الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مغامرات اللغة أو الماوراء الشعري  قراءة في بعض قصائد الشاعرة سنيا الفرجاني (6)

محمد العرجوني
كاتب

(Mohammed El Arjouni)

2023 / 8 / 10
الادب والفن


الحلقة السادسة:

كتبت القصيدة الأخيرة
ومتّ.
لم أقرأها،
لم أراجع سطرا واحدا
ولو شهيقا،
كان زفيري كافيا لأسدل الصوف الأبيض على وجهي
وأغادر.
الملائكة الحزينة على الجانبين
لاتسجّل،
خيالها قاصر
ومفاتيحها لاتصلح لأبوابي.
أخرج من غرفتي، وأنجز كل عادات النهار
ثم أقرأ سطرا من كتاب الغول.
لقد متّ أيها اليوم
خلقتُ القصيدة الأخيرة في سويقات عشبي
ثم رميت الخضرة للراعي.
لا أعثر على شيء
أتعثرّ بعظامي
فتمسكني اللغة كسور منخفض
أرى العالم هابطا
وأرى شعرها الطويل.
لا أتسلق
لا أحلّق
أكتفي باللون الضئيل
ثم أعود وحدي لأجمع الأقفال.

(القصيدة من ديوان ليس للأرض باب وسأفتحه صفحة 19)




الإنسان كائن حالم. كباقي الكائنات. وقد تكون الأحلام كوابيس. الأحلام تؤثث النوم. لكن هناك أحلام اليقظة أيضا. الفرق بينهما وهو أن أحلام النوم تمر كالأحداث التي نكون في صلب مجراها وكأنها واقعية. نعيشها بكل جوارحنا، بكل افراحنا ومخاوفنا، أما أحلام اليقظة فهي تشبه الخيال لأنها ناتجة عن التمني ولا نعيشها كالواقع، بل هو واقع نتمناه. وحينما نريد أن نحكي حلم النوم فإننا نجد صعوبة كبيرة لأن منطقه لا يتماشى مع منطق اللغة المتداول حسب الواقع وليس حسب الحلم. لهذا تعجز اللغة عن فك سحر الحلم. أما بالنسبة لحلم اليقظة فإنه بإمكاننا التعبير عنه لأنه يدخل كما قلنا في خانة التمني.
بعد هذه التوطئة، كيف نقرأ نص الشاعرة سونيا : كتبت القصيدة الأخيرة ومت؟
هل تدخل في كتابة الحلم المرتبط بالنوم أم في كتابة التمني؟
يبدو في أول وهلة بأن حلم اليقظة غير وارد، بمعنى أن القصيدة لا تعبر عن تمن معين. لكن هل نحن أمام حلم النوم؟
فهمنا أن كتابة (حكاية) الحلم قد تكون مستحيلة لأن للحلم منطقه الغريب الذي لا يلتقي ومنطق اللغة كما سبق الذكر. لكن النص أمامنا يحكي بمنطق الحلم، أي يخرج عن منطق اللغة المتداول، والدليل كل الصور الشعرية المتتالية والمتوالدة بإتقان مبهر:
"كتبت القصيدة الأخيرة ومت"
كان زفيري كافيا لأسدل الصوف الأبيض على وجهي واغادر
الملائكة الحزينة على الجانبين
إلخ....
فالنص كله صور في سرد متقن ينتعش بأحداث غرائبية رفقة شخصيات من عالم الماوراء. عالم حيث منطق اللغة ومنطق الواقع لا يسمح لميت أن يحدثنا عما قام به قبل موته، لأنه أصبح في تعداد اللاوجود.
لكن بمنطق الحلم، يصبح ذلك ممكنا. فهل نحن أمام حكاية حدثت في الحلم، ثم استعادتها الشاعرة عند اليقظة وقامت بحكايتها بطريقة فنية تجعل من الحكاية واقعا لأنها حذفت ما يمكن قوله : كنت نائمة وحلمت...؟ لكن هذا تأويلنا المنطقي. قد ترد علينا الشاعرة بأنها لم تحلم ذلك أبدا وإنما رأته وهي يقظة. كيف يمكن تفسير ذلك؟ التخيل هو الحل. فمخيال الشاعرة قوي ومدرب. وبفضل هذه الدربة أصبحت اللغة تسعفها وتخرج عن منطقها الواقعي البئيس لهذا تخلق الدهشة لدى المتلقي الذي يبحث عن تلك الفجوة أو الكوة في اللغة ليستريح من منطق واقعي ممل. لكن بالمقابل قد تخلق الغضب لدى المتلقي الذي يؤمن بمنطق اللغة الواقعي بشكل يكاد يكون مقدسا ولا يستسيغ حكاية الميت، وإنما الحي هو الذي يحكي وله سلطة الحكي على الميت.
بين هذين المتلقين، نجد أنفسنا مجبرين على الحديث عما أسموه الشعراء السرياليين بحالة hypnagogie أي حينما يكون الشخص /الشاعر بين الغفوة واليقظة. هذه الحالة هي التي تفسر لنا تدفق الصور لدى الشاعرة. لكن هذا لا يعني أن الشاعرة تنتمي لمدرسة السريالية. فلا أريد السقوط فيما ذهب إليه نقادنا الأوائل حيث أسقطوا كل المدارس الغربية على الشعر العربي بطريقة عمياء. فتلك مسألة أخرى. لكن حينما نتحدث عن حالة الغفوة واليقظة، فهي حالة إنسانية، طبيعية ولهذا السبب لجأ إليها السرياليون بعد صدمتهم امام ما توصل إليه العقل والعلم حيث زرعا الرعب في الإنسان من خلال أحداث الحروب وخاصة الحرب العالمية الأولى. فاحس الشعراء بأن العقل ما هو إلا نفاق خاصة حينما يتدخل في شؤون المجتمع فاعتبروا أن كل الكتابات الواقعية ما هي إلا تدليس لهذا وجدوا ضالتهم في علم النفس واعتبروا أن الصدق مدسوس في "الهو". ولاستخراجه لابد من "تنويم" للعقل والقبض على الصدق بالكتابة الاوتوماتيكية التي تكون اثناء حالة "الغفوة/اليقظة.
هكذا إذن رجع الشعراء السرياليون إلى الحالة الإنسانية الطبيعية، وهي حالة شعرائنا مثل سونيا.
نص يغري إذن القارئ ليكتشف سر "كيمياء اللغة" و عبقرية الشاعرة/الساحرة في تفننها داخل مختبرها الماورائي.
من هنا يمكن لآكلي المعاني sensivores أن ينطلقوا لتوليد ما لذ وطاب من أطباق المعاني. فالنص خاضع لجل المقاربات النقدية. قد نقاربه بنيويا ونفسيا وقد نقاربه سيميولوجيا

أقود شوقي إليك
من عُنُقه يتدلّى
إلى عنقود حزين تحت الدالية أسقطته الريح.
أرميه كنهاية عام
وألهث
حتّى يوجعني ثِقَلُ
رأسي.
غيابك الأصفر
ضيّق كسنة كبيسة
وممتدّ
كعويل.
غيابك أسابيع لا عُطَل َفيها.
غيابك
عَطَلٌ
غيابك عطبٌ في شفة الإمام
إذ رفع صلاة العيد...
فلم يطلع صوته.
(القصيدة :العنقود، من ديوان ليس للأرض باب وسأفتحه ص. 65)

قراءة في قصيدة العنقود
نص مغري. إغراء يقودنا إلى مقاربته أسلوبيا. وبطبيعة الحال، بما انه ذو وظيفة شعرية، فسوف نهتم أكثر بما يحمله من أحاسيس، تخترقه بكل ما تفانت اللغة من أجله وهي تحت سطوة شاعرة تبدع على كل المستويات الأسلوبية، من مصطلحات وتراكيب وانزياحات مرورا بالأصوات اللغوية (الفونيمات). علما أن للجانب السردي أيضا نصيبه. إلا أن السرد هنا في خدمة الوظيفة الشعرية، لأنه دون غاية حكي، ولا ننتظر منه قفلة تنهي حكاية ما.
أول ما يثيرانتباهنا ونحن في بداية النص هو هذا التركيز على صوت وكأنه منبه فعلا مادام يحيلنا على أجراس كتلك التي تعلق وتتدلى بأعناق قطيع ما، فنسمع صوتها بفضل "فونيم" "ق" الذي تعمدته الشاعرة عن وعي وهي تشتغل على اللغة، أو ربما جاء بشكل اعتباطي أثناء لحظة امتزجت فيها اليقظة والغفوة لدى الشاعرة، كما انتبه إليها السرياليون في بحثهم عن التعبير المتحرر من قيود "الأنا". وهكذا نسمع رنات الأجراس ونحن نقرأ:
أقود شوقي إليك
من عُنُقه يتدلّى
إلى عنقود حزين تحت الدالية أسقطته الريح.
فحضور فعل "أقود"، غالبا ما يصطلح على اقتياد شخص أو بالأحرى قطيع حيوان كما قد نتخيله هنا، وغالبا أيضا ما يكون الاقتياد بالشد على "العنق"، فنستحضر أيضا جلبة أصوات الأجراس من خلال ترداد "ق" في "الشوق" و "العنق" و "العنقود" و "أسقطته الريح". كما يبدو أن كل الظروف الطبيعية اجتمعت لتؤكد على الدلالة السطحية التي تحدثنا عنها. لكن الدلالة المضمرة بصور شعرية قوية ومدهشة، والتي تتطابق مع ما استنتجناه بكل بداهة، تذكرنا بأن الأمر يتعلق بإحساس، وهو الشوق، وليس القطيع. فإذا كان الشوق يشبه القطيع بسبب رنات" ق"، فلأنه "شوق كثير وكبير "، ويصبح الشوق قطيعا. وإذا نهجنا طريق القطيع فإن كل العلامات تؤكد ذلك خاصة كما قلنا ترداد الفونيم "ق" ثم سقوط عنقود دالية نتيجة نضجه ليكون في متناول القطيع الجائع "شوقا" ليقتات منه لما له من رمزية في الثمالة. ثمالة لقاء بعد "شوق تدلى من عنقه" وحزنه أيضا من كثرة الانتظار/ الغياب. وهكذا يصبح فونيم "ق" تعبيرا أيضا عن عمق الشوق المدسوس في الأعماق، مادام هذا الفونيم ينطق في الحلق ويصعد من الأعماق والأحشاء، لتصبح القصيدة عضوية بامتياز. أما السقوط، فليس إلا احتواء وصعود بثمالة الشوق. لكن سرعان ما تذكرنا الشاعرة على أن ذلك حلم. فنسترجع كلمات "تدلى، حزين، أسقطته الريح"، خاصة حينما نصطدم ب:
أرميه كنهاية عام
وألهث
حتّى يوجعني ثِقَلُ
رأسي.
فنجد أنفسنا أمام خطاب "واقعي" حيث فكرة الاستغناء حاضرة بقوة، لأننا لا نرمي إلا ما لم تعد لنا به أو فيه مصلحة، وخاصة حينما نشبه هذا الرمي بنهاية العام. أي استغناء نهائي بدون رجعة. إلا أن عملية اللهاث تجعلنا نشك في ذلك. فاللهاث غالبا ما يكون نتيجة للجري وراء الشيء أو نتيجة للتعطش للشيء. فهل يتعلق الأمر بالهروب بعد الرمي أو ملاحقة هذا الشوق بعد الندم ؟
أعتقد أن الجواب نجده فيما نقرأ :
غيابك الأصفر
ضيّق كسنة كبيسة
وممتدّ
كعويل.
غيابك أسابيع لا عُطَل َفيها.
غيابك
عَطَلٌ
غيابك عطبٌ في شفة الإمام
إذ رفع صلاة العيد...
فلم يطلع صوته.
فهذا الغياب الذي يتكرر ليصبح محور الألم الذي ينتج حوله صورا وكأن الشاعرة تحت طاحونته التي تدور لكثرتها. فالغياب أصفر وضيق (والضيق يشبه سنة كبيسة) وممتدّ (كعويل). والغياب أسابيع بدون عطل. ثم نلمس رغبة إشتغال الحروف فيقع انزلاق سلس فتصبح العطل عطبٌ. وليس اي عطب. عطب يحدث في سياق مقدس. عطب في شفة الإمام حيث يمنعه عن رفع صوته وهو يرفع صلاة العيد. هكذا تشتغل طاحونة الغياب المتسبب في الشوق. هكذا يتم الدوران. دوران محركه الشوق. دوران محركه العنقود/الثمالة المرموز إليها بالدالية. دوران محركه الغياب. كأنه دوران درويش ينتظر الإقلاع نحو الماوراء...
حاولت إذن أن أقارب النص أسلوبيا ولسانيا، كما حدثني وأنا أتفاعل معه. وبطبيعة الحال تبقى هذه المقاربة ذاتية وليس هدفها إغلاق الباب أمام محاولات أخرى قد تؤدي من جهتها إلى رؤية أخرى لتفتح شهية المتلقين وتحفز على تفاعلات متعددة...

(يتبع)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غير محظوظ لو شاهدت واحدا من هذه الأفلام #الصباح_مع_مها


.. أخرهم نيللي وهشام.. موجة انفصال أشهر ثنائيات تلاحق الوسط الف




.. فيلم #رفعت_عيني_للسما مش الهدف منه فيلم هو تحقيق لحلم? إحساس


.. الفيلم ده وصل أهم رسالة في الدنيا? رأي منى الشاذلي لأبطال في




.. في عيدها الـ 90 .. قصة أول يوم في تاريخ الإذاعة المصرية ب