الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


محمود أمين العالم وأدونيس ناقدان للأدب العربي الحديث

أحمد كامل ناصر

2023 / 8 / 12
الادب والفن


في ضوء الرؤية الشاملة وعلى صعيد المقارنة بين العالم وأدونيس، بات في حكم المؤكد أنّ أدونيس يختلف عن العالم في تفرده بنقد الشعر العربي أولاً، وبرفضه القاطع أن يكون الأدب انعكاسًا للواقع الاجتماعي ثانيًا. هذا إذا كان مفهوم الواقعية بمعنى مطابقة الواقع في الوصف؛ فالشعر العربي القديم، كما يراه أدونيس، لم يكن يحفل بالخيال إلى درجة تباعد بين الشعر وبين الواقع، لذا اتسم الشعر القديم بالحسية والواقعية، أي تصوير الشيء على ما هو عليه في الواقع. ويتضح ذلك من خلال أوصافهم للطبيعة والناقة وغيرها. بعبارة أخرى كان الشعراء يستمدون أوصافهم من الواقع المحيط بهم. وهذا ما لا يطيقه الشعر الحديث، إذ إنه يتحرك نحو آفاق كونية غير واقعية ويدفع القارئ حيث اللامرئي واللاموجود.

وما تجدر ملاحظته أيضًا أنّ أدونيس لدى مناقشته الشعر العربي، يختلف عن معظم الشعراء من أمثال نزار قباني، ومحمود درويش، وسميح القاسم، وآخرين. هؤلاء الشعراء أعطوا القصيدة كل شيء ولم يخوضوا تجربة الدراسات الأدبية والفكرية والسياسية. ويختلف أدونيس كناقد عن كثير من النقاد، ولعل ذلك يعود إلى تكوين أدونيس كمحاضر جامعي يتنقل من محاضرة إلى أخرى ومن جامعة إلى جامعة. وربما يعود ذلك إلى تكوينه الذاتي وشغفه المطلق بالبحث وتمكنه من أن يستخدم لغة ناقدة واعية كانت انعكاسًا لثقافته التي اكتسبها عبر محطات مهمة في حياته؛ فقد عاش أدونيس طفولته في بيئة أدبية خصبة كان القرآن الكريم أهم أركانها وأبرز معالمها.

ولعل أهم القواسم المشتركة التي يتقاطع بها محمود أمين العالم مع أدونيس، وكان لها بالغ الأثر على حياتهما الأدبية النقدية، هي مرحلة الانتماءات الحزبية والتحديات السياسية؛ فمن المعروف أنَّ محمود أمين العالم كان يتفلسف على الطريقة الماركسية منتسبًا للحزب الشيوعي المصري، ومن ثم فهو يؤمن بأنَّ الفلسفة الماركسية، مصوغة في أيديولوجيا طبقية منحازة للطبقة العاملة، هي الأيديولوجيا التي تتطابق مع الوعي الحقيقي وتعبر عن أكبر شريحة اجتماعية، مما يؤهلها في منظوره لأن تكون الأيديولوجيا الأقدر كأداة تصلح للاستخدام في التحليل السياسي والاقتصادي والاجتماعي لحياة المجتمع وتطوره. ويشير الناقد تيري إيجلتون في كتابه Marxism and Literary Criticism (1976) أثناء حديثه عن الماركسية إلى أنّ الماركسية موضوع معقد للغاية، وأن النقد الأدبي الماركسي ليس أقل من ذلك تعقيدًا، ولكن من الخطأ حصر النقد الماركسي في أرشيف الأكاديمية، إذ إنه يلعب دورًا مهمًا، إن لم يكن مركزيًا، في عملية تحول المجتمعات البشرية. كما أنّه جزء من مجموعة أكبر من التحليل النظري الذي يهدف إلى فهم الأيديولوجيات والقيم والمشاعر الاجتماعية التي تتوفر في النص الأدبي بشكل أكثر عمقًا (إيجلتون، 1976، ص 2-10). أما الناقد سامي خشبة فيعتقد أنّ الاتجاه الماركسي منذ بداية الستينات، كان له نقده التاريخي الذي يستمده من نجاحه في إحداث التغيير الثوري في بلاد كثيرة. "واللافت للنظر أنّ الاعمال النقدية التي قدمها هذا الاتجاه في عقد الستينات تكشف عن تخلف الغالبية الساحقة من أصحابها من متابعة التطور أو فهمه"(خشبة، 1982، ص 120). ولعل تصريح العالم لقضية انتمائه للفكر الماركسي المشار إليه في كتاب الوعي والوعي الزائف (1988) يستحق الذكر إذ يقول: "ما أظنني كنت مفتقدًا للوعي في مرحلة الستينات، وما كنت أغالط نفسي أو أضللها أو أخفي توجهي الماركسي، توصلاً لمنصب أو حرصًا على سلامة. فما أخفيت أبدًا هذا التوجه الماركسي طوال هذه المرحلة" (العالم، 1988، ص 8). وما ينبغي أن يفهم من ذلك كله هو أنَّ العالم لم يكن ماركسيًا مقلدًا، بل كان ناقدًا مبدعًا ومجددًا في استخدامه للماركسية، ينظر إليها بوصفها مرشدًا عامًا، لا على أنها مجموعة من القوالب الجاهزة المقدسة التي لا يجوز المس بها.

ولو نظرنا في موقفه السياسي، لوجدنا أنّه عدل موقفه النظري ليتطابق مع متطلبات الحياة نفسها. لقد عانى العالم من كل ضروب الأذى والتشريد والسجن في العهد الناصري. مع ذلك كان عبد الناصر في نظره زعيمًا وطنيًا وبرجوازيًا صغيرًا، ولكنه كان أيضًا ملتزمًا بمصالح الشريحة الأوسع من العمال والفلاحين. وكل ذلك بالطبع لا ينفي ما للعالم من ملاحظات على النهج الناصري ككل. يقول العالم: "لقد كنت وما زلت أعتقد حتى اليوم أنّ ثورة يوليو قد حققت في هذه المرحلة أغلب مهامها الوطنية والديمقراطية، وإنها تمثل بهذا مرحلة انتقالية...كنت أعتقد وما زلت أعتقد أنّ المشروع الناصري في الستينات كان إمكانية نضالية مفتوحة. كنت أدرك حجم العداء لتجربة الستينات من داخل التجربة نفسها ومن خارجها مصريًا وعربيًا وعالميًا"(ن. م، ص 9). ولعل تبني العالم لأفكار ومبادئ الماركسية جعله يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالواقعية النقدية الاشتراكية التي لم تكتف بنقد الواقع نقدًا أيديولوجيًا واجتماعيًا، بل شرعت تطرح الحلول للمشكلات الاجتماعية والسياسية التي ظهرت في الستينات نتيجة لأخطاء وقعت بها التجربة الناصرية.

أما أدونيس؛ فينتسب للحزب القومي الاجتماعي السوري في مرحلة التعليم الثانوي، بعد أن نضجت في عقله تعاليم أنطون سعادة وتعاليم الحزب، فأثرت على نتاجه الأدبي خاصة في بداية تجربته الشعرية، تلك التجربة التي صبغت بطابع الحضارة السورية القديمة "الفينيقية" (زيدان، 1979، ص 85). ويؤكد الناقد عاطف فضول حقيقة تأثر أدونيس بأيديولوجيا الحزب القومي الاجتماعي السوري، هذا الحزب الذي يعتقد أن الحضارة تعود بأصولها إلى الشرق الأدنى(فضول، 2000، ص 23).

على صعيد آخر ومن خلال الوقوف على محطات مهمة في حياة الناقدين محمود أمين العالم وأدونيس تبين لنا أنّ كليهما تأثر بشكل جلي بالثقافة الغربية عامة وبالثقافة الفرنسية على وجه الخصوص. فالعالم ينكشف على الثقافة الغربية بما فيها النقد الأدبي الغربي وينشر عام 1966 ثلاث مقالات في مجلة المصور المصرية تحدث فيها عن تيارات ثلاثة في البنيوية سماها العالم: (المنهج الهيكلي) الأولى عن التيار الشكلي عند كلود ليفي شتراوس Lévi-Strauss Claude (1908-2009) ورولان بارت Roland Barthes (1915-1980)، والثانية عن التيار الاجتماعي لدى لوسيان غولدمانGoldman L. (1913-1970)، والثالثة عن التيار النفسي عند شارل مورون Moron C .، خرج منها بتأكيد الحاجة إلى البحث عن منهج جديد للنقد الأدبي، لا يجمع بين هذه المدارس جمعًا سطحيًا توفيقيًا، بل يوحد بين الدلالة والقيمة وبين الحقيقة والجمال(العالم، 1975، ص 107-108). ويلمس العالم في هذه الدراسات معرفة دقيقة بدراسة رومان ياكبسون Roman Jackobson للشعرية، ودراسات غريماسAlgirdasJulien Greimas -1992) 1917 )، وتودوروف Tzvetan Todorov (1993-)، ثم دراسات دريدا Jacques Derrida (1931-)، وبارتRoland Barthes (1915-1980). وكانت دراسته لهم دراسة نقدية بينت الاختلاف بينهم في المواقف من العمل الأدبي. وخلص إلى نتيجة أنّ محاولات الدراسات العلمية للأدب باسم الهيكلية (البنيوية) هي محاولات واجتهادات مشروعة ومشروطة وضرورية، لكنها ليست هي النقد الأدبي. ثم يتوقف العالم عند دراسات باختين Mikhail Bakhtin (1895 ـ 1975) والناقد الروسي يوري لوتمان Yuri Mikhailovich Lotman (1922-1993) اللذين اهتما بالإبداع الأدبي على وجه العموم. ونود أن نشير في هذا المقام أنّ هناك فترة أخرى انخرط فيها العالم في الثقافة الفرنسية، وكانت تلك منذ منتصف السبعينات حتى الثمانينات حيث عاش في فرنسا حين أبعد عن مصر في فترة السادات، وهي المرحلة التي أفرزت كتابه ثلاثية الرفض والهزيمة.
وفي السياق نفسه، يجزم أدونيس بأنّه كان من بين الذين أخذوا بثقافة الغرب، غير أنّه كان بين الأوائل الذين ما لبثوا أن تجاوزوا ذلك، وقد تسلحوا بوعي ومفهومات تمكنهم من أن يعيدوا قراءة موروثهم بنظرة جديدة وأن يحققوا استقلالهم الذاتي. ولا ينكر أدونيس تأثره بالثقافة الفرنسية، بل حاول أن يفلسفها ويعطيها بعدًا حضاريًا وثقافيًا(أدونيس، 1985، ص 87؛ قاسم، 2000، ص 36).

وتعتقد الكاتبة زهيدة درويش جبور أنّ انفصال أدونيس الجسدي عن العالم العربي الذي غادره ليقيم في باريس منذ العام 1985، بسبب الحرب اللبنانية، لم تزده إلا التصاقًا به ووعيًا ثاقبًا لمشاكله. فالمشهد من بعد يبدو أكثر وضوحًا لأنّ النظرة تصبح أكثر شمولية، بحيث يستطيع من المكان الآخر أن يقيم المقارنة، فيظهر له حجم المسافة التي تفصل بين عالمين، أحدهما قد تجاوز الحداثة إلى ما بعدها، بينما الآخر قابع في التقليد والنمطية والسلفية(جبور، 2001، ص 210-211). ويسجل الحميري شهادة أدونيس حول تأثره بثقافة الغرب، هذه الشهادة التي يقول فيها أدونيس: "أحب أن أعترف بأنني كنت بين من أخذوا بثقافة الغرب، أحب إن أعترف أيضًا أنني لم أتعرف على الحداثة العربية من داخل النظام الثقافي العربي، فقراءة بودلير Baudelaire هي التي غيرت معرفتي بأبي تمام وكشفت لي عن شعريته وحداثته"( الحميري، 1999، ص 152).
الاقتباسات أعلاه، إن دلت على شيء، إنّما تدل على مدى التأثير الحضاري الغربي بشكل عام، والفرنسي على وجه التحديد. وما رحيل أدونيس إلى فرنسا واستقراره فيها، إلا دليل آخر على التعلق والإعجاب بالفكر الفرنسي الذي يمنح حرية التفكير، وحرية التعبير وحرية الابداع.

إنّ تجربة محمود أمين العالم النقدية والغنية والمتنوعة والعميقة تقودنا إلى التمعن عميقًا في تكوينه الثقافي، وفي السياق الذي تشكل فيه: مفكرًا، وناقدًا، وسياسيًا. ومن ثم الوقوف عند ظروف إنتاجه النقدي وشروط تلقيه في عالم يبشر كل يوم بمعرفة جديدة، وتصبح الثقافات فيه أكثر تداخلاً ويتسم بالتحولات الثقافية والنقدية. يواجه العالم منهجه النقدي ويتجاوز ذاته، وينتقل من نقد المضمون إلى نقد الشكل دون أن يضحِّي بأسس العلاقة بين الشكل والمضمون، بل يعترف أنّ الشكل هو وعي اجتماعي وإدراك جمالي للواقع. ويهتم العالم في ممارسته النقدية بالتحليل العلمي للأدب وبالدراسة الموضوعية للعناصر المكونة للنصّ الذي لا يمكن أن يكون مغلقًا ومكتفيًا بذاته البنيوية؛ فالنص بنية يقع ويتعالق مع بنى أخرى أوسع. وما تجدر الإشارة إليه، أنّ محمود أمين العالم لم يلغ الدلالة الاجتماعية للأدب على حساب القيمة الفنية له، كما لم ينظر إلى القيمة الفنية له بمعزل عن رسالته الإنسانية. ولعل العلاقة بين الشكل والمضمون من أهم القضايا النقدية الأدبية والفكرية التي عني بها العالم، فهو لا يفصل بينهما، ويعطي الأولوية للمضمون من حيث السبق.


وما يميز العالم كناقد أدبي، أنّه لا يسجن نفسه خلف قضبان قناعات ثابتة وعقائد يضفي عليها طابع القدسية، إنّما يرى في الفكر والنقد بنية حية تلتحم التحامًا عضويًا بالحياة والواقع. ولهذا كان العالم دائم الحضور في الفكر والنقد وكل ما يدور حولهما من حوارات ومؤتمرات وندوات. كان من أبرز ممثلي الفلسفة الماركسية من العرب، وأكثرهم إصرارًا على الحوار والخصوصية، ولم يكفّ عن التأكيد أنّه ضد الانغلاق بحجة الخصوصية. وعليه رفض العالم بشدة التسليم للقيم السائدة بحجة المحافظة على الوحدة، لكنه بقي على التزامه. الالتزام كما مارسه وفهمه ليس نقيض الحرية، بل هو وجهها الآخر. الالتزام بقضايا العصر ومشكلات المجتمع؛ فعندما نتكلم على محمود أمين العالم نقول إنه مفكر وناقد ملتزم. ولعل هذا القول يسمه بالسمة الأساسية التي يتصف بها ويحرص عليها وهي الالتصاق الدائم بالحراك الاجتماعي والثقافي، والفكري، والسياسي، والنقدي.


ظل الكثير من النقاد والدارسين ينظرون إلى أدونيس الشاعر والمفكر والناقد من زاوية أساسها أنّ دوره لا يتعدى إعلاء ثقافة الرفض وانتهاج أسلوب التجاوز وتحقيق أنموذج يتجاوز ذاته مع الزمن في الكتابة والإبداع(بوهرور، 2008، ص 131). ولعل كتابه النقدي مقدمة للشعر العربي عام 1971 يكشف أنّ مشروعه الثقافي والفكري والحضاري هو الشروع في قراءة جديدة لما مضى، تمكنه من التعرف على الأصول العربية الثقافية والتاريخية. وهذا ما ينكشف من خلال مراجعة كتاباته النقدية في مراحل مختلفة سواء في السبعينات (مقدمة للشعر العربي، زمن الشعر، الثابت والمتحول)، أو في الثمانينات (الشعرية العربية وسياسة الشعر)، أو في التسعينات في سيرته الذاتية (ها أنت أيها الوقت).

وترى دراستنا أنّه على الرغم من وجود تقاطعات ومفارقات بين ما يطرحه العالم وأدونيس من قضايا نقدية، إلا أنّ لكل منهما دوره الريادي في إطلاق الشرارة الأولى لبداية مرحلة نقدية جديدة في الأدب العربي الحديث من دون أن يغفل الإشارة إلى درايته العميقة بالتراث وإعادة تأويله. فكان من النقاد من رأى بهما عنصرين معاديين للثقافة العربية بكل تراثها الفكري والأدبي، وأحيانًا تصل الأمور إلى حدّ الاتهامات التي تقع خارج حدود النقد الأدبي والثقافة لتدخل في عمق الاتهامات الشخصية وربما بوابة التخوين.

ولعل أكثر هذه الاتهامات حدة هي الاتهامات التي وجهت ضد محمود أمين العالم وزميله عبد العظيم أنيس بعد أن نشر كتاب في الثقافة المصرية عام 1955 وأثار حوله معركة نقدية حامية من على صفحات الجرائد المصرية. فما كان من الدكتور طه حسين إلاّ أن اتهم مقالهما بأنّه "يوناني لا يقرأ"( حسين، 1955، ص 93). وخرج اتهام عباس محمود العقاد لهما عن حدود النقد الأدبي إلى حدود الإدانة البوليسية بقوله في رده: "إنني لا أناقشهما وإنّما أضبطهما... إنّهما شيوعيان"( العالم وأنيس، 1955، ص 16).

ويرى العالم أنّ النقد عند العقاد وحسين في تلك المرحلة، قام أصلاً للمحافظة على قوانين اللغة وقواعدها النحوية أكثر من عنايته بالمضمون الخطابي للأدب، وإنّ هناك ضرورة للانشغال بالسياق الدلالي الاجتماعي للأثر الأدبي (العالم، 1970، ص 10). هذا المنهج النقدي أثار قضايا هامة أدت إلى تطور جدل حاد في العلاقة بين الأدب والمجتمع. ولعل كتاب الثورة والثقافة: مقالات في النقد (1970) الذي تضمن عدة مقالات نقدية، يدعو لخلق ثقافة عربية ثورية من خلال المطالبة بتعزيز الحرية ونشر الاشتراكية والنهوض بالوحدة العربية وبناء الإنسان العربي الحديث(ن.م ، ص 6-7).

ويؤكد الناقد محمود غنايم أنّ العالم واجه ابتداءً من نهاية السبعينات هجومًا عنيفًا، لتمسكه بآرائه النقدية التي تنطلق بشكل مباشر من السياسة، ولعل أكبر هجوم كان في مؤتمر اتحاد كتاب المغرب الذي عقد في مدينة "فاس" عام 1979. وقد قدّم الناقد في هذا المؤتمر محاضرة باسم "التاريخ والفن والدلالة في ثلاث روايات مصرية". وانهال عليه النقد من الحاضرين، ووصف عرضه أحد الحاضرين قائلاً: "إن العرض نوع من الكتابة السياسية ولا يدخل في مجال النقد الأدبي. إذا كان هذا قصد الروائي، الذي تحدث عنه العالم، فمن الأفضل أن يكتب مقالاً سياسيًا لا رواية"(غنايم، 2010، 133).

أما الدكتور جابر عصفور فيرى في كتابه الاحتفاء بالقيمة (2004) أنّ محمود أمين العالم نجح في ممارسته النقدية في مطلع الخمسينات من القرن العشرين، هذه الفترة تميزت بعلو شأن الاشتراكية العربية التي كان العالم ممثلا وناطقًا باسمها. وأنّ كتابيه في الثقافة المصرية (1955)، والثقافة والثورة (1970)، كانا بمثابة شهادة جيدة لمناصرة الأدب الاشتراكي، ويعزو عصفور نجاح العالم في ممارساته النقدية إلى قوة حجته الفلسفية والمنطقية التي أبداها في مناقشاته (عصفور، 2004، ص79،128).

وأما أدونيس فقد وجهت له عدة اتهامات عبر مسيرته الشعرية والنقدية الطويلة، مثل تهمة عدائه للثقافة العربية، وتعاليه على المثقفين العرب، وانعزاله عن قضايا المجتمع، واستغراقه في الثقافة الأوروبية استغراقًا تقديسيًا، وخفوت الحس القومي عنده، وإفساد مسيرة الشعر العربي الحديث بآرائه المتطرفة حول الإبداع والحداثة. وعلى النقيض من ذلك فقد رأى آخرون أنّ أدونيس متواصل مع الثقافة والتراث العربيين تواصلاً عميقًا. وما ثورته هذه إلا نقدًا للجوانب السلبية في التراث، وإضاءة الجوانب الإيجابية فيه.


وخلاصة القول: حاولنا في هذه الدراسة أن نقارن بين محمود أمين العالم وأدونيس وأن نرصد علاقتهما بالنقد والتنظير الأدبي. ورأينا أنّ طروحات محمود أمين العالم النقدية تأثرت بشكل واضح بالفكر الماركسي الاشتراكي الذي يدعو لمناقشة القضايا الاجتماعية الواقعية وفق أيديولوجيا وتوجهات فلسفية خاصة تهدف إلى إيجاد البدائل والحلول لأوضاع ومشكلات اجتماعية، واقتصادية، وثقافية ظهرت بعد ثورة يوليو تحديدًا. ولاحظنا أيضًا، أنّ العالم تأثر بالثقافة الغربية وبخاصة الثقافة الفرنسية حيث أقر أنّ كل الجهود الجادة التي يبذلها الناقد العربي ما تزال في حدود نظريات يتعلمها من التراث العربي القديم أحيانًا، أو من نظريات مستلهمة من الإنتاج الأدبي النقدي الأوربي والأمريكي أحيانًا أخرى. أما في مجال النقد الأدبي، رأينا أنّ العالم يتجه إلى نقد القصة والرواية العربية بصورة تفوق توجهه إلى نقد الشعر العربي، وأنّ انحيازه للمضمون في سياقه الدلالي الاجتماعي في النص الأدبي كان أكثر حضورًا في مناقشاته وممارساته النقدية من الصياغة الشكلية وإبراز القيم الجمالية. على ذلك كان محمود أمين العالم ناقدًا أيديولوجيًا / اجتماعيًا ماركسي التوجه منذ مطلع النصف الثاني من القرن العشرين، ولا نستطيع أن نجزم بصورة قاطعة أنه بقي ثابتًا ومتمركزًا في أيديولوجيته ومنهجه النقدي، إذ إنّ هناك إضاءات وإشارات، وإن جاءت مبطنة أحيانًا، تدلل على تحوله إلى النقد البنيوي (الهيكلي) الذي أشاد به في ثمانينات القرن العشرين وخاصة في مؤلفه النقدي ثلاثية الرفض والهزيمة.

مقارنة بالعالم، رأينا أنّ أعمال أدونيس في مجال النقد والتنظير الأدبي تدلل على أنّه لم يبد اهتمامًا بارزًا بالرواية أو القصة القصيرة العربية، وأنّ أغلب اهتمامه النقدي خصص لنقد الشعر العربي القديم والحديث: شكلا ومضمونًا.

وهنا لا بدّ لنا من إشارة وهي أنّ توجه العالم نحو نقد القصة والرواية وأدونيس نحو نقد الشعر له أسباب تتعلق بفكرهما. ولعل انتماء العالم الماركسي، وفكره الأيديولوجي وايمانه بأن الأدب هو انعكاس للواقع، دفعه للتوجه نحو نقد القصة والرواية العربية، علمًا أنّ القصة والرواية العربية في خمسينات القرن الماضي انشغلت على الأغلب، بوصف الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي للأمة العربية عامة، والمصرية بخاصة، وهنا وجد العالم حقلاً أدبيًا يعرض فيه مبادئه وأفكاره. أما بالنسبة لأدونيس فكونه شاعرًا ومبدعًا أولاّ ومحاضرًا في الجامعة يتنقل من محاضرة إلى أخرى، جعله يضع كل نقده في خدمة أدبه والدفاع عن إبداعه.
وعلى الرغم من أنّ أدونيس يميل في نقده إلى منهج "الفن من أجل الفن" إلاّ أنّه يصعب علينا أن ندرجه في اتجاه نقدي محدد، إذ إنّه يؤمن بالتجديد والتحول الدائم. فهو ناقد ملتزم بقضايا وهموم أمته العربية من ناحية، وناقد أيديولوجي اجتماعي من ناحية ثانية، وناقد بنيوي في أحيان أخرى. تأثر أدونيس بالنظريات الغربية الفرنسية وتعلق بها، تمرد على التراث العربي كما تمرد محمود أمين العالم، وإن كان هذا التمرد لدى أدونيس أكثر وضوحًا.


ثبت بالمراجع
أدونيس، 1985 أدونيس (1985)، الشعرية العربية، محاضرات ألقيت في الكوليج دوفرانس باريس
أيار 1984، بيروت: دار الآداب.
بلقاسم، 2000 بلقاسم، خالد (2000)، أدونيس والخطاب الصوفي، الدار البيضاء: دار توبقال للنشر.
بوهرور، 2008 بوهرور، حبيب (2008)، تشكل الموقف النقدي عند أدونيس ونزار قباني، عمان:
جدارا للكتاب العالمي.
جبور، 2001 جبور، زهيدة درويش (2001)، التاريخ والتجربة في الكتاب 1 لأدونيس، بيروت: دار
النهار.
حسين، 1955 حسين، طه (1955)، خصام ونقد، بيروت: دار العلم للملايين.
الحميري، 1999 الحميري، عبد الواسع (1999)، الذات الشاعرة في شعر الحداثة، بيروت: الموسوعة
الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع.
خشبة، 1982 خشبة، سامي (1982)، "جيل الستينات في الرواية المصرية"، فصول، عدد 2، مجلد 2،
ينايرـ مارس، ص 117-123.
العالم وأنيس، 1955 العالم، محمود أمين وعبد العظيم أنيس (1989)، في الثقافة المصرية، بيروت: دار الفكر.
العالم، 1970 العالم، محمود أمين (1970)، الثقافة والثورة: مقالات في النقد، بيروت: دار الآداب.
العالم، 1975 العالم، محمود أمين (1975)، البحث عن أوروبا، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
العالم، 1988 العالم، محمود أمين (1988)، الفلسفة العربية المعاصرة مواقف ودراسات، بحوث المؤتمر
الفلسفي العربي الثاني الذي نظمته الجامعة العربية الاردنية، بيروت: مركز دراسات الوحدة
العربية.
عصفور، 2004 عصفور، جابر (2004)، الاحتفاء بالقيمة، دمشق: دار المدى للثقافة والنشر.
غنايم، 2010 غنايم، محمود (2010)، "محمود أمين العالم: بين السياسة والأدب"، المجلة- مجمع اللغة
العربية، عدد 1، حيفا، مجمع اللغة العربية، ص125-140.
فضول، 2000 فضول، عاطف (2000)، النظرية الشعرية عند إليوت وأدونيس، القاهرة: المجلس الأعلى
للثقافة.

Eagleton, 1976 Eagleton, Terre (1976), Marxism and Literary Criticism,
Methuen & co, London, 1976.

Zeidan, 1979 Zeidan, Joseph (1979), “Myth and Symbol in The Poetry of
Adunis and Yusuf Al-khal”, Journal of Arabic Literature,
Vol.x – 1979, 71-94.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لم أعتزل والفوازير حياتي.. -صباح العربية- يلتقي الفنانة المص


.. صباح العربية | في مصر: إيرادات خيالية في السينما خلال يوم..




.. لم أعتزل والفوازير حياتي.. -صباح العربية- يلتقي الفنانة المص


.. صباح العربية | في مصر: إيرادات خيالية في السينما خلال يوم..




.. لقاء خاص مع الفنان حسن الرداد عن الفن والحياة في كلمة أخيرة