الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صَعيدُ مصرَ في وجهِ حافظٍ ولألاءُ القصرِ في عَيْنَيِّ شَوقي

عبدالله رحيل

2023 / 8 / 13
الادب والفن


يَهيب المرء بعنفوانه اللغوي الإرث العظيم، الذي تلحّفت به بطون الأدب والشعر، وغطّت المكتبات أجفانها بأوراقه الصفر، ونمّقت رفوفها بعنوانين كتُّاب سموا عِلِّية المعرفة، وبنوا فيها أسس الحضارة والمجد، فتناهبت إليهم عقول النشء متسابقة، فأنتجت نِتاجًا جمًّا شعراً ونثراً، ترفد رواق الأدب المختلفة، ونحن إذ نطل على بوابة المجد والتاريخ، ننفض غبار الذكرى والسمو عن ظل رجلين امتهنا الصورة الشعرية، وصنعا الجملة النقية، وسهرا للإمتاع والمؤانسة برفقة القافية، والخيال، هما حافظ وشوقي كما يحلو لنقاد الأدب والشعر أن يسمياهما، فكان النيل مغبَّ عطشهما والصعيد والقاهرة روح أصالتهما.
كلاهما كانا يبحثان عن التفرُّد في بلوغ مرتبة سامية في الأدب والشعر، وقد اتخذا طريقة العرض، واقتناص الغاية، أسلوبا ومنهاجا في التأليف، وكلاهما شقا طريقهما إلى المجد والخلود، حتى بعد وفاتهما، بما تركا مؤلفات، ودواوين شعر، فكان أدبهما مسرحا يعرضان فيه حالة مصر السياسية والاجتماعية في زمن كانت تعصف بالمجتمع رياح التعيير والانفتاح نحو الغرب، وما تمخض عنها من تكوين للثقافة المصرية آنئذٍ، أحدهما مرَّسه صعيد مصر، بالتكوين النفسي والجسماني والعقلي وانضمامه إلى أحداث المجتمع المصري، فسقت بذور ألفاظه مياه النيل، ثم لملم صور خياله المؤنس، وألقاها في عيون فلاحيه، فيصور كدهم بنبل الأخلاق، وبعيون الحضارة الفرعونية، فتأسره الحمائم في دنشواي، وتطرب أذنه لغناء الفلاحات بين أشجار النخيل والبردي، حتى لُقِّبَ "شاعرَ النيل".
أما الآخر فقد هجر الريف، وهديل حمائمه، فكان لألاء القصور يبهر فكره وعينه، فروح المجتمع المصري وبساطة الأرياف، وحدو الحلابات في العُزَب الريفية لم تمرِّسه المراس القوي، الذي يجعله يشعر آلام المصريين وهمومهم، فلم يعرف المجتمع المصري البسيط الباحث عن وجوده إلا في صفحات الصحف، وقد استهواه بلاط القصور، وتربّى بين بريق الذهب، بعيدا عن البساطة، وروح الغناء البلدي، فاشتكت أمه للخديوي ذات مرة،" عينا ولدي تظلان تنظران إلى الأعلى، فلا ينظر للأسفل أبداً، فأجابها، انثري بين رجليه دراهم الذهب؛ حتى يلهو بهن، فينظر إلى الأسفل، ففعلت". فكانت حاله بين الدراهم، والرقة، والدلال؛ فظل وفيا للقصر الملكي، بعيدا عن هموم الصعيد، وأحلام الفلاحين، حتى لُقِّب بشاعر القصر، وبعد حين "أمير الشعراء".
وأمام عظمة هذين الشاعرين يغلب عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين حافظا على شوقي في أخلاقه، وفي شاعريته، وفي رثائه الذي بلغ فيه مبلغ الشعراء الأقدمين: "إن شوقي شاعر يحب الشعر للشعر؛ لأنه يجد في نفسه عواطف أن يضعها، وإحساسا يجب أن يذيبه، هو شاعر لأنه يشعر، وليس هو بالشاعر؛ لأنه يريد أن يتكلم لا أكثر، ولا أقل"
" لقد كانت نفس حافظ تمتاز بشيئين أتاحا لها إجادة الرثاء، وإتقانه والبراعة فيه، حس قوي دقيق، وخلق رضي كريم، وأما الأمر الآخر فصلة غريبة بين هذه النفس القوية الكريمة، وبين نفوس الشعب وميوله، وأهوائه".
وقال العقاد: "بقراءة شعر شوقي لم أجد فيه شعرًا ولا شبيهًا بالشعر، وإنما كل ما في الأمر أنه قام بتدوين المحاضر الرسمية اليومية".
وعن حافظ أورد العقاد: حافظ هو أقرب إلى السلف، وأجمعهم لهوى الصناعة القديمة في جزالة الكلمة، ورنة البيت والشطرة".
شوقي الذي بدأت به الحال في قصر الخديوي، الذي كان يفضله ويعشقه، ما لبث أن أبحر في سفين التقليد، والإبداع، والجودة الشعرية، والمعنى الموصل إلى الغاية؛ حتى غدا شاعرا مقلدا بارعا بقريحة المبدع، والخلاق في التصوير، وصاحب الكلمة المتينة والخيال العذب الواسع، ومع هذا فقد عاب علماء الإسلام والمذهبية شوقيًّا، إذ عدوا مدحه غلوا، وارتدادا، وكفرا في بعض الأحيان، ومن ذلك تأبينه لمصطفى كمال؛ لأنه شاعر بلاط فتبرز معالم الانتماء القصري فلا يريد أن يغضب القصر، الذي تربى فيه:
المَشرِقانِ عَلَيكَ يَنتَحِبانِ
قاصيهُما في مَأتَمٍ وَالداني
يُزجونَ نَعشَكَ َفي السَنا
فَكَأَنَّما في نَعشِكَ القَمَرانِ
وكذلك عابوا عليه قصيدته، التي لا يتورع فيها أن يذكر الخمر بعد رمضان في بلد جل علمائه إسلام:
رَمَضانُ وَلّى هاتِها يا ساقي
مُشتاقَةً تَسعى إِلى مُشتاقِ
فيما ذلك، وإن غاص شوقي في أتون الخلاف الديني يطلق للفظه العنان ويسبح في رمال الصحارى نحو مكة والخطيم مادحا المصطفى بأجل معاني المدح وأكرمها، ففي مولد النبي تغنى بهمزية أجاد فيها المدح والرثاء:
وُلِـدَ الـهُـدى فَـالكائِناتُ ضِياءُ
وَفَـمُ الـزَمـانِ تَـبَـسُّـمٌ وَثَناءُ
وَالـوَحيُ يَقطُرُ سَلسَلاً مِن سَلسَلٍ
وَالـلَـوحُ وَالـقَـلَـمُ البَديعُ رُواءُ
هنا وفي الحضرة النبوية تتفق كلمة الشاعرين في بيان منزلة الرسول صلى الله عليه وسلم، وإضفاء منزلة الدين القويم له فلا يختلفان ولا يتباريان، وتظهر نظرة البعد عند الدين وإمكانية العودة نحو أصوله الصحيحة عند الشاعر حافظ أكثر من شوقي:
سَلامٌ عَلى الإِسلامِ بَعدَ مُحَمَّدٍ
سَلامٌ عَلى أَيّامِهِ النَضِراتِ
بَكى الشَرقُ فَاِرتَجَّت لَهُ الأَرضُ رَجَّةً
وَضاقَت عُيونُ الكَونِ بِالعَبَراتِ
وإن حوى الشاعرين إناء الأقدمين والسباحة في بحرهم والاستمتاع برياح شطآنهم، يبدو حافظ إبراهيم أكثر الآخذين بجزالة لفظ الأقدمين وتكرار معانيهم، والجرس الموسيقي، وكان هذا ما ميز شعره في حسن اختيار القافية والأسلوب، فقال في مدح الخديوي:
قصرت عليك العمر وهو قصير
وغاليت فيك الشعر وهو قدير
وفي جلال النقد اللفظي والشعري، ولحنكة القناعة في العرض يميل شوقي إلى السنة النبوية مرة أخرى، فلربما أراد أن يصحح نظرة الأزهر له، وهنا لابد من القول: إن أجاد في سلاسة الانسيابية اللفظية، والمعنى الديني الصرف، وإلقاء عباءة الأقدمين على سيرورة المعنى، والوزن، والقافية:
سَلو قَلبي غَداةَ سَلا وَثابا
لَعَلَّ عَلى الجَمالِ لَهُ عِتابا
يلاحظ الارتكاز على منهج القدم في إطالة القصيدة وطريقة المدح، والأسلوب القصصي، وإضفاء المعاني الجليلة على الممدوح عند حافظ إبراهيم أكثر من شوقي، ونرى أنه عرج إلى مدح الخليفة عمر بن الخطاب ليؤكد منزلة الرسول في قيام الدين:
حَسبُ القَوافي وحَسبي حين أُلْقيها
أَنِّي إلى ساحَةِ الفاروقِ أُهْدِيها
ومما جعل معاصري الشاعرين يفضلون حافظا على شوقي هي ميل الأمير عن حالة الهم وإظهار قيمة الهم عند المصريين؛ لأن نظرة القصر الملكية أبعدته، وهذا ما ولد شعور الانتقاص عندهم تجاه أحمد شوقي، فهو الذي لم تعجبه ثورة عرابي، ولم يكن نصيرا لها، بل هجا عرابياً، واستهجن عليه موقفه من الإنكليز، وقد سقطت القصيدة من طباعة الشوقيات، لما لها من موقف سلبي معيب من أمير الشعراء:

صغار في الذهاب وفي الإياب
أهذا كل شأنك يا عرابي
وقصيدة أخرى سقطت أيضا من الشوقيات في هجاء، أحمد عرابي، وفي قدح وطنيته:
أهلا وسهلا بحاميها وفاديها
ومرحبا وسلاما يا عرابيها
وبتمثل حافظ لهموم الشارع المصري تتجلى نظرته الشعرية تجاه من أفسدوا الحياة المصرية، وبنبوغ الوطنية الجمة عند حافظ، وفي خضم مباحثات عدلي-كيرزون عام 1921م، وما أظهر الإنكليز في استباحة مصر كلها، فظهر في قصيدة غراء عُنْوِنَتْ بمصر فوق الجميع، ومما قاله:
وقف الخلقُ ينظرون جميعًا
كيف أبني قواعدَ المجد وحدي
وعرفانا لشوقي ولمنزلته الشعرية، حاز شوقي إمارة الشعر، واتفق المشرق العربي على تسميته أمير الشعراء سنة 1927، وقد بايعه حافظ إبراهيم بقصيدة جميلة:
أمير القوافي قد أتيت مبايعا
وهذي وفود الشرق قد بايعت معي
ويحف تبدل الحال السياسية لشاعر القصر وتتغير النظرة وهذه حال الشعراء عند أصحاب اليد الطولى، فيُنفى الأمير إلى إسبانيا، ويحن لمصر ولنيلها:
يا ساكني مصر إنا لا نزال على
عهد الوفاء وإن غبنا مقيمينـا
فأجابه مبلغ الخبر الوفي له، وصديق شاعريته وقرينه حافظ إبراهيم:
عجبت للنيل يدري أن بلبله
صــادٍ، ويسقي ربا مصر ويسقينا
ويمضي الدهر بالشاعرين فيحفهما إلى ديار الحتف والغياب، وتساؤل الخلق بعدهم عن الأجود بينهما، فيسيران نحو الخلود في مسامع العرب، والشرق وتغتال المنية حافظا قبل شوقي، ويأسف أن يموت حافظ قبله، فكان يود أن تكون منيته قبل حافظ؛ ليرثيه رثاءه الجميل، الذي كان يفضله، ويتوق إليه فقال في رثاء حافظ:
قَد كُنتُ أوثِرُ أَن تَقولَ رِثائي
يا مُنصِفَ المَوتى مِنَ الأَحياءِ
لَكِن سَبَقتَ وَكُلُّ طولِ سَلامَةٍ
قَدَرٌ وَكُلُّ مَنِيَّةٍ بِقَضاءِ
وبعد أربعة أشهر، حزم شوقي أمتعته، ورحل إلى ضفتي النيل، مجاورا لحد حافظ، وكأن الفضاء لا يتسع لأحدهما دون الآخر، ففي أديم الأرض الخالدة يرقدان هانئين، بعد أن تغنت حمائم النيل، وذرات تراب صعيد مصر بأشعارهما، التي ملأت كتب الأدب، والتاريخ، والنقد الأدبي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا


.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط




.. فيلم تسجيلي عن مجمع هاير مصر للصناعات الإلكترونية


.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس




.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل