الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مغامرات اللغة أو الماوراء الشعري  قراءة في بعض قصائد الشاعرة سنيا الفرجاني (7) الحلقة الأخيرة

محمد العرجوني
كاتب

(Mohammed El Arjouni)

2023 / 8 / 11
الادب والفن


الحلقة السابعة والأخيرة :

نصف يوم تبقّى مهملا
كالأنصاف الأخرى المحروقة الخاسرة.
لم نلتق.
سَحَبْنَا الغد من فِرائه
وحاولنا إيقاف حافلة تسير معتلّة
بلا ركّاب ولا وجهة حاسمة .
لم ننج من عضّات الوقت
ولن تأخذنا الحقيقة إلى بيتها المظلم
لكننا تدرّبنا طويلا على الحفر
وجمعنا الحصى في قدور الذهب.
من لم يعترف سيعترف الآن
من أضاع صوته سيستعيده الآن
من فتح النّواعير سيقف قبالتها ويعتصر السّواقي.
من لم يلتق
الآن سيلاقي
ويسحب ضلع الغياب من الضباب ليبني وتد الحضور.
إني عثرت عليك
نكثت الوعد وفتحت الخزائن المأهولة بالنشأة
صوتك آخر رواق في القيامة
وقد قست مساحته
وسأسكن فيها.
) قصيدة: رواق في القيامة من ديوان أقبض على الخاتمة الصادر عن مؤسسة أبجد للنشر والترجمة ببغداد العراق 2023 ص.128 (

قراءة في نص: نصف يوم تبقّى مهملا
لست متزحلقا على الموج، لكن عند قراءتي هذا النص أحسست بنفس الإحساس الذي يشعر به من يتقن هذه الرياضة. فوجدتني إذن اعترض سبيل موج الصور المتتالية لأطفو على بحر هذا النص الهائل المهول بين موجاته الأربع.
الركمجة الأولى:
"نصف يوم تبقّى مهملا
كالأنصاف الأخرى المحروقة الخاسرة.
لم نلتق.
سَحَبْنَا الغد من فِرائه
وحاولنا إيقاف حافلة تسير معتلّة
بلا ركّاب ولا وجهة حاسمة .
لم ننج من عضّات الوقت
ولن تأخذنا الحقيقة إلى بيتها المظلم"
هي موجة أصلها نفي واعتراف. هناك النفي المضمر والذي تشير إليه الكلمات بشحناتها الدلالية: "مهملا ، محروقة، خاسرة، حاولنا.." كلها كلمات تعبر عن نفي يدل على خصاص مهول. وحتى في الترتيب فإن هذا الخصاص يأتي بشكل تصاعدي وكأن المعنيين بالأمر لم يكونوا متوقعين لذلك التصاعد وكأنهم كانوا ينتظر أو يأملون أن يتوقف هذا الخصاص ليعم الوجود والحياة، وهو ما دفعهم في الأخير إلى شن محاولة. لكن رغم هذه المحاولة لإيقاف عجلة الخصاص الذي يسافر في حافلة معتلة، أي الحياة المعتلة، فإن ذلك لم يعط نتيجة.
ثم هناك النفي الصريح المعبر عنه بأداتي النفي: لم و لن بما لهما من شحنة دلالية. فبالنسبة للأداة الأولى فإن النفي ينصب على لحظة القول، أما الثانية فإنه يتمدد ليشمل أيضا المستقبل أو الأزل، حيث نفت الحقيقة التي يصعب الوقوف عليها مادام بيتها مظلما. ثم هناك نفي يخص الحافلة معبرا عنه بأداة :لا. (لا ركاب ولا جهة حاسمة) مع التوقف عند أهمية الركاب والجهة الحاسمة. ما يعني أن هذا الخصاص ناتج عن عدم وجود "الركاب" وعدم وجود مشروع يوجه نحو جهة ما، مع وجود حافلة معتلة لا يمكنها الوصول إلى أي مبتغى. وهو ما يضمر الخصاص المهول الذي يهم مجموعة ما بمكان ما حيث لا مشروع ولا أمل في الحياة. اترك التأويل مفتوحا.
الركمجة الثانية:
لكننا تدرّبنا طويلا على الحفر
وجمعنا الحصى في قدور الذهب.
هذه الموجة الثانية تجعلني أقف على تعبير مخالف لما سبق بأداة الاستدراك : لكن. وهو تعبير يدل على مواصلة سد هذا الخصاص. وذلك بفضل الدربة المتواصلة وعدم الخضوع لليأس والحفر المبثوتة في الطريق. فتملأ قدور الذهب بالحصى. فما علينا إلا أن نتمعن في الحاوي (قدور الذهب) والمحتوى (الحصى) لنستخلص ما قد يبدو حلا لهذا الخصاص. وكأن هناك سحر قد يغير الحصى إلى ذهب، لأنه ليس هناك مجانية في ذكر الذهب في أزمة الخصاص. وبطبيعة الحال لابد من استحضار رمزية الحصى في ثقافتنا خاصة في مناسك الحج حيث تستعمل لرمي الشيطان الذي يعيق المسيرة ويجسد الخصاص. ومباشرة بعد هذه المويجة، نجد أن الأمور تغيرت. وكل خصاص قد يُسد فيما بعد.
الركمجة الثالثة:
من لم يعترف سيعترف الآن
من أضاع صوته سيستعيده الآن
من فتح النّواعير سيقف قبالتها ويعتصر السّواقي.
من لم يلتق
الآن سيلاقي
ويسحب ضلع الغياب من الضباب ليبني وتد الحضور.
هذا التزحلق ما قبل الأخير يتم على موجة نفي النفي، والاستعداد للوصول إلى شاطئ الأمل. إنها لحظة الاعتراف، واستعادة الصوت واعتصار السواقي ولحظة الملاقاة والحضور. كل هذه الأفعال كانت تحت قوة النفي، فأصبحت الآن قابلة للتحقق. إنه الصمود الذي يتيح النشأة التي سوف نعثر عليها فيما بعد.
الركمجة الرابعة:
إني عثرت عليك
نكثت الوعد وفتحت الخزائن المأهولة بالنشأة
صوتك آخر رواق في القيامة
وقد قست مساحته
وسأسكن فيها.
الأمل الملموس نتيجة للعثور على من ترغب فيه. لكن الحياة هنا تتجلى في القيامة حيث اختارت الشاعرة الإقامة، مادامت مساحة الصوت المرغوب فيه تسمح بذلك. ببراعتها المعهودة، نكثت وعدها مع المتلقي، لتفاجئه بأن النشأة التي تتحدث عنها هي الحياة الآخرة، وما على المتلقي إلا أن يعيد قراءة النص من "الآخرة"، أي من آخره، ليقرأه بالقهقري إلى البداية ليصحح أو يستدرك ما توصل إليه. فيتبين له أن القيامة هي لحظة اعتراف ولحظة استرجاع للصوت ولحظة اعتصار السواقي ولحظة التلاقي إلخ... قراءتنا إذن تشبه فعلا لعية أو رياضة الركمجة حيث نعيد التزحلق كلما وصلنا إلى الشاطئ معبرين هكذا على أن النص مثله مثل الموج، يجبرنا على البحث دائما على الرجوع إلى أول موجة نركبها لنتزحلق نحو الشاطئ المفتوح..

كخاتمة:
منظار جيمس ويب والماوراء الكوني.. المنظار الخيالي والماوراء الشعري..

باستعمالها اللغة بجرأة تتحدى المنطق السائد، استطاعت الشاعرة القبض على جسيمات الخيال غير المرئية (لأن الخيال المتداول أصبح مرئيا للعيان)، وكأنها تبدع كما فعل علماء فيزياء الكم حينما توصلوا إلى الحديث عن وقع النفق الذي مكنهم من ضبط اختراق الجسيمات الكمية لجسم سميك. ما يحيلنا على أصغر جسيمات تشكل إلكترونات الذرة، وهي "الكوارك" Quarks، فإنها، بإبداعها تدخل القارئ عبر هذا الوقع النفقي/اللغوي ليخترق الواقع السميك الممنطق، ويهيم عبر الكون الذي تلتقطه ببراعة بمنظارها الخيالي تماما كما التقط منظار جيمس ويب الكون اللانهائي. وهكذا جعلت القارئ يكتشف الماوراء الشعري حيث الخيال الأرحب الذي لا تحده حسابات البحور ولا تلك الإيقاعات المكرورة...
نصوصها، إذن تبدو بمثابة ثقب من الدهشة، يستهوي بل يمتص المتلقي نحو أعماقه بلا رجعة، حيث عالم مواز لعالمنا الواقعي، عالم إيجابي يقابل عالمنا السلبي. وإذا كان السرد بالنسبة للنصوص النثرية يقوم على وظيفة التقدم في الحكي فإن سرديتها مجنحة، بل وتشبه الكترونات الذرة. أما الخيال الذي تتمتع به، فهو بمثابة سحر يأسر المتلقي إلى ما لا نهاية اللذة النصية والاستمتاع بالمغامرة اللغوية. فنحن رفقة الشاعرة وهي داخل"المختبر" الشعري ، كما سبق للشاعر الفرنسي بول كلوديل أن قال في حديثه (4) عن ديوانه: نعل حريري Soulier de satin. لأن الإبداع يخرج من "المختبرات" وليس من الوصفات الجاهزة. وهو ما يؤكده دائما جيرار ديسون (5) "فهناك عدة قصائد (لكن هل يتعلق الأمربقصائد؟) تشكلت انطلاقا من وصفات، بينما هناك خطابات سردية أودرامية، تتقدم بخاصية تجريبية واضحة. لكن، يقينا فإن القصيدة، ولأنها تبتغي اهتماما بكل عناصر اللغة (الفونيمات والمقاطع الصوتية والتركيب والخط والإيقاع)، فإنها تبدو وكأنها ملتمس مقدم بقصوة عليا إلى الموارد اللغوية في علاقتها بالدلالة، وفي علاقتها بما ماوراء ذلك، أي في علاقتها بالذات وبالمجتمع".
هوامش:
1- GÉRARD DESSONS(جيرار ديسون)
Introduction( مقدمة في تحليل القصيدة)
à l’analyse
du poème
Armand Colin, 2016
2- نفس المرجع
3- نفس المرجع
4- نفس المرجع
5- نفس المرجع

(انتهى)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب


.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع




.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة


.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟




.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا