الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفيلم الأيراني (طريق ترابي) رحلة الخلاص والبحث عن الحرية

علي المسعود
(Ali Al- Masoud)

2023 / 8 / 12
الادب والفن


المخرج الإيراني الشاب "بناه بناهي” الذي يسبق دائما لقب أبيه المخرج المعروف جعفر بناهي، أخرج حديثا فيلم " انطلق للطريق" والعنوان الفارسي (جاده خاكي) وترجمته للعربية (طريق ترابي)، أول شريط سينمائي (2021) للإيراني بناه بناهي (1984) . في هذا الشريط السينمائي يسرد المخرج حكاية الفيلم بشكل هادئ ويكون فضاؤها الداخلي السيارة التي تشق طريقها عبر الطريق الصحراوية الخالية داخل أيران والمتجه صوب الحدود التركية. أما أبطال الحكاية هم : عائلة مؤلّفة من 4 أشخاص، أب مُجبَّر الساق يجلس في المقعد الخلفي ، والأم الحزينة (بانتيا باناهيها)، تجلس بجانب الأبن الأكبر فريد (أمين سمير) الذي يتولى قيادة السيارة مع الأبن الصغير (رايان سارلاك). الفيلم تم تصويره في ظل نظام صارم. كما هو معروف أن والده المخرج الشهير جعفر بناهي واحد من أهم المخرجين الايرانيين الذين اختاروا الشجاعة والتمرد أسلوبا لطرح أفكارهم؛ فمنذ بدايته عارضته السلطة ومنعت أول أفلامه القصيرة، عاش أبيه المخرج جعفر دوما محاصرا لذلك أعتاد على انتاج أفلامه بأقل التكاليف من حيث التصوير واختياره الممثلين الغير معروفين، ولكونه من تلاميذ المخرج الراحل" عباس كيارستمي" ، لذلك واضح تأثر به من خلال اهتمامه بالطبقات الفقيرة والتركيز على الاطفال؛ وضع تحت كان الاقامة الجبرية بقرار من السلطة صدر عام 2010، حيث قضي خلالها عدة أشهر في الحبس، حينها لم يتمكن جعفر من السفر، وتم منعه من صناعة الافلام لمدة 20 عاما، ولكنه مع ذلك لم يتوقف ، يقول جعفر “أريدكم أن تضعوا أنفسكم مكان صانع أفلام لا يجيد سوى صناعتها، ولا يحب سوى تلك الصناعة، كم 20 عامًا لديّ لأضيعها؟، إنني لا أستطيع أن أبقى خاملا وأهدر حياتي، هذا ليس إفراجًا، فقط خرجت من سجن صغير لأحبس في آخر أكبر “. ليس فقط والد المخرج بناه عانى من قمع السلطة الدينية، بل أجبرت أخته " سولماز بناهي" على الفرار من البلاد بعد أن لعبت دور البطولة في أحد أفلام والدهما.

كما يوحي العنوان فيلم طريق ترابي، يتبع عائلة أثناء رحلتهم عبر الريف الى تركيا. والد الأولاد (حسن ماجوني) في المقعد الخلفي، في حين تبدو زوجته (بانتيا باناهيها) مصابة بعقدة الخوف من الأجهزة الأمنية وأجهزة الحرس الثوري وتخشى مراقبتهم ومتابعتهم في الطريق والكشف عن وجهتهم، غالبا ما يضطرون إلى التوقف والتفاعل مع مجموعات مختلفة من الناس . المشهد الافتتاحي للفيلم يبدأ من لقطة من داخل سيارة الدفع الرباعي التي تشق طريق ترابي مغبر في الريف الإيراني. الأبن الصغير البالغ من العمر ست سنوات (رايان سارلاك) يلعب بلوحة مفاتيح مرسومة على جبيرة ساق والده (حسن مادجوني) المكسورة. حيث توحي موسيقى سوناتا بيانو للموسيقار "شوبرت" الحزينة المرافقة بأن الرحلة في السيارة ستكون صعبة. إنها مقدمة مثالية لنبرة الفيلم حيث يمزج الجمال الحزين للموسيقى مع مرح الطفل البارع سارلاك، حزمة من الكوميديا والنشاط والطاقة التي لا يمكن كبتها، والتي يستجيب لها والداه بمزيج من التهيج والفكاهة المحببة . يطلقون على الصبي "ريح صغير"أو " القرد الصغير". على النقيض من ذلك يكون شقيقه الأكبر (أمين سيميار) بوجه العابس المتجهم والصامت على طول الطريق (لأسباب وجيهة، كما سنتعلم لاحقا). هناك شعور عالق بالخطر مع استمرار الرحلة. لا يعرف الجميع في السيارة إلى أين يذهبون والمجهول الذي ينتظر الأبن الاكبر، وكما يحدث في الكثير من الحالات وفي ظل ظروف عائلية حزين يجب الحفاظ على المظاهر والأسرار من أجل الأبن الصغير. النكات العائلية والحميمية والمشاحنات مرسومة بدقة وواقعية لدرجة أن الشعور المتزايد بأن كل هذا مهدد أمر تقشعر له الأبدان حقا.
يتم عرض السينما الإيرانية بكل إنسانيتها الشعرية بشكل جميل في " الطريق الترابي" لبناه بناهي، وهي رحلة غير مألوفة وذات مغزى عميق عبر المساحات النائية. نكتشف ان تلك الرحلة هي محاولة لتهريب الابن الى خارج البلاد ، مغادرة إيران يعتبر حلما للكثير نتيجة للقمع في البلاد. ولكن الفيلم لا يكرر الحديث عن المعاناة واصلها ولا يلقي اهتمام بخلفية الاحداث. فهناك ايجاز واضح للزمن ربما لأسباب رقابية؛ لذلك يسحبنا المخرج بإيقاع هادئ وبطيء نسبيا نحو مشاعر الابطال والتي تتأرجح بين ان يكون الفراق أملأ وتعويضا لخسارتهم وبين لحظات اخرى من الانهيار والتمني بعدم الذهاب. فحزن الام نترجمه من اللحظات الاولى فقلبها مثقل بالقلق والعجز ففراقه يمزق قلبها لكن عليها تشجيع ألأبن بالهجرة كي يواجه مصير غير معروف؛ تجمع له صور التقطها وهو صغير وتهديها له كذكرى ربما يفتتح معرضا فنيا يكون سبب شهرته في الخارج ، اما هو فيتساءل هو ما الذي يمكنهم ان يفعلوه في غيابه. في رحلتهم يضحكون ويبكون ويغنون كمحاولة منهم لتخطي ما ألفوه من حياتهم العادية لأنهم إذا ما بحثوا عن فكرة لم الشمل مرة اخرى تكون بلا جدوى. ففي مشهد الوداع الاخير يظهر التأثر الواضح بسينما عباس كيارستمي والتي كانت واضحة في لقطات الفيلم منذ بدايته من خلال اللقطات المتكررة للطبيعة سواء الصحراوية والتي تعبر عن مشاعر الغربة والخواء ومع تغيرها الى المناطق الريفية كدلالة على احتمالية الخير. تتكرر تلك اللحظات الطويلة الصامتة من الاب والام ففي أحد المشاهد تراقب الام النجوم في السماء في حزن صامت فقلبها معلق بفريد الذي غادر لتوه؛ ويخفف شعورها براءة الحكاية التي يحكيها الاب لطفله الصغير . اعتمد الفيلم على الأغاني الايرانية التي كانت سائدة قبل استلام ألاسلاميين زمام السلطة ، مثل اغاني دلكاش وشهرام شابريه وهذه اللفتة بمثابة تحية لهؤلاء الفنانين وكذالك اشارة الى مصيرهم بعد الثورة . فهناك حالة من الحنين والحب المشتركة بين الايرانيين لهؤلاء الفنانين وللماضي ، فلولا قدوم الخميني ورجاله لما اصبح الحلم العادي للشباب الايراني منذ فترة الثمانينات هي مغادرة البلاد دون رجعة كي يتمكنوا من ممارسة حياتهم بشكل طبيعي..فمنذ قيام الثورة في عام 1979 تم فرض القيود على المغنيين وصارت الموسيقى لا تنتمي لمبادئ ومزاج الثورة الاسلامية وتم تحريمها ومنع غناء حتى ان القانون يعاقب اللاتي يغنين بدون ترخيص رسمي بالجلد .

سرعان ما يؤسس المخرج باناهي الرابطة الضيقة لوحدة الأسرة، ليس فقط في الطريقة التي يغنون بها أو يمزحون معا، ولكن ضمن العائلة التي يتم بها استقبال تعليمات ألأب لابنه الأكبر للتحقق من المرايا أثناء قيادته من السيارة. الابن الأصغر - الذي يشار إليه ببساطة باسم "القرد الثاني"، كما هو الحال في معظم العائلات تستخدم القاباّ مرادفة الى الأسماء الفعلية - يتلاشى جنبا إلى جنب مع حماس لا حدود له ولا توجد أبدا لحظة مملة مع أداء الطفل سارلاك البارع بحيث يسرق الكاميرا من الممثلين الكبار ذوي الخيرة المسرحية.، سواء كان نزاعه مع والدته بخصوص الهاتف المحمول الذي قام بتهريبه أو إستقساره عن راكب الدراجة الذي يلتقطونه خلال الرحلة لفترة وجيزة. على طول الطريق تكشف نقطة الكآبة في الرحلة عن نفسها تدريجيا. يتحول باناهي وممثليه من خلال المشاعر بسلاسة كبيرة، غالبا ما يحاول الكبار في السن الأكبر أخفا مشاعرهم الإنسانية عن الابناء جنبا إلى جنب مع التعامل مع الظلال العاطفية المختلفة. الأشباح المزدوجة للحرب المحتملة والاستبداد الدائم - وعلاقة أحدهما بالآخر - موجودان بما فيه الكفاية في نسيج الفيلم دون إشارة صريحة، وباناهي ذكي بما يكفي لرؤية الكوميديا والشفقة والحزن المتوطن في اللحظات الشخصية الصغيرة، والتي بدورها تلغي الحاجة إلى المزيد من الهندسة الميلودرامية ولا يتم بناء جميع هيكلته على قدم المساواة، تعمل ساقألأب المكسورة ودموع الام المكبوتة خلال أغاني البوب القديمة التي تشكل الحنين الى الزمن الجميل في حياة الأبوين.
المخرج لا يعطي أي سبب حتى نهاية الفيلم عن سبب الهجرة غير الشرعية للصبي، ويزداد الغموض في الفيلم أكثر. على سبيل المثال، في أحد المشاهد، تطلب الأم فجأة من ابنها عدم الذهاب (وهذا يعني أن للابن الحق في اختيار البقاء)، ولكن في مشهد آخر، عندما يتحدث الابن مع الأب، إنه قلقًا بشأن المنزل الذي تعهدت به لي (وهذا يعني أن الأبن احتاج إلى الإفراج عنه بكفالة لسبب غير معروف. يضمن باناهي الصغير وضع شخصيات الفيلم ورحلتهم أولا. ولكن تحتها يخفي يعض انتقادات للقوى التي سببت في تمزيق نسيج هذه العائلة. ظهور مذهل لأول مرة من باناه بناهي (ابن أيقونة صناعة الأفلام الإيرانية جعفر بناهي). باعتبارها خامة بشكل مفجع في تصويرها لعائلة تواجه مستقبلا غير مؤكد ، يأخذنا الفيلم عبر القرى الصحراوية النائية في طريقنا إلى الحدود الإيرانية التركية بحثا عن وعد بالحرية. يأخذ المخرج بناهي والمصور السينمائي أمين جعفري استعارات مألوفة للسينما الإيرانية المعاصرة ويعيدان صياغتها بتغيرات وأجواء ممتعة . التصميمات الداخلية للسيارات جنبا إلى جنب مع المناظر الطبيعية هي شيء من تقليد لصانعي الأفلام الايرانية الكبار مثل عباس كياروستامي إلى بناهي الأب ، لمسات بناهي وجعفري الغنائية البصرية، التي تؤخذ بشكل تراكمي، لها تأثير التوقيع في طور الإعداد. هناك لحظات موسيقية مؤثرة ، في لقطات تستوعب ظروف الرحلة وقسوتها بشكل باذخ في ملحظات تبدو عادية، مما يجعلها خيالية ومفجعة في نفس الوقت. في الدقائق الأخيرة: ا مشهد الأم يذيب القلوب حين تركض صائحةً على من يصطحبون ابنها إلى المجهول: “إلى أين تأخذون ولدي؟”. ثم المشهد الأخير، حين تنسحب الكاميرا على أرض يباس شقّقها الجفاف، في دلالة قوية وإنْ كانت مألوفة، على أنْ لا علاج لهذا الألم لا في الوطن ولا في المنفى وبالتزامن مع أغاني الحنين التي تُبثّ من مسجل السيارة .

من حيث التأطير، يشعر المشاهد كل شيء منقول بعناية مع انتقال باناهي والمصور السينمائي أمين جعفري من الحدود الخانقة للسيارة إلى لقطات زاوية واسعة جميلة للعمل للمحادثة عن بعد أو دردشات خارج فضاء السيارة. يشعر المرء أن أمي (بانتيا باناهيها) وأبي (حسن ماجوني) ربما يأخذان الأمور ببطء لأنهما لا يزالان يشعران بالتناقض العميق في المشاعر بشأن هذه الرحلة البرية المفاجئة. يأخذ سيناريو باناهي المقتضب بذكاء وقته في الكشف عن الأساس المنطقي وراء تلك الرحلة، على الرغم من وجود التوتر الواضح يكون الأخ الصغير البرئ (رايان سارلاك) غافلا إلى حد كبير، ولكن أمي وأبي والأخ الأكبر (أمين سيمير) حذرون بشكل واضح من أي سلطات عابرة، ويختارون كلماتهم بعناية عند التحدث مع الغرباء. هذه الحراسة لها ما يبررها، حيث اتخذت الأسرة ترتيبات للأخ الأكبر للقاء بعض المهربين والفرار عبر الحدود إلى تركيا. لا يوضح الفيلم أبدا سبب خوف الابن البالغ من الاضطهاد الذي يلوح في الأفق من قبل الدولة - من ضمنا أن يكون بسبب سياسي أو شخصي أو كليهما، من المؤكد أن هناك نقدا مبطن للجمهورية الإسلامية في الفيلم، والذي يبدو تذمراّ من السياسة الأستبدادية والتي من شأنها إجبار الأسرة على كسر رابطتها بهذه الطريقة. حتى ونحن نتسلق نحو القمم التي يعيش فيها المهربون، يمزج باناهي ببراعة بين الفكاهة والدراما، مما يسمح بترك لحظات من الكوميديا الخالصة من خلال مشاهد طويلة من المحادثة التأملية. حادث يبدو بسيطا حيث تضرب العائلة راكب دراجة في سباق على الطريق يفرز قليلا من المرح الصاخب بطريقة غير متوقعة تماما. وبالمثل، تتحول مسيرة المشاحنات بين الأب والابن فجأة إلى لحظة تفكير وجرد حساب بين الاثنين . في هذه التحولات المفاجئة يكشف الفيلم عن قوته السينمائية.

رحلة غير عادية للشخصيات لم يذكر اسماءها

السينما الإيرانية الحديثة بالفعل سلالة عائلية واحدة لصناعة الأفلام تأسست بداية من عائلة المخملباف (الأب محسن، تليها ابنتاه سميرة وهناء)، فتقدم إلى الأمام موهبة الجيل الثاني الثانية. المخرج بانه بناهي بعد التحاقه بمدرسة السينما في طهران، وتصوير فيلم قصير حائز على جوائز ومساعدة والده في عدد قليل من أفلامه، ظهر بناهي أخيرا لأول مرة مع فيلمه المذهل (طريق ترابي)، فيلم يدور حول ابن يرحل عن عائلته حتى يتمكن من إيجاد طريقه الخاص. تم عرض هذا الظهور الأول المثير للإعجاب والمؤثر لأول مرة في أسبوعي المخرجين في مهرجان كان، يحكي الفيلم عن شخصيات لا نعرف اسمها طيلة الفيلم، فعدا كلب الأسرة فإننا نجهل أسماء جميع أفراد الأسرة الأربعة في الفيلم، وذلك في محاولة من المخرج لإسقاط القصة على كل المواطنين الإيرانيين. يأخذنا الفيلم عبر القرى الصحراوية النائية في طريقنا إلى الحدود الإيرانية التركية بحثا عن وعد بالحرية. المشهد الافتتاحي، الذي يبدأ بلقطة من داخل سيارة الدفع الرباعي الصغيرة الخاصة بالعائلة على جانب طريق سريع وحيد، هو أحد هذه الإشارات الخفية على استقلال بناهي الواعي عن المقارنات المتوقعة. يغفو الوالدان في مقاعدهما. في المقعد الخلفي، يتظاهر ابنهما الأصغر (ريان سارلاك) بالعزف على مفاتيح البيانو المرسومة التي تزين ساق والده (حسن مجوني)، وإصبعه يطابق سوناتا شوبرت التي نسمعها. الابن الأكبر (أمين سميار) في الخارج، يتجول في محيط السيارة ويتوقف للنظر بحزن إلى والدته (بانتيا باناهيها). ثم يستدير ليحدق في الأفق "ما الذي ينتظرنا؟”. يقطع الهدوء خوف الأم المستيقظة من أن طفلها الصغير، على عكس رغباتها، قام بتهريب هاتف محمول في الرحلة. إن تحدي الصبي ومشاكساته، إلى جانب تعامل الأب الساخر المرهق معه. إيقاعات الفيلم المبهجة من خلال كوميديا وحركات الطفل المميز. لكن سلوك الابن المتوتر بشكل عام وانشغالات الأم القلقة والعاطفية، كلها تشير إلى أن هذه ليست رحلة عادية لهذه الشخصيات التي لم يذكر اسماءها. باستثناء الكلب حيوان العائلة الأليف الذي نعرف اسمه وغياب اسماء ابطال الحكاية، نجل المخرج المخضرم جعفر بناهي، يبدو أن الكثير من المواهب قد انتقلت من الأب إلى الابن بناهي. وقد وضح المخرج هذه النقطة بعد عرض الفيلم حين قال: “عندما كتبت السيناريو أدركت بأنني لست محتاجا على الإطلاق إلى تسمية الشخصيات، ففي إيران أعتقد بأن الأسماء لها مكانة اجتماعية، فمن خلال الاسم يمكننا تحديد إلى أي طبقة اجتماعية ينتمي صاحب الاسم، لكنني أردت صنع فيلم ينعكس على كل الطبقات الاجتماعية لبلدي. بالنسبة لي أعتقد أن اختيار عدم إطلاق أسماء على الشخصيات في نهاية المطاف سبب شخصي، لكنني في الوقت نفسه أؤمن بمدى كون المتلقي قادرا على تحليل الأمور بعمق أكبر مما يتوقعه صانع العمل، وهذه قوة السينما، فالنص يمكن تأويله من كل شخص على حسب أفكاره وقراءاته".

الكشف عن الغرض من رحلتهم

يبدأ بناهي الأمر كرحلة برية بسيطة مع الأم (بانتيا باناهيها) والأب (محمد حسن مدجوني) والابن الأكبر (أمين سيمار) والابن الأصغر البالغ من العمر ست سنوات (ريان سارلاك) محبوسين في سيارة مستعارة يأكلون الفستق ويغنون مع أغاني البوب قبل أن يرفعوا الستار تدريجيا عن الدوافع والطموحات. يرافقهم كلبهم المريض. لم يتم الكشف عن أسباب رحلتهم السرية في سيارة دفع رباعي مستأجرة إلا جزئيا وهم يشقون طريقهم من طهران إلى الحدود التركية، المخرج فهم بشكل جيدا الحاجة إلى تحقيق التوازن بين الفكاهة واليأس داخل شخصياته، ويحافظ بشكل مؤثر على جو من عدم اليقين والتعجب طوال الوقت. إنه يستفيد بشكل مثير للإعجاب من المناظر الطبيعية المتنوعة التي يوفرها شمال إيران، من الصحراء المسطحة المخبوزة بالشمس (مع إشارة عابرة إلى بحيرة أورميا الجافة، وهي كارثة بيئية حديثة) إلى التلال الخضراء المتدحرجة المغطاة بالضباب. تتظاهر العائلة بأن سيميار سيتزوج وأنهم جميعا برفقته لتوديعه وهو يغادر البلاد لبدء حياته الجديدة. إنهم يتظاهرون بأن كل ما يحدث في وجهتهم الحقيقية ( منطقة التقاء المهربين والعائلات ) سيكون فراقاً مؤقتا فقط ، على الرغم من معرفتهم في قلوبهم أنهم قد لا يرون ابنهم مرة أخرى . هناك الكثير لمعالجته وخاصة محاولة إخفاء المشاعر الحقيقية من اجل ضمان سلامتهم . والطريقة التي يتفاعل بها الممثلون أصيلة وممتعة، الأم التي تبحث من خلال ألبوم صور وذكريات عن الأبن الأكبر (سيميار من تبوله في الفراش عندما كان طفلا كما لو كانت مجموعة من الأعمال الفنية ، أما الأب يلهو باستمرار مع الأبن الأصغر سارلاك . نكتشف الرحلة هي محاولة لتهريب الابن الى خارج البلاد لتجنب الخدمة العسكرية الإلزامية، ويتم التوسط من أجل رحيله مع المخاطر والتكاليف الكبيرة لتلك المجازفة ، بالرغم من أن مغادرة إيران والرحيل بالنسبة يعتبر حلما للكثير من الشباب نتيجة للقمع أو اعدام الفرص في البلاد . هناك ايجاز واضح للزمن ربما لأسباب رقابية؛ لذلك يسحبنا المخرج بإيقاع هادئ نحو مشاعر الابطال والتي تتأرجح بين ان يكون الفراق أملا وتعويضا لخسارتهم وبين لحظات اخرى من الانهيار والتمني بعدم الذهاب . فحزن الام نترجمه من اللحظات الاولى فقلبها مثقل بالقلق والعجز ففراقه يمزق قلبها لكن عليها تشجيعه لحمايته من مصير غير معروف؛ تجمع له صور التقطها وهو صغير وتهدي الألبوم كذكرى له، اما هو فيتساءل هو ما الذي يمكنهم ان يفعلوه في غيابه. الأم المحبة التي لا تفعل سوى الابتسام، ذكريات مع المودة حول طفولة الابن الأكبر الذي ينوي الرحيل ، وتبكي فقط وعيناها تتجنبان السماء من لوعة الفراق، عندما لا تعرف أحدا يراقبها.
في فيلم مليء بالعديد من الإيماءات الصغيرة، ولكنها مؤثرة، تلك التي لا يراها الآخرون، مثل دموع الأم أو عشق الأب ومحبته وهو يحدق في زوجته مرة واخرى وهو يغني أغنية حب في أنفاس متهدجة. فيلم "طريق ترابي" رحلة عائلية مع الأب وساقه الموضوعة في جبس التجبير، الابن الشاب البالغ الصامت بشكل مخيف الذي يقود سيارته ذات الدفع الرباعي وشقيقه الصغير مفرط النشاط . لم يتم إخبارنا أبدا بأسمائهم صراحة أو وجهتهم ، على الرغم من أن ترتيبات زواج الأخ الأكبر يتم ذكرها كغطاء خفي للسبب الرئيسي بشكل غامض. في البداية، عندما أكتشف الوالدين أن الأبن الأصغر قد هرب هاتفا خلويا لتشغيل الموسيقى، يبدو الأمر وكأنه مجرد مزحة صفيقة – حتى تنفعل الأم وتقوم بإتلاف بطاقة السيم كارت خوفا من المراقبة أو التعقب . هناك قلق حقيقي عندما يعتقدون انهم مراقبون ويتم متابعتهم من قبل رجال الشرطة السرية الأيرانية ، في رحلتهم ، نشاهدهم يضحكون ويبكون ويغنون كمحاولة منهم لتخطي ما ألفوه من حياتهم العادية وأخفاء قلقه وخوفهم .

استخدام السيارة فضاء داخلي للحكاية

في فيلم “طريق ترابي” تترسخ فكرة باستعمال السيارة فضاء لسرد الحكاية، سبق وان تكررت في أفلام عباس كيارستمي، واقتبسها المخرج بناه بناهي، إذ يصف السيارة كبيت ثاني للإيرانيين، فهي توفر مساحة صغيرة للحرية والإبداع. استخدام السيارة بشكل اساسي و تدور معظم الاحداث والحوارات داخلها. بالنسبة للإيرانيين ينظر إلى السفر في السيارات على نطاق واسع على أنه شكل من أشكال الهروب من الرقيب ، ومساحة خاصة خارج المنزل حيث يمكن أن يمارس السلوك المخالف والمحظور في الأماكن العامة -مثل ، انزلاق غطاء الرأس، أو غناء النساء فيها بحرية. عن دلالة السيارة بالنسبة لأعماله يوضح المخرج (بناه بناهي) قائلاً " في إيران نعتمد على السيارة كوسيلة للهروب من الرقابة، وهنا لا أتحدث عن السينما فقط، بل عن طبيعة المجتمع ككل وقيمة السيارات فيه. من هنا تأتي هذه الاختيارات الفنية للسيارات كجزء من شخصيات الفيلم، ببساطة السيارة في إيران بمثابة منزل ثان فهي مساحة صغيرة للحرية والابداع. من المهم جدا أن تكون لدينا سيارات في حياتنا بإيران، لأننا نحظى بلحظات من السلام من خلال امتلاكها ".

في نهاية المطاف، تتضح الجهة التي يتجهون لها وهي الحدود الإيرانية – التركية والغاية من الرحلة في طريق ترابي لغرض إخراج الأبن الأكبر من إيران بشكل غير قانوني. هذه المهمة المشحونة – التي يجب أن تخطر ببال كل من يعاني في ظل الحكم الاستبدادي الإيراني – ليست محركا للتشويق السردي النموذجي، بل هي بناء درامي حتى يتمكن بناهي من رسم صورة لديناميكيات الأسرة وفجيعتها بغياب أبنهم الكبير. يضفي المصور السينمائي أمين جعفري، الذي تتضمن سيرته الذاتية الواسعة مشاركات عديدة مع افلام لجعفر بناهي إحساسا بالعظمة على المناظر الطبيعية، والتي تتغير من الرمال القاحلة إلى التلال الخضراء. في لقطة واحدة رائعة للشفق الطويل ويكون فيها أبطال الحكاية شخصيات صغيرة تتضاءل أمام اتساع الأفق. بالنسبة الى انتقاد النظام الاستبدادي في بلاده والخسائر النفسية التي يتكبدها على الناس العاديين هو أمر ضمني في كل مرحلة من مراحل الرحلة، ولكنه يتم تقديمه بأخف اللمسات. المخرج باناه باناهي في خطوته الاولى متأثرا بتاريخ والده الفني واسلوب المخرج الراحل كيارستمي.

في الختام : فيلم" طريق ترابي " درامي رائع مذهل. الفيلم يكشف أشياء عن الواقع الاجتماعي في إيران ومواجهة ضغوط نظامها السياسي، وعن الخسارات والوداع المحتوم، وارتباط المآسي الإنسانية بسرّ الحياة التي لا تتوقف عن الحدوث، يعد التصوير السينمائي للفيلم تحفة حقيقية ويخدم الفيلم وقصته الدرامية بشكل مثالي. الموسيقى التصويرية لا تنسى للعديد من الرواد الإيرانيين وتذكرهم بتراثهم الفني. الطريق الترابي هو فيلم طريق يبدأ روايته من الطريق وينتهي في الطريق!! .




كاتب عراقي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - موضوع رائع
محمد علي حسين ( 2023 / 8 / 12 - 12:40 )

أشد على يد الكاتب العزيز على هذا الموضوع الرائع والشيّق، وأقدم له موضوعي المنشور في الحوار المتمدن، وأتمنى أن ينال إعجابه

رسالة سميرا مخملباف حول مشاكل المرأة في المجتمع


2 - رد
علي المسعود ( 2023 / 8 / 12 - 14:43 )
شكرا للكاتب محمد علي حسين على قراءته وحروفه المشجعة ، ويسعدني قراءة مقالكم ، مع محبتي لك

اخر الافلام

.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟


.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا




.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط