الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفساد.. مرة أخرى

فهد المضحكي

2023 / 8 / 12
الفساد الإداري والمالي


في مقال سابق، قلنا إن الفساد بوصفه انعكاسًا لعلاقات القوة غير المتوازنة بين النخبة وبين مختلف شرائح المجتمع، في الدولة البيروقراطية له أنصار يتحدثون عن إيجابياته، وله خصوم كثر ينتقدون سلبياته. واللافت للنظر أن سُبل مكافحة الفساد في الدولة الديمقراطية أنجع وأيسر بما لا يقاس من وسائل مواجهة الفساد في الدولة البيروقراطية، كون الفساد في الحالة الأولى يبقى مقصورًا على بعض الارتكابات الفردية بينما الفساد في الحالة الثانية يتحول إلى حالة مزمنة تكون مكافحته باهظة الثمن. وقلنا أيضا، يعتبر الفساد ظاهرة اجتماعية شائعة الانتشار في المجتمعات الحديثة كلها، الفقير منها والغني، الشرقي والغربي، مع اختلاف درجات حدوثه. كتب د. إبراهيم أبوالغار بمحلة «الفيصل» عدد 91، يذهب الباحث «صمويل هنتجتون» إلى أن الفساد «سلوك للموظف العام ينحرف عن المعايير المتفق عليها لتحقيق اهداف وغايات خاصة». الفساد يوجد بشكل واضح في كافة المجتمعات البشرية، وهو أكثر شيوعًا وانتشارًا في بعضها عنه في البعض الآخر، ليس ذلك فحسب، بل هو أكثر شيوعًا أحيانًا، في فترات التحول والتطور التي يمر بها المجتمع في الأوقات الأخرى. تشير الدلائل إلى أن انتشار الفساد يرتبط ارتباطًا وثيقًا بعمليات التحديث الاجتماعي والاقتصادي السريع، ويؤكد «هنتجتون» فكرته هذه من خلال مثال يضربه لنا عن الحياة السياسية في أمريكا في القرنين الثامن عشر والقرن العشرين الملاديين، فقد كان الفساد فيهما أقل ظهورًا عنه في القرن التاسع عشر. وقد أنطبق نفس الحال على إنجلترا، إذ كانت الحياة السياسية فيها، خلال القرن التاسع عشر والعشرين، أقل فسادًا عنه في القرن الثامن عشر. ويعلل «هنتجتون» هذه الظاهرة بالتأثيرات الفعالة التي تركتها الثورة الصناعية، وكذلك نمو المصادر الجديدة للثروة والقوة. وقد أدت النظم السياسية في كلتا الحالتين إلى حدوث بعض الخلل والتصدع في البناء الاجتماعي، وكان له مردود سيىء كذلك على الجانب الإداري وشتى المجالات الأخرى.

ولعل ما يميز الدول النامية انتشار الفساد الإداري فيها بصورة واضحة وملفته للأنظار، وهذ يؤدي إلى تعويق عمليات التنمية الاقتصادية والاجتماعية إلى حد كبير، ذلك لأن الفساد الإداري في كثير من صوره وبصفة خاصة الاختلاس، يؤدي إلى استبعاد قدر كبير من موارد البلاد الاقتصادية بالذات، وهي بطبيعتها موارد ذات أهمية بالغة في عمليات التنمية المختلفة. ويؤكد هذا الفكرة الباحث «مكمولان»، حيث يعتبر الفساد الإداري من المعوقات الرئيسية أمام عمليات التنمية الاقتصادية والاجتماعية فضلًا عن تأثيره القوي في عدم الاستقرار السياسي، وهذا يمثل أحد المعطيات السلبية للنظام البيروقراطي. وجدير بالذكر أن العلماء الذين درسوا الفساد في الدول النامية كانوا من علماء الغرب، وهذا يعني أنهم طبقوا المفاهيم والتصورات الغربية في دراستهم للمجتمعات الإفريقية والآسيوية. ولا شك أنه من الخطأ يمكن استخدام مفاهيم وتصورات تناسب المجتمعات والثقافات الغربية، على دراسة مجتمعات وثقافات مختلفة. وقد تناول علماء الأخلاق مشكلة الفساد بطريقة تستهدف وصف تلك الظاهرة وقياسها وتحليلها. وفي هذا المجال حاول «رونالد ريث» R.Wrelth، و«إدجار سكيمبز» E.Simlpkins في كتابهما «الفساد في الدول النامية»، دراسة الفساد وانتشاره في البلاد النامية. وقد شبها الفساد بنوع من الأعشاب الضارة التي تنمو في التربة الصالحة فتعوق بذلك نمو النباتات النافعة المفيدة وازدهار. وحقيقة أن هذا الوصف ينطوي على كثير من الدقة والاتقان، لأن إنتشار الفساد في بلد ما أو في أي تنظيم اقتصادي أو اجتماعي يؤدي إلى حدوث خلل وتعفن داخل هذا المجال، فتصيب بذلك كل الجهاز بالخلل والتصدع، ما يؤدي إلى انهيار أخلاقياته ومثله العليا.

وقد ذهب الباحثان المذكوران إلى أن موقف علماء الأخلاق يختلف إلى حد بعيد عن موقف أولئك الذين يرتكبون الفعل الإداري الفاسد. فأي أفريقي يكون في وضع يتيح له الفرصة لتعيين أقاربه في الوظائف العامة، فإنه لا يمكن اعتبار سلوكه هذا فاسدًا، لأنه في مثل تلك الأمور يكون مقيدًا ببعض القيود والتقاليد التي تحتم الالتزام بمثل اهذه الأفعال. ولذلك فإن الباحثين يعتبران المحسوبية والمجاملة من قبيل الرشوة في البلاد الغربية، ولكنها تخرج عن هذه الدائرة في البلاد الإفريقية. وانطلاقًا من هذا المفهوم، يصل الباحثان إلى تحديد شرطين أساسيين لتعريف الفساد، ومؤدى هذا التعريف أن أي فعل يعتبر فاسدًا إذا حكم عليه المجتمع بأنه كذلك، وإذا ما شعر فاعله بالذنب وهو يقترفه، ولكن هذين الشرطين لا ينطبقان، في نظرهما، على المحسوبية والتحيز في المجتمع الأفريقي مجال دراستهما. ومن الفكرة السابقة لا يمكن لنا أن نسلم تسليمًا كاملًا بأن الباحثين يوافقان على انتشار المحسوبية والمحاباة في أفريقيا، لكنهما يودان البحث في الأسباب التي أدت إلى انتشار السلوك الفاسد على أمل أن تستفيد أفريقيا وغيرها من الدول النامية بهده الدراسات حتى تتبين الطريق السويّ الذي يمكن أن يقود إلى الصواب. وإلى جانب اهتمام من جانب علماء الأخلاق بدراسة الفساد، فإن هناك اتجاهًا آخر يأخذ به العالم روبرت تلمان ويدور حول الفساد الإداري في البلاد النامية، ويذهب إلى أن هذا الفساد قد يسود في بيئة تساند فيه السياسة العامة للحكومة نظامًا بيروقراطيًت حديثًا، وحيث يتورط بعض البيروقراطيين في معامل سرية نسبية ولا تفرض عليها جزاءات رسمية كالرشوة وتوظيف الأقارب الذين لا تتوافر فيهم المؤهلات والخبرات التي تتطلبها الوظيفة، ومن جهة أخرى يحدد «تلمان» بعض الوسائل للقضاء على الفساد في تنظيم الأسواق حتى يمكن السيطرة على السوق البيروقراطية السوداء، فإذا فرضت جزاءات رادعة وكافية، فإن العملاء سوف يُجبرون على عدم التعامل مع السوق السوداء، والتحول إلى الأسواق الخاضعة للرقابة، ومن المعلوم أنه إذا لم تكن هناك رغبة حقيقية في توجيه هذه العمليات الماليه فلن يتحقق أي إصلاح منشود.

ثمة اتجاه يأخذ به «رالف بريبانتي» R.Braalbnti ويدور حول الفساد البيروقراطي. يقول هذا الباحث إن الفساد الحكومي والانحراف موجودان في جميع أشكال البيروقراطية خلال مراحل التطور السياسي. وقد حدد اثني عشر عاملاً تسهم في وجود الفساد، ومن أهم هذه العوامل الافتقار إلى العفة، وانخفاض مستوى التعليم بصفة عامة، والحكم الاستعماري، وطبيعة البناء الحكومي الذي يشجع ويساعد على إنتشار الفساد البيروقراطي. فضلًا عن ذلك، فإن الفساد قد يكون مرحلة من مراحل التطور القومي، أو مرحلة انتقالية، حيث يمر المجتمع بتغيرات تؤثر سلبًا في القيم التي يعتنقها، ولاشك أن بعض هذه العوامل على الأقل، قد تلعب دورًا لا يمكن إقفاله من الأسباب المؤدية إلى ظاهرة الفساد. تذهب أغلب الدراسات والبحوث إلى أن ضعف الاداء الاقتصادي للمؤسسات الحكومية وعدم التوزيع العادل للثروة بين أفراد المجتمع وانخفاض الرواتب والأجور في ظل ارتفاع الأسعار وانتشار الفقر وارتفاع معدلات البطالة ومحدودية فرص التوظيف وسوء التخطيط باستخدام الموارد، كل ذلك يؤدي إلى تشجيع انتشار ظاهرة الرشوة، وانتهاك القوانين والأنظمة والقواعد المالية التي تنظم وتحكم النشاط الإداري والمالي في المؤسسات الإدارية، وتشابك الاختصاصات التنظيمية للوحدات الإدارية، والإسراف في استخدام المال العام وكل هذه عوامل تساهم بشكل كبير في انتشار الفساد الإداري والمالي. ثمة من يرى أن الفساد الانتخابي أعقد أنواع الفساد السياسي، إذ يرمي إلى تغيير نتائج الانتخابات وتحويل وجهة الإرادة الشعبية، المعبر عنها بحرية ونزاهة، إلى حيث يريد المنتفعون من الأوضاع القائمة والرافضون لسيادة القانون.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. استشهاد فلسطينيين اثنين برصاص الاحتلال غرب جنين بالضفة الغرب


.. إدارة جامعة جورج واشنطن الأمريكية تهدد بفض الاعتصام المؤيد ل




.. صحيفة تلغراف: الهجوم على رفح سيضغط على حماس لكنه لن يقضي علي


.. الجيش الروسي يستهدف قطارا في -دونيتسك- ينقل أسلحة غربية




.. جامعة نورث إيسترن في بوسطن الأمريكية تغلق أبوابها ونائب رئيس