الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ثلاثون يوما في الفردوس

رشيد عبد الرحمن النجاب
كاتب وباحث

(Rasheed Alnajjab)

2023 / 8 / 11
الادب والفن


يستهل الكاتب سمير أديب روايته الأولى المعنونة "ثلاثون يوما في الفردوس" بهذا الاقتباس من رواية للروائي الراحل عن الحياة، والباقي في حيفا إميل حبيبي إذ يقول: “نحن في حاجة إلى المزيد من لظى المعرفة، حتى نشعل النيران في العديد من الأقبية المظلمة المتوارثة؛ وسيدرك القارئ في مواقع عديدة من السرد أن ليس أفضل من هذا الاستهلال، ارتباطا بمضامين الرواية، التي اتسمت بتكثيف المعلومات وتنوعها وتناسقها مع السرد في جل فصول الرواية، من خلال لغة سرد تميزت بالفرادة والسلاسة في النفس الوقت. وإن احتاجت للتركيز والمتابعة الدقيقة لمجريات الأحداث.
يبدو الصحافي "جليل" وهذا هو اسم الراوي عاجزا عن النوم، فيستعين بحبوب للتنويم وصفها له الطبيب، ويمضي في ملكوت النوم بينما كان يتحدث إلى شقيقته التي جاءت لزيارته، ليجد نفسه في الحياة الأبدية مع ملاك الحكمة الذي رافقه على مدى ثلاثين فصلا، معينا له على التنقل من فردوس إلى آخر، وميسرا له اختيار الناس لمقابلتهم، وإجراء الحوار معهم. ربما في محاكاة لأبي العلاء في "رسالة الغفران"، وإن اختلفت التفاصيل اختلافا يبرره مرور نحو عشر قرون من الزمن، ناهيك عن تفاصيل المكان وعوامل التغيير الأخرى.
ترك الكاتب للقارئ أن يستعين بالخيال ما شاء، وأعانه على ذلك بإعطاء أسماء وهمية للأماكن والبلاد، وللشخصيات التي قابلها "جليل" في الفردوس، أسماء ظننت أنني أدركت ما تشير إليه فما لم أعايشه، سمعت، أو قرأت عنه، إلا أن أكثر ما لفتني من هذه الأسماء هو ما أطلقه الكاتب اسما لأحد المخيمات "كوشان"، ف "الطرائد" التي غادرت منازلها بعد أودعت كواشينها في أماكن ظنوها آمنة، وأنهم عائدون إليها لا محالة، وجدوا نفسهم أمام كوشان واحد لا يدل إلا على وحدتهم السكنية في هذا المخيم. وسوف أعتبر هذا إسقاطا لخيالي على "سرد يحاكي الواقع من نافذة الخيال" كما قال الكاتب في التوطئة التي سبقت السرد.
وقد أبدع الكاتب في توظيف الخيال لرسم صور متعددة للحياة في الفردوس؛ بأنهارها وحدائقها، وطيورها، وأزهارها العصية على أن تقطف، وقوانينها المختلفة عن قوانين الحياة، هو ذا ملاك الحكمة يوضح بعض الأمور ل “جليل" ص 31: "فما يروق لك في العالم السماوي، لا يستقيم على سطح الكوكب الأرضي، تتجرع الخمر في الفردوس وتحمد الله، وتحتسيه في الدنيا وتعوذ به".
كما أباح الكاتب للراوي مستعينا بهذا الخيال أن يشير إلى "إبليسه “بين الفينة والأخرى، وإلى تدخلاته الصفيقة في الحوار مع من قابلهم الراوي في المواقع المختلفة من الفردوس، وقد أوكل إليه أكثر جوانب الحوار إثارة للجدل، وأشدها صلة بمهارته في (الوسوسة).
قابل "جليل" في جولته في الفردوس عددا من الفلاسفة، والعلماء، والسياسيين، ورجال الدين، كما قابل بعض الأصدقاء، وتمكن الكاتب من خلال هذه الحوارات من يلقي الضوء على عديد من المفاهيم ومراجعتها وفقا لنهج تنويري يبتعد بها عن الخرافات، الحديث منها مثل الوهم الذي قاد كثيرين للاعتقاد برؤية صورة أحد القادة، والقديم من الأقوال والأمور المتوارثة عبر القرون دون إخضاعها لمحاكمة العقل، ودون القدرة على التأويل وفقا لمقتضيات العصر. ودل من خلال لقاء "جليل" مع الفيلسوف القرطبي ابن رشد على ما لحق بالعلماء من غبن، وأذى، نتيجة لما قدموه من ابتكارات في العلوم، وتراوح بين حرق للكتب، والنفي، والقتل المسبوق بالتعذيب أحيانا. ناهيك عن الوصف بالزندقة والإلحاد.
تناول "جليل" من خلال حواراته في الفردوس الكثير من الأمور المتعلقة بالمرأة، وحقوقها في التعليم، والإرث، والملبس وفقا لما تشاء، وغير ذلك، وأشار من خلال السرد إلى موقف داعم للمرأة، متخذا من "صباح" زوجة نجيب نموذجا، بصفتها أما، ومناضلة، وإنسانة سعت ونجحت في أن تنقل نفسها، من الأمية إلى التعليم، بل وممارسة العمل الحزبي ضمن التيار، وظلت الإشارة إلى المرأة عبر الرواية مقرونة بالتقدير والاحترام. ناهيك عن التعاطف مع معاناتها وآلامها.
لن يخفى على القارئ بالرغم من أسماء المدن والقرى والشخصيات المخترعة من عالم الخيال، أن الكاتب تناول قضية فلسطين منذ العهد العثماني، مرورا بالاحتلال البريطاني، وصولا إلى النكبة بمراحلها المتعددة عبر سبعة عقود من الزمن حتى الزمن الراهن، دون أن يغفل عن أي من التفاصيل، من التغيرات السياسية، وعلاقات الدول ببعضها، ومصائر الكثير من دول الجوار، مذهل ما ضمه السرد من إلمام بأدق التفاصيل، إلا إن تعدادها سيفسد على القارئ دهشة اكتشافها والتساؤل عن ظروفها وأبعادها.
وعلى الرغم من عدد الصفحات المحدودة نسبيا، التي ضمت هذا العمل، وعلى الرغم من كل ما سبق كتابته عن القضية الفلسطينية، من روايات وقصص وأعمال أدبية، وموسوعات، وتقارير دولية، وبرامج للتلفزة والمحطات الفضائية المختلفة، إلا أن القارئ يجد نفسه أمام عمل مختلف، ويبقى مشدودا للسرد، سيما تلك الفصول التي تصف رحلة جليل إلى الفردوس بكل تفاصيلها، حتى الصفحة الأخيرة، وذلك التوثيق للعادات الفلسطينية في الأفراح والأتراح، والملابس (الوقاة التي تضعها المرأة على الرأس، والديماية، والحطة البيضاء)، والأطعمة (الكردوش، والمفتول، والهيطلية، والبحتية)، والأدوات (الباطية، والقدرة الفخارية، والكرمية) هي تفاصيل استمتعت بموقعها الطبيعي في السرد، بل شعرت أن مرور القارئ بها وما تتركه من أثر في نفسه هي مؤشر عشق وانتماء لهذه المكونات الثقافية والتراثية.
إيجاز شديد التلخيص وصف الكاتب من خلاله أحوال البلاد في سبعينيات وثمانينات القرن الماضي، وشمل النضال الذي خاضته الجماهير وصولا للانتفاضة الفلسطينية الأولى، والتضحيات التي خاضها العديد، من اعتداءات جسدية بهدف التصفية، وسجن، وتعذيب، وقتل، وإبعاد.
كما تضمنت الرواية صورة من نضالات "التيار" عبر المراحل المختلفة، وتجارب العديد من شخوص الرواية من خلال شهادات أهل الفردوس.
جميل أن يصدر العمل الروائي الأول على هذا القدر من الإتقان، والمؤكد أنه تطلب جهدا غير يسير ليضم كل هذه التفاصيل، وأن يضع كلا منها في مكانه الملائم دون إقحام، ودون أن يتطلب الكثير من التفاصيل.
قد يبدو العمل نخبويا، يستهدف فئة محددة من القراء بما ضمه من المصطلحات العلمية وربما الفلسفية والسياسية أحيانا، وبعض السرد الذي اتخذ جانبا نظريا، مثل شهادة د. صادق وادي، ولكنه لا يمنع القارئ البعيد عن هذه المجالات، من تحقيق هدف القراءة، من خلال المضامين الحافلة بالحياة والحركة والألم أيضا، وهو عمل يستحق القراءة بكل المقاييس.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل