وعلى هذا النحو كان الأسر البابلي فرصة ثمينة لرجال الدين اليهود مكنتهم من الاطلاع مباشرة على الوثائق المسمارية المدونة بالسومرية وبالبابلية والخاصة بخلق الكون والانسان والحياة والموت والثواب والعقاب ،وغيرها من المعتقدات وشعائر العبادة وطقوسها والمفاهيم والقيم الاجتماعية السائدة في بلاد بابل.[ من ألواح سومر الى التوراة : د. فاضل عبد الواحد علي، دار سينا للنشر – دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد 1989م/ ص 192]
كما كان من المميزات العامة لأشهر النصوص الأدبية في العراق القديم ، مثل ملحمة جلجامش وأسطورة الخليقة، هو ظاهرة التكرار والاعادة مما يبعث السأم والملل لدى القارئ الحديث، مع وجود ضرب من المناظرات والمفاخرات؛ وهي بالأساس ضرب من التراتيل والمدائح التي كانت تنظم لمدح الملوك والحكام ،وهناك ضرب أقرب الى الشعر يسمى بالسومرية (سر – نام- سبادا) أو أغاني الـ(الكالا)،ويعني ترانيم الرعاة للالهة أنانا..[ مقدمة في أدب العراق القديم: طه باقر، دار الحرية للطباعة ،بغداد،1396هـ/ 1976م/ ص 45، 49]
ولأن قصيدة النثر كانت عصارة لأدب مرحلة ما ،وقصائدها تشبه قصائد (التسبيحة) أو (التعزيمة الحزينة) حتى قيل أنها (رواية مركزة في بضعة سطور)، تشبه الى حدّ ما (عصارة وزيت، عطر وأريج) على أساس أنها عصارة مركزة ومختزلة في قطرة واحدة لتأثير الاشراقات الصوفية/الشرقية على قصيدة النثر ، ثم ظهر الشعر (الحّلقي)أو (الدائري)؛ ولربما (الحَلقي نسبة الى حلقة الشرج) لاقترانها بالشذوذ، والتي جرى تفسيرها بوصفها "الاستعادة المنتظمة في النص لجملة ما أو لفترة ما".[ص107] وان كان (جيل رونار) كتب (قصص طبيعية) عام 1896م، ولكنه لا يستعير من قصيدة النثر غير هذه الصيغة الشكلية وكذلك البناء المقطعي، ولا سيما سان – بول عام 1901م،ثم دخلت الأشكال الغنائية في الرواية ومذكرات الرحالة والسيرة الذاتية ، ثم تلتها المدرسة الرمزية والسريالية وهنري ميشو، عبر اتهام مزدوج موجه لإشراقات رامبو في "كونها غير منتظمة وذات بريق زائف"، فهي تتخذ بعض الأحيان "صورة حكاية ذات مغزى أخلاقي ،ولكنها تظل، في الغالب ،معلقة في الفراغ".[ص112] أي من دون جذور وتأصيل سوى الشعر العبراني المتأثر بالأدب السومري ،بحيث تبدو (ليليث) هي الشيطانة/الأفعى هي الملهمة ،ولكن السرياليين أبعدوا مفهوم (قصيدة) لتنوع المواد القابلة للدخول في الصياغة الشعرية ، مثل(جمل إعلانات)،و(أمثال)،و(عنوانات الصحف المقصوصة)،و(الألعاب اللغوية)،و(بقايا الأحلام) وبعض الشفاهيات المفترضة؛ ومن هنا يمكن الافتراض أن قصيدة النثر جنس مزدوج(خنثوي) فقد ذكورته وصار يستدرج العوامل الانثوية نحوه ،لكي يتجاوز (تخثرها) ، كما هو الحال لدى هنري ميشو، وسان – جون بيرس الذي صار يستدعي نقيضها ويثني على الترانيم والتوزيع الطباعي بغية الغاء الفروق بين النثر والشعر لمصلحة الأخير؛ بينما كان رونيه شار(1907-1988م) يكتب (القصيدة المسحوقة) منذ عام 1947م، في قصائد شعرية وشعر مكتوب بالنثر، وهي قصائد نثر متراصة ومجزأة في عدة فقرات وحِكم. في وقت كان فيه اختلال الشعر يضاعف الحركات المفاجئة والتوترات التي "تحقق كثافة قصيدة النثر نوعاً من التخثر".[ص123]
ثم تطور الانفتاح على متغيرات الحداثة فيما بعد ، فكانت الهجنة والاختلاط في المشهد ،وخلط الأجناس ،وبالذات خلط الشعر بالنثر، وفي الأدب العربي ولدت من خلال التأثر بالترجمات الحديثة في عودة من نصوص سومر الى وفينيقيا وبابل، فصدرت مجلتا(حوار)،و(شعر)، كما في كتابات عبدالقادر الجنابي والأجيال للاحقة منذ جيل الستينات في العراق والوطن العربي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. محمود رشاد مخرج -أم الدنيا-: الفنانة سوسن بدر مدرسة كبيرة في


.. محمد صابر عرب كان وزير ثقافة في أربع حكومات.. ولكن هل كان مح




.. أعظم لقطات السينما المصرية صورها سعيد الشيمي ??


.. إزاي تصور جوه الأتوبيس بكاميرا سينما.. مهمة مش سهلة خالص ??




.. كل الزوايا -ليلة في حب سيدة المسرح العربي .. تكريم الفنانة س