الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فهم نظرية تعدد الاقطاب وانعكاسها على العالم العربي

لبيب سلطان
أستاذ جامعي متقاعد ، باحث ليبرالي مستقل

(Labib Sultan)

2023 / 8 / 14
مواضيع وابحاث سياسية


1. مفهوم تعدد القطبية الدولية وتحليل بعض ظواهرها من خلال تجاربها
نحن نعرف ان العالم انقسم خلال القرن العشرين الى قطبين متناقضين،وحدث ذلك لمرتين . كانت الاولى قبل الحرب العالمية الثانية، حيث انقسم العالم الاوربي الى معسكرين (قطبين) احدهما "ديمقراطي" مثلته بريطانيا ودول اوربا ذات النظم الديمقراطية، والثاني " قومي" شكلته المانيا الهتلرية ومن معها من النظم الديكتاتورية القومية (ايطاليا وجنوب القارة وامتد منها وصولا الى اليابان). قامت بين القطبين حربا ساخنة مدمرة ، هي الحرب العالمية الثانية ، وبانهزام المانيا النازية واليابان فيها ، انتهى هذا الاستقطاب ورجع العالم ليستريح لبرهة من دون اقطاب.
ولكن ماهي الا سنوات ثلاثة حتى قام قطبان ومعسكران جديدان، احدهما تقوده الولايات المتحدة ومعسكرها الغربي ( الرأسمالي) ، والاخر يقوده الاتحاد السوفياتي ومعسكره الشرقي ( الأشتراكي) . القطب الغربي يمثل النظم الديمقراطية التقليدية ( يدعونها السوفيت رأسماليية كونهم يعتبروها ايديولوجيا وهي ليست كذلك بل هي نموذج اقتصادي يدعى علميا اقتصاد السوق الحر Free Market Economy) ، والقطب الشرقي يضم دولا حررها السوفيت من النازية واقام نظما شبيهة بنظامه ، ديكتاتورية يحكمها الحزب الواحد ، وهي اشتراكية الاقتصاد (والاصح ربما تسميته الاقتصاد المركزي الادارة من الدولة State Run Economy ). حقيقة العداء ليس هو شكل النظام الاقتصادي، بل هو ايديولوجي بين النظم الماركسية والديمقراطية.
لحسن الحظ لم يَجُرَّ هذا الاستقطاب لحرب ساخنة طاحنة مباشرة وعالمية بين الاقطاب كالحرب الثانية، بل هي كانت حربا ايديولوجية ، كلامية وباردة ،ومنها سميت "الحرب الباردة". ولكن، ولسوء طالع شعوب العالم الثالث، نقلت الاقطاب معاركها وصراعها اليها، وكانت ساخنة مدمرة ،اذ دارت على اراضيها وأدت لانقلابات دموية وحروبا اهلية ، بدأت في كوريا وتلتها في فيتنام وامتدت الحروب والانقلابات لأغلب دول العالم الثالث في الستينات والسبعينات، حيث ان انحياز نظام لاحد القطبين اتهمه الاخر انه توسع ضده ويعبئ ليقوم بانقلاب او تمرد مضاد، وسادت هذه الدول انظمة ديكتاتورية عسكرية موالية لهذا القطب او وذاك). نعم ان الحرب كانت باردة في اوربا ، و لكنها كانت ساخنة ومدمرة في بلدان العالم الثالث، ومنها سميت تضليلا " الحرب الباردة ".
انتهت الحرب الباردة رسميا عام 1992 بانهيار الاتحاد السوفياتي داخليا، ويرجعه الكثير من المحللين لاستنزاف هذه الحرب قدراته الاقتصادية ومعها فشل نموذج الاقتصاد المركزي الذي تديره الدولة ، واخرون يضعونه على رفض نظم الحكم الشمولي اللاديمقراطي الذي ملَّ الناس منه ومن انتظار رخاء الاشتراكية ،الحلم الموعود والذي لم يتحقق منه شيئا، بل عكسه رأوا الفقر وتضييق الحريات في النظام الاقتصادي والسياسي في النموذج السوفياتي، فانهار دون مظاهرة تطالب بارجاعه ، او دون احتجاج على انهياره ، وكأنه موت طبيعي لشيخ هِرمَ ، ومات موتا طبيعيا، وحتى دون مشيعين، ولا احد يعلم اين اختفى 11 مليونيا من اعضاء الحزب الحاكم ، حتى ولو بمظاهرة ، ربما كونهم كعادة انصار النظم الشمولية ، جلهم انتهازية، بل سارعوا لتقاسم المغانم من نفوذهم وتوزيع الملكية العامة ،كما اسمونها، بين اولادهم ليكونوا طبقة الاوليغاخية والمليارديرية، وكانوا بالامس رفاقا وقادة لبناء الاشتراكية.
دعونا من هذا العرض الموجزللتجربتين القطبيتين في العالم خلال القرن العشرين ان نستخلص بعض الظواهر والنتائج التي ميزت نموذج تعدد القطبية.
أولا : ان القطبيات ولدت مع صعود وبروز طرف دولي قوي تبنى عقيدة ايديولوجية (القومية في الاولى، والماركسية في الثانية) ومنها بدأ هذا الطرف بتكوين تكتلا اقليميا ودوليا من دول تعتنق ،أو تتناغم مع هذه الايديولوجيا. في كلتا التجربتين بدأ الامر داخليا، احزاب ايديولوجية سيطرت على السلطة بعدما كسبت عواطف الجمهور بدغدغتها لمشاعرها واحلامها وحل مشاكلها بخطاب ووعود اثارت عواطفها والهمت مشاعره ، وبوصولها للحكم والقفزللسلطة، اقامت نظما ديكتاتورية، احادية الحزب والعقيدة، والغت الاحزاب والحياة السياسية الديمقراطية. واصبح بعدها ولليوم واضحا ان الايديولوجيا في السلطة نظاما نظاما قمعيا شموليا وتعني الديكتاتورية . من التجربتين، يبدو واضحا ان الايديولوجيا هي اهم عناصر تكوين القطب، فمنها قيام دولا ونظما ديكتاتورية احادية العقيدة ،لتنمو وتجمع شركاء لها بهذه العقيدة لتصبح قطبا دوليا ان اهم ميزة للقطب هي ان يمتلك نظرية ايديولوجية. فلا قطبية دون ايديولوجيا جامعة لها انصارها خارج القطب، هذا ماشاهدناه في المانيا وماشهدناه في القطبية السوفياتية، فبدوعقيدة ايديولوجية عالمية جامعة ، لبقيت نظما داخلية ديكتاتورية فقط ( مثل نظام فرانكو في اسبانيا بعد الحرر الاهلية، او الاتحاد السوفياتي قبل الحرب العالمية الثانية ). وعموما، فولادة اي قطب لت هو شرطان : ان تتزعمه دولة كبيرة مؤثرة اولا، وتعتنق هذه الدولة عقيدة ايديولوجية جامعة تجذب لها من خارجها من يشاركها طروحاتها الفكرية.
والملاحظ ايضا اننا لو تمعنا اكثر في الامر سنجد ان القطب الذي يتشكل من تكتل الدول الايديولوجية ، وهي نظما ديكتاتورية ، فالقطب الاخر الذي يتشكل امامها كان من الدول ذات النظم الديمقراطية، فهي دفعت اليه بحكم الدفاع عن مصالحها المشتركة كنظم ديمقراطية ، ففي الحالة العادية هي عموما دولا ونظما غير ايديولوجية ولا تقوم دولها على اسس عقائدية ( دينية ، قومية ، بروليتارية ،الخ)، وتكون تكتلها كرد فعل على تهديد نظمها من تكتل قطب ايديولوجي نام يريد التوسع فتلتف مع بعضها لتكون تحالفا بينها ، ومنه دوما برز قطبان ، ايديولوجي ديكتاتوري الحكم، وديمقراطي غير مؤدلج بعقيدة .هذا ما رأيناه واضحا في كلتا التجربتين القطبيتين خلال القرن العشرين.
ثانيا : ان القطبية حالة استثنائية ، ويمكن وصف العالم بدون قطبية انها الحالة الطبيعية له . ان بروز قطب ايديولوجي يبدأ بتجميع شركاء وخوض صراع فكري ايديولوحي مع بقية العالم هي ليست الحالة الطبيعية المستقرة بلاشك، وليس العكس كما يشاع ، بان العالم اكثر استقرارا بوجود الاقطاب ، بل انه اكثر خطرا واكثر تعرضا لوقوع الحروب الساخنة في الاولىظ والباردة ـ الساخنة في الثانية . ان الحروب في التجارب اعلاه اثبتت ذلك ، ومنه فلا يمكن دعوة العالم بغياب الاقطاب انه عالما "احادي القطب " ، بل هو عالما دون اقطاب ، وهي الحالة الطبيعية المستقرة للعالم ، كما لا وجود لمغناطيس ذو قطب واحدة ، بل هو حالة المادة طبيعيا ، والعالم دون اقطاب هو في حالته الطبيعية تماما.والملاحظ ايضا انه وفي كلتا التجربتين، بعد انهيار القطب وهزيمة القطب الايديولوجي ، فالعالم رجع الى حالته الطبيعية المستقرة للبناء والعيش دون مخاطر ، فهو اصبح دون قطبية ،( القطبية في الواقع هي الواحا مشحونة موجبة وسالبة تولد في اية لحظة عند تماسها لتوليج شرارة قادرة على حرق ما حولها). فالحالة الطبيعية المستقرة للعالم هي العيش والتعايش دون قطبية ، اما مايطرح ان تعدد القطبيات يعني اقامة حالة التوازن ، فهذا طرح يقول به المؤدلجون خصوصا ، لاقامة حجة اقامة قطبهم ، اذ هو في الواقع يعني عكسه، خلق ظروف الصراع والاصطدام، والخروج من الحالة الطبيعية المستقرة التي يحتاجها العالم للبناء والعيش بسلام.
ثالثا : ان كل تكتل استقطابي قد ادى الى نشوب حرب ، او حروب عديدة ، بين اقطابه وتكتلاته ( مباشرة كالحرب الثانية، أوغير مباشرة كالحرب الباردة ) ، وهذا مااثبتته تجارب القطبيات السابقة . ومن هذه التجارب والممارسات على مدى برابة سبعين عاما ،يمكن استخلاس نتيجة سيئة للغاية : ان قيام أي استقطاب جديد في العالم سيؤدي لامحالة الى نشوب حربا او حروبا جديدة سواء عاجلا ام اجلا. كما ويمكننا ان نستنتج ايضا، ومن تجربة القطبية الثانية خصوصا، وبسبب حيازة الاقطاب الكبرى على السلاح النووي، ان الحروب القادمة سوف لن تجري بين القطبين مباشرة ، بل ستجري على اراضي الدول الضعيفة الغير مستقرة او التي انحازت لاحد القطبين ، هذا ما رأيناه في الحرب الباردة، حيث كانت الاقطاب تتفرج على حروب بالوكالة تجري على اراضي دول العالم الثالث ، على شكل انقلابات، أوحروبا اهلية طاحنة ، أوتصفيات لانصار طرف على يد طرف اخر، اما الدعم بالمال والسلاح فيأتي من القطبين المستريحين على عرشيهما .
لِم َ يمكن الادعاء ان الحرب شبه محتومة بين الاقطاب ؟ لأن سبب قيامها يكمن في سبب قيام القطب نفسه والتكتل حوله أو معه، والا لما تشكل التكتل والقطب اساسا. ومنه فالنتيجة :ان اي استقطاب ايديولوجي وتوجه الى عالم متعدد الاقطاب هو طريق قصير لحرب او لحروب قادمة ستقع لا محالة سيحملها للعالم هذا الاستقطاب.
كيف يجر الاستقطاب الايديولوجي للحروب ؟ لو تمعنا في تجارب القرن العشرين لوجدنا ان ذلك يجري على مراحل ،فالقطب الايديولوجي يستخدم احدى العقائد الشائعة ، او مزيجا منها ( مثل الدين والقومية ، الطبقية والاممية البروليتارية) ويبدأ بكسب العواطف وتجييش الجمهور ، ويبدأ بالتحريض، وتدريجيا يقوم بتجميع انصارا "مظلومين " مثله ، لينمو ، ويتطور الى صراع فكري يليه صراعا على النفوذ والمصالح ، ومنه تتهيأ ظروف التصادم المباشر او غير المباشرعلى اراضي الغير، ووقوع حروبا ودمارا ، خصوصا في الحرب الباردة مثلما رايناه في الكثير من دول العالم الثلث. هذا هو الخطر الحقيقي للقطبيات.
رابعا : ان العالم بدون اقطاب هو الافضل والاكثر استقرارا ومنفعة للدول وللشعوب وللبشرية جمعاء. هذه النتيجة واضحة من الحروب والدمار والمأسي التي عاشتها الشعوب في تجارب الاقطاب اعلاه. ولكن مالبديل عن الاستقطاب في حالة الخلاف على المصالح بين الكبار ؟هل يوجد بديلا للاستقطاب وللاقطاب عند اختلاف المصالح؟ نعم يوجد والبديل للاستقطاب هو التنافس والمباراة حيث تنصرف الدول والشعوب لمباراة اقتصادية، واجتماعية تنافسية . وهذه غير الايديولوجية التناحرية. والواقع يمكن اثبات ان الفشل في هذا التنافس هو الذي يؤدي لصعود الايديولوجيات ومن ثم للصراعات والحروب. فهناك فرقا كبيرا بين التناحر والتنافس. التنافس هو مباراة اقتصادية تحمل انجازاتا علمية وإحتماعية ، وكل تنافس هو عاملا ايجابيا للتطور المجتمعي والانساني العام، وهو كما اشرنا يمثل الحالة الطبيعية لها، فالتنافس هو البديل للصراع التناحري الايديولوجي الوجودي ( أي الذي يهدد وجود دولا وامما باكملها) . التنافس ذو بعد داخلي ويؤدي للتطور والبناء ( مثل المنافسة في السوق الحر، او تنافس الاحزاب في النظم الديمقراطية ، انها تخلق شروط التطور وهي ضمن مواصفات الحالة الاستقرارية الطبيعية للمجتمعات ) . الاستقطاب حالة تناحرية صدامية ايديولوجية دامية تهدف لتدمير الطرف الاخر وذات ابعاد خارجية . في العالم الغير مستقطب تنصرف الامم لتطوير اقتصادها ، ولاقامة اواصلاح نظمها وتطويرها ديمقراطيا. وخير مثال على هذا ماشهده العالم خلال الثلاثين سنة الماضية التي تلت الحرب الباردة ، حيث قامت عشرات الدول الديمقراطية ، واختفت تقريبا الديكتاتوريات التي سادت قبلها وكانت تحتمي بالاقطاب ، واصبحت محصورة معدودة ، وقلت الانقلابات والنظم الديكتاتورية في اغلب بلدان اميركا اللاتينية ومعظم بلدان اسيا و افريقيا. وعلى مجال الاقتصاد ساعد الاستقرار للانصراف للتنمية وتطور اقتصاد الكثير من البلدان ، وبرزت الهند والبرازيل واندونيسيا وكوريا وتركيا والصين وماليزيا وغيرها العشرات من البلدان ، حتى الصغيرة قوى اقتصادية مؤثرة في العالم. عكسها في عالم الاقطاب تكاثرت الديكتاتوريات ، وضعف الاقتصاد ،وتعاظمت الديكتاتوريات العسكرية واختفت الكثير من النظم الديمقراطية ، ودارت حروبا ورافقها تدميرا هائلا كان اغلبه في الدول النامية.
ان هذه هي باختصار هي اربعة نتائج يمكن استخلاصها من تحليل تجارب الاستقطاب وتعدد الاقطاب خلال القرن العشرين، ويمكن اثبات اي منها من مراجعة المعطيات والاحداث المريرة المدمرة التي عاشتها الشعوب والدول كبيرها وصغيرها خلالها. ويمكن وبثقل قوة القرائن والاحداث التي عاشتها الدول والمجتمعات استخلاص امر في غاية الاهمية : ان جميع ماحل بها من حروب ومصائب ودمار جميعها ارتبطت بالاستقطاب والاصطفاف الايديولوحي في "العالم المتعدد الاقطاب"، وهو ان ترجم بشكل ادق فهو يالعالم المنقسم الى كتل متصارعة وفق الايديولوجيات، وتهيئة ظروف لنشوب حروب ، هي في العصر النووي الحالي، ستكون باردة بين قادة الاقطاب، ساخنة مدمرة للدول النامية الفقيرة حيث على ارضها سيدورالاقتتال. ان الاستقطاب الايديولوجي تناحري يؤدي للحروب والتدمير ، عكسه التنافس الاقتصادي والاجتماعي يؤدي للتطور والتحضر والبناء والتعمير. ان تجارب القرن الماضي اثبت ان الايديولوجيات هي من وقف ويقف وراء نشوء الاقطاب، وبغيابها عن المسرح الدولي ،وبغياب الدول والنظم العقائدية يحل الاستقرار ويحل التنافس والمباراة الاقتصادية ، ومنها يحل البناء والاعمار. هذا هو مايمكن تلخيصه واثباته من تجارب قطبيتين قامتا في العالم على مدى سبعين عاما من القرن الماضي.
2. فهم الاطروحة الجديدة للرئيس بوتين لعالم "متعدد الاقطاب"
تم طرح مصطلح العالم المتعدد الاقطاب من قبل الرئيس الروسي بوتين لأول مرة تحديدا منذ عام2007 ( تجب ملاحظة انه قصد ثنائية القطبية عند قوله تعددية الاقطاب فهو قالها تعميما ،فلا توجد في الكون ظاهرة او كيانا باكثر من قطبين ، وماتبقى يكون اما عازلا محايدا بينهما، او ينحاز لاحدهما، واعتقد ان ماقصده الرئيس الروسي هو الثنائية وليس فعلا التعددية ، فهو نفسه لايقبل بها مثلا ، فكثرة القباطنة وسفنهم لاتعني تعدد الاقطاب بل اخير تصطف بتكتلها خلف اسطولين، او لاتدخل تحت اي منهما).
طرم الرئيس بوتين عام 2007 في مؤتمر ميونيخ للامن والسلام هذا المصطلح خلال عرض "مظلوميته " في خطابه الذي فاجأ الجميع بانه لم يعد مقبولا لروسيا ان ينظر اليها طرفا خاسرا في الحرب الباردة، ولايمكن الاستمرار في عالم ذو قطبية احادية ( يقصد قيادته من الولايات المتحدة ) ، فلابد لعالم عادل ويكون عالما متعدد الاقطاب يأخذ بمصالح الاطراف الاخرى ولايتفرد بالقرارات. ورغم دهشة الحاضرين ، وجلهم من رؤساء الدول وخبراء من العيار الثقيل منهم ميركل وكيسنجر وعشرات مثل وزنهم ، الا انهم وكما صرحوا بعد المؤتمر انهم يتفهمون توجه الرئيس بوتين كقائد قومي يعمل على ارجاع قوة ومجد بلاده وهذا حقا له، ولم يسمع من أي منهم ان عصر بداية الاقطاب ربما قد بدأ ، فهم ضمنا اعتبروا ان عصر الايديولوجيات قد ولى، واليوم هو عصر المباراة الاقتصادية والانجازات العلمية وسيادة نظم الديمقراطية من دون ايديولوجيات وصراعات تناحرية، وربما انهم اعتبروا ان خطابه هو مجرد شكوى للغرب عن الشعوب التي كانت بالامس مقاطعاتا واليوم صارت دولا تتجرأ على روسيا في جورجيا ومولدافيا واوكرانيا واذربيجان ، فهذه لايحق لاحد التدخل لاحد بها ، فمصيرها مرتبطا بروسيا ،ودعوات ليبرالية مثل مناصرة حق الشعوب في الديمبراطية باسم الليبرالية والحريات الديمقراطية ما هو الا تآمر غربي على روسيا لاضعافها والتقليل من هيبتها. وفعلا كان في ذلك العام رؤساء كل من جورجيا ومولدافيا واوكرانيا واذربيجان ينحون بانفسهم ودولهم عن روسيا ويطرحون طريقا ومنهجا يقود للانضمام الى اوربا ، واعتبره هو عملية اطلاق هذه الضفادع الصغيرة التي لم تجرأ سابقا فتح فمها انها اصبحت علنا تطرح الطلاق الكلي مع روسيا والتوجه الكلي لاوربا نحوالغرب، فهي مقاطعات سابقة لروسيا ولن يسمح بذلك .لا احد اعتبر خطاب الرئيس بوتين اكثر من شكوى ولم يعتبره احد منهجا جديدا سيسير عليه في دعوة لاقامة القطبية الثالثة . ولكن الاحداث بدأت تتوالى واتثبت ان الرئيس الروسي كان جادا في مشروعه الذي بدأت معالمه تظهر تدريجيا ولكن دون وضوم مطلق الا بعد غزوه لاوكرانيا . في واقع الحال انه مشروعا جادا عمل عليه الرئيس بوتين بكل جهد لتحقيقه على المستووين الداخلي والخارجي. بدءه الرئيس الروسي فعلا عام 2008 بغزوه جورجيا واحتلال مقاطعتين منها لأن رئيسها كان يميل للغرب ولاميركا ، ولم يعره العالم انذاك اهتماما واعتبرالقضية شبه داخلية في مناطق قفقازية بعيدة ، ولم يفهموا انها كانت البداية لمشروعه لاعادة التشكيل لروسيا الامبراطورية بنفوذها ومصالحها ، ولم ينظر للرئيس بوتين بغيرعين التعاطف من جهة ، وعين الاستثمار والسوق الروسية الكبيرة التي لو تعاونوا معه لجلب لهم وله ولروسيا الثروة والنمو ضمن معادلاتهم الربحية.
وحتى بعد احتلاله شبه جزيرة القرم عام 2014 لم تؤخذ طروحات بوتين بانهاء ما سماه "القطبية الواحدة" مأخذ الجد، وذلك لاسباب عديدة منها ظنهم ان روسيا قوة اقليمية لاغير، كما قال الرئيس اوباما عام 2015، وليست قوة دولية كي تقيم قطبا، معتمدا ان اقتصادها هو بمثابة حجم بلد اوربي متوسط مثل ايطاليا او اسبانيا ( وعلى مستوى الفرد يصل نصفها) ومنه يغيب احد العناصر الهامة التي كانت في الاتحاد السوفياتي مثلا ، وهو ان تكون قطبا هو ان تكون دولة قادرة ومتمكنة اقتصاديا، كما ولايتوفر فيها العنصر الثاني وهو العقيدة الايديولوجية ،معتقدين ان العالم تجاوز عصر الايديولوجيات وتحول للمباراة الاقتصادية والتوجه نمو النمو والرفاه بدل الصراع.
ربما السؤال الذي لم يفهمه الجميع وقتها ، ماهي العقيدة الايديولوجية التي ينوي الرئيس بوتين اقامة قطبه عليها ؟ ان العقل التقليدي الغربي الذي اعتاد التعامل مع الواقع بلغة المصالح وبالمعادلات الاقتصادية والارقام المالية لم يستطع فك شفرة الرئيس بوتين فعلا الا ربما بعد هجومه على اوكرانيا ، حينها فاق ورأى ان بوتين جادا وان له اعوانا ومشاريع وتكتلات وعقيدة ايديولوجية هي " القومية الامبراطورية " جاهزة لتكوين تكتلا و لتكوين قطبا امام العدو الفكري "الليبرالية" وهي القطب الذي تمثله دول الغرب. ووجدوا ايضا ان لبوتينحلفاء، يحلمون مثله، بارجاع امبراطوريات قومية او دينية يشاركونه تظلماته من غي الغرب والليبرالية والتسيب والحريات ، حلفاء مثل ترامب ولوبان واية الله ومودي وتشي جين بينغ ، وكان هو بدأ بتشكيل كتل اقتصادية من نظم قومية من افريقيا الجنوبية والهند والبرازيل والصين ، وتحالفات مع نظم دينية ضد الانحلالات الليبرالية والتآمرات الامبريالية في ايران واردوغان لتحرير العالم من اثام الليبرالية التي هي ضد الدين وتقاليد الامة والقومية.
دعونا نحاول ايجاز اهم مساند ومنهج "القطبية الثالثة " التي يخطط لتشكيلها الرئيس بوتين.
من الناحية العقائدية انها تستند على اقامة تكتل " قومي وديني" ضد " التكتل الليبرالي"، بدأه داخليا بتصفية القوى المناوئة له الواحدة تلو الاخرى ( الليبرالية المتطلعة لنموذج الغرب ) ، والسيطرة على الاعلام والصحافة ( من يتابع خطابات الرئيس بوتين يلاحظ انه لم ‏يأت على خطاب دون وصف الليبرالية انها الانحلال والمثلية والتسيب بالحريات الفردية ونفي القيم الاخلاقية ، ودوما طرح ان روسيا بمصيرها وثقافتها ومستقبلها مرتبطا بتمسكها بالقيم القومية والدينية الارثذوكسية الاخلاقية‏ لتعود لعظمتها وازدهارها ومجدها (الامبراطوري ) السابق . ان هذا الطرح القومي والادعاء الاخلاقي هو طبعا ما برر له دوما قمع القوى والتيارات الليبرالية المنادية بدمقرطة روسيا وجعلها كالديمقراطيات الاوربية الغربية لتأخذ بمبادئها باحترام الحريات الفردية للمواطن وبالحريات الفكرية . ان خطاباته هي بلاشك اقل حدة من خطابات هتلر النازية العرقية ، ولكنها تشبهها في اسلوبها المدغدغ للمشاعر القومية واستعادة الامة لامجادها وبان الليبرالية فكر غربي للسيطرة على روسيا ومنه يجب نبذها والسير لاعادة مجد الامة ومجد "الامبراطورية " (وترجمتها الديكتاتورية) . واعتباره منقذا وباعثا لمجد روسيا العظمى ، ومنه غير مواد الدستور ثلاث مرات ليضمن حكمه لستة وثلايين عاما ، اي لحد عام 2036 لينجز مهمته.
ان العقيدة متوفرة للرئيس بوتين لاقامة القطبية الجديدة، انها "القطبية القومية الامبراطورية " لاقامة تكتل ضد " القطبية الليبرالية". هو لايسميها الغربية والرأسمالية هذه المرة ، بل تحديدا " الليبرالية " والسبب انه ينظر لحلفائه القومجية الاوربيين حلفاء له وسيسعى ويعمل معهم على انهاء اللببرالية وتفتيت الاتحاد الاوربي وتكوين دولا قومية تتفهمه وتقف معه من يختار منهم البقاء في صف اللببرالية .
من سيكون في هذا التكتل وفق قرائته الجيوسياسية؟ انهما صنفان من الدول . الأول من الدول الحالمة باقامة امبراطورية ، وامامه مباشرة تحالف رباعي فيه اردوغان "بارجاع العصملية " ، و آية الله بدولة "العصمة الامامية " ، وتشي جين بينغ بارجاع تايوان واقامة امبراطورية اقتصاجية ، اضافة له لجعل روسيا تضم على الاقل السلافية الارثذوكسية وتوابعها في اسيا الوسطى والقفقازالاسيوية الاوربية.
ولكن والتكتل الثاني هو مهما ايضا ، ورغم انه غير مضمون ، ولكن فيه احزابا قومية يمينية تبغض الليبرالية ستساند دعوته وربما تنضم لتكتله مستقبلا لو نجح اليمين القومي الاوربي والاميركي من الوصول للسلطة وهو مايساعده في تحقيق احلامه الامبراطورية دون صراع وعناء كبير ، فهو ان فتت الاتحاد الاوربي لدول قومية ، ونجح اليمين الاميركي ، فيكون قد ازال العوائق امام احلامه الامبرطورية، وهو امرا كرس له الرئيس بوتين اغلب جهوده ، اكثر بكثير من تطويره لروسيا وبناء وتطوير قدراتها الاقتصادية، بل ركز على العسكرية .
كان حلم بوتين هو اعادة انتخاب ترامب عام 2020، حيث سيختصر عليه الطريق ويبدأ عصر الامبرطوريات القومية، "ارجاع اميركا عظيمة من جديد " و" ارجاع روسيا عظيمة من جديد " ، لغة مشتركة بينهما ويخوضان المعركة وفق توافق المصالح بدل التصارع الغبي الذي دار في الحقبة السوفياتية، فالعدو امامهما واحد وهي الليبرالية. انه لم يستطع تحقيق مخططه مع ترامب في المرحلة الاولى من حكم الاخير، حيث بقيت تطارد ترامب الشبهات والاتهامات في مجتمع تسوده المؤسسات والحريات الاعلامية وكان الاعلاميون والليبراليون يطاردونه ويخلطون الماء عليه ولم يكن قادرا على الجلوس مع الرفيق بوتين ووضع " هذي لي وتلك لك " تريد اوكرانيا اخذها بس لا تتحارش بفنزويلا ، تريد السلاف ( بولونيا ، بلغاريا، صربيا جيكيا وسلوفاكيا ) ماكو مشكلة ، بس السعودية والخليج لا تجيبهم بالطاري ، وهكذا. لسوء حظ بوتين فان تقاليد الليبرالية في اميركا اقوى مما تصور ، وطردت صاحبه قبل الوصول لصفقة كانت مرتبة في الولاية الثانية ، وانهارت احلامه عام 2021 ، ومنه قرر " لا ترامب ولا هم يحزنون" ، "ساعملها بذراعي " وحانت ساعة العمل الثوري ، وهجم على اوكرانيا عام 2022، على حين غرة ، بينما الغرب مشغول في اعماله وعد امواله وارباحه ورفاهه. و بدقة اكثر ، ولو تم فعلا احتلال كييف خلال اسبوع او اسبوعين ، لنجح بوتين في اعلان ولادة القطبية الثالثة وعلى رأسها روسيا الامبراطورية ، وليكن مايكن ، وسيضغن له الجميع كما تصور ، ولكنه اذ لم ينجح ، فهذه هي ربما بداية النهاية لهذه القطبية ، واثارها النفسية والتدميرية ستعطل مشروعه، وربما هذه ستكون أهم العوائق امامه، حيث انها اضعفته كثيرا، ولو نجح لرأيت القوم من كل حتة تتقدم اليه وتنضم اما لحمايته او لتعلن انها معه في مشروعه لارجاع قيم الاخلاق والقومية بدل التسيب والليبرالية. ولكن هل خسارة ترامب والعملية الخاصة في اوكرانيا ستشكل نهاية البداية للمشروع القومي الدولي الذي بدءه الرئيس بوتين؟ انه امر سيعتمد على مستقبل الحرب في اوكرانيا والتي ستحدد مصيره ايضا، ولكن لو نجح بالتمسك فيما اقتطعه من اوكرانيا ، فان مشروعه سيكون قد حقق كسبا كبيرا ومنه سيستمر لاكماله.
وعموما يمكن قراءة أستراتيجية بوتين في تكوين تكتل واستقطاب ايديولوجي جديد انه اقامها على ثلاثة محاور :
الاول : استغلال الشعور القومي المتنامي داخل المجتمعات الاوربية الصغيرة ضد اليببرالية من استغلال مشاكل الهجرة وميوعة السياسيين الليبراليين في معالجتها وصعود الاحزاب القومية للسلطة ومنه ومنه تقويض الاتحاد الاوربي من الداخل وخلق دولا قومية مثل فرنسا والمانيا وايطاليا يسهل ايجاد لغة مشتركة معها في تقاسم المصالح واقامة الامبراطوريات.
الثاني : التوجه جنوبا لايران اية الله واردوغان ودغدغة مشاعرهم الامبرطورية واحترام التاريخ القريب للجميع واحترام الاديان ونبذ الليبرالية ، او بسط حمايته للنظم الديكتاتورية ليأتي اليه طالبين حمايته او مواجهة اية الله واردوغان كما فعل الاسد ونجح بوتين نجاحا كبيرا، نصف سوريا مشردة ونصفها الاخر جائعا ولكن الاهم انه حافظ على شريك هام يساوم عليه اية الله واردوغان.
الثالث: تحريك الانقلابات والحروب الاهلية في افريقيا لتكون منطلقا للهجرة الجماعية لبلدان البحر المتوسط ( قرابة مئة مليون منهم يفكر بالهروب شمالا ) ويكون مع الافارقة جيشا عرمرما لغزو القارة العجوز التي ان احتضنت حتى واحدا من كل عشرة لتحولت لدول عنصرية قومية تكره سياسة الانفتاح والليبرالية وتتحول انظمتها نحو البوتينية.
مالذي سيفعله العالم امام مخطط بوتين؟ وهو احيانا يبدو قد تراجع ، واحيانا يبدو انه يسيرعلى احسن منوال . لاشيئ ربما ، لان الغرب الليبرالي لايرى فيه مشروعا بل دعوات قومية قديمة جديدة خبرها العالم منذ زمن هتلر وموسوليني وامبراطور الرومان واليابان. فحتى الاحزاب القومية اليمينية التقليدية في الدول الليبرالية تخجل ان تقف معه علنا، ومشكلة بوتين الحقيقية فيما يبدو هي لا حلفاء حقيقيين معه لخوض حرب ومعركة حاسمة ضد الليبرالية في اوربا واميركا، وحلفاء قوميين من العالم الثالث ضدها وضد الغرب معا
كسب بوتين معركتين خلال العشرة سنين الماضية. الاولى انه استطاع اختراق الشرق الاوسط وافريقيا بانه سيقف امام مخططات اميركا بتبديل الانظمة الديكتاتورية لتحويلها الى ديمقراطية ، وكان ارسال قواته لانقاذ نظام بشار وكان لها وقعا حسنا عند النظم الديكتاتورية ومحور المقاومة ومن العسكر في مصر والجزائر وصولا الى افريقيا الوسطى ومالي ، فهو اما بقواته او بذراعه اليمنى، فاغنر ، سيحرسهم ويحميهم ويمدهم بالدعم والقوات والسلاح ، ولن يسمح بعد اليوم باصدار ما جاء من امر لمبارك على لسان رئيس ليبرالي زنجي اسود مثل اوباما عندما أمره عام 2012 بمغادرة الكرسي " اليوم يعني اليوم" ، ومن حماية بوتين تنفس الاسد الصعداء، ، وامثاله من بقايا الديكتاتوريات انهم اليوم تحت حماية بوتين ومعه في مقاومة القطب الواحد ومشاريعه التخريبية بالثورات والحركات الشعبية المطالبة بالديمقراطية. انهم تحت حماية قطبية جديدة حتى وان هي لازالت في مرحلة النشوء.
المعركة الاخرى التي كسبها بوتين لاقامة قطبه هو صعود اليمين القومي في عدد هام من البلدان، كان على رأسهم ترامب ، وربما سينجح في محاولة قادمة ، ومنه سيختفي رأس الثعبان ، ولايحتاج لقطبان متصارعان، فمجرد الجلوس والتفاهم من شأنه حل الاشكالات الامبراطورية سميها ماشئت "اميركية " او "فرانكوفونية " أو "جرمانية " او " انكلو ساكسونية " وفق مبدأ ، لكل ذي حق حقه . وهو لايطالب بالكثير بل بحقوق روسيا على السلاف والارثوذوكس وبعض المقاطعات التي لم تطأها قدم الغرب سابقا مثل جورجيا وماشابهها. انه تفاهم على حقوق قومية عرقية دينية معروفة ،دون صراع ودون مجابهات.
ولكن هناك عوائق كييرة امام بوتين واهمها قلة الحلفاء المخلصين. انه حاول في دعواه بمظلوميته جمع من يحلم بارجاع امبراطوريته ولم يجد غير اثنين اردوغان واحلامه "العصملية " وخامنئي باقامة امبرطورية المرجع التقدمية ، اما الرئيس الصيني تشي جين بينغ فهو يعرف انه انتهازي وانضم للجوق بحذر فهو يريدها امبراطورية اقتصادية وطنية ، وليست ايديولوجية قومية دينية، وعداهم لم يجد بوتين حلفاء حقا، بل شركاء صغار وكل منهم يحلم في اقامة امبراطورية. واثبت ان حلفاؤه من المعجبين انتهازيون ، نعم انهم شركاء له في الفكر والتوجه ، ولكنهم ليسوا حلفاء موثوقين بل جلهم انتهازيين ، فبينما ها هو بدأ المعركة وهجم على اوكرانيا لم يجرأ احدا منهم الوقوف معه علنا ، عدا القبضاي بشار ، بل رآهم بين ممتنع عن التصويت، او مثل اردوغان تراجع بسرعة وصوت لتوسيع الناتو وضم فنلندا والسويد، فهو مصلجي ابن مصلحجي، مثله تشيننغ جاو بينغ ومودي ابو الهند لايهمهم غير شراء النفط من روسيا بنصف سعره في السوق دون خجل او وجل ، ولم يثبت معه الا اثنان اية الله و كيم سونغ الرابع ولكنهما فقيران ومعاقبان، اما بقية المعجبين والمصفقين والمستفيدين ،فهم الا انصاف رجال بل بعضهم واقواهم اقتصادا، ابو الصين، اثبت انه تاجر ابن تاجر ولايهمه غير المال والاقتصاد، رغم عسل الكلام وابرام التحالفات الاستراتيجيات.
نعم بدا لبوتين ان هناك قطبا دوليا جديدا سيقوم ولكنه اما تسرع وهجم على جارته المسالمة دون ذنب فاخجل حلفاءه، او ان قطبه وجهده مجرد اوهام، فالعالم تعب من الاقطاب، ويريد الانصراف للتنمية وحصادها خيرا من احتراب باسم ايديولوجيات قديمة جديدة باسم الدين والقوميات، حتى وان فازت في انتخابات اوربية يمينية فهي ليست متحمسة مثل ترامب بل غرضها ايقاف الهجرة ونزوح الملايين الى الشمال، لان ثقافة المجتمعات اصبحت ليبرالية مترسخة ، كونهم يعرفون انها حقوقا وحرياتا لن يستغنوا عنها ويقبلون بالبوتينية.
ولكن ذلك لايعني ان القومية لايمكن ان تكون يوما قاعدة لاقامة القطبية، ولكنها ربما، وفي اوربا بالذات يمكن ان تنجح لو تمكن بوتين من البقاء واشعال الجنوب وتوجيه الملايين هربا من الانقلابات والحروب الاهلية ومن الفقر والقمع والتوجه شمالا للقارة الاوربية، وهو احدى المجالات التي يحرز فيها تقدما ، وتمس عالمنا العربي، فدعونا ننظر فيها.
3. تعدد القطبيات وانعكاساتها على العالم العربي
من الطريف ان دعاوى بوتين لانهاء احادية القطبية والتحول لتعدد الاقطاب لقت مرورا ودعما سريعا وواسعا في الشرق العربي تحديدا، والطرافة انها لم تلق دعما من الشرق الاوربي المحيط ببوتين. فلو سألت مواطنا عربيا من هي الامبريالية، سيجيبك ومن تكون غير اميركا وفرنسا وبريطانيا ، فهم من دمر ونهب وسرق بلداننا ولازالوا لليوم يؤخرها ويتآمرعلينا وهم سبب تخلفنا. ولو سألت مواطنين يسكنون منطقة شاسعة وحاجزا ممتدا من اقصى الشمال الى اقصى الجنوب على طول الحدود مع روسيا ، ممتدا من السويد وفنلندا شمالا الى دول البلطيق الثلاثة استونيا ولاتفيا وليتوانيا ومنها الى بولندا والجيك والسلوفاك وجنوبها اوكرانيا ورومانيا وبلغاريا ،وغيرها من الشعوب التي خضعت لروسيا منذ مئتي عام ، لو سألت من هي الامبريالية ؟ سيجيبك معظمهم ، ومن تكون غير روسيا ، القيصرية بالامس ووريثها السوفيت وروسيا البوتينية اليوم. وماذا عن اميركا ؟ كلا ليست انبريالية ، لن نر منها غير الخير والرفاه والحريات والديمقراطية .
ان اعلاه يبدو واضحا ان مفهوم الاستعمار والامبريالية هو مفهوم نسبي خاضع لعلاقة الدول الكبرى مع الشعوب الاخرى ، التي اما احتلتها او استعمرتها سابقا لتحقيق مصالح اقتصادية او سياسية او مد نفوذها وهيمنتها، وبقيت عالقة في ذهنها ووعيها انها الامبريالية، كحالة العالم العربي مع بريطانيا وفرنسا، واذا كانت هذه قج استعمرت بلدانا عربية ، فلا احد يعلم لماذا يعادي العرب اميركا وهي لم تستعمر دولة في تاريخها اساسا ، ربما انه نتيجة تكرار الخطاب الايديولوجي انها امبركا من سبب هزيمة العرب وانها اميركا هي من يقف وراء تخلفنا ..الخ .
وواقع العالم العربي، ومعه افريقيا اليوم ، ان حجة الامبريالية والاستعمار اصبحت ساقطة ، وذلك لسببين . الاول ان كل بلدانها قد استقلت منذ اكثر من ستين عاما، وواضحا سبب تخلفها يعود للديكتاتوريات القومية وغياب النظم الديمقراطية وغياب التنمية وتسلط الايديولوجيات الشمولية ووالقمع المستمر وعدم الاستقرار ، وهذه التي انتجت الفقر والتخلف والفقر، ولم يعد واردا وضع تخلفها وتراجعها وفقرها على الامبريالية ، بل لفشل نظم حكمها ، الثورية المعادية للامبريالية خصوصا، والسبب الثاني ان هناك عشرات الدول في اسيا خصوصا قد نجحت ، وان دولا خليجية كانت صحارى قاحلة قبل عقود قليلة تحولت اليوم معها الى دول لها وزنها والكل يعلم ان ورائها وقف الغرب ونماذجه الحضرية والاقتصادية في التنمية ، ومثلها تجده في عشرات الدول تمتد من اندونيسيا وماليزيا والى كوريا والهند والصين وتركيا وحتى المغرب والاردن ، جميعها قطعت شوطا بعيدا في القضاء على الفقر ، بل وتجاوزته ببناء اقتصاد وطني نام يشغل ابنائها، ونظما مستقرة اجتماعيا ، وحتى بعضها اصبح بوزن دولي هام ومتقدمة علميا واقتصاديا ( تركيا، كوريا، الهند، الصين) وجميعا تبنت نماذج الغرب التنموية واغلبها الديمبراطية ، وقارنها بدول ثورجية ناصرت السوفيت مثل العراق ومصر وسوريا وانتهت متخلفة فقية ومدمرة وبنظم ديكتاتورية.
ان الوقوف مع بوتين في تعدد القطبية هو وسيلة للتهرب من الفشل ووضع مسؤولية التخلف على الامبريالية ومنها تبني دعوة البوتينية التي رحب بها وتبناها الفشالون والمؤدلجون ( قوميين وعسكرية وبعثية وسلفيين اخونجية وولائية ومتمركسين قوميين وماركسيين اصحاح من مدرسة الستالينية) هم في الواقع مدارس فاشلة وعليها تقع مسؤولية دمار ثلاثة من اهم الدول العربية ، مصر والعراق، وسوريا ، وهي ومؤدلجيها باشكالهم تراهم متحمسين وتتبنى دعاوى بوتين لاقامة قطبية جديدة لمواجهة الغرب والامبريالية، وهدف بوتين الاول في جعل حكامها يقفون معه في قطبيته مقابل حمايتهم، ومنها ايضا لتكون بلداننا مصدرا لنزوح شبابها ملايين شمالا وتعميق ازمة اوربا تمهيدا لفوز اليمين القومي فيها .
دعونا نناقش مصلحة شعوبنا من جهة ، وما يطرحه مواقف الحكام الديكتاتوريين ومحور المقاومة وطروحات المؤدلجين بمختلف مشاربهم في تأييدهم للقطبية البوتينية الجديدة.
لو نأخذ باول درس ان معارك الاقطاب ان تكونت في العالم المعاصر فهي ستدورعلى اراض الدول الضعيفة والغير مستقرة ، وهذا سيجرها لانقلابات وحروبا اهلية وصراعات ومآسي شهدتها هذه الشعوب في اغلب دول العالم الثالث خلال الحرب الباردة ، فقطب بوتين لن ينسحب للحرب المباشرة مع اميركا والغرب، بل سينقلها الى هذه البلدان. وحتى الصيغة التي يتم نقلها اليها ، فهي تختلف عن القطبية السوفياتية سابقا ، بشكلها الذي قدمه السوفيت في دعم حركات التحرر الوطني ، ومنه قامت نظما عسكرية وقومية ديكتاتورية قامت على الديمقراطيات الناشئة في مصر وسوريا والعراق مثلا، وهي نظما فاشلة سياسيا واقتصاديا وما زالت لليوم كذلك ، فهي تعاني تشويها بنيويا في نظم حكمها ومؤسساتها واقتصادها ، وهذا ما ورثته بلداننا من الحرب الباردة و هذه كانت صيغة حصاد المعركة مع الغرب في الخمسينات والستينات في بلداننا الثلاثة، ولم تقم لها قائمة حتى اليوم ، من فشل الى اخر، وليس اخرها تدمير سوريا وقبلها العراق على يد ديكتاتوريين بعثيين مواليين للكرملين لا غير.
ان شكل المعركة البوتينية التي يريد نقلها بوتين اليوم الى المنطقة هو مختلف ومغاير، فهو وجد ظالته في نظم القمع العسكرية او الميليشياوية وفي الفقر والتخلف وعدم الاستقرار الناتج عنها وانعدام فرص العمل والعيش وتوفير الحماية لهذه النظم من تآمر الليبرالية والامبريالية ، ودفع الملايين للنزوح والهجرة الى الشمال هروبا تجاه اوربا ، وهنا ورقتين رابحتين بيده ، الاولى زيادة حظوظ اليمين القومي الاوربي في الفوز والوثوب الى السلطة والانضمام لحلفه القومي الكبير المعادي لليبرالية ، والثانية انه حتى لو بقيت نظم اوربا غير متحالفة معه، فهو سيعرض عليهم وقف الهجرة بتقوية نظم ايقافها على يد الديكتاتوريات المحلية ، وتقوية ستارها الممتد من اردوغان الى مصر وتونس وليبيا ، وحصر مشاكل التخلف داخل حدودها وديكتاتورياتها الموالية له والميليشيات تقوم بالواجب، مقابل اعترافها بحقوقه الامبراطورية التي لا تشكل عبأ عليها كونها بلدانا وممتلكات روسيا التاريخية، وهذا هو ربما مايعول عليه في نجاح استراتيجيته ذات الورقتين الرابحتين.
وعدا قضايا الهجرة والنزوح الجماعي من الفقر وانعدام فرص العمل والعيش المستقروالقمع السلطوي والميليشياوي، دعونا ننظر الى الجانب الجيوسياسي من الموضوع . لننظر تحديدا في ترجمة تطبيق قطبية بوتين "القومية الامبراطورية" على جغرافية المنطقة . ان اهم حلفاء بوتين في مشروعه القطبي هذا في المنطقة هما اية الله واردوغان ، وكلاهما يشاركه " لكل ذي حق حقه " ، الاول يريد حقه في دولة ال البيت ( العراق وسوريا ولبنان واليمن والبحرين ) والباقي لاردوغان، بينما الاخير يريد جميع هذه مناصفة ، ومعها ليبيا وما يمكن ان يتفق عليه مع السعودية ان تكون امبلااطورية الخليج ويكونوا جميعا جوارين، ام بوتين فهو الضامن وهو الذي في ديوانه تحل المشاكل . ان اهم ثلاثة دول عربية ستختفي هنا ، على اعتبار ان مصر ربما تنضم للسعودية ، او تكون حليفة لبوتين وتضم لها ليبيا والسودان، وهذه الامور يمكن تسويتها ايضا وفق لكل ذي حق حقه.
السؤال المطروح على دولنا وشعوبنا وكذلك مؤجلحينا ، ما المصلحة لشعوبنا لخوض معركة بوتين مع الغرب وعلى اراضينا وجعل مقدرات وقضايا شعوبنا تتجه للدخول في معارك ايديولوجية هي اساسا معاركه مع الغرب وحلمه بتحقيق مشروعه وارجاع مجد امبراطوريته؟
رب اغلبنا ن يدهش من وقوف السلفية بشقيها الولائية والاخونحية مع بوتين ، فهم حلفاء طبيعيين له ، وهمهم محاربة الليبرالية والعلمانية وقيم وحضارة الغرب الصليبية، الذي يقف امام ايتي الله الاردوغانية والخامنئية في اقامة خلافات عصرية يمكنها التفاهم مع امبراطورية بوتين وفق قاعدة فقهية وبوتينية ، فلكل حق حقه بما انزل الله وجعل لكل امة نبيها والقائم على امرها في دينها ومذهبها.
ولست متعجبا من وقوف القومجية العسكرية او التيارات كالناصرية والعفلقية مع بوتين ، فهم رفاق في الفكر القومي ولهم باعا طويلا في النضال المشترك زمن البعث وناصر ضد الصهيونية والامبريالية ولولا تآمر الغرب على الاتحاد السوفياتي على يد عميلهم غورباتشوف ، وعلى نظمهم التقدمية لكانوا قضوا اليوم على اسرائيل وحررت فلسطين واقيمت الوحدة العربية، ومنها فهم فرحين بعودة بوتين قويا ( رغم وللاسف صداقته مع ناتنياهو قائد العنصرية اليمينية القومية في اسرائيل) فهم معه سيواجهون مخططات الغرب وربما يتضح الامر للرفيق بوتين ان له رفاقا مخلصين والاجدى به ترك ناتنياهو للغرب ( الذي لسوء حظه وحظهم يرفضه الغرب) ، ومهما كان الامر فهم سيخوضون معركة الانتصار على الامبريالية . ان موقف القومجية حقيقة ايضا موقفا مفهوما فهم ما زالوا متأملين بارجاع نظمهم وحماية من الرئيس بوتين لتحرير فلسطين واقامة صرح الوحدة الكارتونية على اسس الثورية العربية.
ولكن ربما الاكثر غرابة بين المؤدلجين الثلاثة، وربما ايضا الاقل غرابة بنفس الوقت ،هو موقف اليسار الماركسي العربي المتحمس لتعددية الاقطاب . انه الاكثر غرابة كون بوتين لايمثل الا فكرا قوميا امبراطوريا صرفا ، وهو فكر رجعي وفق طروحات الماركسية الكلاسيكية منذ القرن التاسع عشر ، او الطروحات الماركسية العربية ضد القومجية منتصف القرن العشرين، فما موقف الماركسية من بوتين وافكاره القومية والتوسعية التي طالما ادانوها ومنذ بداية القرن الماضي انها وراء الحروب وسموها امبريالية ؟ انه ربما زمن تطور جديد يمكن تسميته " الماركسية البوتينية " التي بدءها الرفاق في الحزب الشيوعي الروسي، فالماركسية دوما تتجدد، امس ستالين واليوم بوتين ، كلهم معادون للامبريالية ،فلكل زمان ملهمه وقائده ،ولاتخطئ العين صواب الطروحات القومية البوتينية من وجهة نظر الاممية البروليتارية ما دامت معادية للامبريالية.
والموقف نفسه لايثير الغرابة ايضا، فلماذا التعقيد والغوص في تحليل اسئلة مثل هل تتطلبه مصالح شعوبنا ، وتحليل تجارب الحرب الباردة وماحصدته منها شعوبنا من نظم ديكتاتورية كانت نتائج لصراع القطبية ، وغيرها من اسئلة معقدة لاطاقة ليسارنا الماركسي عليها ، فهو لديه مفتاح وحل سحري : كل من يسب الامبريالية، معمم ولائي او بوتين ، فهم رفاق الطريق ،فالايديولوجيا لها دوما حلا واضحا سهلا وجاهزا ، انه النضال ضد الامبريالية . ولو سألت من هي الامبريالية اليوم والعالم يخوض صراعا بين معسكرين قومي يميني يمثله بوتين وحلفاؤه من اليمين الاميركي والاوربي، والثاني ليبرالي يمثله اليسار اللببرالي في اميركا واوربا ، وهو يدور على طول الكرة الارضية من اميركا الى استوكهولم وصولا الى اسطنبول . فاين الصراع مع الامبريالية ؟ هل عي مختتبئة مثلا او مقسمة بين جناح بوتين وجناح بايدن .
المشكلة الحقيقية هي ان يسارنا يخوض معركة خارجية وهمية، ولو كان اليسار يخوض فعلا معارك شعوبنا الداخلية، واهمها ثلاثة العلمانية والتنمية والديمقراطية، لوجد معسكره امامه واضحا، وماهاجم بشراسة فكر و ثقافة وحضارة الغرب واصولها الاوربية ، متضامنا مع الشوفينية البوتينية.
ان ماجعلني واقعا ابحث وأخوض في موضوع تعدد القطبيات هما مقالتان قرأتهما لرمزين قدما انهما ممثلان لليسار الماركسي العربي، المقالة الاولى عن لقاء خاص مع الرئيس مودي لعلامة او عالم يساري مصري ( لا اعلم هل هو يساري ماركسي او ناصري الاصل، واعتذر للقارئ اني لا اذكر اسمه كاملا ولكني اذكر ان لقبه ربما قريبا الى" حاجي " وله ولكم الاعتذار على ضعف الذاكرة) ، واللقاء جرى مع الرئيس الهندي مودي في زيارته الاخيرة في يوليو – تموز 2023 الى مصر، بناء على توصية من السفارة الهندية في القاهرة لمقابلة شخصيات وطنية مهمة من المجتمع المصري كما ورد في مقدمتها . وبعد قراءة المقدمة توقعت ان الاستاذ اليساري سيطرح على مودي اهم مشاكل الشعب المصري وهي مشكلة التنمية والتشغيل وضعف الاقتصاد ، ويطلب نقل بعض خبرة وتجارب الهند الناجحة في هذا المجال الى مصر ، ولكن حتى اهم منها توقعت ان يطلب منه اقناع الرئيس السيسي بضرورة واهمية رجوع العسكر لمجلسهم العسكري كما ادعوا لحماية الشعب والبلاد ، واقناعه بعدم ترشيح نفسه ضمن التحول لحكم مدني واشاعة الحريات والتحول للديمقراطية، والسماح لحكم المدني للقيام بشؤون التنمية الاقتصادية بدل العسكر ، وارجاع الجيش مؤسسة وطنية حامية وليست حاكمة في مصر ، وربما ليوضح خطر الاخونجية ويطرح اهمية ابعاد استخدام الاحزاب للدين ومنعها من توظيفه لاغراضها السلفية وذلك دعما لتحول مصر نحوالعلمانية ، وغيرها من المواضيع الوطنية الجوهرية والهامة لمصر كدولة ولشعبها. انظروا ماذا طرح استاذنا اليساري العظيم على الرئيس الهندي مودي ، انه شرح له لماذا تكتسب اهمية خاصة انهاء القطبية الواحدة ، كما سماها ، وضرورة نقل العالم الى تعددية الاقطاب، وطرح مظلومية الرئيس بوتين وكيف اجبر على دخول الحرب ، وكيف انه يتعرض للظلم وتوسل اليه بضرورة الوقوف الى جانبه ولانهاء هذه القطبية الواحدة المقيتة والانطلاق لعالم متعدد الاقطاب. هذا خلاصة المقالة وفق ما اتذكر ( ويمكن للقارئ الاطلاع عليها على موقع الحوار المتمدن قبل قرابة اسبوعين اذا عرف اسم الاستاذ اليساري الذي اشرت اليه من خلال خدمة البحث على الموقع). تركت المقالة في نفسي اثرا وقررت كتابة هذا الموضوع .
حقيقة اعتبرت ماطرحه هذا الاستاذ هي مسالة في غاية الغرابة ، فهويطرح على رئيس دولة ان يتعاون مع رئيس دولة ثانية لمجابهة دولة ثالثة ، واذ القضية هي افكارا للاستاذ له الحق فيها ، ولكن اذا كان شخصية وطنية، كما ورد في مقدمة المقال ، فاين هي القضية الوطنية المصرية التي طرحها هذا الاستاذ مع الرئيس مودي، وهل ان مصر قد حققت وحلت مشاكلها الوطنية ليطرح استاذنا محاضرة على مودي بقضايا القطبية الدولية، ومعها تعجبت ان يتصور ان مودي لايعرف مثلا لم الاصح للهند الحياد ، واترك للقارئ كيف يمكنه دعوة ووصف هذا الاستاذ اليساري ، ولِمَ لمْ يطرح هموم وقضايا الشعب المصري، وطرح ضرو ة انحياز الهند لتعددية القطبية البوتينية ، ومودي يعرف جيدا، ورغم انه قومي نفسه، ان الهند هي من بين الدول القليلة في العالم التي وقفت زمن نهرو ومن جاء من بعده على الحياد بين الاقطاب ، ولم تتبنى طروحات ايديولوجية مثل القومجية الناصرية او الماركسية السوفياتية، وفازت منلابين كل الدول بالديمقراطية ونجاح خططها التنموية بفضل حيادها واخذها منهجا عقلانييا غربيا في اقامة الحكم واقتصاد السوق، ومنن تخلصت من المجاعات التي كانت تحصد الملايين سنويا، بل اصبحت من البلدان المصدرة للغلات والرز ، وعداها من اهم مراكز العالم في التكنولوجيات ومراكز البحوث العلمية وتكور الصناعة ونظم الادارة الذاتية، ويمكن القول انها تبنت نموذج الغرب في ادارة نظم الحكم والاقتصاد، وبقيت على الحياد بين الاقطاب وصراعاتها ، ومنها هذا النجاح الهائل. وهذا هو استاذنا اليساري يقول له " قف مع بوتين رجاء للقضاء على القطبية الواحدة والانتقال لتعدد الاقطاب" ، وبودي سؤاله ماذا لو اجابه مودي ، اشكرك على النصيحة ، ولكن ها هو امامك حال مصر ، وحال بشار ، لهما مثل موقفك وموقف بوتين ،و ونصف الشعب السوري مشرد ، ونصفه الاخر جائعا ، انه حلا عظيما الذي تطرحه ولكن الهند في مغنا عنه وانصحك بالانصراف لمعارك التنمية وانصح مصر بالحياد . اقل مايمكنني قوله انه اليس غباء ان يتصور زائرا ان رئيسا مثل مودي لايعرف ما معنى كلامه لو سار عليه ، ستتحول الهند الى مثل حال مصر وسوريا والعراق، وهذه هي الطامة الكبرى لكم ياسيدي ، انكم لاتطرحون حلا لقضايا داخلية ، وفقط يهمكم خوض معارك وهمية خارجية ، وحتى دون فهم وتمحيص اين مصالح شعوبنا فيها، بل واضحا منها الخراب ، الخراب بعينه ياسيدنا الوطني اليساري .
اما المقالة الثانية فكانت مقابلة مع رئيس الحزب الشيوعي الاردني وايضا يطالب بتعدد القطبية ، ومنها سينعم الاردن بالخير العميم ، ويتجنب الخراب الاليم لو قامت قطبية بوتين، ويكفي لو فهم كيف حلت الديكتاتوريات شماله وشرقه ومن اين اتت واستنتج علاقتها بحال اللاجئين مئات الوف السوريين في الاردن ، وعلاقة نظم الديكتاتوريات مع بوتين.
ملخص الموضوع ان هناك لخبطة واسعة على شعوبنا منذ عقود وعقود يخوضها المؤدلجون، أي السلفيون من التيارات الثلاثة، في الدخول في معارك خارجية هي ليست اساسا لا من معاركنا ولا قضايانا الوطنية ولاعلاقة لها بالتنمية ، ولا بالعلمانية اواقامة نظم الديمقراطية ، وهذه هي معاركنا الداخلية الحقيقية ، وهي ليست معارك ضد الغرب بالتأكيد ، بل انها في واقعها وجوهرها معارك تتبنى فكر الغرب والحضارة الاوربية لخوضها ضد السلفية الدينية وضد النظم الديكتاتورية اساسا. ان الطروحات لتوريط مجتمعاتنا في قطبيات بوتينن هو استمرار في هذه اللخبطة واضافة فشلا جديدا يضاف لكل ماتعانيه شعوبنا ودولنا من التخلف بكل اصنافه واشكاله وامراضه، وهي بمجملها نتيجة لطروحاة هذه الايديولوحيات الفاشلة. لقد جرى ذلك على مدى عقود، منذ استقلال بلداننا والى اليوم ، وهو مثل يوم حشر حيث المياه تجف ، ويزداد التصحر، وتترسخ السلفية والغيبية ، والفساد الحكومي والاداري المالي في اعلى ادائه، ومنه تشكلت مافيات ، تحميها عصابات وميليشيات ، وجماعتنا يقولون لا حل لقضايانا سوى بوتين ، ومن خلال نظريته تعدد القطبية ، ستسقط الامبريالية ، ولو شاء الله وقامت فعلا، فستجد ان لدى بوتين قد اصبحت امبراطورية ، بينما شعوبنا محاطة بطوق الديكتاتورية، مسجونة محرومة في سجن حكامها الموالين لبوتين ، اية الله ، عسكر ، ميليشيات ، سمي ماشئت ، كلهم ديكتاتورية ،والامر بسيط عند يسارنا، فسبب التخلف ليس منهم ،بل من الامبريالية، و ليس من بوتين ونماذجه الميليشياوية والديكتاتوريات العسكرية ، ومالم يدركه المؤدلجون اذ هم يعتبرون ان شعوبنا عاطفية وغير متعلمة ويمكن خداعها بشعارات، ولكنها بنفس الوقت واعية وتبقى تطالب بحلول ، وبغيابها ستلعنهم و تعرف انهم سبب هذه الالام وهذه الاذية، انهم مؤدلجوا امتنا من الانواع الثلاثة للسلفية. لابد من اقامة صرح لثقافة وطنية تقيم صرح العلمانية والديمقراطية وحلولا للتنمية وتشغيل الشباب ، ملتصقة بقضايا شعوبنا لاسنادها في النهوض وبناءه على اسس منفتحة علمية وعملية، وليست بالاصطفاف وراء قطبيات بوتينية، ومايشابهها من وكما سبقها ومنذ عقود تجميل الديكتاتوريات ووصفها تقدمية ومعادية للامبريالية، ومنها خرج ناصر وصدام وبشار واضيفت لهم ومنذ سنوات فصائل اية الله الولائية .
د. لبيب سلطان
13/07/ 2023
• ان استخدام كلمة نظرية هنا هو مجازا ، فلا يجب ان تفهم انها فعلا نظرية تم اقرارها وفق منهج علمي تجريبي او نظري ، واردت من استخدامها الى ربط علاقتها بالتنظيرفي لغتنا العربية، وهو الاصح، فهي طروحات سياسية تنظيرية لاغير، والمحاولة هنا هو لتوضيح محتواها وكشف جوانبها ومناقشة تجارب مثل هذه الطروحات لغرض خلق فهم ميسر واعمق لها عند القراء والقارئات الكرام.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - القطبية شعار زائف للتغطية على الديكتاتوريات
منير كريم ( 2023 / 8 / 14 - 23:00 )
الدكتور القدير لبيب
شكرا على مقالك المفيد والحيوي في الوقت الراهن
بعد استيلاء البلاشفة على السلطة بثوا المفهوم الرجعيي السيء الصيت العداء للامبريالية
وتجمع وراء هذا الشعار الشيوعيون والفاشيون والعنصريون والثيوقراطيون في معاداة الديمقراطية والحرية ودول الغرب
ولما استنفذ هذا الشعار دوره الخادع وظهور الاتحاد السوفيتي والصين كدول امبريالية
استخدموا مفهوم القطبية للتغطية على الديكتاتوريات الروسية والصينية ومثيلاتها وللاستمرار
في معاداة الدول الديمقراطية
الصراع الدولي بين الدول الديمقراطية والدول الديكتاتورية
ولاصحة لاقطاب فكل مايدعى اقطاب جديدة هي في حلف ديكتاتوري واحد
كل الدول الديمقراطية في حلف واحد
اذن عدنا للصراع الاساسي بين الديمقراطية والديكتاتورية
شكرا لك دكتور


2 - ألعراق هولاندا الشرق
د. لبيب سلطان ( 2023 / 8 / 15 - 18:55 )
استاذنا العزيز منير
عندما انظر كيف ان الاقطاب وايديوجياتها وقواها المحلية اثرت علىمستقبل بلداننا ،وخاصة ، العراق ومصر، يتوضح لي انه كان بامكان العراق ان يكون اليوم مثل هولندا ومصر على الاقل
تكون مثل ايطاليا واليك كيف اثرت القطبيات على تحويل العراق الى صومال بدل من ان يكون هولندا
قامت الايديولوجيا القطبية باسقاط الحكم الملكي في العراق باسم التحرر والاستقلال من الاستعمار وبدل تحويل الجمهورية للديمقراطية طالبت الايديولوجيا التحول للسوفياتية وهيأ ذلك لانقلاب قومي بعثي مضاد ولكنه وبفضل ناصر تحول للخروشوفية وامم الاقتصاد نصف الطريق السوفياتية وعاد البعث ثانيا وادعي انه تقدميا وصار بريحينيفيا وصدام نفسه كاسترويا وانتهى بحربين ليكون في التسعينات نصف صوماليا واليوم تحت حكم الميليشيات سيضعونه تحت اية الله المتحالف بوتينيا
ولو كنا كالاردن منذ البداية بحكم وطني يسير بمصلحة بلدنا ولا يسير باهواء ايديولجية لرأيته اليوم 20 مرة اكثر تطورا من الامارات أي لكان هولندا الشرق دون منازع لقدراته وامكانياته وليس امارة تحت حكم الولائية
هذا هو الفرق بين الوطنية وبين الايديولوجيات ورعاتها القطبية


3 - انا اطالب بقوه نشر تعليقي رقم 2 اللطيف والذكي واصر
الدكتور صادق الكحلاوي- ( 2023 / 8 / 15 - 23:55 )
على نشره من اجل ان تساهم الحوار المتمدن بالعمل التنويري-تحياتي


4 - دعوة لنشر تعليق الدكتور الكحلاوي
د. لبيب سلطان ( 2023 / 8 / 16 - 12:59 )
الاخوة الاعزاء في الحوار
اضم صوتي للدكتور صادق الكحلاوي وارجو نشر تعليقه اذ انه عوودنا كاستاذ مثقف وطني باراءه الجريئة التي تتناول المسكوت عنه وحتى ان تبدو حادة فلم اجد يوما ان فيها شخصنة او اساءة شخصية كما اراها عند مهرجين تنشرون تعليقاتهم وتصف كتابكم ومثقفينا انه اقلام مأجورة وعملاء ويقبضون من الامبريالية .واذ هم معروفون صداميون سابقون ومع ذلك لهم تنشرون باساءاتهم فان الدكتور الكحلاوي يطرح تجاربه وافكاره دون مساس لا بالكتاب ولا بذوق القراء فلا افهم مسوغ حجبه.. ولكم فائق التقدير

اخر الافلام

.. السودان: أين الضغط من أجل وقف الحرب ؟ • فرانس 24 / FRANCE 24


.. مؤثرة موضة تعرض الجانب الغريب لأكبر حدث للأزياء في دبي




.. علي بن تميم يوضح لشبكتنا الدور الذي يمكن للذكاء الاصطناعي أن


.. بوتين يعزز أسطوله النووي.. أم الغواصات وطوربيد_القيامة في ال




.. حمّى الاحتجاجات الطلابية هل أنزلت أميركا عن عرش الحريات والد