الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الاميرة والمؤذن

عباس مدحت محمد البياتي

2023 / 8 / 11
الادب والفن


كان يا ما كان في سالف العصر والأزمان، امرأة بيضاء رشيقة القوام، تسر الناظرين، لا يتجاوز ربيع عمرها العشرين، متزوجة من شاب ذا عفة وشهامة، لا يقل عنها جاه ولا وسامة، تسكن في دار قرب المسجد الكبير، في ضواحي مدينة بغداد الشمالية.
امرأة متدفقة حيوية وبهاء، تتأنق بلبسها كل مساء، ترتدي الفاخر من أقمشة السندس والإستبرق، مياسة، لطيفة، شفافة، تهجس برقتها كأنها مصنوعة من ورق، تداعب زوجها بود وحنان ورفق، تمرح بين الورود كـ الصبيان، سعيدة، عزيزة نفس، رشيقة البدن، كريمة، حليمة، لبقة، ذكية، لماحة، أميرة على عرش بيتها، كما هو أسمها الجليل أميرة.
لا ينقصها شيء من بهجة الحياة، سوى جلسات سمر نسائية تروض بها الذات، لترشق صبغة الحياة بنمنمة الأخبار وكركرت الطرائف وقهقهة النكات.
هذا هو طبع المرأة، مهما كبرت وعلا شأنها، مهما لمع في الأفق حظها، لابد لها من ألفة نسائية تجمعها بصديقة أو بمجموعة صديقات، تسفر لهنَّ عن ما يجيش في داخلها من عصف وإرهاصات، تسرح بشجون الحديث، تسر بما يغز انفسهن وما يخدش الحياء، فالمرأة لا تستطيع تغيير جلدها مهما علا شأنها، هكذا خلقت، وهكذا يجب أن تكون.
لابد لها من صحبة تزيح بها عن كاهلها شبح الوحدة، تتداول معهن الاحاديث التي لا ينبغي للرجل أن يحضرها. جلسات يفرغنَّ بها مكنونهن من جلد الروتين، لتبقى أحداهن ترتع بالألق. فهيَّ جزء من فسيفساء الحياة: ناعمة، رقيقة، تحتاج للألفة والرعاية والاهتمام، تحتاج للضحكة والنكتة والتخاطر، من خلال قناطر الأفراح والأتراح تدرك ذاتها، فالشمعة تحتاج لوسط مظلم لينتشي نورها، هكذا هي المرأة تسعى خلف بلادتها لتمنح ذاتها الهدوء والسكينة، خاصة إذا ما كانت تعيش في زمن لم تجد فيه مساحة للتألق أمام عنجهية الرجل وسيطرته.
حينها كانت تنعدم المقاهي النسائية والملاهي العصرية، وأماكن الاستجمام والهيام. فالمرأة تعيش عيشة الجرذان في الغابة، لا تستطيع الخروج من البيت إلا بأذن، وأن خرجت منفردة تتعرض للتنمر والذم بفعل عقد العادات والتقاليد.
فالمرأة بطبعها أرق من الورق، وأشف من الهوى، وأنعم من فراء القطن، سلاحها الوحيد أنوثتها وسيف جمالها. فهي تهفو من همسة، وترق من لمسة، وتسهب كنسمة، يشتاق لها الزهر والحجر، كضوء الشمس وغر المطر؛ في ذات الوقت هي أحد من السيف وأشد من لسعة النار إذا ما احتدمت وغضبت. فهي محور البيت، تضفي عليه المرح متى ما فاءت، وتكلله بالحزن متى ما وصبت واعتلت، حساسة، رقيقة، سريعة التأثر، فلا غرابة أن تباهت بلبسها وزوجها وجواهرها.
تستمتع بأحاديث النساء، تتبع أخبار الزواج والطلاق، تتصف بالفضول في معرفة أصداء وأهواء الناس، شغوفة بفرض شخصيتها في كل مجال، تبتهج حين يلتمع كيانها في العيون المحيطة بها.
إذا لابد لها من صداقة تروض بها الذات، وإلا تكون حجرة عثرة في طريق أسعاد زوجها.
***
خلال مراودتها الأسواق؛ تعرفت على جارتها أميمة، وهي امرأة لعوب تقاربها في السن، تعرف خبايا المنطقة وما يدور بها من أسرار الأمور، وما خفي تحت الجحور.
كانت أميمة تحضر جلسات سمر اسبوعية في بيت الداده أو الشيخة كما يسمونها النسوة. وهي امرأة طاعنة، تجتمع في دارها النساء، ليقضينَّ فيها جلسات سمرهن، يتعرفنَّ على حظوظهنَّ من خلال قارئة الفنجان، يستمتعنَّ في تدخين النرجيلة وارتشاف القهوة والشاي، مقابل مبالغ زهيدة تدفع للداده.
كما تحدث في الدار صفقات سمسرة سرية من اتفاق وفراق وتعارف وصحبة وزواج وطلاق وحب وغرام، والاستمتاع بالقصص الشجية، كقصص ألف ليلة وليلة، ومداولة مشاكل الناس ---- الخ من هذا القبيل.
أي تستطيع المرأة أن تعرف كل ما يحدث في البلد من خلال حضورها إلى دار الشيخة. ومن الممكن أن تتعرف المرأة على أخبار زوجها، إذا ما أرادت أن تتقصى أخباره، فالبيت هو أشبه بنادي تعارف، أو نادي اجتماعي، أو نايت كلاب. لا يوجد في بيت الداده خط أحمر لكائن من كان، الكل ممكن أن تذكر سيرته بالسلب أو بالإيجاب.
المدينة معمرة بالخضرة والبساتين، تجوبها أشجار النخيل الباسقة، تحتضن أشجارا الفواكه من الحمضيات والرمان والتين والزيتون.
كانت الناس تعتمد في تنقلاتها على الدباب برا، وعلى الكلك والإبلام نهرا، كما يعتمدون في إنارة طرقاتهم على الفوانيس والمسارج الزيتية، لتعينهم على ظلمة الليل قبل اكتشاف الكهرباء.
كان على المؤذن الصعود إلى قمة منارة المسجد كل يوم خمس مرات ليؤذن بالمصلين. وفي كل مرة يرتقي بها المؤذن منارة المسجد، كان يشبع فضوله في التركيز على بيت الحسناء (أميرة)، يطل على حسن أميرة، يتبع أخبارها وجميل لبسها، تلك التي سرقت قلبه وأسرت فكره وأعمت بصيرته.
كان يسترسل باستطلاعه طويلا، حتى تصطلي أحشائه بنار الجوى. لم يستطع مقاومة أهوائه، لم يجد حلا لذهوله وهوسه بأميرة، عانى كثيرا من ولعه بها، تكاد أطيافه لا تستكين في خواطره إلا برؤيتها، شغل ذاته بشكلها ورشاقة جسدها وأناقتها، وهي تجري كالطاووس تداعب بعلها.
أضحى لا يحتمل صبره، صار يرتقي المأذنة قبل موعد الآذان بفترة زمنية، ليتطفل على جمالها. أحيانا يتأخر عن موعد الآذان لنسيانه نفسه في خضم صراعه مع إرهاصته. أحيانا يشعر بالمأذنة تميل به ميل الغصن حين يراها كالخشف تتمختر بلباس شفاف، فيفتقد توازنه فيزعق بآذانه المقيت ليلفت نظرها وانتباهها. لكنه في الحقيقة شد أنتباه الناس إليه جميعا إلا هيَّ، تلك الأبية التي لا يغنيها عن محبة زوجها الكون بأسره.
هذا المؤذن المراهق كان يسكن في دار قريبة من بيت الشيخة على ضفاف نهر دجلة، وهو شبه عازب بعد أن هجرته زوجته منذ أشهر لزيغ عينيه وقلبه، بعد أن لمست طيشه.
كانت أميرة قد شكت لصديقتها أميمة من شبح الوحدة الكابت على قلبها، فأشارت إليها أميمة بمرافقتها لبيت الداده، لتغيير من روتين حياتها، ولتستمتع بصداقات جديدة مع النساء، ولسماع قصص شجية حقيقية وخيالية وما يطرح في بيت الداده من أخبار البلد.
سرها اقتراح أميمة، فاستأذنت زوجها الذي لا يرفض لها طلبا إلا ما ندر. وفي أحد أيام الخميس رافقت أميمة لدار الشيخة، استأنست كثيرا في مشاركتها تلك الجلسات، بعد أن تحررت من قيد الوحدة المقيتة.
لأول مرة لمست حريتها وعرفت ما يدور حولها، باتت قريبة جدا من المجتمع، ففي كل مجتمع يوجد الصالح والطالح، فلا مانع من التعرف على أشكال البشر ليكون لديها خزين من المعرفة.
تعرفت وصاحبت الكثير منهن، تقربت من بعض ونفرت من أخريات. كانت لأميمة الدور الأكبر في نزع وشاح الخجل من على وجه أميرة، تمكنت من ترويضها في بودقة المجتمع الجديد، سرها سماع القصص وانتبهت لقصص بعض النساء التعيسات اللاتي يفضفضن بمشاكلهن مع الازواج، ممن لا يجدنَّ في أزواجهنَّ ما يسعدهنَّ، فشكرت الله على نعمة الألفة بينها وبين زوجها، وعلى الرقي الذي يتميز به عن سائر الرجال.
استمتعت بحديث قارئة الفنجان التي بينت لها طالعها حين قالت لها:...
- ينتظرك مستقبل مشرق، هناك دلالات غدر تحاك ضدك، وبشرتها بأن تكون سيدة بارزة في المجتمع في غضون أيام أو أشهر، أو سنة..
منذ تلك اللحظة استأنست العرافة لها وتقربت منها وصارت تطلق عليها لقب الخاتون لرقيها بين النساء.
لم تشغل بالها بحديث العرافة كثيرا، فهي لا تعترف بالبخت والضرب على الرمل، وهي تدرك كذب المنجمين ولو صدقوا، كما هي مدركة تماما بكل ما يحيط بها. كانت رزينة في أخلاقها، حكيمة في قراراتها، أميرة في تصرفاتها. لذا أحبها المجتمع النسوي بعد تكرار زياراتها، لسماحتها ولباقتها وفرط جمالها وحسن اختياراتها، على رغم من أنها غير مدركة تماما لنوايا المحيطين بها.
نقلت كل ما حدث في دار الشيخة وما دار من حديث وما رأت عينها من وقائع وطرائف ما طرقت أذنيها من أخبار لزوجها الحبيب. تلك الصفة جعلتها تزداد حبا وثقة من قبل زوجها، كما جعل زوجها لا يمانع ذهابها لبيت الداده طالما تلك الجلسات تزيدها راحة بال وسعادة وحيوية.
وآخر ما تداولته هذه الجلسات من أخبار، خبر مرض ملك البلاد، وعن من سيخلفه؟ وهو الذي ليس له وريث شرعي يحكم بعده.
سالت أميرة زوجها المتعلم والمدرك والمتابع لأخبار شؤون الدولة، كونه موظفا مرموقا في دائرة بلدية المدينة...
- أحقا أن ملك البلاد يعاني من مرض عضال وهو على فراش الموت ؟
- يقولون ذلك والله أعلم، أسرار القصر لا أحد يستطيع الاطلاع عليها، كما يقولن بأن الملك قد كتب وصية حول من سيخلفه، وهذه الوصية لن تقرأ إلا بعد وفاته وأمام الملأ.
تكررت هذه الجلسات أسبوعيا، أصبح منهجا روتينيا في حياة الأميرة الشابة برفقة صديقتها أميمة، أمست لا تستطيع الاستغناء عنها طالما تجد فيها التنوع والغرابة والألفة.
كما أصبحت الألفة بينها وبين (أميمة ) أشد قوة ومحبة، فأخذت منها الضحكة والنكتة والمكر، مقابل العفة والرزانة والشخصية.
تلك الفوارق جعلت أميمة تتمسك بها احتراما وتقديرا، بحيث لا تخالفها رأيٍ أو قرارٍ، خاضعة لسلطانها، منجرة خلف ظلها. كما جعلت أميرة تستلطف أميمة، وتستعطف عليها وتكرمها، كأنَّ كلٍّ منهنَّ كنَّ بحاجة للأخرى.
لذا كانت أميرة لا تتجرأ بأن تذهب لبيت الشيخة أو الأسواق إلا برفقتها. أعجبت بحسن تعاملها مع الباعة والسماسرة الذين يقفزون على ظهر الزبون ليستغلوه ماديا. لذا ساعدتها في تخطي كثير من العقبات الشراء، وفرت عليها الكثير من الوقت والأموال خلال تبضعها حاجيات المنزل، وخاصة تلك الأقمشة النسائية الراقية التي أعجبت بها.
***
في كل خطوة من خطواتها كان المؤذن يتبع أثرها أينما تمضي وأينما تحل، وقد تابع هذه العلاقة الطيبة بين الامرأتين، فحاول مرارا أن يستدرج أميمة للإيقاع بصديقتها في فخ علاقة غير شرعية، مقابل رشوة يقدمها لها... إلا أنها أبت ذلك، لما عرفت عنها من عفة وعزة نفس وكياسة وأخلاق، فليس كل طير يأكل لحمه. كما بدورها قد أَطْلعتْ صديقتها أميرة (الخاتون ) على ما يدور من خبث في ذهن المؤذن، حذرتها كي لا يستدرجها لمهاوي دناءته.
من جانبها الخاتون لم تخبر زوجها بمحاولات المؤذن الخسيسة لأنها لا تعر إليه أهمية، ولا تجد في محاولاته إلا تفاهة لا قيمة لها، لن يمكنه أن يحقق غرضه معها. في ذات الوقت ودت تجنب الفضائح والمشاكل التي قد تجرها إلى ما لا تحمد عقباها.
كما أنها لم ترغب بأن تعقر الأمور دون أن تكون في الحسبان بادرة ملموسة، كون الأنسان لا يحاسب على الظن أو النية المعقودة في قلبه وفكره، لذا لم تعطي للموضوع أهمية تزيد عن حجمها، كي لا تخرج القضية عن إطار التفاهة لموضع الجدية، ربما تتقيد بفضيحة دون ان يكون لها أساس وواقع، وخاصة هناك من يطبل للباطل بيديه ورجليه.
بعد أنْ كلَّ المؤذن من محاولاته الفاشلة التي سعى إليها مقابل عجزه عن أقناع (أميمة ) في استلطاف أميرة؛ أضحى يبحث عن مفاتيح جديدة لأقفال (أميرة) الغليظة.
لذا شرع أن يسلك طرق أخرى يختصر بها المسافة لمآربه.... فوجد في الشيخة أفضل السبل وأقصرها للوصول إلى مآربه، مقابل بعض المال يدرها عليها، كون الطمع صبغتها، وكون الخبرة مسلكها، فالأمر ميسر معها، فهيَّ صاحبة كار معروفة وتجارب. هذه الممارسات معتادة عليها، لها زبائنها من الشخصيات ووجهاء البلد الذين تلبي لهم رغباتهم وتستند عليهم في تسليك أمورها المعقدة.
الشيخة لن تمانع في مثل هذه العلاقات الخسيسة أن تجري في دارها طالما تدر عليها المال، إضافة لذلك؛ فأنها ستحتفظ بملف امرأة جديدة في سجل الشرف العام الممتلئ بأسماء البغاة. هذا السجل يخر عليها ذهبا من حين لآخر.
وكانت قد خصصت أحدى الغرف المعزولة لهذه الأعمال الدنيئة، لن يدخلها إلا أصحاب الشأن. لذا فالاتفاق مع الشيخة لا يكلف المؤذن سوى بخس الدنانير.
أذا أتفق مع شيخة على استدراج الخاتون للمرفق الجريمة في الخلاء الخلفي للدار، والذي هو مرفق سري لا تعرفه سوى النسوة اللاتي مارسنَّ به الدعارة. غرفة نوم مهيأة بأثاثها وحمامها، ومطبخ صغير، يحتوي على بعض المسكرات، من نبيذ وخمر وفواكه، كما يوجد فيه باب يؤدي إلى الفنار الخارجي لشاطئ النهر.
خلال أحدى الجلسات النسائية، كنَّ النساء منشغلات بقارئة الفنجان، كل منهنَّ تبحث عن ذاتها في عنق الزجاجة، منشغلات في إرهاصاتهنَّ ومشاكلهن. استدعت الشيخة السيدة خاتون أو أميرة للخلاء لتداول معها أمر هام وسري، كونها صاحبة عقل راجح وذات وجاهة.
وبحسن نيتها تبعت خطوات الشيخة المسمومة حتى أدخلتها الغرفة المعنية. أجلستها على سرير قطني، وقالت لها..
...:أمهليني خمس دقائق حتى أعود إليك لأطلعك على سر هام وجدي.
خرجت شيخة ولم تعد إليها، كانت قد أوصدت الأبواب الداخلية والخارجية وعادت لجلسات السمر التي تدير شؤونها وكأنَّ شيئا لم يكن.
أما أميرة التي بقيت وحيدة في الغرفة تنتظر عودتها دون جدوى، خالها الشك من سعي شيخة ومع ذلك فضلت الانتظار لتعرف الخبر اليقين، كان للفضول دور في تكبيلها، وهو الذي شرع في بلورة فكرة الجلسات، فمعرفة الأسرار غاية تود خوض غمارها.
لم تمضي سوى لحظات، حتى سمعت صرير باب يفتح، تأملت خيرا، توقعت بأن الشيخة قادمة، لكنها دهشت حين رأت المؤذن يدخل الغرفة بلباس أبيض أشبه بالشبح في القصص الخيالية.
أمسكت ذعرها بين خافقيها، وغطت وجهها بوشاحها، وسألته بتردد...
- من أنت؟ كيف دخلت؟ ماذا تريد؟.
قال لها:..
- أنا من عصفت به ريحك فذرته أشلاء بين أشواك اليباب. أنا من فقد نومه وصار شاعرا يناجي القمر، أنا من قيدته الأسلاك في زنزانة حبك. أنا التائه في حيرة غبراء. أنا العبد المسكين، أبن السبيل، طارق أبواب السعد في ضواحي حناياك. أنا العاشق الملهوف والمعذب بسوط صمتك، أنا الذي فقد أثره وهو يتبع سرك، أنا الغريق في بحرك، أنا قيس الملوح، أنا المجنون بحسنك، أنا مؤذن المسجد!!
- وما تبغي مني يا قيس ؟
- كل شيء فيك هو يعجبني، لبسك، مشيك، جمالك... لقد هجرتُ زوجتي وانشغلتُ بك، فلن يهدأ لي بال إلا برضاك عني. أبغي منك روحك الترفة، وهذا الجسد الناعم الطري الذي يعزف حسنا على أوتار ضعفي ومشاعري.
أنا الهائم في عيونك العسلية. الغارق في شفاهك الوردية. جسدك الرشيق كعود الخيزران، يجلدني كل يوم خمس مرات (أوقات صعوده المأذنة ليأذن بالناس). سأعجبك كثيرا، فقط جربيني! سأكون لك عبدا مطيعا، سأكون المارد بين يديك ما حييت، شبيك لبيك أنا العبد بين يديك.
حينها أدركت بأنها قد وقعت في فخ الدادة ومصيدة المؤذن، أنها بين فكي كماشة فلا بد من مكر، وحيلة، تجنبها خدوش جلدها الطري. لا بد من تسيير الأمور بالعقل، والدهاء، قبل أن تفقد من وجهها البهاء والحياء.
حينها تذكرت حديث أميمة عن هذا المعتوه الذي يلاحقها، لذا خلعت وشاحها، ابتسمت له برقة وعذوبة قل نظيرها، حتى ذاب شوقا فيها. قالت له:..
- حسنا يا قيس أنا لا أمنع نفسي عنك، طالما أنت تعشقني لهذا الحد... لقد أخبرتني أميمة عنك وعن محاولاتك معها لأقناعي كثيرا.... لكني كنت خجلة منها، لا أود أن يعرف أسراري كائن من كان، أنا أيضا أود الاستمتاع بعاشق فريد مثلك... بحب من نوع آخر لا يمتلكه زوجي.
سأتفق معك على كل شيء... على أن تحافظ على السرية من أقرب الناس لك، انا وضعي حساس جدا، لا أريد إشاعات تلفني وتلقفني بين ألسنة الناس.
- نعم الرأي – وهو كذلك.
- إذا لا تستعجل! فلن تنالني إلا بشروطي – فلست كباقي البغاة من النساء.
- اشرطي ما بدا لك يا خاتون.
- أولا عليك أن تخبرني كم دفعت للداده كي توقع بي؟
نكس رأسه، أجاب خانعا --- عشرة دنانير.
أخرجت من جيبها عشرة دنانير وسلمته له.
- خذ فلوسك... أنا لا أبيع جسدي لمن يعشقني، بل أهبه ما يريد.
تلك الكلمات هدأت من جماحه، قيدت انفعالاته صار أشبه بالقطة الأليفة. أراد أن يمسك يدها، لكنها خاتلته ومنعته. فقالت له:...
- ليس قبل أن تنفذ الشرط الثاني....عليك أن تستحم أولا.
- أني استحممت وجاهز منذ ساعة تقريبا... كنت أنتظر قدومك على أحر من الجمر.
- إذا عليَّ أن أستحم.... وعليك أن تخلع ملابسك بالكامل وتنتظرني هنا ( أشرت على السرير القطني ). على هذا السرير حتى أتم استحمامي، يجب أن أكون جاهزة لتقبلك نفسيا وبدنيا وروحيا، وإلا فلا أستلذ بك ولا أنفعك.
خلع كل ملابسه حتى الداخلية منها، أخذت ملابسه معها إلى الحمام، حاول أن يمسك بها إلا أنها فلتت من قبضته، دفعت به برفق للخلف مع ابتسامة مذهلة رشقت شفتيها، فترنح على السرير القطني. ثم قالت له:..
- لا تكن عجولا يا قيس، أنتظر ليلى تأتيك بأبهى صورة، بمثل منظرك هذا، ( أشرت عليه بأصبعها دلالة على الخلاعة الذي هو فيه ).
دخلت الحمام وأوصدت الباب عليها من الداخل بمزلاجه، تركت صنبور الماء يجري ليترك خريره طمأنينة في قلبه على وجودها داخله، ثم رفعت مزلاج قفل الشباك الواسع المطل على الشاطئ بكماشة حديدية صغيرة متروكة داخل الحمام لأجل الصيانة.
قفزت من النافذة وتمكنت من الهرب بعد أن تمزقت ثيابها وخدش ساقها.
انحدرت مسرعة نحو الشاطئ، وهي تركض بجلبابها تحت وحشة الليل ونباح الكلاب، تلك التي تخترق الهدوء الموحش لتزيدها وحشة وخيفة، دفت ملابس المؤذن في وسط الأحراش بين ثنايا الأشجار الباسقة، فهيَّ لن تستطيع العودة للبيت، بعد أن تغير عليها الطريق وتأخر الوقت، الخوف كابت على قلبها.
وقبل أن تصل مرفأ الشاطئ شاهدها أحد حراس الليل، أوقفها في طريقها، أعجبته، سحر بجمالها، وجد فيها فرصة لطرد وحشة الليل والوحدة عن ذهنه.
مد يده على خدها، ابتسمت له، ضمها إلى صدره، حاول أن يقبلها، انسلتت من بين يديه كالسمكة، خارت قواه، جذبها تحت ظلال شجرة صفصاف بقوة، أمسكت يده، حاورته، اشترطت عليه أن يخلع ملابسه كاملة قبل أن تستسلم له.
لانَ لشرطها، عاطفته غلبت عقله، تمكنتْ بدهائها من أنْ تسرق سلاحه وثيابه، هددته بالقتل إذا ما لاحقها.
تركته حائرا في أمره، لا يتجرأ أن يرفع صوته، لهوانه وهو عري يقف أمامها. حينها انطلقت بعيدا عنه، في زاوية من الشاطئ تمكنت من تبديل لبسها بلبس الشرطي، أخفت كرستال شعرها تحت القبعة الشرطة (البيرية). اتجهت للقارب، فلم تجد مشقة في ركوبه، الحرس مهاب من قبل الجميع، مقدر من الصغير والكبير، ذا سلطة و ذا أمر مطاع.
صعد الشرطي( أميرة) مع عدد قليل من المسافرين في القارب متجهين إلى مركز مدينة بغداد. لم تكلم أحدا داخل القارب، لكنها شعرت بأن البلام لا يفك نظره عنها. لم ير شرطي بهذه الوسامة والرقة، كما أنه من المفروض أن يعرف كل الذين يعملون في سلك الشرطة، كونه ينقلهم من ضفة لأخرى باستمرار، ولكن هذا الوجه كان غريبا عنه.
لم تدم المدة طويلا وصلت للضفة الثانية بعد انحدار القارب ساعة زمن في النهر، بات الفجر ينبلج نوره في الأفق، وصارت خيوط الشمس تذلل برد نيسان.
جلست لدقائق معدودة وحيدة على جرف الشاطئ لاستعادة أنفاسها وترتب أفكارها، تذكرت زوجها الطيب، فهي خجلة من مواجهته ما كان عليها أن ترافق بنات السوء. أحست بالذنب اتجاهه، كما أحست بأن الدنيا غدارة في طبعها، فهي حين تضحك تخفي خلف ضحكتها مآرب وهموم جمة، تلك التجربة عرفتها على معادن البشر ومآرب الناس وغاياتهم التي لا تدرك. النفوس لا تتشابه في سعيها، بعضها طيب وأخرى معجنة بالسوء.
نزلت دموعا على خدها الناصع، مسحتها بـ أتراف كفيها، شهقت شهقة ملئها حصرة وندم ألمت بها. سارت وحيدة تجر خلفها حيرة صماء، كيف ستواجه أهلها، كيف ستصل إليهم، وهي في قرارة نفسها لا تستطيع أن تكلم بشرا في الطريق، الكل يطمع بها، كما أنها لا تود أن تكشف سرها بارتدائها لباس الشرطي.
أخذتها أقدامها تحش بها المسالك الوعرة، والتي لم تسلكها من قبل، كان قدرها دليلها والحزن رفيقها، الصدفة قادتها إلى ساحة كبيرة مفتوحة من كل الجهات يتجمع بها جمهور كبير من الناس.
ودت أن تتقصى الأمر، وقفت مع الواقفين في الخطوط الأخيرة يدفعها فضولها لتقصي الحقيقة.
سالت امرأة عجوز واقفة بجانبها وهي لا تستطيع أن تكف دموعها، الحزن يخامر مقلتيها المرتعشتين، المحمرتين. قالت لها:..
- ماذا يبكيك يا أمي ؟ لِمَ هذا الحزن ؟
- يا حسرتي على الملك الطيب، كان عادلا في كل شيء، حتى في وصيته لم يبغض أحدا... لقد مات دون أن يترك خليفة من صلبه.
- هل مات الملك؟.. هل عرفتم وصيته ؟
- أكيد يا بني؛ طلب من الحاشية أن يختاروا أميرا جديدا للبلاد عن طريق طير السعد.
( طير السعد: حمامة بيضاء يتم إطلاقها فوق رؤوس الملأ، وإذا ما وقفت على رأس شخص؛ سيكون ملكا على العرش) .
ادركت بأن الملك قد توفى، وأن هذا التجمع والاحتفال هو لاختيار الملك الجديد، لذلك دفعها الفضول أن تشاهد تتويج الملك الجديد، رغم الإرهاق والتعب الذي حل بجسدها، رغم الجوع والعطش الذي تشعر به.
لكن فرصة التتويج هي فرصة نادرة، لن تتكرر أل خلال عقود من الزمن. حيث الملوك لن تترك عروشها إلا بقدر الموت، أو بالثورات والانقلابات العسكرية. سحر الكرسي لا مثيل له، يجعل مراوده يلتصق به. وعسى أن يكون خيرا يخدم الناس البسطاء والوطن.
وبعد الخطاب التأبيني المخصص لروح الفقيد، الذي أستهل به رئيس الوزراء الاحتفال، أذن بأطلاق طير السعد أمام الملأ، لاختيار الملك الجديد.
استل تلك اللحظات من الصمت المطبق على الجمهور، ليتبع دوران طير السعد بعد أن دار دورتين فوق رؤوس الجمهور، ليحطَّ أخيرا على رأس الشرطي (أميرة ).
تهللت أفواه الجمع بالترحيب والهتافات، لكن ذلك لم يعجب بعض المتنفذين في الحكم، كيف يمكن لشرطي أن يكون ملكا، بعضهم أقترح بإعادة أطلاق الطير لتأكيد النية.
لذا تم إعادة الكرة مع طير السعد، وكما كان في انطلاقته الأولى، عاد وحط على رأس الجميلة أميرة مرة أخرى.
حينها حسم الأمر رئيس الوزراء، فأقر بصحة الاختيار، وتم إعلان أميرة ملكة على العرش، بعد أن شرحت لهم قصتها مع لباس الشرطي.
أنها فتاة جار عليها القدر، فأجبرت ذاتها على الهرب من قدر لقدر آخر، حاصرها المؤذن بنذالته، فلم تجد مناصا من الهرب لتجد نفسها في مخمصة نزوة الشرطي، وما أن تمكنت من أن تنجي ذاتها من شباكه القذرة، حتى ساقها القدر إلى ساحة التتويج لتتوج ملكة على البلاد. مثلما أذلها الفضول، عاد وأرتقى بها لقمة الإباء.
احتفلت البلاد بتتويجها، فألبسوها تاج العرش. شاع خبرها في الأرجاء، امرأة حسناء أرتقت عرش الأمراء.
بعد أن توجت أقرت عدة قرارات.....
كان قرارها الأول نشر صورها في أرجاء البلاد، وإلقاء القبض على كل من؛ المؤذن، الشرطي، زوجها، أميمة، الدادة، والبلام، العرافة، بعد أن أشهدتهم على أفعالهم، أعترف المؤذن، بأنه قد هام بها، فلم يستطع كبح جماحه فأستغل الشيخة للإيقاع بها.
أعترف الشرطي بأنَّ دفعته نزوة لاستغلالها تحت جنح الظلام.
اعترفت الدادة بأنها أرادت أن توقع بها مقابل بعض المال المدفوع لها من قبل المؤذن.
شهدت العرافة بأنها ذات خصال نادرة.
شهدت أميمة بأنها فقدت صديقة رائعة علمتها الأدب والدين والعفة.
شهد زوجها بأنه لم يذق طعم النوم من يوم فراقها.
بذلك اتخذت القرارات التالية...
1- إحالة الشرطي على التقاعد لأنه لم يكن أمينا على أمن الشعب.
2- فض جلسات السمر التي تديرها الشيخة، والتي في ظاهرها طراوة وفي جوهرها سمسرة ودعارة.
3- سجن الشيخة عشر سنوات لارتكابها جرائم كثيرة بحق بريئات أمثال الملكة.
4- حكم على المؤذن بالمؤبد لمخالفته قواعد الشرع والدين، وتجاوزه وتعديه على حرمة النساء.
5- أبرأت البلام.
6- قربت أميمة كوصيفة لها في القصر الملكي، والعرافة كحكيمة تعينها على الزمن،
7- احتضنت زوجها، ثم نصبته ملكا على البلاد بدل عنها، وبذلك عاشوا بسعادة وهناء واستقرار وراحة بال.
*(هذه القصة من الموروث، روتها لي أمي الغالية يرحمها الله وأحسن مثواها، فصغتها بأسلوب شيق).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بعد فوز فيلمها بمهرجان مالمو المخرجة شيرين مجدي دياب صعوبة ع


.. كلمة أخيرة - لقاء خاص مع الفنانة دينا الشربيني وحوار عن مشو




.. كلمة أخيرة - كواليس مشهد رقص دينا الشربيني في مسلسل كامل الع


.. دينا الشربيني: السينما دلوقتي مش بتكتب للنساء.. بيكون عندنا




.. كلمة أخيرة - سلمى أبو ضيف ومنى زكي.. شوف دينا الشربيني بتحب