الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في رحلة البحث عن النظام بعد رحيل الاستعمار

عبد المجيد إسماعيل الشهاوي

2023 / 8 / 12
مواضيع وابحاث سياسية


جذور عدم الاستقرار في العالم العربي

إن تاريخ الاستعمار ينطوي على التباس في مخيلة الكثيرين يجعلهم يربطونه على وجه التحديد بتجربة الحكم الأوروبي على أجزاء شاسعة من العالم النامي، ويُبقي على ذكراه حية ومبرحة تشوب سمعة الغرب حتى اليوم. بيد أن الاستعمار قد اتخذ في الحقيقة الكثير من الأشكال غير الغربية، وعلى وجه الخصوص في منطقة الشرق الأوسط. فبداية من الخلافة الأموية في دمشق خلال القرن السابع، ظل سلسال طويل من المستعمرين المسلمين يتوارثون فيما بينهم حكماً واسع النطاق، افترش أحياناً الحوض المتوسطي بالكامل. ثم في القرون اللاحقة، واصل على الدرب نفسه العثمانيون، الذين بسطوا حكمهم حتى منطقة البلقان، وسلطنة عمان، التي انتشرت خلال القرن التاسع عشر من الخليج العربي حتى مناطق من إيران وباكستان، فضلاً عن المناطق المسلمة في شرق أفريقيا. ولم يؤدي الأوروبيون دوراً بارزاً في هذه القصة الاستعمارية الطويلة إلا في المراحل الأخيرة من تاريخ الاستعمار.

لقد تسببت هذه التجربة الممتدة والمتقلبة تحت حكم الإمبراطوريات الاستعمارية على امتداد منطقة الشرق الأوسط في عرقلة نمو وتطور نوعية الدولة الوطنية كالتي نشأت في أوروبا، وهو ما يساعد بدوره في إلقاء الضوء على الأسباب الجذرية وراء حالة الاضطراب وعدم الاستقرار التي تعم المنطقة منذ استقلالها. في واقع الأمر، لا تزال الإشكالية الكبرى بالنسبة لأغلب الأنظمة الشرق أوسطية والمتعلقة بكيفية تحقيق درجة معقولة من النظام بالحد الأدنى من القمع لم تعرف طريقها إلى الحل بعد.

من الأسباب الرئيسة وراء تفشي العنف وعدم الاستقرار في الشرق الأوسط خلال العقود الأخيرة، مهما كان في هذا الإقرار ما يستفز حساسيات معاصرة، أن المنطقة تفتقر لأول مرة في التاريخ الحديث لأي نوع من النظام الذي تفرضه إمبراطورية استعمارية. وتعد حقيقة أن الديمقراطية قد فشلت حتى الآن في تثبيت أقدامها- حتى في بلدان حيث أظهرت بعض البشائر الواعدة، مثل تونس- دليلاً على مدى تأثير هذا الإرث الموهن من الخضوع الطويل للحكم الاستعماري. لقد تسببت الإمبراطورية الاستعمارية، عبر توفيرها حلاً كريهاً لكنه ناجعاً لمشكلة النظام، في وأد إمكانية تطور حلول أخرى وتثبيت أقدامها.

الواقع المؤسف لكن لا يمكن التنكر له هو أن نمط الحكم الإمبراطوري قد هيمن بصورة أو بأخرى على تاريخ العالم (وعلى وجه الخصوص تاريخ منطقة الشرق الأوسط) منذ القِدم حتى الحقبة الحديثة لأنه وفر، بدرجات نسبية على الأقل، الوسيلة الأكثر نجاعة وحسماً للتنظيم السياسي والجغرافي. لا شك أن الاستعمار قد يخلف في أعقابه شيئاً من الفوضى والاضطرابات، لكن ذلك لا ينفي أنه قد وُجِدَ أيضاً كحل وعلاج لنفس هذه الفوضى.

الخروج من النظام

كان العصر الذهبي للإسلام في الشرق الأوسط لقرون طويلة عصراً استعمارياً بامتياز. هذا التاريخ بدأ في المقام الأول خلال عهد الخلافتين الأموية والعباسية لكنه استمر أيضاً خلال عهد الفاطميين والحفصيين. وفي هذا الإطار، ربما كان الاستعمار المغولي قاسياً لأبعد الحدود، غير أن ذلك لا ينفي أيضاً أن المغول هم من أخضعوا ودمروا مستعمرين آخرين: العباسيين والخوارزميين والبلغاريين وأسرة سونغ الصينية، من بين آخرين. كما أن الاستعمار العثماني في الشرق الأوسط والبلقان والاستعمار الهابسبورغي في وسط أوروبا قد حرصا على توفير الحماية لليهود وأقليات أخرى تماشياً مع أسمى وأنبل القيم والأعراف وأكثرها استنارة في عصرهما. وهكذا، لم تقع الإبادة الأرمينية حين كانت قبضة حكم الإمبراطورية العثمانية على المنطقة قوية ومن دون منازع، بل وقعت خلال الفترة التي كان يعمل خلالها القوميون من حركة تركيا الفتاة على استبدال الإمبراطورية بدولة قومية للأتراك. وكانت هذه القومية الأحادية العرق، وليست الإمبراطورية الاستعمارية من خليط عالمي متعددة الأعراق، هي الأشد عداوة تجاه الأقليات.

غير أن الاستعمار العثماني، الذي دام حكمه على الشرق الأوسط من الجزائر حتى العراق لمدة 400 سنة، زال بعد الحرب العالمية الأولي. وكان وزير الخارجية العثماني، علي باشا، محقاً في استشرافه للمستقبل حين حذر في إحدى مراسلاته عام 1862 من أنه إذا ما اضطر العثمانيون يوماً للإذعان أمام "التطلعات الوطنية"، فإن الأمر "قد يتطلب قرناً من الزمان وبحوراً من الدماء لاستعادة ولو الحد الأدنى من استقرار الأمور." وبالفعل، لا يزال الشرق الأوسط بعد أكثر من قرن من زوال الخلافة العثمانية لم يهتدي بعد إلى بديل ملائم للنظام الذي فرضه الاستعمار.

حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، كانت سلطات الانتداب الاستعمارية البريطانية والفرنسية تحكم الدول في منطقة الشام والهلال الخصيب، من لبنان حتى العراق. ثم خلال الحرب الباردة، شكلت كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي ما يشبه القوتين الاستعماريتين وفقاً لمعايير ديناميكيات قوتيهما وتأثيرهما على الأنظمة الشرق أوسطية. وهكذا، أقامت الولايات المتحدة تحالفات بحكم الأمر الواقع مع إسرائيل والملكيات العربية في شمال أفريقيا وشبه الجزيرة العربية؛ ودعم الاتحاد السوفيتي الجزائر ومصر عبد الناصر واليمن الجنوبي وبلدان أخرى انحازت بشكل أو بآخر لنهج الشيوعية الروسية أو أبدت تعاطفاً معها.

ثم تفكك الاتحاد السوفيتي في عام 1991، وشهد تأثير الولايات المتحدة وقدرتها على نشر قوتها في المنطقة تراجعاً مطرداً منذ غزو العراق في عام 2003. وكان مما يؤسف له أن المنطقة، في غياب الحكم الاستعماري بصورة أو بأخرى، دخلت تدريجياً فترة من الاضطرابات، شهدت سقوط أو تصدع الأنظمة: ليبيا وسوريا واليمن وغيرها. ثم هبت رياح الربيع العربي لكي تكشف بوضوح ليس فقط عن توق للديمقراطية لكن أيضاً عن رفض لحكم ديكتاتوري فاسد وسقيم. باختصار، من دون درجة ما من التأثير الاستعماري، أبان الشرق الأوسط، والعالم العربي على وجه الخصوص، عن "ميل انشطاري...نحو التقسيم،" كما كتب المستعرب تيم ماكينتوش سميث.

التأثير السيء

إن القول بأن الإمبراطوريات الاستعمارية قد جلبت درجة ما من النظام والاستقرار إلى الشرق الأوسط يتعارض مع ما تذهب إليه أغلب الأبحاث والتقارير الصحفية المعاصرة. فوجهة النظر السائدة تقول بأن غياب الديمقراطية، وليس الإمبراطورية الاستعمارية، هو المسؤول عن عدم الاستقرار في المنطقة. ذلك الموقف مفهوم تماماً وله مبرراته، لاسيما وأن التجربة الاستعمارية الأوروبية الحديثة لا تزال ماثلة ونابضة في وجدان بلدان عديدة، ولا تزال ضمائر الباحثين والمراسلين موجوعة من جرائم القوى البريطانية والفرنسية والأوروبية الأخرى في الشرق الأوسط وأفريقيا وأماكن أخرى. ولأننا لا نزال نعيش في حقبة الندم والتوبة ما بعد الاستعمارية، كان من الطبيعي أن يُنظر إلى خطايا القوى الأوروبية عبر القرون الماضية عبر عدسة مكبرة. غير أن التحدي الحقيقي يكمن في القدرة على تجاوز تلك الخطايا من دون التقليل في الوقت نفسه من حجمها.

ليس فيما سبق ما يوحي بأن ما فعلته القوى الأوروبية في الشرق الأوسط كان بريئاً؛ العكس تماماً. فالأجزاء الأقل استقراراً في المنطقة اليوم هي نفسها تلك التي تحمل بعض من أوضح بصمات الاستعمار الأوروبي. نحن نعرف أن الحدود المصطنعة بالكامل في منطقة بلاد الشام والهلال الخصيب، على سبيل المثال، أنشأتها كل من المملكة المتحدة وفرنسا بعد الحرب العالمية الأولي. وقد أخفقت هذه الحدود في حالة كل من سوريا والعراق الحديثتين في أن تعكس طبيعة المجتمعات التقليدية القابلة للحياة والازدهار التي ظلت لزمن طويل تمارس حياتها من دون حدود إقليمية قاطعة. هكذا، تسببت الدول الحديثة في تقسيم ما كان ينبغي المحافظة عليه كلاً واحداً، حين سعى المستعمرون البريطانيون والفرنسيون لفرض نظاماً على جغرافيا تشكلت جزئياً من أرض صحراوية فاقدة للتضاريس العازلة. وقد عبر عن ذلك المفكر والمختص بمنطقة الشرق الأوسط في القرن العشرين إيلي قدوري بحسرة وسخرية، "ماذا تستطيع الحدود أن تفعل غير ذلك حين تُرسم عنوة حيث لم تكن موجودة من قبل؟"

في الحقيقة، كانت الدولتان البعثيتان القمعيتان اللتان ظهرتا في سوريا وبالأخص في العراق خلال النصف الثاني من القرن العشرين من صنيعة يد الاستعمار الأوروبي. كما غزت الولايات المتحدة العراق في 2003، وكانت النتيجة فوضى؛ ثم لم تتدخل الولايات المتحدة في سوريا عام 2011، وكانت النتيجة فوضى أيضاً. لكن وعلى الرغم من إلقاء الكثيرين اللوم على السياسة الأمريكية فيما آلت إليه الأوضاع في كلا البلدين، إلا أن هناك دافع لا يقل أهمية وراء الأحداث في الحالتين يمثله الإرث البعثي، وهو مزيج مُهلك من القومية العربية والاشتراكية من طراز الكتلة الشرقية اختمر جزئياً تحت تأثير من أوروبا خلال الحقبة الفاشية في الثلاثينات في مختبر اثنين من أبناء الطبقة الوسطى الدمشقية، أحدهما مسيحي والآخر مسلم: ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار. لأنه لم يكن الاستعمار فقط بل الأيديولوجيات الأوروبية السامة في مطلع القرن العشرين أيضاً هو ما جعل الشرق الأوسط الأقل استقراراً من بين كل مناطق العالم.

مأساة الشرق الأوسط منذ سقوط الإمبراطورية العثمانية تعود إلى التفاعل الديناميكي الغربي مع المنطقة بقدر ما تعود إلى الشرق الأوسط ذاته. وإلى ذلك، كتب ربما أعظم العارفين بتاريخ الشرق الأوسط في العصر الحديث، مارشال هودجسون، أن "الغضب والاضطراب المتجذرين" في العالم الإسلامي، كما تعبر عنهما معاداة الاستعمار والقومية والتطرف الديني، هما في نهاية المطاف رد فعل لاتصاله الأكبر بعالم صناعي وما بعد صناعي ذو طابع تهديدي لخواصره، والذي كان الاستعمار الغربي أحد نواتجه غير المشكوك فيها.

بالطبع، لم تَعمد أوروبا والولايات المتحدة إلى خلق رد الفعل هذا. لكن الدينامية الغربية في مجال الأفكار والتكنولوجيا كليهما غمرا وحَدَّثا بالإكراه أراضي الإمبراطورية العثمانية الأسبق، الأمر الذي فاقم من المضاعفات المرضية للاستعمار. وهكذا، تركت الماركسية والنازية والقومية، وجميعها أفكاراً انطلقت من الغرب الحديث، تأثيرها على المفكرين العرب المقيمين في الشرق الأوسط وأوروبا وقدمت النموذج الفعلي للأنظمة التي تُوجت بحكم عائلة الأسد في سوريا وصدام حسين في العراق. ومن شأن تشريح جثة هاتين الدولتين الممزقتين أن يساعد ليس فقط في اكتشاف المسببات المحلية للمرض لكن الغربية أيضاً. هكذا كانت الإمبراطورية الاستعمارية، نفسها التي جلبت الاستقرار للشرق الأوسط ذات يوم، هي أيضاً التي نزعت عنه الاستقرار بشكل غير مباشر في زمن لاحق.

لننظر في الحالة السورية. بين عامي 1046 و1970، شهد هذا البلد 21 تغييراً للحكومة، كلها تقريباً كانت غير دستورية، ومن ضمنها عشرة انقلابات عسكرية. ثم في نوفمبر 1970، استولى اللواء البعثي في القوات الجوية حافظ الأسد، الذي ينتمي إلى الطائفة العلوية، وهي مذهب إسلامي على صلة بالشيعة، على السلطة في انقلاب أبيض وبلا دماء- أو "حركة تصحيحية،" كما وصفها. وكان مُقدراً للأسد أن يصمد في حكم سوريا حتى وفاته الطبيعية بعد 30 سنة لاحقة. كما برهن الأسد على قدرات خاصة تؤهله إلى منزلة أبرز الشخصيات التاريخية، حتى لو لم ينل حقه من التقدير بعد، في الشرق الأوسط الحديث، وذلك على خلفية نجاحه في تحويل جمهورية موز مفترضة- البلد الأكثر عدم استقراراً في العالم العربي، لا أقل- إلى دولة بوليصية مستقرة نسبياً. لكن حتى الأسد، الذي أدار دولة أقل دموية وأقل قمعية مما فعله صدام حسين في العراق، ما كان يستطيع أن يحكم من دون اللجوء أحياناً إلى ممارسات وحشية بغيضة. في رد على انتفاضة عنيفة ضد حكمه من قبل متطرفين من المسلمين السنة، قتل ما يقدر بحوالي 20.00 شخص في مدينة حماة ذات الأغلبية السنية في عام 1982، في حملة دموية كانت فعالة بقدر ما كانت وحشية. كان الثمن لوأد الفوضى فادحاً، ما جعل نجاح الأسد الأب في تحقيق الاستقرار لسوريا مشروطاً بتحفظات وجيهة في أفضل الأحوال. هذا هو الإرث الاستعماري من العثمانيين والفرنسيين.

أو لنأخذ حالة ليبيا، التي تتكون من أقاليم متنافرة وتفتقر لأي وحدة تاريخية بمعزل عن ماضيها الاستعماري. هناك الغرب الليبي، المعروف باسم طرابلس، وهو أكثر انفتاحاً وكان تاريخياً على علاقة مع قرطاج وتونس. على الجانب الآخر، هناك الشرق الليبي، أو ما يعرف باسم إقليم برقة، ذات الطبيعة المحافظة والعلاقة التاريخية مع الإسكندرية في مصر. ثم هناك أراضي صحراوية شاسعة تفصل فيما بينهما، بما في ذلك فزان إلى الجنوب، والتي لا تملك أكثر من هويات قبلية ودون إقليمية. ورغم اعتراف العثمانيين بجميع تلك الوحدات المنفصلة، إلا أن المستعمرين الطليان دمجوا بينهم مع بداية القرن العشرين في دولة موحدة، وهي الدولة التي أثبتت أنها على قدر من الهشاشة المصطنعة، كما هو الحال مع سوريا والعراق، لدرجة أنه كان من المستحيل غالباً حكمها إلا عبر الوسائل الأشد عنفاً. لذلك، عندما تمت الإطاحة بالديكتاتور الليبي معمر القذافي عام 2011، بعد 100 عاماً بالضبط من الغزو الإيطالي، تفسخت الدولة ببساطة. وكما هو الحال مع سوريا والعراق، يوضح مصير ليبيا المدى المُهلك الذي تبلغه مضاعفات زوال الاستعمار الأوروبي.

مناسبة لملك

في المقابل، هناك بلدان مثل مصر وتونس، التي تضرب بجذورها في التاريخ إلى ما قبل الاستعمار الأوروبي والإسلام ذاته، قد حظيت بدرجة أكبر من النظام والاستقرار. في حالة تونس، على سبيل المثال، ثمة هوية قبل إسلامية مميزة تسندها من أيام القرطاجيين والرومانيين والونداليين والبيزنطيين. صحيح أن الأنظمة في هاتين الدولتين قد تكون عقيمة وقمعية، لكن النظام الذي تفرضه ليس محل تشكيك. والقضية هي كيف نجعل هذه الأنظمة أقل طغياناً. رغم ذلك، لم تسلم حتى تونس منذ أن تسببت انتفاضتها الشعبية في تأجيج الربيع العربي أواخر عام 2010. هذا البلد خاض بشجاعة تجربة الديمقراطية في عاصمته وغيرها من كبريات المدن، حتى رغم الضعف الذي اعترى السيطرة المركزية على الأقاليم والمناطق الحدودية، إلى أن نكص إلى الاستبداد خلال العام الفائت في عهد الرئيس قيس بن سعيد. رغم ذلك، تبقى تونس المثال الأكثر تفاؤلاً لتجربة ديمقراطية في المنطقة. لكن كل ذلك يؤكد فقط إلى أي حد كان من الصعب في الشرق الأوسط استنساخ النموذج السياسي الغربي بغرض إنشاء نظام غير قمعي. وبدلاً من الديمقراطية، كانت الأوتوقراطية التحديثية- التي هي أيضاً صنيعة الاستعمار الغربي- هي التي قدمت الإجابة الأنجع لشبح الاضطرابات والفوضى.

كانت الأنظمة الأقل قمعاً في الشرق الأوسط هي الملكيات التقليدية مثل الأردن والمغرب وسلطنة عمان. إذ بفضل شرعيتها التاريخية المتأصلة وصعبة المنال، كانت قادرة على أن تحكم بالحد الأدنى من القسوة رغم طبيعتها السلطوية المثبتة. إن حقل التجارب الهوبيزي (المحتكم إلى الصراع والقوة) في الشرق الأوسط يثبت أن الملكية، بالتوازي مع الإمبراطورية الاستعمارية، هي التي قد وفرت أفضل أشكال الحكم الطبيعية. على سبيل المثال، ظلت سلطنة عمان طيلة عقود من الزمن تعمل كديكتاتورية ملكية مطلقة مع درجة ما من السياسات التقدمية والحريات الفردية المتواضعة. وهي تقدم دليلاً واحداً فقط من جملة أدلة كثيرة على أنه لا يمكن تقسيم العالم بالتمام والكمال ما بين ديكتاتوريات شريرة من جهة وديمقراطيات نموذجية في المقابل، لأنه في الحقيقة يضم العديد من الظلال الرمادية فيما بين الطرفين. المراسلون الأجانب عموماً واعون بذلك جيداً، لكن المفكرين والساسة في نيويورك وواشنطن قد لا يدركون الأمور على حقيقتها.

اشهدوا المملكة العربية السعودية ومشيخات الخليج العربي، التي يوجد بها عقد اجتماعي حقيقي بين الحاكم والمحكوم، حيث يتكفل الحكام بتوفير الحكم الكفء والمستقر والانتقال السلس للسلطة، ما يسمح بتطور نوعية من الحياة يُحسدون عليها؛ في المقابل، لا يتحدى السكان احتكار الحكام للسلطة. لا شك أن الثروة النفطية كان لها فضل عظيم في ذلك. لكن الحكام الخليجيين قد أبانوا أيضاً عن حِنكة مكيافيلية عنيدة ذات طبيعة مُنفرة أكثر منها لا أخلاقية. وهؤلاء يعتبرون أن الفوضى الناجمة عن المساعي المتعددة نحو الديمقراطية أثناء الربيع العربي تعطي الدليل الدامغ على أن الغرب ليس لديه من الدروس المفيدة ما يلقنه لهم.

الكرامة، لا الديمقراطية

بالطبع، تلك لا تزال ليست القصة الكاملة، لأن منطقة الشرق الأوسط مندفعة فعلاً للأمام، حتى لو كان هذا الاندفاع في خط متعرج وغير مستقيم. سنلاحظ أن التكنولوجيا الرقمية، بما في ذلك وسائل التواصل الاجتماعي، قد نالت من الطبقية الهرمية وزادت من جرأة الجماهير العريضة، التي بدورها اكتسبت قدرة أكبر جعلتها أقل استكانة وأكثر مطالبة بالمحاسبة. لقد بلغ هوس الحكام الديكتاتوريين بالرأي العام إلى حد لم يتعادوه أبداً من قبل في الخليج العربي وأماكن أخرى. وفي هذه الأثناء، حتى لو كانت الإمبراطوريات المولودة بحراً مثل البرتغالية والهولندية والبريطانية هي التي قد ساعدت في دمج الشرق الأوسط داخل نظام تجارة عالمي خلال الحقبتين الحديثة المبكرة والحديثة، إلا أن قوة ذلك التفاعل استمرت تغمر المنطقة بمضي الزمن. ومن المتوقع أن يُظهر مستقبل الشرق الأوسط مزيداً من الاندماج سواء مع الغرب أو مع العديد من تيارات العولمة المتقاطعة. ومن شأن ذلك أن يغير في النهاية من طبيعة السياسة عبر المنطقة. لكن بالتحديد لأن عصر الاستعمار في الشرق الأوسط قد امتد لأزمان طويلة للغاية- من قبل حتى ظهور الإسلام، في الحقيقة- فما من أحد يتوقع نهاية سريعة لهذه المرحلة ما بعد الاستعمارية غير المستقرة. في النهاية، ما من شيء أكثر قِدماً في عالم السياسة من البحث عن النظام.

بالطبع، لا تزال المنطقة لم تفرغ بعد من الاستعمار. وتبقى الولايات المتحدة، رغم ما لحق بها من ضعف بسبب الحرب العراقية، هي القوة الخارجية الأكثر هيمنة من حيث القدرة على بسط الأمن والانتشار العسكري، بفضل قواعد جوية وبحرية تطوق أغلب شبه الجزيرة العربية بين اليونان في الشمال الغربي، وسلطنة عمان في الجنوب الشرقي، وجيبوتي في الجنوب الغربي. وفي هذه الأثناء، تخطط مبادرة الحزام والطريق الصينية لمد شبكة من طرق الطاقة تصل بين الخليج العربي والغرب الصيني، مع الارتكاز على ميناء مطابق لأحدث التقنيات عند الطرف الجنوبي الغربي من باكستان. كما تتطلع بيجين، بعد أن أقامت قاعدة عسكرية في جيبوتي، إلى إنشاء قواعد أخرى من هذا النوع في ميناء السودان وميناء جيواني على الحدود الإيرانية-الباكستانية. وبالإضافة إلى ذلك، قد ظلت الحكومة الصينية تستثمر عشرات المليارات من الدولارات في مركز صناعي ولوجيستي بمحاذاة قناة السويس في مصر وفي البنية التحتية ومشروعات أخرى في كل من المملكة العربية السعودية وإيران.

في الحقيقة، لا تتخذ الولايات المتحدة والصين لهما مستعمرات أو أقاليم تحت الانتداب، ولا تحكمان شعوباً أبعد من حدودهما الخاصة. لكن هذا لا ينفي أن لهما مصالح استعمارية. وعند هذا المفترق التاريخي، يحتاج الحفاظ على هذه المصالح إلى حفظ الاستقرار، وليس إشعال الحروب، خاصة حين تؤدي الاستثمارات الصينية إلى دمج الصين بعمق أكبر في آليات العمل الداخلية لاقتصادات الشرق الأوسط. وفي هذا الصدد، تشير الصفقة الأخيرة بوساطة صينية بين السعودية وإيران لاستئناف العلاقات الثنائية الرسمية بين البلدين، والاستجابة الإيجابية لها من قبل إدارة بايدن، إلى الكيفية التي لا يزال قد يساعد بها الاستعمار، أو بالأحرى نسخة فضفاضة منه، على إحلال الاستقرار في الشرق الأوسط. حين تشعر الأنظمة الحاكمة هناك بنوع من الاستقرار النسبي، عندئذ قد يتوفر لها الحافز لكي تخفف القيود الداخلية وتساعد في تحرير طاقات مجتمعات أكثر حيوية ومجازفة قادرة على مواجهة التحديات المرتبطة باقتصاد عالمي أكثر اتصالاً وأعقد تنظيماً. على سبيل المثال، ورغم سجله المخزي في حقوق الإنسان، ظل النظام السعودي يفتح مجتمعه باطراد عبر تخفيف القيود على النساء ودمجهن في قوة العمل. هذه العملية تُراقب عن كثب حول العالم العربي وقد تقدم النموذج لظهور أنظمة أكثر مرونة وقدرة على مقاومة الإسلام السياسي.

بعد سنوات من التقارير المتعمقة حول العالم العربي لصحيفة نيويورك تايمز الأمريكية، أورد الصحفي روبرت وورث فيها جميعاً، أن ما يريده العرب حقيقةً هو الكرامة أكثر من الديمقراطية: دولة، ديمقراطية أو غير ديمقراطية لا يهم، "تنتشل مواطنيها من الذل واليأس." وبينما وفر الاستعمار، سواء العثماني أو الأوروبي، الاستقرار مع القليل من الكرامة؛ لا توفر الفوضى أي منهما. في النهاية، قد تستطيع صيغة الحكم المبني على أرضية أرحب من المشاركة والتشاور، من شاكلة الإصلاحات في الملكيات التقليدية الوطنية النشأة مثل المملكة المغربية وسلطنة عمان، أن توصل إلى طريق وسط. وفي هذه الوجهة على وجه التحديد ربما ينتظر أفضل الأمل الذي يأخذ بيد الشرق الأوسط لكي يواصل رحلته التطورية، حتى لو كان لن يتبع بالضرورة مرشداً غربياً.
_____________________________________________
ترجمة: عبد المجيد الشهاوي
رابط المقال الأصلي: https://www.foreignaffairs.com/middle-east/order-after-empire
* ملحوظة: هذه المقالة مأخوذة من كتاب منتظر أن يصدر هذا العام عن دار النشر راندوم هاوس، لمن قد يهتم بترجمته إلى العربية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. البرازيل.. سنوات الرصاص • فرانس 24 / FRANCE 24


.. قصف إسرائيلي عنيف على -تل السلطان- و-تل الزهور- في رفح




.. هل يتحول غرب أفريقيا إلى ساحة صراع بين روسيا والغرب؟.. أندري


.. رفح تستعد لاجتياح إسرائيلي.. -الورقة الأخيرة- ومفترق طرق حرب




.. الجيش الإسرائيلي: طائراتنا قصفت مباني عسكرية لحزب الله في عي