الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سَفَر على بساط الفِكْر في مملكة سليمان (ع): قراءة في رواية (أنطاكية وملوك الخفاء) للأديبة لينا هويان الحسن

أسماء غريب

2023 / 8 / 10
الادب والفن


كم من السّنوات نحتاج حتّى يظهر على الأرض روائيٌّ ما، يستحقُّ منّا أن نُطلقَ عليه اسم "الأديب المبدع الخلّاق"؟ سنة واحدة، عشرين، مئة أو ألفَ سنة؟ لا، لا، يا عزيزي القارئ، ليس بالعشرين ولا حتّى بالمئة أو الألف يقاسُ عمر روائيٍّ ما، بل ببلايين السّنين. إنّه قطعة من المَاسِ النّادر، قبل أن يشتعلَ ويتوهَّجَ لا بدّ له من الاحتراقات في كهوف الطّبيعة وجبالها الشّامخة، بل لا بدّ له من التّأكسد والتفحُّم ليذوق التّجاربَ كلّها، تحتَ الرّيح والمطر، وتحتَ الحرّ والقرّ علّه يصبح بذاك النّقاء والصّفاء وبتلك الفتنة الّتي تُذهب ألباب الباحثين عن الأحجار الثّمينة. لذا، فالرّوايات على كثرتها في السّوقيْن الرّقميّة والورقيّة، إلّا أنّ الرّوائيّين الأحقّاء في العالم يعدّون على رؤوس الأصابع. ولا تغرّنّكَ الأسماء الرنّانة التي تتداولها وسائل الإعلام كلّ يوم، ولا تلك العبارات الفضفاضة المفخّخة من قبيل (الأكثر مبيعا في المكتبات، والأكثر قراءة بين المثقّفين)، كلّ هذا حِيَل تجاريّة ماركوتينغيّة واستثماريّة محضة لا أقلّ ولا أكثر، وإنّما عن الأصيل المُختلف ابحثْ، وعطِّرِ العتبات ليأتيَ للقائكَ هذا المُختلفُ ويُصلحَ بأبجديّته قلبكَ الخرب بالخمرة الحروفيّة الفاسدة! أقول هذا وبين يديّ رواية (أنطاكية وملوك الخفاء)، للأديبة لينا هويان الحسن، وأتساءل من أينَ أتت هذه المكلّلة بالبهاء؟ تصمتُ الصّفحاتُ ويُخبرني قلبي بأنّني عليّ أن أهتف بصوتٍ عالٍ وأقول: أيّةُ كينونة هذه الّتي تكتبُ لنا الرّوايات الهويانيّة؟ وأجدُ الجواب في أوّل صفحة من صفحات الرّواية: ((لأنّه بالحُبِّ ينبغي البدء)) (1). ومِن هذه العبارة المُقتضبة جدّاً، أيقنتُ بأنّ لينا وهي تكتبُ رواياتها تختفي تمامًا، وتبقى الرّوح الكونيّة العليا هي النّاطقة في كلّ أعمالها!
هل تعلمُ ما معنى عبارة ((لأنّه بالحبّ ينبغي البدء))؟! لا أحد قالها ولا أحد يقولها وسيقولها سوى الخالق، لا بمعناه الإلهيّ الدّينيّ الرّسميّ، ولكن بمعناه العرفانيّ المتوهّج في قلوب أهل المحبّة، أوَلَيْسَ هُو من قال: ((فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ.)) (2)؟! وما هذه الكلمة إذا لم تكن الحُبَّ؟ وما هذا الحُبّ إذا لم يكنِ الله؟ هذه هي بصمة لينا التي تُثبتُ أنّ روحها العليا هي النّاطقُ الملكيُّ الرّاسخُ في كتاباتها. وهذا هو الجواب الّذي أكّد لي أنّ لينا كروائيّة هي بعمر الكون، وحينما أقول هذا فإنّي أعني أنّها أصيلة، ومتفرّدة، لا تشبه أحداً. والكاتب حينما يكون أصيلاً ولا يُشبه حتّى نفسه، فهذا يعني أنّه بدويّ بالمعنى البدائي البِكْر للكلمة، وكلّ ما هو بِكر، هو بالضّرورة وحشيّ، لا يقبل التّرويض، وكلّ ما لا يُرَوَّضُ يكون جميلاً، مُدهشاً خلّاباً، آسراً وجذّاباً، ولا أعني هنا جمال الشّكل فقط، فهذا تعطيه جيناتُ الوالديْن، وإنّما أعني على وجه التّحديد والتّخصيص جمال الرّوح الّذي لا يعطيكَ إيّاهُ أحد سوى كينونتك الرّوحيّة العميقة. وحينما قلتُ إنّني لم أجد لينا في روايتها هذه، فإنّي كنتُ أقصدُ أنّها من النّوع الّذي بلغَ مرحلة الفناء، فاستحقّت صفة الإبداع الخلّاق، وذلك لأنّها حينما تكتبُ يتغيّرُ العالم؛ وحينما تنفلتُ ملوك دوائرها الإبداعيّة في عالم الرّوح، تطرق أبواب القرّاء باباً باباً، ومن تجد عنده الاستعداد والتّرحيب، تهبه بركاتها، وتخاطبه بحرف المحبّة مفردة جناحيها لتحمله إلى الأعالي على صهوة العشق والخيال الصّافي الزّلال!
أن تفنى لينا يعني أن تكون مسربلة بحالة من الاندهاش وهي أمام بياض الورق، بل بحالة من النّسيان والغياب، فهي تنسى أنّها كاتبة، وتنسى أنّ هناك مهارات وتقنيات عليها أن تتمسّك بها وهي تنسج بيتها الرّوائيّ، وتتركُ نفسها حرّة بين يدي روحها الخلّاقة تفعلُ بها ما تشاء، وتأخذها أنّى تريد، وهذا يعني، أنّني في معظم رواياتها لم أجد الرّوائيّة صاحبة التّقنيات والمهارات الكتابيّة فقط، وإنّما وجدتُ الرّوائيّة صاحبة الجنون الحروفيّ الهادر العصيّ على التّعريف أو التأطير. ومن الغُبن والظّلم حصرها في إطار الكتابة "النّسويّة" كأديبة لا تكتب سوى عن قضايا المرأة. ليس لشيء سوى لأنّ لينا الحسن، إنّما تكتبُ حقيقة بروح كونيّة غير جندريّة ليس فيها خصوصيّة للْهُوَ الذّكوريّ أو لِلْهِيَ الأنثويّة، تُحَلّقُ عالياً وقلمُها يُعبّر عن الاختبار الذي يسبق أيّ تعبير نتيجة ما تفتّق من إزهار روحيّ عظيم في قلبها الواعي وليس في فكرها بمعناه الماديّ المحسوس، وشيء طبيعيّ أن تكون ممّن يعلمُ أنّ المعرفة الحقّة ليست ذَكَراً، ولا هي بأنثى، وإنّما هُما معاً، ولا تتقيّد باللغة من حيث هي مجرّد صرف ونحو وبلاغة، وكيف لا، ولينا بين هذا وذاكَ تنصرفُ عن التّفكير المُقيّد وتنحني أمامَ السّرّ السّاكن بين جوانحها، ليتأكّد لكَ ولي بأنّها لا تكتبُ من فكرها، ولا من جسَدِها وإنّما من الوعي الكلّي فيها، وأنا قارئَتُها لستُ فكراً ولا جسداً وإنّما أبعد من كلّ التّقسيمات والخلافات الجندريّة، ولربّما لأجل هذه الخصوصيّة أرى في أعمالها ما قد لا يراهُ غيري، فهناكَ جوهرٌ يكتبُ، ويرى ويشهد ويشاهد، وهذا الوعي قد اختبرَ في حياة لينا الكونيّة جسدَ المرأة وجسد الرّجل، وما ظهورها لنا في هذه الرّحلة الأرضيّة الآنية الجديدة كروائيّة إلّا لحظة من لحظات تجلّيها الكثيرة عبر رحلة حجٍّ طويل قادتها إلى الاقتراب منّا لتروي عطشنا بما يفيض من قلمها من عسل مصفّىً. وإذا كانت لينا تكتبُ بجوهرها، فهذا يعني أن الحبّ فيها هو من يكتب وبهذا تُسجَّلُ لدينا من أجمل الرّوائيّات التي جاد بها الزّمان، لأنّ قلمها مُشْتَعلٌ بكلّ ألوان الطّيف، ويريد أن يُشعل بالنّور والوهج كلّ من وما حوله، وكيف لا تفعل، وقد طرقَ اللهُ بابها، فجذبها إلى عوالمه الجديدة وأدخلها إلى مملكة الخيال، ويا لبداعة ما وجدتْ فيها!
إنّ من يقرأ رواية (أنطاكية وملوك الخفاء)، سيعرفُ عمّاذا أتحدّث، وسيفهم للعمق مملكة الخيال الّتي أتحدّثُ عنها، إنّها مملكةُ سليمان، مملكة الجنّ، وقد دخلتُها ووجدتُ فيها لينا سلطانة مهيبة، والسيّد الهدهد وزير القوّات الجوّية فيها! وإنّي لأعلمُ أنّك بما قدّمتُ لكَ من صفاتٍ تعرفُ الآن من تكون لينا، لكنّكَ مازلتَ لا تعرفُ لليوم من يكون سليمان، ولا السيّد الهدهد! ستقاوم وتناطح عنان السّماء وتقول إنّ سليمان ملك نبيّ وإنّ الهدهد طائره الخاصّ، وأشياء أخرى من قبيل الأفكار التي نشأت وترعرعت عليها إلى أن أصبحت لديك من المسلمّات بسبب التّفاسير المقدّمة للنصوص السّماويّة، لكن مهلاً وتحلَّ معنا هنا يا باركك الله بشيء من الصّبر، ودعني أقلْ لكَ إنّ التّفسير الظّاهر لسليمان وهدهده صحيح ولا غبار عليه، لكنّه غير كافٍ لتفهم روايات لينا، تعالَ إذن لأطلعكَ على العالم الجنّيّ من المفاهيم السليمانيّة. واعلم أيّها الحبيب أن كلمة (الجنّ)، أتت في القرآن الكريم لتدلّ على الأفاعي السريعة الحركة، تذكّر عصا موسى وكيف اهتزّت وكأنها جان. واعلم أنّها تعني أيضاً الملائكة لأنهم مخلوقات حُجبت عنكَ ولا يُمكنك أن تراها بالعين المجرّدة (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) (3)، ولا تنس أيضاً أنّها تعني الجنين في بطن أمّه (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) (4). ضف إلى ذلك أنّها تعني حلول اللّيل، وجنون العقل، والمكان الممتلئ بالأشجار، والناس الغرباء المجهولي الهويّة. وعليه فإنّ كلّ ما خفي واستتر عنكَ فهو جنّ، ولأجل هذا ستجد لينا هويان، قد عنونتْ روايتها بـ"الخفاء" حينما قالت، (أنطاكية وملوك الخفاء)، وقد بات واضحاً الآن أنها تريد بهذا أن تقول: (أنطاكية وملوك الجنّ)، لكن لا يَفوتنّكَ وأنت تقرأ رواية لينا أن تلاحظ معي أنّها حتّى في عتبتها النصيّة هذه توجد قفزة إبستمولوجيّة رهيبة، فهي تقول "مُلوك"، وتعني بها المفهوم الأوغاريتي والإغريقيّ الأوّل للكلمة وكل ما يتعلّقُ بها من مفردات ومصطلحات لا تجدها إلّا في قواميس الآلهة الشّامية والرّافيدينيّة، واليونانيّة طبعاً والرّومانية. وهذا يعني أنّها فكّتْ شيفرة الجنّ في الثقافات القديمة، وتوصّلتْ إلى أنّ ما كان النّاس يلقبونهم بالآلهة، هم في الواقع تلك الكائنات الجنّيّة الغيبيّة الّتي تنحجب عن الجميع، وما ظهروا سوى في الأساطير والحكايات الغرائبيّة القديمة.
وقد تمكّنت لينا من هذه الحقيقة، لأنّها القيّمة على مملكة سليمان، وحينما أقول هذا فإنّي أعني مملكة خيالها، ولكلٍّ مملكةُ سليمانِه الخاصّة به، وقلّة هم أولئك الّذين ينعمون بهبة الفتح السليمانيّ فيها، وذلك لأنّ سليمان هو القلبُ المفكّر، ولأجل هذا يظهر الهُدهد في كتاباتها، "لأنه يجسّدُ روح الإنسان الكونيّ الذي أرسله إليها سليمان، أو ما أحِبُّ أن أطلق عليه اسمَ القلبِ الجامعِ المُستقرِّ في صدر كلِّ إنسان، ولا يهتدي إلى وجوده إلا الخاصّة، وقد حدثَ هذا لأنّ لينا منشغلة بعملِ الفكر، ولها قوّة تخيّليّة تستطيعُ السّفرَ في الزّمن والمكان، وتحتاجُ من حين لآخر إلى ظهور الهدهد ليمنعَها من الإسراف في سفر الخيال، وإعادتِها إلى حضرة العقل بالريّاضة التأريخيّة والتوثيق للماضي لتصبحَ أكثر قدرةً على جمع الحجج والبراهين والصور والوثائق، ليس من أرشيفات التأريخ الوطنيّ والعالمي فقط وإنما من مدينة بدنِها العارفِ الذي هو سبأ جديدةٌ بحروف لا يقوى على تشفيرهَا إلا الرّاسخون في النّاقة والصّحراء، لأنّها مُرْسَلَةٌ من سليمان القلب عبر العقلِ إلى النّفس وبِاسْمِ الذّات" (5).
والهدهد، طائرٌ جنّيّ بامتياز، لا يمكنه أن يعمل إلّا في الخفاء، وهو وزير عسكريّ خيميائيّ بنّاء. المطرقة دائمًا بين يديه، والمعول لا يفارقه، وكيف لا وهو يهدم ويبني باستمرار، ومن يبحثُ عنه في مملكة لينا، فسيجده طائراً لطيفاً جدّاً، تربطه بصديقه الغراب علاقة متينة للغاية، ولمن يسألُ عن الغراب من أين أتى، أقول له؛ لأنّ لينا في روايتها هذه حينما نزلت إلى العوالم السّفلية باقتراح من طائرها الهدهد، كان لا بدّ لها أن يرافقها في رحلتها العجيبة هذه، وزير الشّؤون الدّاخليّة، السيّد الغراب قدّس الله سرّه، وإلّا فكيف لها أن تصمد في حضرة الجنّية تيخا وأختها الملكة عشيرة، والملك الجبّار شام، واللّعوب مسكر العقول الماكر باخوس؟!
من يقرأ رواية لينا سيعرف أنّها راكمت من المعرفة الكثير، ولأنّها تعلمُ جيّداً أنّ المعرفة الّتي لا يكونُ لها فعل الكيمياء داخل حاملها تُصبحُ أكثر خطورة من الجهل نفسه، اختارت منها تلكَ الّتي تتجلّى عبرَ الوصول إلى مستويات الكينونة العالية، فالأمرُ لا يتعلّق بمعرفة قصوى بقدر ماهو مرتبط بجوهر أعلى، والطريقة الحقّة هي أن يكونَ الأديبُ أكثرَ لا أن يعرفَ أكثر، علّه بذلكَ يستطيعُ الوصولَ إلى ما يسمى بالإيمان الأعلى، ويبلغَ سدرة المُنتهى أو المقام المحمود.
التّراكم المعرفيّ معضلة كبرى أمام الأديب، ولا بدّ من تجربة ذوقيّة خالصة، ليكتشف ذلك بنفسه. انظر كيف أنّنا مثلاً وصلنا من التقدّم العلميّ ما لا يخطر على بال بشر، لدرجة أنّنا أصبحنا نتواصل في وقت وجيز جدّاً مع بعضنا بعضًا عبر المكالمات والمراسلات واللقاءات اللّحظية من خلال الكاميرات والهواتف الجوّالة وما إلى ذلك من تطوّرات الذكاء الاصطناعيّ المهولة التي لا حدّ ولا حصر لها. لكنّ العارف الحقّ، يرى في هذه الأشياء كلّها تأخّراً ووبالاً على الإنسان لا تقدّماً. لأنّه يعرف جيّداً أنّ الإنسان نفسه هو الهاتف المحمول الحقّ، وهو مزوّد من خالقه بكلّ ما يحتاجه من طرق للتّواصل التي لا يمكن أن يستوعبها عقل اصطناعيّ مهما كانت قوّته ودقّته. وفي الأدب والنّتاج الثّقافي، تجدُ العارف يسعى إلى اجتراح طريقة خاصّة به تسمح له بالاطّلاع على نتاجات الغير عبر الزّمان والمكان، دون أن ينال منه التّراكم المعرفيُّ شيئاً. وهو يفعل هذا لأنّه يعلم أنّه وهو يقرأ يحدثُ ما يُسمّى بلقاء العقول العليا وتصادمها، ولينا في كتاباتها تلتقي بعقول من نوع خاصّ؛ إنّها ماورائيّة وتقتضي من الأديب أن يكون عقله هو أيضاً من نوع خاصٍّ جدّا جدّاً، أيْ أن يكون من النّوع الّذي له القدرة على النّزول إلى أقبية النّفس العميقة، ومواجهة شياطين العتمات وجنّياتها. ولأنّي أرى لينا صاحبة نور حارق تتعامل مع أرواحٍ فكريّة قلقة جدّاً، ومع نتاج حروفيّ مكتوب بالدّم والعرق والدّخان، وبالطّين والرّيح والنّار والماء. فإنّ السّؤال المطروح هنا هو كيف لها أن تخرج وهي الأديبة العارفة، سليمةً من تجربة اجتراح شخصيّات خطيرة ورهيبة من قبيل دادا، وكيوان، وعوني ومريم الهدهديّة، بل كيف ستُصبح في قابل سنوات حياتها بعد أن تتراكم في دواخلها المعرفة بشتّى أنواعها بما فيها التّاريخيّة والأسطوريّة؟.!
لا بدّ لمن يشتغل بالحرف أن يصاحب الغراب (عليه السلام)، ولا بدّ للأدباء أهل الدّراية العليّة والنّفس النّورانيّة السَّنِيّة أن يدركوا مقام هذا الوليّ العارف باللّه، سيّدنا الغراب قدّسَ الرّحمنُ سرّه. والسّببُ واحدٌ، لا غير: فالأديبُ المفكّرُ الكاتب هو أكثر النّاسِ قربًا من مملكة الخيال، ودخوله إليها في كلّ حينٍ وآن بحكم طبيعة عمله يعرّضه لأخطار عدّة، لا سيما إذا لم يكن مُحَصَّناً ومُرَوْحَناً بالقدر الكافي الّذي يبعده عن مغبّات طريق الكتابة وشرورها. وهذا أمرٌ يُدخلُ أبانا القلبَ السّليمانيّ، المرموز له في كلّ الدّيانات بِاِسْم آدم، في محنةٍ كبيرة فيُصبح قلقاً على مصير ابنيْه هابيل الّذي هو القائم على شؤون الذّات العاقلة مملكة النّورانيات السّامية، وفردوس النّقطة البيضاء الرّاقمة لكلّ ما فيه صلاح هيكل البدن وفلاحه، وقابيل الّذي هو القائم على مملكة الخيال والقوى الوهميّة المرتبطة بعوالم الجنّ الفكريّ الخلّاق وما إليها من دوائر الإبداع والفنون كافّة.
ولأنّ القلب من روح الله ونوره، فإنّك تجده دائماً يدعو ابنيه إلى التقرّب من الحضرة الإلهيّة الكبرى بقرابين الأعمال الصّالحة وفي كثير من الأحيان يحدث أن تُرْفض قرابين قابيل، وتشتعل نيران الحسد فيهبّ لقتل الذّات العاقلة، في حين أنّ هابيل لا يفعل ذلك أبداً ولا يمدّ يده ليغدر بأخيه، لأنّه يعرفُ جيّداً أنّه لا يمكنه أن يعيش بدون مملكة الخيال هذه التي ما من شيء يتعلّق بمعاش الهيكل البدنيّ، إلّا ولا بدّ له أن يمرّ من دوائر قوى الوهم والفنّ والإبداع قبل أن يصبح واقعاً تنتفع منه وبه كلّ قوى النّفس والرّوح.
والأديبُ الّذي يقتلُ فيه قابيلٌ هابيلاً لا بدّ لهُ أنْ ينزل به إلى عوالم النّفس المظلمة، فتجده لا يكتب إلّا عن تلك الدّوائر السّفلية، فيصبح حائراً، لا يعرف ما الذي يفعله بجثّة أخيه هابيل التي تعفّنت فوق ظهره وأصبحت ديدانها وهوامها تسعى في كلّ أرض البدن، وهنا يأتي دور السيّد الغراب، رحمةً ورأفةً من الله به، يساعده على إيجاد ركنٍ تُدفن فيه جثّة العمل الفكريّ العجيب، وهنا ينبعث العقل من جديد، وتتجدّد قوى النّفس ويحدثُ الغُسل الحروفيّ، فينتعشُ الأب آدم القلبِ، ويعود كلّ شيءٍ إلى نورانياته الأولى، وإشراقاته الحروفية وانتصاراته الأدبيّة الجديدة. لذا أقول، لا بدَّ من العناية جدّاً بهذا الغراب، وإذا استطاع الأديب أن يصل به إلى مقام الرّيش الأبيض، فهذا انتصار آخر نحو سموّ العطاء الفكريّ، وصفاء الرّوح الكاتبة والمنشغلة بالحرف، والمرابطة في مدينة العلم.
هل وصلت لينا بغرابها إلى مقام الرّيش الأبيض؟ نعم، وألف نعم، انظر كم من جريمة قتل حدثت بين أبطال روايتها، وكيف أنّ الهدهد وصديقه الغراب كانا دائماً يسعيان إلى إقامة دولة العدل في مملكتها، وردّ الحقوق إلى أصحابها ونصرة المظلومين، فخلقَا لنا معاً شخصية "فَجْر" بكلّ ما فيها من بهاء وروعة، لتكون هي التجسّد الآدميّ الظّاهر لطائر الهدهد نفسه الّذي سيعيد كتابة حكاية آل منجوك (6)، ويجمع شتات الحقائق والأدلة الدّامغة ويعطينا نسخة أصيلة غير تلك التي زوّرها عوني ونشرها في باريس عام 1960 بعنوان (صيّاد أنطاكية) ووقّعَها باِسْم مراد أزدمير أوغلو (7)!
إنّ من سينظر إلى رواية لينا الحسن من الباب التّقليديّ المستهلك عن الجان والمردة والعفاريت، سيحرمُ نفسه من كنوز كثيرة، وسيبقى دنس الفكر يلاحقه حتّى بعد الممات، فلينا حينما تكتب عن العوالم السليمانيّة، فهي لا تفعل ذلكَ من أجل قرّاء غسلَ أهل الدّجل والشّعوذة فكرهم، وغيّبوا عقولهم، وإنّما تفعله من أجل جمهور خاصٍّ جدّاً، يعلمُ جيّداً، ما معنى أن يكون القلبُ هو سليمان، والهدهد هو القوّة المفكّرة فيه، والغراب هو حارس بوابّة عوالم الذّات الجوّانيّة. وهي في هذا الخطّ الّذي انتهجته تذكّرني ببيكاسو، حينما قال له أحدهم: يبدو أنك لا تحسن الرسم سوى هذه الخطوط والألوان المتداخلة، فتناول بيكاسو ريشة وراح يرسم حبة قمح على الأرض فكانت حقيقية إلى درجة أن أحد الديكة حاول التقاطها. انبهر الرجل وقال لبيكاسو: لماذا تصر إذا على تلك الرسوم الغريبة وأنت تجيد الرسم بهذه الطريقة فأجابه بيكاسو ساخرا بهدوء: "في الحقيقة أنا لا أرسم للدجاج". كذلك لينا، لا تكتب للدّجاج، وكلّ من سيقرأ رواياتها عن الجان والعرّافات وأهل التصوّف والعرفان، سيجدُ أنّها تجاوزت زمانها وحلّقت بعيدًا في أفق الكلمة الحرّة الأبيّة، وتعلمُ جيّداً أنّها حينما تختار الجنَّ كقوى غيبيّة تحرّكُ بها أقدار شخصيّاتها، فإنّه لا بدّ لها من انتقاء فضاء زمكانيّ تتوفّر فيه كلّ الشّروط الكافية لاستيعاب ما تمرّره وتصنعه من أفكار، وهذا يعني أنّه لا بدّ من فضاء زراعيّ، وساكنة قرويّة المنبت والتفكير، ثمّ علاقات اجتماعية وأخرى سياسيّة تجمع بين بنيتين وطبقتين تتفاوتان بين الإقطاعيّة، وبين السيّد والتّابع. وكلّ فكر يسعى إلى الاستهزاء بأفعال النّاس قبل فهم الدّوافع الكامنة خلفها هو فكر جامد متكلّس. فالباحث أو الدّارسُ الّذي سيرى مثلاً في تمسّك آل منجوك الإقطاعية بفكرة الأسرة الكبيرة العدد تخلّفاً وجهلاً، هو باحث سطحيّ ولهذا ستجدهُ يسعى جاهداً إلى أنْ يفرضَ في كتاباته نوعًا من "التّوعيّة" لإجبار "الفلّاح" من آل رشدان على الابتعاد بشكل أو بآخر عن نمط العائلة الكثيرة الأبناء والأحفاد، دون أن يسعى إلى فهم هذه الظاهرة الاجتماعيّة قبل إصدار الحكم الأخير عليها، بلْ دون أن يستوعب كيفَ أنّ العائلة القرويّة قديماً كانتْ في الحقيقة عائلة اقتصاديّة بامتياز، وأنّه بقدر ما يكون للفلّاح أبناء ورعايا كُثْرٌ بقدر ما يكون في هذا الأمر مساعدة له على المهامّ الزّراعيّة والرّعوية الكبرى!(8)، وبناء على هذا يصبح نمط العائلة المتعدّدة هو الأكثر ملاءمة للاقتصاد الزّراعيّ لأنّه وحدة يتعاون أفرادُها على إنتاج الخيرات، ورجل المدينة الباحث أو المفكّر والّذي عادة ما يعيش في نمط عائليّ مختلف ملزمٌ بأن يقومَ بمجهود فكريّ خاصّ من أجل استيعاب وفهم اختيارات الأسرة القرويّة. الشيّء نفسه عليكَ أن تقوم به أيّها القارئ العزيز لتفهم كيف اختارت لينا لنا مريم الهدهديّة، كقيّمة على ما أسمّيه بنوع من محاكم الجنّ التي يلجأ إليها الجميع من أجل حلّ مشاكلهم الغيبيّة، سواء تعلّقت بزواج أو طلاق، أو مرض، أو عقم أو ما إلى ذلك من قبيل هذه الأمور. عليك أن تتساءل أوّلاً أين تظهر هذه المحاكم ولماذا هي بالضّبط خاصّة بالجنّ، على الرّغم من أنّ مريم الهدهديّة هي صابئيّة، أي تعتقد بالملائكة؟!
اعلم أيّها القارئ أنّ معظم هذه المحاكم يظهر في الأماكن الّتي يسود فيها النّظام الفلاحيّ، أيْ في القرى والجبال الوعرة والمناطق النّائية والبعيدة عن المدن، وهذا يعني أنّها مرتبطة بالأنشطة الفلاحيّة من زراعة وجني وحصاد وإنتاج للألبان والخمور واستخراج وعصر للزّيوت وما شابه ذلكَ، وكذا باحتفالات وأعياد القُرى من زواج وختان وعقيقة ومعمدانيّة ومواسم دينية وما إليها، وهي كلّها أنشطة تقتضي نوعا خاصّاً من الممارسات الطّقوسيّة المتجلّية في ظهور الذّبائح والرّقصات والزّينة والهدايا؛ ((نقدّمُ لهُم القرابين رجاء رضاهم...ونخاف غضبهم، غضب يزلزل كياننا ويعبثُ بحياتنا...لا أحد يستطيع خداعهم، أشد ما يثير غضبهم هو "النسيان". لذلك يحضرون أمام كلّ عقدة تعترض حياتنا، أفراداً أو جماعة.)) (9)، أمّا وأنّك تسأل عن دورِ الجنّ في كلّ هذا؟ فأقول لكَ؛ الجنُّ هو حلقة الوصل الّتي تصلُ الطّقسَ الدّينيّ بالطّقس السّياسيّ، والذّبائح المقدّمة تنتقل من الفرد إلى الجماعة السّياسيّة، أيْ من المحكوم إلى الحَاكِم، وهنا تكمن اللّعبة الحقيقيّة التي تلعبها بذكاء شديد هذه الأنواع من المحاكم، والمرموز لها في رواية لينا الحسن بمجلس مريم الهدهديّة. لكن دعنا نفهم أوّلاً معنى محكمة الجنّ؟
في عوالمِ الجنِّ ليستِ النّفسُ كالرّوح، فالنّفسُ هي الّتي تتزوّج أمّا الرّوحُ فلا، وهي جزء من نفخة آدم، ممّا يعني أنّ الخالقَ سبحانه وتعالى نفخ في آدم من روحه، وكلّ النّاس جزء من نفخَتِهِ هذه. وعليه فآدم روحٌ انبثقت منها الأرواح ورُكّبتْ في الأجسامِ فتوالدت الأنفسُ. والرّوح لا يكونُ منها جزء فاسد وآخر صالح، لأجل هذا تجِدُ الطّيّبين للطيّبات والخبيثين للخبيثات، وهذا يعني أنّ الصّالح والخبيثَ لا يجتمعان في عالم الأرواح، ولكنّهما يجتمعان في عالم الأنفس، فمن الممكن أن يتزوّج الرّجل الطيّب بالمرأة الخبيثة، والمرأة الصّالحة بالرّجل الخبيث، وهذا زواج أنفس وليس زواج أرواح، وزواج الرّوح الوحيد الّذي حصل في رواية لينا الحسن هو اتحاد شام بعشيرة، والّذي قابله في عالم الإنسان اتّحاد كيوان بدادا، وسيزار بغلوريا سونينو، ولو نظرتَ إلى عالم المشيئة لوجدتَ أنّ الأمر يفوق مستوى التّفكير والعلم، فالإنسانُ مهما كان عالماً، فإنه لا يملكُ من الحقائق الملكوتيّة إلّا ما أعطاه اللهُ في عالم يقينه. ولتعلم أيّها السّائل أن عددَ أيّام الأسبوع سبعة، وعدد آيات سورة الفاتحة سبع، وعددَ ملوك الأيام سبعة، ولكلّ يوم مَلِك علويّ وآخر سُفليّ، ولا يمكن مطلقًا أن يحكم ملِك أرضيّ في غير يومه، وكل ملك من هؤلاء الملوك الأرضيّين له اتّصال بكوكب محدّد، واتصال كذلك بالعناصر الأربعة؛ الماء والنّار والهواء والتراب. ولكل ملك اتّصال بأربع من المنازل القمريّة، فعند حلول القمر في منزلة مَلك معيّن وفي نفس يومه وساعته يكتمل المفتاح، وهذه كلّها أمور تعرفها جيّداً لينا، وإلّا لما اختارت لأبطالها أن يكون نصفهم من القمريّين والنصف الآخر من الشّمسيّين، واختارت لكلّ شخصيّة ملكٌ جنّي مكلّف به وبترتيب أقداره، وإذا كنتَ من أصحاب الأسرار فإنّك سترى هؤلاء الملوك عيانًا بيانًا في مملكتكَ الدّاخليّة، وترى أيضاً كيفَ تتنزَّل معها أرواح علويّة ربّانية لا يمكنها أن تتنزّل إلّا من مدارك محدّدة ولا يمكنها العودة إلّا من معارج معيّنة، فإن اكتملتِ الأسرارُ واجتمعتِ الأرواحُ ومُرج البحران رأيتَ المعارجَ وفُتحتْ لكَ الأبوابُ وظهَرَتْ لكَ في مملكتكَ الدّاخليّة الأراضي المحجوبة والدّوائر النورانيّة. والملوك العُلويّون يختلفون كثيرًا عن الملوك الأرضيّين، وكلّهم مكلّفون ولهُمْ مهمّات ربّانيّة لا علاقة لها بالدّيانات المتعارف عليها، وإنّما بالقلوب والأرواحِ النّقية (10). والقلبُ هو مفتاح المفاتيح والصّلاح فيه أعلى درجات التوحيد، والإيمانُ باب النّور الحقِّ فيه.
واعلم أيّها السّائل أنّ سبب وجودك في هذه الحياة أنك خليفة الله في هذه الأرض وأنّك قبلتَ التحدّي، وأرَدْتَ أن تحارب الشّيطان في عالم الأرض، فاخترت الأمانة عندما كنتَ روحًا حرّة في عالم الأزل، ونزلتَ مُحاربًا بعد أن تعلّمتَ الأسماء كلّها، وحُجِبَتْ عنك المعرفة الكلّيّة، وهذا ما يُفسّرُ كيف أنّكَ تملكُ معرفة الأسماء وليس علم الأرواح. ولأجل هذا تجدني الآن أسألكَ وأقول: من يحضُرُ في محاكم الجنّ حقيقةً، والحال أنّ الجِنّ الخالص لا يتلبّس الأجساد وإنّما هُم الشّياطين فقط من يفعلون ذلك؟ ألَمْ يخطُر ببالك أن تسألَ كيف يُمكنُ للجنّ أن يتزوّج بالإنس كما يدّعي بعضُهُم، وهم أرواح خالصة لا نفس فيها، ويسكنون عالم الوهم والخيال من كلّ إنسان؟! فلِمَن المحكمة إذن ومعظم زوّارها نساء يشتكين اعتداء الجنيّ فلان أو علّان عليهن، وأطفال وشباب في عمر الورد يعانون من أمراض غريبة وحالات عجيبة ينسبونها جميعها إلى الشرّ والكراهية والحقد الّذي يضمره الجنّ تجاه الإنس، بالضّبط كما فعلت الملكة تيخا مع كلّ توائم آل منجوك؟! لمن الذّبائح إذن وأنت تعلم أنّ الذّبيحة شِرْك؟ أين يذهب اللّحم؟ وأين تذهب الدّماء؟ من يقتسمُ الغنائم، ومن يحوز الشّموع والهدايا والزّيارات؟ بلْ كيف ظهرتْ أسماء ملوك الجنّ؟ ومن تكون عشيرة وباخوس وتيخا وشام وغيرهم كثيرون؟ من اخترع هذه الأسماء؟ وهل يوجدون حقّاً أم أنّهم كينونات فكريّة مُجَسَّمة تناقلَها كهنة وسحرة المعابد جيلاً بعد جيل، وبنوا بها عالمًا مهولاً من الجيراركيّات التي تخدمُ أغراضًا طقوسيّة تجاريّة وسياسيّة معيّنة في العالم بأسره؟!
لا شكّ أنّ هناك خلط كبير بين عالم الجنّ الإنسانيّ الدّاخليّ، وبين الكينونات الطّقوسيّة التي تمّ خلقها عبر التّاريخ وظلّت راسخة في المخيال الشّعبيّ لدى كلّ الأمم والحضارات. وثمّة أيضاً من يقول إنّ مَراقِدَ أولياء الله وعرفائهِ الصّالحين هي الأخرى محاكم للجنّ، والحسابُ فيها يعني افتتاح جلسة المُحاكمة، وتجد النّاس فيها بيْن مَن يبكي، ومَن ينامُ ومن يدور حول الضّريح، ومن يضربُ جدرانه ضرباً خفيفاً بكتفيه أو برأسهِ وهو يئنّ وينوح، وبين مَنْ يجلس صامتًا لا يحرّك ساكناً وبين مَن الأغلالُ في معصميه وكاحليْه، وكلّ في حال ومآل. وقضاة المَراقِدِ متعدّدون، وكلّ إنسان لهُ ترتيب في الأجاويد والملوك، والكلّ سواسية أمام القانون، ومحكمة الأبِ صادق في رواية لينا، ليست كمحكمة ابنه كيوان. وقد يكونُ في الأبِ عوارض وشياطين، ولا يمكنها أن تتآلف مع أجاويد ابنه، ويمكن للأبِ أن يُفسِدَ محكمة الابن دون وعيٍ منه بذلكَ إذا اجتمعا معاً في زيارة واحدةٍ لمَرْقَدٍ مُعيّن وفي اليوم نفسه، فلا يستفيد شيئاً من زيارتهِ لصاحبة المحكمة المقصود بها مريم الهدهديّة. وهناك محاكمات قد يراها الإنسان في منامه دون أن يزور أيّة محكمة، وتلكَ تكونُ الجلسَةُ فيها غيبيّة.
أيّهَا السّائلُ، كيف تريد أن تكون قارئاً للينا الحسن وأنت لا تعرفُ كيف تمسك اللّجام لتضبط حسابكَ وأنتَ في محكَمَتها؟! فحسابُ ملوكها شيء وحساب أجاويدك شيء آخر، وهذا يُنظَّم في المحاكم ولا يحتاج إلى ذبائح. ويجب عدم الخلط بين الأجاويد والعوارض. فالعارضُ قد يدفعك إلى إيذاء نفسك، وتصبح عندكَ صالةُ سينما أو مسرح تصعدُ على خشبته وتبدأ في تقديم عروضكَ وأنت منساق لا حول لك ولا قوّة، فتجذبُ برأسكَ وتتحيّر في حالكَ، وتشرب الماء السّاخن أو تذبح جسدكَ بالسكين، أو تأكل الشّوك والزّجاج، أو تلطمُ وتصرخُ أو تشرخُ وجهكَ بالسّيوف، أو تُحْيي اللّيالي والزّارات، أو تجلسُ في النّار، وتعتقدُ أنّ ذلك كرامات وهو مرض ويجبُ علاجُه. وبعضُ الأمراض والعلل والمصائب تُورَث، كما ورّثت أنطاكية عللها لكلّ أبنائها وأحفادها لأنّ ثقلها سفليّ سلّمته لهم بعهد مشى كالنّار في الهشيم فأحرق الجميع. والمصيبة تحدثُ إذا كان العهدُ ملعوناً، ويصبح الحفيدُ يعيش في لعنات تضرب في سبعة أجيال من الأولاد الّذين لمْ يولدوا بعد. وقد تضرب في أربعين جيلاً إذا كان المُورِثُ نبيّاً أو أرضاً مقدّسة، كما حدثَ ليعقوب وذريّته، وسوريا وفلسطين وذريتهما. وقد يتعرّضُ الحفيد لاعتداءات من الأرواح السّفلية كما كان يحدثُ للعارف باللّه ابن عربي في بداياته، وللقدّيس الإيطاليّ الأب بيّو، ولا أحد يستطيع شفاءَ المُعتدى عليه إلّا بتسليم عهد فوق العهد الأوّل. وعادة لا تُفَكّ العهود، ويجب فتح باب لعهد علويّ نورانيّ بالعبادة والذّكر والصّلاة.
في المحكمة الرّوائية التي رسمت لنا لينا تفاصيلها في نصّ روايتها، كانت الذّبائح قرابين آدميّة، تذكّرْ كيف ماتت مجيدة خانم، وروزا وسيزار، ولم تكن فعلاً دينيًا فحسب، وإنّما هي فعل سياسيّ كذلك، بالضّبط كذاكَ الّذي كان يفعله قدماء العرب في محافلهم الدّينية، وآلهتهم وأوثانهم التي كانوا يبثّون فيها الحياة بثّاً، تذكّر يعوق ونسراً، تذكّرِ الشّعرى. تلك كلّها شعائر مازالت تقام لليوم وإن اختلفتِ المظاهر والأساليب، لكنّ الجوهر واحد، تذكّر عبدة الجنّ، بل تذكّر الرّهق الّذي كان ينال مَن يجعلُ لهذه العبادات طقوساً يختلطُ فيها الدّينيّ بالسّياسيّ!
في رواية (أنطاكية وملوك الخفاء)، يعكس الماضي صوره وأحكامه على الحاضر، وفي هذا الانعكاس إدانة لصورة المثقّف العربيّ اليوم المرموز له بعوني قاتل فهرية: ((لم ترم فهريّة نفسها في النّهر، هناك من دفعها)). قُتلتْ. [...] استثمر عوني الخبيث قصّة محاولتها الانتحار، وهو يعلم تمامًا أنّها وقعتْ عن فرسها في النّهر بينما تحاول عبوره عائدة من مزرعة القمريّين. راقبها وكان على علم بكل شيء، بمعاونة مباشرة من بدرية.)) (11).
الثّقافة اليوم كما كانت في الماضي، مازالت في أزمة، إنّها ثقافة الهزائم والخيانات والتّزوير، فلم تنفع عوني قراءاته الواسعة ولا أسفاره واطلاعه على حضارات مختلفة، ولم تفده في تطهير دواخله من الشّوائب والسّموم، فظلّ متفحّماً بأدرانه، صاحب قلب قاسٍ غادر خدّاع، فقضى في البيت على كلّ محاولة للخلاص والتّجديد، بما فيها تلك التي كانت تقوم بها فهرية من خلال صداقتها مع دادا، وسيزار من خلال قصّته مع الإيطالية غلوريا سونينو.
*
الهوامش:
*
(1) لينا هويان الحسن، أنطاكية وملوك الخفاء، دار التنوير، ط1، 2012، لبنان، ص5.
(2) يو: 1-1.
(3) الصّافّات، 158.
(4) النّجم، 32.
(5) د. أسماء غريب، كواكب على درب التبّانة، دار الفرات للثقافة والإعلام، العراق، 2018، ص14.
(6) لينا هويان الحسن، أنطاكية وملوك الخفاء، دار التنوير، ط1، 2012، لبنان، صص 238-254.
(7) المصدر نفسه ص 11 وص 238.
(8) لمزيد من التّفاصيل عن مفهوم الجان عرفانيّاً وأنتروبولوجياً، تصفّح: د. أسماء غريب، وريثة السرّ، دار الفرات للثقافة والإعلام، العراق، 2021، صص 81-83.
(9) رواية (أنطاكية وملوك الخفاء)، ص 7.
(10) د. أسماء غريب، وريثة السرّ، دار الفرات للثقافة والإعلام، العراق، 2021، صص 73-74.
(11) رواية (أنطاكية وملوك الخفاء)، صص 240-241.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. دينا الشربيني: السينما دلوقتي مش بتكتب للنساء.. بيكون عندنا


.. كلمة أخيرة - سلمى أبو ضيف ومنى زكي.. شوف دينا الشربيني بتحب




.. طنجة المغربية تحتضن اليوم العالمي لموسيقى الجاز


.. فرح يوسف مهرجان الإسكندرية للفيلم القصير خرج بشكل عالمى وقدم




.. أول حكم ضد ترمب بقضية الممثلة الإباحية بالمحكمة الجنائية في