الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المقالة الأدبية وحكاية (الرجل الفسيل)

قيس كاظم الجنابي

2023 / 8 / 12
الادب والفن


المقالة الأدبية وحكاية (الرجل الفسيل)
-1-
يكتب محمد خضير المقالة الأدبية الانشائية بطريقة خاصة، ذلك أن المقالة الأدبية الانشائية، هي التي يبتدعها الكاتب ابتداعاً، من دون ان يتكئ على عمل ما ويعالج بها ظاهرة أدبية معينة، وهي أقرب الى الأجناس الأدبية الأخرى ، كالقصة والمسرحية والقصيدة والخاطرة.[ص26/ المقالة الأدبية في العراق(النشأة والتطور): د. قيس كاظم الجنابي، دار الشؤون الثقافية العامة ( بغداد، 2018م).
ومن مواصفاتها ، كما يرى بعض النقاد، السخرية والبوح والتوجع، وهي واحدة من مؤهلات كاتب المقالة العفوية والشفافية والعاطفة والذاتية.[ نفسه، ص 317-318] وهي فن سهل ممتنع يحتاج الى خلفية ثقافية عالية ،ولغة أدبية ثرية ،وولع ذاتي بأن الكتابة ،مع توفر عنصر المناسبة والقناعة والتجرد الكامل عن النزعات القصدية ذات التوجه الخاص باقتناص بضاعة الآخرين وشيوع الروح العلمية والرقي الحضاري والميل نحو آفاق إنسانية عالية التوجه والتعبير[ص315 نفسه]
في ظل هذه المقدمات يمكن أن نتناول أكثر من كتاب مقالي لمحمد خضير، وأولها كتابه(الرجل والفسيل)، وكتابه اللاحق( رسائل من ثقب السرطان) وما كتبه في مقدمتي الكتابين يؤشر لنا بأنه يكتب مقالة أدبية بوصفها جنساً أدبياً. الحديث عن شعرية المقالة ربما يقودني - شخصياً- الى استعادة ما كتبته في كتابي (المقالة الأدبية في العراق)، ولكني سأكتفي بالإشارة الى ذلك ، وأنا في اطار الحديث عن محمد خضير مقالياً، أولاً من خلال تجربتي النقدية، وعلاقة المقالة بالذات والعواطف الجياشة والأفكار المتصارعة، وخصوصاً وان المقالة الأدبية نضاحة، تنضح الرؤى والأفكار وخيالات وترسبات الذات والعواطف الحزينة التي احتفظ بها الكاتب فتظهر فجأة وكأنها هي الأخرى أولى بالظهور من غيرها. وكاتب مثل محمد خضير همه الأول كتابة القصة القصيرة المحتفلة بالوصف وحياة الرحالة والصحراء والبحار والازقة القديمة وذكريات الجاحظ وعوالم مدينة البصرة، يكتب كتابه (الرجل الفسيل) كنوع من التجربة الذاتية الحائرة بين الحب والفقدان، بين الصحبة والمحبة والوفاء والوداع الأخير مع استاذه وصديقه الكبير روحاً وثراء وثقافة وادباً. والمقالة والكتاب ليس سوى علاقة بين العنوان والمتن، فبعد منتصف الكتاب يصرح بالقول:" الحقل واسع ومديد، واللحظة الذاتية تدعو صاحب الفسيل الى العجلة والاختصار، ونهايات العمر تتفرق في الدفاتر سطوراً تشكو الوحدة والاحتضار".[ص76/ الرجل والفسيل: محمد خضير، شركة بلورة الجنوب، البصرة 2012م] لعل عنوان الكتاب مستقى من البيت التالي:
فباتَ يروّي أصول الفسيل فعاشَ الفسيلُ ومات الرجُلْ
يبدو تاريخ محمد خضير في كتابة المقالة الأدبية، قلقاً وخاضعاً لمؤثرات خاصة ،أبرزها صدمة الحدث، حيث تعمل الذكريات والعلاقات الخاصة في تفجير الحدث، وترشيح الخزين المخبوء من الآلام والأحلام، ففي ميدان كتابة المقالة وشعريتها ثمة صراعات دفينة ،وأخرى ظاهرة، فروح التنافس وروح الوفاء والرثاء والايثار، الجانب الذاتي يشكل منعطفاً خطيراً في علاقة الابن والأب، والابوة التي تحيلنا الى عقدة أوديب والضيزن العربي، وبين سماحة اللقاء والجمال، والجانب الذاتي في هذا الكتاب هو نوع من أنواع الرثاء لصديق العمر، وقد كتب عن نفسه موضوعاً بعنوان (شعرية العمر) ،واختصر تاريخه القصصي في مجموعة واحدة هي (رائحة الشتاء) وتاريخه الروائي في رواية واحدة وتاريخه النقدي في (ثريا النص)، كما ترك انصاف قصص وانصاف مقالات ،وربما قصص منجزة، من الواقع ولم يحالفه الزمن في اكمالها وترتيبها وبعثها من جديد، وأبقى لأحد طلابه النجباء خيار الاحتفاء، والنشر والاتلاف او الهروب منها ؛ فالزمن دوار والنهايات متشابهة وشعرية العمر واحدة.
-2-
تعود تواريخ بعض المقالات الى عام 1999م، كما جاء في المقالة الأولى ،ومحمد خضير في الغالب يتحدث عن العلاقة الحميمة بينه وبين استاذه وقرينه بطريقة تجعل الواحد مكان الآخر، فيصف في مقدمته لهذا الكتاب بـ( مقالاتي) أو يصرح بوجوده الذاتي (اننا)، وهذه واحدة من عناصر بناء المقالة الأدبية ،وهي الحضور الذاتي ،وبروز الجانب العاطفي، ومحمد خضير كاتب محترف ومتأنٍ، وخبير في اختيار الكلمات والعنوانات والجمل، فلا يلج ميداناً كتابياً الا بعد أن يطرق بابه بحضور جلي؛ وهذا ما يبدو على علاقته الودية الحميمة بأستاذه، وقد اختار حكاية السجين الذي اثبت مسماراً يعلق به سترته، كلما استدعوه الى التحقيق، وحكاية المسمار ربما لها علاقة بمسمار جحا ،بحيث يصبح المسمار وسيلة للمطالبة بحقوق ملكية الدار؛ فقد كان المعتقل شريكاً للسلطة بشكل غير معلن لاستمرار اعتقاله وملاحقته، من وجهة نظرها طبعاً، ولعل ذلك إحالة من الكاتب الى معاناته الذاتية.
ولربما يكون المسمار دليله الى معرفة العلاقة الحميمة بين الابداع وشرطه الإبداعي ؛ فمحمود عبد الوهاب تجاهل بداياته في كتابة القصة القصيرة ، فقد نشرت له مجلة (الآداب) أول قصة عام 1951م، واقترنت قصصه بالقطارات الصاعدة الى بغداد والنازلة منها، كما ذكر ذلك صديقه الراحل غازي العبادي في محاضرة له عام 1991م، بالبصرة، حيث كان محمود دائم السفر والرحلات، وكأن محمد خضير كان على علم بذلك، فقد حفلت قصص مجموعته الثانية بالرحلة والرحالة.
-3-
ارتبطت أفكار محمد خضير في كتابة هذه النهايات القصيرة أو شعرية النهايات التي جسدها محمود عبد الوهاب، في سيرته غير المنشورة والتي عنوانها (شعرية العمر) ويعني بها البناء الزمني الأكثر سيولة ،والسردية التي لها نهايتها، وهاجس مضمر يوحي بأن نهايات القصص تشبه نهايات العمر، ومع ذلك فان هذه المقالة تبدو متدفقة بالآلام والذكريات وهي جزء من حنين وتاريخ شخصي يعبر عن قوة تعبير العاطفة وتملكها للآمال العريضة التي ضاعت بين النشر والخيبات؛ وغالباً ما تكون العاطفة نضجاً، مثل ماء الساقية المتدفق الذي يروي شرايين الفسيل، ولم يجعل محمد خضير كتابه كتاباً رثائياً أو حزينا، لأن الرجل قد رحل ،وان ذكرياته لا تنفصل عن ذكرياته، وهذا التداخل ربما يجعل رثاءه رثاءً للذات، ولموجات من التنهدات التي لا تغني عن جوع ولا تغني عن خوف.
كانت الفكرة لدى محمد خضير موضوعاً مهماً، والتي صاحبت جثمان الفقيد الى مثواه الأخير في مقبرة الزبير ، حيث دفن السياب والكثير من حكماء البصرة، منذ الحسن البصري، وحتى آخر الموتى الذين رثاهم محمود عبد الوهاب، قبل موته، ورثاهم محمد خضير، بعد موت محمود نفسه، حيث يقول محمد خضير:
" أجمع مقالاتي عن القاص الراحل محمود عبدالوهاب، لأثبت بنشرها في هذا الكتاب قولاً كنت سدّدته نحو على سبيل المماحكة والمداعبة، عندما احتفلنا في أيامه الأخيرة بفنه وتجربته الإنسانية.
ألقيت بقولي من المنصة:" ان مقالة واحدة مقابل خمس مقالات أكتبها عنك، لهي معادلة أقبل بها راضياً وادعاً ، فلا أقلّ من هذا العدد يساوي حضورك بيننا اليوم".[ص7]
ويضيف محمد بأن محموداً لم يجبه عن اقتراحه هذا، وانه يفعل ذلك كنوع من الوفاء له، غائباً الآن، ثم يقترح بنوع من الحياء المضمر بقوله:" لعل إضافة مقال أو كتاب كلما حانت ذكراه تسدّ عن حضوره في محفل أو مجلس يظلّ فيهما كرسيه خالياً منه".[ص7] والخلو هو خلو المكان، ربما لا يعني محمد خضير الغياب الدائم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم السرب للسقا يقترب من حصد 28 مليون جنيه بعد أسبوعين عرض


.. الفنانة مشيرة إسماعيل: شكرا للشركة المتحدة على الحفاوة بعادل




.. كل يوم - رمز للثقافة المصرية ومؤثر في كل بيت عربي.. خالد أبو


.. كل يوم - الفنانة إلهام شاهين : مفيش نجم في تاريخ مصر حقق هذا




.. كل يوم - الفنانة إلهام شاهين : أول مشهد في حياتي الفنية كان