الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ماذا ينتظر سورية في المستقبل

راتب شعبو

2023 / 8 / 12
مواضيع وابحاث سياسية


تغيرت، خلال العقد المنصرم، نوعية الصراعات في المنطقة العربية. بدلاً من الصراعات وتبادل الحساسيات بين الدول، افتتحت العقد الماضي موجة واسعة من حركات الاحتجاج في عدد من الدول العربية، تبعتها، بعد بضع سنوات، حركات احتجاج في دول أخرى لم تشملها الموجة الأولى. في هذه الاحتجاجات، برزت إلى السطح إرادة شعبية مضادة للأنظمة السياسية التي كان قد استقر لها الأمر طويلاً حتى بات التوريث على جدول أعمال "الجمهوريات" جميعاً. الصراعات الداخلية التي سيطرت خلال العقد المنصرم، تقدمت على الصراعات الخارجية بين الدول. شهدنا لأول مرة كيف اقتحمت الإرادة الشعبية، التي كانت كأنها في عداد الموتى، المجال السياسي وفرضت نفسها على العالم، قبل أن تتفكك هذه الموجة وتتعثر الثورات وتتحول إلى ساحات حروب محلية تتغذى على الفشل السياسي وعلى الإرادات والمصالح الخارجية.
الملاحظة الأهم على الصراعات العسكرية التي تلت الثورات المذكورة وغطت الجزء الأكبر من العقد المنصرم، هي أنها صراعات استنزاف لا تمتلك أطرافها إمكانية الحسم، بعد أن اندرجت صراعاتها في شبكة الصراعات الدولية بصورة شبه مباشرة. هذا النموذج من الصراعات واضح في اليمن وفي ليبيا وفي سورية، واضيفت إليه اليوم السودان، بعد أن كان هذا البلد، بفضل تطور النضال المدني فيه، الأكثر قرباً إلى تأسيس نظام حكم ديموقراطي.
في توقع حال هذه البلدان في العقد القادم، تنبغي الموازنة بين العناصر التي تدفع باتجاه الخروج من صراع الاستنزاف الحالي وبناء دولة بوصفها مؤسسة عمومية وليس موضوع مُلكية تتصارع الأحزاب والفرق للفوز به، وبين العناصر التي تعيق هذا الخروج وتجعل البلد غارقاً في صراعات الاستنزاف التي لا معنى لها، لأنها صراعات تدور بين سلطات متشابهة سواء في علاقتها مع الجمهور أو في تبعيتها للخارج أو في كون برنامجها السياسي الوحيد هو البقاء وكيفية الاحتفاظ بالسلطة فوق كل اعتبار.
في الحالة السورية نلاحظ أن القوة الأساسية، وربما الوحيدة، التي يمكن أن تغذي الميل إلى وحدة سورية في ظل حدود معقولة من العدالة السياسية والاجتماعية، هي إرادة الشعب السوري. لا أحد له مصلحة في خروج سورية سليمة من هذا الهول سوى الطبقات الشعبية التي تعاني اليوم من غياب التمثيل السياسي. وما يزيد في الأمر سوءاً هو الانقسام السياسي القائم.
نجد في الوضع السوري اليوم، أن إرادة الشعب باتت مشتتة في ظل سلطات الأمر الواقع التي تتقاسم سورية. يعيش السوريون في ظل كل سلطة قائمة اليوم صراعات مركبة. على سبيل المثال، القسم من الشعب السوري الذي يخضع لسلطة دمشق، يعاني من شتى صنوف الاختناق، من الضيق المعاشي إلى التضييق الأمني إلى الإذلال الوطني، ومن الطبيعي أن يولد هذا موقفاً رافضاً لنظام الأسد، ولكن هذا القسم لا يجد في سلطة الإسلاميين في شمال غرب سورية، مثالاً يرتجى، ولا كذلك في سلطة الإدارة الذاتية في شمال شرق سورية. لا من حيث علاقة كل سلطة منهما بمحكوميها، ولا من حيث المنظور السياسي الغالب في كل منهما.
يوجد جزء مهم من المحكومين لنظام الأسد يكنون العداء للسلطات الأخرى التي نشأت واستقر لها الحال في مناطق مختلفة من سورية، الأمر الذي يشكل، في ذهن هؤلاء، نوع من تسويغ القبول بنظام الأسد بوصفه ممثل "الدولة" والمدافع عن "الوطن" في وجه سلطات "انتهازية" طارئة. حتى أن الخطاب العدائي الذي يصدر عن نظام الأسد ضد هذه السلطات، الإسلامية والكردية بشكل خاص، يشكل مصدر رضا لقطاع من القوميين العرب الذين يشاركون النظام موقفه من الكرد. والحال كذلك فيما يخص العلمانيين في تقاطعهم مع موقف النظام من الإسلاميين.
بعض المعارضين السياسيين الأشداء لنظام الأسد من القوميين العرب، يطربهم تشدد النظام مع الكرد وإنكاره لحقوقهم، فما بالنا بقوميين عرب غير منخرطين في معارضة النظام. كذا الحال في وقع معاداة النظام المعلنة للفصائل الإسلامية على مسامع العلمانيين السوريين. سوف تجد مثقفين علمانيين سوريين يرون في وقوف نظام الأسد ضد الإسلاميين مسوغاً كافياً للقبول به، فما بالك بجمهور واسع من الأديان والمذاهب المغايرة للمذهب السني. هؤلاء يرون في الإسلاميين تهديداً لهم ولنمط حياتهم يجعلهم راضين بنظام يذيقهم المرار ولكن يبدو لهم قوة الحماية الوحيدة ضد خطر إسلامي يتجسد الآن في سلطة على بقعة من سورية. المنطق نفسه يمكن سحبه، مع التعديلات المناسبة، على المحكومين للسلطات المستجدة، فتجد، مثلاً، أن السبب الأهم لقبول الفصائل الإسلامية التابعة لتركيا أو لهيئة تحرير الشام يكمن في عدائها لنظام الأسد.
لم تتبدد هذه القناعات في سياق العقد المنصرم، ولا يبدو أنها ستتبدد قريباً. يشهد العقد المنصرم على فشل أي جهة سياسية سورية في كسب ثقة السوريين على أساس وطني يتجاوز الحساسيات القومية والمذهبية. هذا ليس لأنه لم تتوفر جهة وطنية سورية، بل لأنه لم تنجح أي منها في النمو والوصول إلى الجمهور وكسب النفوذ. أي لم تنجح أي جهة سياسية في حشد السوريين بوصفهم جماعة وطنية. ولا غرابة في ذلك، إذا علمنا أن العنف يسيطر وأن الأرض ممسوكة من أطراف لا تحوز على ما يبني الثقة المتبادلة بين السوريين، بل تبني سيطرتها على ما يبدد الثقة وفق خطوط انقسام قومية ومذهبية. والنتيجة أن الانقسام السياسي الحاصل في سورية، استجر انقساماً شعبياً يبدد إرادة الشعب السوري التي هي، كما قلنا، الجسر الأهم، وربما الوحيد، نحو استعادة وحدة سورية بدولة ذات مضمون حديث.
على ما سبق، يبدو أن هناك حقيقة تتضح أكثر فأكثر مع الزمن في سورية، كنموذج عن البلدان العربية التي تحولت إلى ساحة حروب داخلية استنزافية، هي المزيد من تبلور الانقسام السياسي الحاصل، وتراجع العناصر الداخلية التوحيدية (غياب الإرادة الشعبية الواحدة، وتكرس سلطات ذات مصلحة بالانقسام الحاصل). لكل سلطة قائمة في سورية ارتباط خارجي مختلف ومهيمن، وهذا يزيد من عمق الانقسام الذي من الراجح أن يستمر على هذه الحال غير الرسمية خلال العقد القادم. مع ذلك يبقى هناك أمل في أن التبلور المتزايد لهذه السلطات قد ينتهي، إذا توفرت الشروط، في توحيد سورية بصياغة توحيدية جديدة أكثر مرونة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إيطاليا: تعاون استراتيجي إقليمي مع تونس وليبيا والجزائر في م


.. رئاسيات موريتانيا: لماذا رشّح حزب تواصل رئيسه؟




.. تونس: وقفة تضامن مع الصحفيين شذى الحاج مبارك ومحمد بوغلاب


.. تونس: علامَ يحتجَ المحامون؟ • فرانس 24 / FRANCE 24




.. بعد لقاء محمد بن سلمان وبلينكن.. مسؤول أمريكي: نقترب من التو